متلازمة الحوار والارهاب في الحالة السورية
باسل أبو حمدة
مع بدء تفشي مقولة ‘ لا غالب ولا مغلوب’ في مشهد الصراع السياسي الدامي على السلطة في سوريا الجريحة على خلفية الادعاء بوجود حالة من التوازن بين طرفي النزاع وعجزهما عن حسم المعركة لصالح أي منهما ،والتي باتت تشكل العنــــوان الرئيسي لهذه المرحلة منه، وفي ظــــل إغفال متعمد من جانب وقلة الخــــــبرة من جانب آخــــر لقانون الارتقاء والتطور في الحراك الاجتماعي السياسي، وربما هبوط منسوب الايمان بحتمية التغيير الثـــــوري وبعـــد بروز ملامح الاحباط واليأس، يتراءى نوع خطير من الاختراق الاستراتيجي في منظومة ذلك التغيير المنشود والذي دفع الشعب السوري ولا يزال ثمن تجسيده على الأرض غاليا.
بعد أن تمكن النظام الاستبدادي الحاكم في دمشق بقبضة فولاذية منذ أربعة عقود من الزمن ونيف من جر قوى المعارضة والحراك الثوري إلى حمل السلاح وخوض معارك ضارية ضده في محاولة بائسة منه للظهور بجلد الحمل الوديع الذي يحتاج إلى الحماية من شراسة وحش مفترس يريد الانقضاض عليه وعلى البلد معا، ها هو يخوض غمار محاولة مستميتة لوضع الحالة السورية على سكتين متوازيتين المراد منها تثبيت مقولة أخرى لطالما حاول الترويج لها ولا قت، للأسف، آذانا صاغة بلهاء أو مغرضة من قبل العديد من الجهات القريبة والبعيدة عن بؤرة الصراع توحي بأن سوريا برمتها هي المستهدفة بالخراب والتدمير.
سكتان يجري العمل على تثبيتهما في المشهد السياسي السوري المتحرك والملغم على قدم وساق وباتتا تشكلان البوصلة التي يعتقد النظام أنها ستوصله إلى بر الأمان وستبقيه في الحكم إلى اشعار آخر بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار أمام حراك جماهيري ومسلح بلغ مداه نقطة اللاعودة، السكة الأولى تقوم على التبجح بحل سياسي للصراع يقوم على الحوار من جهة، بينما تقوم السكة الثانية ليس على شيطنة قوى المعارضة فحسب، وإنما على تفعيل فزاعة الارهاب في نفوس السوريين والعالم، وليس المقصود هنا فزاعة تتراءى من بعيد وإنما فزاعة لها وقعها وضحاياها على الأرض.
ليس من باب الصدفة أن تشهد منطقة اسمها المزرعة في دمشق عملية ارهابية دموية مدانة بكل المقاييس، لا من ناحية الأسلوب والنتائج الكارثية ولا من ناحية قربها من منطقة الأزبكية التي شهدت تفجيرا مماثلا مطلع ثمانينيات القرن الماضي إبان الصراع الدموي أيضا بين النظام نفسه والقوى المناهضة له آنذاك وحينها تبين أن النظام نفسه هو من نفذ تلك العملية الجبانة وغيرها من العمليات الارهابية التي طالت ربوع سوريا وروعت سكانها، ما يضعنا أمام أسلوب رخيص قديم جديد ومحروق يشهد التاريخ أن القوى الظلامية على مختلف مشاربها وجغرافياتها لم تتوان في اللجوء إليه كلما اقتضت الحاجة لذلك بغض النظر عن هوية الضحية.
تفجير المزرعة ليس الأول ولن يكون الأخير طالما أنه يساهم في تعزيز رواية النظام ومن يواليه حول طبيعة الصراع وطالما أنه يزيد من منسوب تمييع الموقف وخلط الأوراق وصولا إلى إيجاد لغة مشتركة بين النظام والمعارضة قوامها قناعة بأن المخرج يكمن في حلول وسطية مائعة تبقي الحال على حاله مع بعض الاصلاحات الشكلية الطفيفية تمهد الطريق أمام تخفيض سقف التغيير وتمد النظام بجرعات إضافية من الأوكسجين تعينه على البقاء في الحياة السياسية لأطول فترة ممكنة.
