صفحات المستقبل

مجازر على مذابح، حاجز نفسي، ومتلازمة أين..


أصعب ما في الممنوعات والمحرّمات هو اقترافها للمرّة الأولى. بعدها تسهل الصعوبة مرّة تلو الأخرى، إلى أن تصبح عادةً يغدو الصعب فيها هو تركها.

وهكذا هي المجازر..

ليس فقط لمن يرتكبها، أو ربما ليس لمن يرتكبها على الإطلاق. نزعم، نحنُ معشر الحالمين وجود ثمة إنسانٍ ما متخفٍ ومرعوب داخل كلّ كائن بهيمي بشريّ المظهر، أن أول مجزرة، على الأقل، ليست سهلة لمقترفها. هذا ﻻ يعني أنها ليست ممتعة، أو أن مقترفها ﻻ ينتظر منها سلفاً انتعاشاً وبهجة. القُبلة الأولى، على جمالها، صعبةُ للغاية.

أيجب عليّ الآن أن أقول أن من يرتكب المجازر ﻻ يعرف، على الأغلب، أن يُقبّل برومانسيّة؟ ﻻ. لن أقول. هذا كلام سخيف ومبتذل.

مبتذل؟

-نعم. وطالما تحدثنا عن اﻻبتذال.. أول مجرزة فقط هي الصعبة أيضاً على متلقي خبرها، وبعد حدوث المجزرة الثانية ربما يُمانع (من ممانعة، أجل) تغيير المحطة التلفزيونية عند بث خبرها، وبعد المجزرة الثالثة ﻻ يفتح قنوات الأخبار أصلاً، وبعد الرابعة قد يكون التلفزيون صورةً وصوتاً خلفياً لا يعيره أيّ اهتمامٍ وهو يفكّر بأمورٍ أخرى.

ابتذال العنف.. ابتذال الدم

ولماذا ﻻ يفعلها النظام؟ ما المانع؟

 مانع أخلاقي؟ أرجوكم!

مانع تكتيكي؟ لماذا؟ يعرف تماماً أن أحداً لن يفعل شيئاً ضدّه. يعرف أن حسابات الجيوستراتيجيا الكبرى تقتضي أنه، خارجياً، وحتّى إشعارٍ آخر، آمن. وأن حساسيّة أخلاق هذه الحسابات للدّم المُراق هي أختً شقيقة لصدق المشاعر التضامنية للحزب الشيوعي السوري مع الإصلاح الزراعي في نيكاراغوا. إدانات واستنكار وشجب؟ فليكن! مزيد من المواد الخام الجاهزة للقولبة في مصانع المؤامرة، مزيدٌ من الحصار النفسي لعقليّة القلعة المحاصرة التي حبس فيها أنصاره، مزيدٌ من استجرار المفارقات (اقرأ: مفرقعات) من طراز:”أين كنتم يوم ضُربت غزّة” أو “أين أنتم من القمع في البحرين؟”، ولهذه المفارقات (اقرأ مرّة أخرى: مفرقعات) جمهورٌ صاخب.. جمهورٌ قد يكتشف فعلاً أن أطفال الحولة هم الذين قصفوا غزّة، أو أنّ سكان القبير الـ 150 شاركوا في قوات درع الجزيرة التي قمعت اﻻنتفاضة البحرينيّة.

قولوا أنهم “إرهابيون”، ثم يومان تخفّ بهما العاصفة، وبعدهما “خلصت”.. هل عرفتم ما معنى “خلصت”؟

