مجزرة البيضا: مفترق الطرق: روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
مجزرة أخرى يقوم النظام السوري بإضافتها إلى سجله الحافل بالمجازر، هذه المرة في قرية “البيضا” القريبة من مدينة “بانياس”، ضمن محافظة “طرطوس” الساحلية!
يختلف الشهود في تأكيد أعداد الضحايا، الذين قتلوا بالرصاص أو ذبحاً أو حرقاً، لكنهم لا يختلفون على توصيف آلية ترتيب المجزرة: كالعادة، في مجازر طائفية مشابهة، استقدمت عناصر النظام السوري معها، لخدمة مشروعها المبيّت، (شبيحة) من القرى المجاورة، مجموعات من القتلة المأجورين لمساعدتهم في العملية، وكالعادة أيضاً يتم التأكيد على الانتماء الطائفي “العلوي” لهؤلاء (الشبيحة) وإظهار ذلك بشتى الطرق!
الجديد في هذه المجزرة هو أن القرية منطقة مختلطة طائفياً، وهذا القتل الطائفي الذي حدث في مجزرة “البيضا”، للمجموعات “السنية” فيها، شرخ المنطقة طائفياً. كما أن مجزرة “البيضا” تبدو أشبه بمفترق طرق حقيقي في مسيرة النظام، فهذه أول مرة تقترب المجازر إلى هذا الحدّ من المنطقة الساحلية، وما حاول البدء به من تهجير طائفي في مناطق في “حمص”، المدينة الوسطى في سوريا، راح يفتتحه في الساحل الآن! أنكر إعلام النظام، بالطبع، قيامه بالمجزرة، وادّعى، كالعادة، بأنه قاتل مجموعات إرهابية تهرّب السلاح في قرى “بانياس”، لكن هذه المجزرة، التي كان معظم ضحاياها من المدنيين، تؤكد على محاولات النظام السوري تفعيل العامل الطائفي في البلاد، هو الذي لم يتوانَ يوماً، ومنذ اللحظة الأولى، على إشعال فتيل نزاع طائفي هنا وإثارة نعرات طائفية هناك.
لكن هذه المجزرة رسّخت محاولاته في التهجير الطائفي، أولاً، وعمّق من توريط الطائفة العلوية في مصيره المحتوم. فالإعلام العربي، الذي يدّعي الوقوف إلى جانب الثورة السورية، يؤكد مراراً على أن “العلويين”، بمطلق الكلمة، شركاء في قتل النظام، دون أن يبيّن أن من اشترك في القتل هم (الشبيحة)، الذين قد يمارسون الأفعال ذاتها مع “العلويين” إن عارضوا النظام، وهذا ما حدث قبلاً لبعض القرى، كقرية عقرب، ولكثير من الأشخاص المعارضين من الطائفة! هذا التوريط العلني والممنهج للطائفة، والآخذ بالاستفحال والتمدد، سيضمن للنظام تعليب الطائفة، ومن لفّ لفيفها في المنطقة، في علبه الجاهزة والمعدّة سلفاً، فهي لن تقدر، بعد كل الأحقاد الطائفية التي تألبت ضدها على مدى سنوات الثورة وفظائع النظام في المناطق الثائرة، أن تتجه باتجاه الشعب، فالشعب، برأيها، حاقد عليها ويريد إبادتها طائفياً! الأمر الذي يؤكد عليه النظام في أوساطها إعلامياً وشعبياً وشفاهياً.
كما إن محاولات التهجير الطائفي الذي يعدّ له النظام في الساحل، سيضمن له منطقة مملوكة له تماماً، يستطيع أن يقيم فيها دولته الطائفية التي يحلم بها، ويدعمه في سبيل تحقيقها حلفاؤه بالطبع، وأولهم إيران. أما من يدّعون بأنهم خصومه، كإسرائيل وأميركا وبعض دول الخليج، فإضعاف البلاد وتحويلها إلى خرقة بالية، لن تقوم لها قائمة لزمن بعيد، أمر مطلوب بالنسبة إليهم، فيرشح ما تبقى من مقدرات البلاد، عبر زجّ النظام للجيش في حرب على الشعب السوري وتدمير البنية التحتية، بعد أن امتصها النظام وأتباعه طيلة عقود أربع.
