محاكمة دولية لمأساة وطنية
غازي دحمان
لا تشبه المأساة التي يجري حفرها في جسد الشعب السوري سواها من مآسٍ وطنية حديثة. فهي، وإن كانت تشبه مأساة البوسنة، إلا أنها تختلف عنها من حيث طبيعة القوى الصانعة للحدث، كما تختلف من حيث المضمون، باعتبار الثانية انطوت على بعد جغرافي انفصالي، في حين رمت الأولى تحقيق دولة المواطنة لكل مواطنيها.
وإذا كان النظام الحاكم يتصدر واجهة المسؤولين عن حرب الإبادة، التي تجري على الأرض السورية، فإن الأحداث ومجرياتها قد وضعته في مرتبة الوكيل لقوى أخرى تريد جعل سورية إما ساحة للانتقام من قوى دولية أخرى، أو جعلها امتداداً لمجال حيوي، تدير من خلاله صراعاتها مع البيئة الدولية.
ربما يشبه الوضع في سورية الاعتداء النازي على أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وبصورة أدق حالة حكومة فيشي الفرنسية، ذلك أن النظام في سوريا أصبح خارج العملية السياسية الداخلية، منذ فقدانه مصادر الشرعية “الواقعية”، التي تمثلت بتصدع حزب البعث، وانتهاء دوره كقائد للدولة والمجتمع، ما يعني زوال صلاحياته المحددة بالدستور القديم، باختيار رئيس الجمهورية من قبل قيادته القطرية، ليصبح الوضع الشاذ، أصلاً، خارجاً عن كل منطق سياسي.
منذ ذلك الوقت، أصبح النظام يقف على عكازته الأمنية والعسكرية، وقد أثبتت جملة من الحقائق الميدانية دور روسيا وإيران في دعم بنية هذين المكونين وتدخلهما المباشر في التخطيط والدعم والتنفيذ. ويشير التاريخ العسكري والأمني للنظام عدم تحقيقه أي نصر عسكري وأمني ناجز، فقد ظل النظام يدير معاركه إما باتباع سياسة النعامة مع الأعداء عبر امتصاص الضربات والاختراقات والتهديدات، وإما بسياسة الحروب المتفق على حدودها وخطوطها ومداها، وحتى جدواها، كحرب تشرين الثاني 1973، حيث قاد غرفة عمليات الحرب، في النصف الثاني منها، وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر!، وكذلك حرب لبنان الشهيرة عام 1982، والتي اتفق سلفاً مع وزير الحرب الإسرائيلي أرئيل شارون حول مداها ومدتها.
لم يكن للنظام قدرة على الخروج من هذا السياق العسكري التاريخي، في مواجهة الشعب السوري، لولا التدخل المباشر من قبل أطراف إقليمية ودولية، مدًته بالخطط والعتاد والخبراء، وحتى المقاتلين على الأرض، كما حصل في محور حمص- القصير، التي تكفل حزب الله بكامل مجهودها الحربي، وكذلك محاولات المخابرات الروسية تطبيق مبدأ غروزني في بابا عمرو، وكذا الخبرات الإيرانية في القضاء على الثورة السلمية، عبر قتل قادتها وتتبع الناشطين الكترونياً، وتقديم الأجهزة والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الغاية، كذلك لم يكن النظام بإقتصاده المنخور بالفساد والضعيف قادر على تمويل آلة الحرب الجهنمية، لولا الضخ المالي الهائل من العراق.
إن عملية تشريد الملايين، وقتل عشرات الآلاف، وتدمير سوريا بعمرانها وإقتصادها، أمر تتحمل مسؤوليته كل هذه الأطراف، ذلك ان مواقفها العملانية من الحدث السوري تضمنت جوانب حربية مباشرة وصريحة، عبر دعمها طرفاً فاقداً لشرعية الحكم. ولن يفيد كثيراً الجدل ما إذا كان النظام يمثل الجانب الشرعي في المعادلة، إذ أنه يعني أن الجانب الآخر، وهو الشعب، ليس شرعياً. كما لا يفيد تصوير غالبية الشعب على أنها طرف متمرد ضد شرعية الدولة، فهذا يعني حكماً أن شرعية الدولة تصبح مستمدة من عناصر غير واقعية. وأما بشأن الانقسام في قضية تأييد النظام من عدمه، فتلك مسألة كان من المفترض معالجتها بأدوات ووسائل مختلفة لا تتضمن كل هذا القدر من قتل المواطنين وتدمير مقدرات البلاد.
إن تورط الأطراف الداعمة للنظام واقعي ومثبت، وتفصح عنه بشكل جلي مواقف هذه الأطراف العسكرية والسياسية، وكذلك مساعيها في توظيف الأحداث واستخدامها في قضايا ذات بعد مصلحي، يخدم مصالح هذه الأطراف السياسية والعسكرية، واستخدام الحيز الوطني السوري، جغرافياً وديمغرافياً، لتحقيق هذه الأهداف، وتهديدها الفعلي لوحدة الأراضي السورية، وتخريبها المباشر للنسيج الوطني السوري والتأثير على مختلف مكوناته الوطنية وتهديد مستقبل التعايش في البلد.
بناء على ما سبق، وعلى ما ستثبته الحيثيات والوقائع، وانطلاقا من قاعدة عدم الإفلات من العقاب، فإن مضبطة الاتهام في جدول محاكمة المتسببين في المأساة السورية يتوجب شمولها كل الأطراف ذات الصلة المباشرة، وتحملها تبعاً لذلك كامل المسؤولية، وما يترتب على هذا الأمر من تعويض عادل للشعب السوري، فمن الطبيعي تحمّل الدول مسؤولية تصرفات حكامها، كي لا تصبح شعوب الدول الأخرى حقولاً ميدانية لتجريب السياسات الانتهازية والطامعة.
المستقبل