متى تقول لا لفيروز؟/ ممدوح عزام
اعتاد الناس في حقبة الستينيات السورية، من القرن العشرين، على الاستماع إلى برنامج إذاعي صباحي، يبثّ من راديو دمشق اسمه: مرحباً يا صباح.
وقد كان دافع الناس إلى ذلك، هو الاستماع إلى صوت فيروز، الذي كان معدّ البرنامج يحلّي به ربع الساعة المخصص له كل يوم. كانت فيروز، بصوتها الجميل، وبهذا البرنامج وغيره، تتحوّل يوماً بعد آخر إلى “ضرورة” يومية، توصل الناس إلى الإقرار بها، وترسيخ وجودها في حياتهم، خلال عقد من السنوات تقريباً.
وصار لدى فيروز شرائح واسعة في المجتمع، تميل إلى تحويلها إلى أيقونة. ولدينا معجم صفات لصوتها يتضمن سلسلة من النعوت المستمدة من العطور، أو الأزهار، أو الأقمشة الغالية، “الصوت المخملي”، أو تخيل صوت الملائكة، أو منحها مقام الأسطورة.
في تلك السنوات، كان مسموحاً للمواطن أن يبدي رأياً في صوت أم كلثوم (أو محمد عبد الوهاب، أو فريد الأطرش، وعبد الحليم) أو في حضورها الدوري على المسرح، وكان من الممكن أن يتجرّأ أي شخص على القول بأنها كانت من أسباب الهزيمة، أو أن يشبه حضورها بالأفيون أو غير ذلك من النعوت الجزافية التي كانت تنال من هيبة الاسم.
وفي الوقت ذاته، كان الصوت الغنائي لفيروز يتحوّل من أيقونة إلى سلطة. ولم يعد أحد “يناقش” قيمة الصوت أو الأغنية، بل يسأل الناس عن الوقت الذي يستغرقونه في الاستماع إليها. وبات من غير الممكن أن يوجّه النقد لها، أو لتجربة الرحابنة الموسيقية عامة، وصار من الطبيعي أن تسمع شهقات التعجب، أو دمدمات الاستهجان إذا ما قال أحد ما إنه لا يحب فيروز، والأدهى أن يقول إن صوتها يفتقر للجمال الفني.
وكان هناك ما يشبه الاتفاق الضمني على منع النقد الذي قد يطاولهم. وفي مثل هذه الحالات يغيب المتلقي تماماً، وتفرض عليه المعطيات من جهات أخرى لها صفة سلطوية أيضاً، مثل الصحافة والإذاعة والتلفزيون.
ومع بداية الثورة السورية، بدأ الشبان والشابات السوريون والسوريات، في التمرد على سلطة الاسم والصوت (أدونيس في الشعر وحنا مينه في الرواية). وصار بوسعك أن تسمع من يقول لا لفيروز، دون أن يتعرّض للتأنيب الجمالي. أو يغلق الراديو إذا كانت تغني دون أن يواجه تهمة رداءة الذوق.
والملاحظ هو أن مثل هذا التمرّد، يكاد يكون نوعاً من محاولة لتفكيك السلطة عامة. فتحطيم الأيقونات، والأساطير، والرموز يترافق هنا، كما هو الحال لدى شرائح واسعة من الشباب السوريين، مع التمرد الآخر المضاد للسلطة السياسية. وليس لدي ما يؤكد بعد، أن هذا الرفض قد يشير إلى قناعات واعية، أو مشاعر لا واعية، تفترض نوعاً من التوازي، والتعاطف أحياناً، بين الفنان والسلطة.
ويخيل لي أن العديد من الفنانين المعروفين بحضورهم الجماهيري، يواجهون اليوم لحظة مماثلة من تحطم الجانب الأيقوني في حضورهم الفني. ومن تكسر الهالات “الدينية” التي أحاطت بهم، أو تحدي الإرادة الخفية، في ما إذا كانت موجودة من قبل، التي كانت تحميهم، أو تظللهم.
العربي الجديد