هذه الكارثة الوطنية التي يعدّ لها النظام السوري، لجهة تقسيم سوريا إلى غيتونات طائفية، هي ترتيب واحد من ضمن جملة من الترتيبات التي لم ييأس من الإعداد لها منذ اللحظة الأولى للثورة. فمنذ أن بدأ يحاول إخماد الثورة، بطرائقه بالغة العنف والشراسة، وهو يرتب لسيناريوهات موازية، أولها محاولة عزل وتفكيك العناصر الأساسية التي أشعلت الثورة وإبعادهم عن الجماهير التي تتأثر بهم، بداية الناشطين السلميين الذين صفّاهم أو اعتقلهم أو أرغمهم على الخروج من البلاد، ثم عناصر الثورة المسلحة الذين راح يستعدي حاضنتهم الشعبية عليهم بطرق مختلفة ومتباينة، واحدة منها إصراره على محو المنطقة التي يتواجد الثوار فيها عن سطح الأرض. إنها أشبه بمرحلة وضع البدائل لمعالجة الأزمة التي زجّ نفسه بها. من ثم قام بترتيب العوامل الطائفية لنشر العداء الطائفي وحرف مسيرة الثورة، أخلاقياً، باتجاهات طائفية، انساقت لها بعض من الفصائل المعارضة، للأسف، ضمن حالة الانفعال والموت المحيط.
اللعب القذر الذي مارسه النظام على الوتر الطائفي، من تأليب للطوائف على بعضها وخلق للمشاحنات وتصعيد لتاريخ منسي، كان هدفه الأول هو انتظار ردود أفعال طائفية وعنفية تجعل حربه مبررة على (العصابات الإرهابية المسلحة) التي يدعي قتالها. فكان استقدام مجاهدي حزب الله، بحجة الدفاع عن “الشيعة” ومقاماتهم، نوع من التحريض الطائفي للجماعات الإسلامية الأخرى لتبعث مجاهديها أيضاً إلى سوريا لحماية “السنة” وأماكنهم المقدسة! فتتحول الثورة إلى حرب مجاهدين، وتتحول مطالب الديمقراطية والحرية إلى نزاعات طائفية شرسة! تتوّج كل ذلك المشهد الكارثي بضربات إسرائيلة مفاجئة على مواقع عسكرية استراتيجية من المفترض أن النظام السوري سيبعث من أسلحتها إلى حزب الله، وذلك بمعرفة ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية لم تحاول إنكارهما.
لكن لمَ الآن؟ ولماذا لم تستهدف إسرائيل تلك المواقع قبل سنوات طويلة رغم معرفتها بوجودها؟ ولم لم تفعل ذلك من قبل؟ هل حقاً إن السبب الرئيسي هو احتمال انتقال هذه الأسلحة إلى حزب الله؟! وبعيداً عن منطق المؤامرة ألا يبدو ذلك مستغرباً، وحارفاً لاتجاهات النظر! وشكلاً من أشكال تبديل مظهر النظام من قاتل لشعبه إلى مقاوم للعدو الصهيوني التاريخي؟! أسئلة برسم التفكير، ولا أعتقد أن أياً من العوامل السابقة، تلك التي ذكرتها، من الممكن أن تكون خارج دائرة التفكير كعوامل مكمّلة ومتكاملة، تدفع بسوريا كي تغدو، يوماً بعد يوم، ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية ولانتزاع المصالح وتنفيذ الأجندات المختلفة. لكن أين الشعب السوري برمته، وبكل أطيافه وانتماءاته، في كل ذلك؟! سؤال أيضاً برسم التفكير.