في الأثناء، باتت غنية عن التعريف تلك المروحة من العوامل الاقليمية والدولية التي من شأنها تمكين النظام من المضي قدما في محاولة حرف الصراع عن محوره الرئيسي المتمثل في ضرورة إحداث تغيير جذري في منظومة العمل السياسي في سوريا بدءا بالعامل الإيراني الذي لن يتخلى بسهولة عما يعتبره مناطق نفوذ اقليمية له يشكل مثلث بغداد دمشق الضاحية الجنوبية في بيروت رأس حربته، ومرورا بالعامل الاسرائيلي الذي يرفع الشعار نفسه الذي يرفعه النظام وهو الأسد أو يحرق البلد، وليس انتهاء بالعامل العربي بسقفه الواطئ الذي تحده الخشية من انتقال عدوى التغيير إلى بلدان عربية أخرى في مشهد فريد من نوعه يطغى فيه فعل الخارج على فاعلية الداخل ويجعله رهينة له لا سيما في ظل غياب أي حراك شعبي محيط لمؤازرة الشعب السوري في ثورته ومحنته.
على المقلب الآخر من المعادلة، لم يختلف المشهد كثيرا، فقوى المعارضة السياسية السورية منذ نشأتها في كنف مؤتمرات لا تعد ولا تحصى في عواصم ومدن كلها غير سورية وهي تنطلق في خطابها السياسي من منظور الاستجابة لميزان القوى الاقليمي الدولي ضابطة ذلك الخطاب على ايقاع زئبقي عزفت عليه ولا تزال مختلف القوى والدول التي قاربت الموضوع السوري كل من خرم ابرته، وها هي تتماهى في منهجها هذا عندما تغوص في وحل التفاصيل متنازلة عن الشعار الناظم لحراكها الثوري الواضح والمشروع متمثلا في اسقاط النظام متحدثة عن امكانية الحوار معه رغم الشروط الثمانية التي خرج بها الإجتماع الأخير لائتلاف قوى المعارضة والثورة السورية في القاهرة.
ليس من باب التشدد الدعوة إلى المحافظة على الشعار الناظم فهو ينطوي على مطالبة مشروعة قانونيا وسياسيا وانسانيا، فحتى كلمة حوار لا ترقى إلى مستوى القراءة السليمة للجريمة التي يرتكبها النظام السوري بحق الشعب السوري كي لا نقول شعبه وهي مغالطة أخرى لم يلحظها أحد والجميع يستخدمها على مدار الساعة، فلا الشعب السوري هو شعب هذا النظام القاتل ولا الحوار هي الكلمة التي تعكس طبيعة اي اتصال مستقبلي بين نظام بائد وقوى معارضة تنشد التغيير سمعناها في أوقات سابقة تركز على الفارق الهائل بين الحوار من جهة والتفاوض من جهة أخرى، مدركة حينها أن الحوار يجري بين أطراف تنتمي للبيئة نفسها لكنها تختلف في وجهات النظر وأساليب المعالجة، بينما التفاوض يتم عادة بين طرفين أو أطراف العلاقة بينها مقطوعة وتحكمها قاعدة التناقض والتناقض فقط.
ليس من باب الفذلكة الكلامية، ولكن من باب تثبيت الحقائق، فمن بوسعه، على سبيل المثال، التعامل مع الشرط الذي وضعه الائتلاف للحوار مع النظام والمتمثل، الذي يدعو إلى الحوار مع أشخاص من النظام لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين الأبرياء؟ ومن يستطيع أن يقول أن أيدي شخصية مثل شخصية فاروق الشرع، تعد الثانية في الهرم السياسي للنظام، ليست ملطخة بتلك الدماء؟ ثم هل عجزت أرض سوريا الطيبة عن انجاب شخصيات قادرة على حمل راية قيادة هذا البلد إلى بر الأمان خارج كنف سلطة نكلت ولا تزال بهذا الشعب المغلوب على أمره؟ حتى عندما تدين قوى المعارضة السورية عمليات ارهابية تحصد أرواح سوريين وتعيق حركة آخرين وتدمر ممتلكات غيرهم وتزرع الرعب في قلوب الجميع، فإن مثل هكذا إدانة يجب أن تكون واضحة المعالم لا لبس فيها ولا مكان فيها للتلاعب أو التجيير بحيث يجب أن ترتبط بإدانة الحاضنة الوحيدة لهذا النوع من الارهاب والمقصود بها، طبعا، النظام نفسه وليس غيره، مثلما لا يجوز ترك الباب مواربا عند الاشارة باصبع الاتهام للجهة الفاعلة، فكل المقدمات وكذلك الاستنتاجات وجميع النتائج في هذا ألسلوب الاجرامي تذهب باتجاه واحد وحيد هو تعزيز رواية النظام استغلالا منه لرواية القوى الدولية الفاعلة التي تتحدث عن قوى متشددة تقاتل على أرض سوريا ومن بينها أو على رأسها تنظيم القاعدة صنيعة الولايات المتحدة أصلا ورأس حربها المزيفة ضد الارهاب التي دمرت من خلالها واقع ومستقبل العديد من الدول حول العالم.
‘ كاتب فلسطيني
القدس العربي