 ماذا عن الداخل؟ فعلاً. ماذا عن الداخل؟

 لم يُرد النظام يوماً أن يصدّق أحدٌ روايته، فهو نفسه يعرف أنها غير قابلة للتصديق. كان المهم، وما زال، هو فوضى الصورة. أﻻ يعرف أحدٌ ماذا يحدث، أﻻ يتمكن المرء من الشعور أنه يطأ أرضاً ثابتة إن أراد التفكير في الواقع السوري. خطاب النظام، سياسياً وإعلامياً، هو الدوران بحثاً عن الدوار. هات بعضاً من هذه الحيرة، واخلطها بعنفٍ منفلت واستجرار لأبسط الغرائز القاعيّة (من قاع) بسفك الدم ببرود، ثم أكمل استفزازك واستجر كل العصبيات الأهلية الممكنة، الطائفيّة منها خصوصاً حتى إخراج أسوأ ما في أيّ مجتمع، وهنا سيساعدك متطوعون من أعدائك يعينك عليهم غباؤهم. الخلطة جاهزة، والنتيجة المفترضة: قطاع من شعبك مستفز وغارق في دمه، وقطاعٌ آخر غارق في رعبه من أن يُستهدف بالانتقام من قبل القطاع الأول، وعندها يحتمي بك حتى لو كرهك، فذعره الوجودي كفيلٌ بإشعاره بأنه شريك مصيرك، وقطاع ثالث يحلم بعودة الرعب من عنصر الأمن بديلاً لرعب المجهول الدموي.

من المحتمل أن تنجح الخلطة وتحدث النتيجة المفترضة فعلاً. ما ليس محتملاً أن يؤدي هذا الأمر إلى عودة سلطة وسطوة ذهبت دون عودة.

دعوني أعود إلى اﻻبتذال..

أحاول بكل طاقتي الهرب من إمكانيّة أن يتحوّل مشهد الدم إلى مبتذل في مخيّلتي. أحاول ذلك حرصاً على ضميرٍ أزعم أنه ما زال حيّاً. لذلك، أسعى للبحث عن معانٍ قابلة ﻷن تُبتذل بعيداً عن الدم بحد ذاته، وفي هذا المجال لم أجد أكثر بؤساً من سؤال “أين” المتكرر عند كلّ مجزرة. أكان من قبل الحاضرين في المكان أم من قبل المتفرّجين عن بعد.

أين الإنسانيّة؟ أين العرب؟ أين المسلمون؟ أين المجتمع الدولي؟ أين الصامتون؟ أين حلب؟ أين دمشق؟ أين فلان؟

يتساءلون في حين يعرفون أن الإجابة لن تكون أفضل من التي تلقاها أيّ من الأطفال الذي أزهقت أرواحهم حين أطلقوا سؤالهم الأخير.

نعم! الأطفال كلهم سألوا شيئاً قبل أن يُقتلوا. وما هي الطفولة أصلاً دون الأسئلة الفضوليّة؟ وما سبب كثرة الأسئلة من قبلنا عند حدوث المجازر هذه غير أن الذي يتحدّث هو بقيّة الطفل الذي ما زال في داخلنا؟

 غيرت رأيي.. ليس سؤال “أين” هذا مبتذلاً. اسألوا، أرجوكم، فمتى ما توقفتم عن السؤال سيعني ذلك أن ذاك الطفل الذي يعيش فيكم قد مات!

أطفال الحولة والقبير، وكل الأطفال الشهداء ليسوا قرابيناً على أي مذبح، ﻻ مذبح الوطن وﻻ مذبح الحرّية.. دم هؤﻻء الأطفال ليس ثمناً دُفع مقابل شيء، أكان هذا الشيء إسقاط النظام أو نيل التحرر الوطني أو أي شيء آخر. هؤﻻء الأطفال ليسوا “مشاعل نصرٍ” كما قرر واضعوا التسمية البليدة للجمعة الماضية. هؤﻻء الأطفال ضحايا عمليّة سطو مسلّح على أغلى ما يمتلكون، وعلى أغلى ما نمتلك لو نمتلك ضميراً يقدّر هذه القيمة. ﻻ ديّة تدفع ثمن ابتساماتهم التي انطفأت، وﻻ تعويض يجازي قيمة مشاكساتهم التي صمتت.

ليس بيدنا أن نسعى إﻻ لتنفيذ العدالة، وليس أيّ عدالة. فاﻻنتقام، مثلاً، عدالة الضعيف، لكن الثائر ليس ضعيفاً، بل أنه الأقوى.

العدالة ما زالت بعيدةً على كلّ حال، وحتّى يحين موعدها سيرتكز جهادنا على أن يبقى فينا بعضً من ضميرٍ ناجٍ من الغرق في شلال الدم، وهارب من التعليب في معامل الرعب..

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى