محاولة مقاربة في الطائفية المقلوبة/ معتز جبلاوي
أن تكون سوريّاً وتبقى واقفاً على قدميك متأكداً أنّ رأسك فوق كتفيك، هو أمر بالغ الصعوبة هذه الأيام، خصوصاً الآن، حين تنفتح تباعاً دفاتر مظلوميات التاريخ لكل المكونات الاجتماعية في جوٍّ مشحون بالقتل والدم.
دفاتر حماة القريبة ومجازر الثمانينات على يد قوات الأسد الأب، تهجير الكرد و«الحزام العربي« ومظلوميتهم على يد عروبة بعثية فاشيّة في الستينات، وفي الربع الأول من القرن العشرين نزوح كثير من الإسماعيليين من جبال القدموس في مدينة طرطوس الساحلية إلى مدينة السلميّة شرق حماة، في ما عرف محليّاً بـ،»الهجار«على إثر تجدد المواجهات الكامنة بينهم وبين علويّي المناطق المجاورة. العلويون أيضاً لن يتردّدوا باستحضار مظلوميتهم الأشهر برأيهم في تاريخ المنطقة، وهجرتهم الأخيرة هرباً من بطش العثمانيين، وذهابهم في التقيّة والجبال مع الوحوش، حتى شابهوها أو يكادوا، وفق تعبير أحد مشايخهم ومؤرخيهم (محمود الصالح في كتابه: النبأ اليقين عن العلويين).
يشتبك التاريخي بالسياسي والطائفي بالطبقي، ويظهر السوريون كمن لم ينظّفوا جروحهم بعد، وقد ضاقوا ذرعاً بقيحها وصديدها ولا اندمالها، باحثين عن كل الطرق لتحقيق ذلك، بما فيها إعادة تفكيك وجودهم كجماعة وطنية لا يبدو الآن أنها مقتنعة تماماً بشكل اجتماعها السياسي وصيغته التعاقدية التي استقرّ عليها الحال بعد الإستقلال. الأمر الذي يهدّد بفتح مسارب خلفية مغرية لاختطاف الموقف الوطني الديموقراطي إلى مخدع التاريخ. فغدر العاطفة والغريزة بالعقل قديم، ولهما معه كيد عظيم.
الآن، وفي زمن الثورة السوريّة، ستجد بسهولة سوريين يتبنّون الخيار السياسي المناقض لمزاج طوائفهم وبيئاتهم الاجتماعية، هذه الحالة تلاحظها بكثرة لدى قطاعات من المسلمين السنّة الموالين للنظام. فإن تعذّر اعتبار السنّة طائفة واعية بذاتها ولذاتها، وهو ما يدحض المقولة التعبوية أنّ »الدم السني واحد«، فإنّ اعتماد التمثيل المحلي والمناطقي يشير إلى أنّ أكثر الأصوات علوّاً وحدةً بموالاتها للنظام في بداية انطلاق الثورة في مدينة درعا كانت من المدينة ذاتها. ولاحقاً عندما اجتاح جيش النظام وقواه الأمنية المدينة، وأمعنوا فيها تخريباً وتدميراً، كانت تلك الأصوات هي الأكثر تنكّراً لمدينتها وخرابها والأكثر صفاقة إعلاميّةً في تغطيتها وتبريرها لإجرام الحل العسكري والأمني (خالد العبّود أمين سرّ مجلس الشعب السوري، عمران الزعبي وزير الإعلام).
بحكم البنية الأيديولوجية المتصلبة للنظام السوري إعلاميّاً، وبسبب أنّ السنّة لم يشكّلوا طائفة متماسكة يوماً، لم يتح لتلك النماذج وغيرها الظهور بوضعيّة المنقلب على طائفته والمعادي لها، أفادهم في هذا الوضع التلطّي خلف أيديولوجيا المقاومة والممانعة والعروبة المحدثة، ذات الرائحة الإسلامية. كما أفاد في هذا الوضع، ولو بنسبة نعتقدها أعلى، بروز ظاهرة السلفية الجهادية التكفيرية، التي شقّت الصف السنّي بعمق، وقدمت مخرجاً سهلاً للمنقلبين سنيّاً منذ البدء على »طائفتهم« أومصالح بيئاتهم الإجتماعية.
على المقلب الآخر ستجد نشطاء علويين من أبناء الثورة، يواجهون خطر الإنزلاق إلى طائفيين بالمقلوب، يكاد ينظر بعضهم إلى طائفتهم بما يفوق الغضب والإدانة، وقد يصل بالبعض إلى حدود الكراهية والتبرّؤ الصريح.
تتبدّى ظاهرة الطائفية المقلوبة بأوضح صورة في الحالة العلوية. الظاهرة التي يمكن القول أنّها خروج الفرد من جماعته المذهبية بطريقة غير سلمية وعنيفة، على إثر صدمة أخلاقية عميقة تهز وجدانه وتقتلعه خارج وجوده السابق، محققاً انفصالاً أو قطيعة على مستوى التعاطف مع الجماعة والإنتماء لها، وصولاً إلى معاداتها وكراهيتها والشعور بالعار منها، وفي حالات متقدمة إلى تفسير كل ما يصدر عنها من موبقات أو شرور، وفق ماهويّة شيطانية ثابتة وراسخة فيها، لا فكاك منها.
الحالة العلوية تمتلك كل المقدمات لإنتاج هكذا ظاهرة. فضلاً عن أنّ سرديّة المظلوميّات الثلاث الأولى السابقة تصب بالنهاية في وجه العلوييّن كمسؤولين وحيدين أو أساسيين عن وقوعها، فإنّ العلويّة كطائفة مغلقة على نفسها تداور ما أصابها من تعفن تاريخي ببعض المظاهر والقشور الحداثية، وهو ما لن يدركه بعمق إلا المتنوّرين من أبنائها، وباعتبار أنّ الرئيس السوري وجهازه الأمني والعسكري الضارب، بما يمثله من إجرام ينتمي إليها، سيغدو هذا الانتماء مشيناً، وسيضيق ذرعاً به كل ذي ضمير أو أخلاق من أبناء الطائفة، بغض النظر عن موقفه الآن من الثورة ومآلاتها. ومما يتوفر من مقدمات محتملة، أنّ العلويين ليس لهم إكليروس أو رئاسة دينية، كما حال بقية نظرائهم من الفرق الصغيرة كالاسماعيلين والدروز، الأمر الذي لطالما حرر العلويين إيجابيّاً من سلطة مشيخية قوية، ومنحهم صفة لامركزية ومنسوب التزام ديني أقل، وهو ما استفادت منه السلطة الأسدية، التي تمدّدت في طغيانها حتى على شيوخ طائفتها، لتحوز في بعض الحالات سمات مرجعيّة طائفيّة، ولو أن هذا انحصر في بعض المناطق الممتازة والمغالية في ولائها.
سيكون أيضاً من العوامل الدافعة باتجاه هكذا ظاهرة، أنّ معظم إعلام الثورة السورية والإعلام العربي المساند له، اعتمد في كثير من تغطيته للأحداث على كشف اللثام عن الوجه الواقعي لأجهزة الإجرام، والتي تبدّت كمسوخ طائفية مترعة بالكراهية ولا حدود لما تقترفه من إذلال ومهانة وانتهاك فاق كل حدّ، وهو ما شكّل سلطة أخلاقية ضاغطة على كل علوي ذي نفس حرّة وضمير حيّ، لإعلان براءته من هكذا إجرام، سيغذيها بشكل متسارع ما أبداه إعلام النظام الرسمي والقنوات الناطقة باسمه من تحريض طائفي علني رخيص، وانحطاط أخلاقي وكذب صريح، بلغ بإسفافه مدارك وقيعان من الدناءة والوضاعة لم تكن تخطر لا بالبال ولا بالأحلام.
لم تتوقف وسائل الإعلام في ضغطها المعنوي والأخلاقي عند ما يعرفه معظمها عن نسب الاعتقال السياسي في أوساط العلويين تاريخيّاً، ولا عند الدور الفعلي لنشطاء وناشطات من الطائفة العلوية كثر ومعروفين منذ الإرهاصات الأولى للثورة وبداياتها، كما لن يتوقف عن ترداد السؤال المؤلم: أين أنتم يا شرفاء العلويين؟ ولاحقاً لن يكون التبرؤ السياسي والأخلاقي من نظام الطغيان الأسدي، بمحتواه الطائفي، كافياً لتبريد الألم السوري الذي استصرخ الضمائر، وكأنّ التبرؤ الديني من الطائفة كان سيغير شيئاً من المعادلة، أو سيوقف ذلك الإجرام!
برأينا إنّ الأكثر خطورةً في هذه الظاهرة هو احتمال تحوّل العلوي من معارض يساري إلى طائفي مقلوب، وفق المعنى السابق. الثائر العلوي الذي انتمى للثورة منذ بداياتها المبكرة، التصق ببيئاتها الثورية وواكب كلّ تحولاتها في الحصار والتجويع، صامداً مع من صمدوا في الداخل، مكابداً الملاحقة والهرب، وتالياً اللجوء في حالات عديدة. وعندما انزاحت البيئات الثائرة إسلامياً انزاح معها، متصالحاً مع إسلام شعبي لا يشعر بالعداء تجاهه ولا يناله منه الأذى، ليدافع عنها عندما انزلقت إلى ردود أفعال طائفية متفرقة هنا وهناك، في استجابة قسرية لطائفية النظام القاتلة.
بتقديرنا، إنّ هذا ليس مفيداً للثورة، وليس بمنتجٍ لاحقاً، فضلاً عن أنه يبتعد عن العقلانية والاتزان والاتّساق مع حاجات الواقع بقصد تحويله. أوساط الثورة الآن ليست بحاجة إلى توتر وكراهية عمياء، فلديها ما يكفيها من البلاء.
تخطئ المعارضة إن توهّمت أنها بحاجة هذا اللون من المعارضين. على الرغم من أنّها قد تكون استفادت منه في تعزيز وحشد النقمة على النظام وطائفته العلوية، لتشد بذلك من عصب جمهورها السني، بالغضب اللازم لتحمل التضحيات، ولرفع منسوب ثقتهم بأنفسهم وبتصوراتهم، على مبدأ وشهد شاهد من أهله، أو من فمك أدينك. وربما لزم لإتمام ديكور التمثيل الوطني شكلاً، وتطمين الخارج تلافياً لهواجسه في موضوع التطرف وحماية الأقليات…
إنّ تحوّل الصوت العلوي المعارض وفقاً لهذه الظاهرة لن ينفع الثورة، بل سيكون عبئاً وذا مفعول معاكس، في المفاصل التي بالضبط أريد له أن يحقق اختراقات فيها، فهو لن يمكنه خلخلة ارتصاص العلوييّن العام خلف النظام، والناجم بإحدى وجوهه عن ترهيب الخطاب الإسلامي المتشدّد ووعيده وما يخلفه من تهويمات عصابيّة عندهم تمتح من تاريخ الممارسات والفتاوى القاتلة بحقّهم. نقول: لن يمكنه ذلك بسبب اندراجه في متن ذلك الخطاب الغاضب والتقريعي والكاره لهم، وتلبّسه وجهاً من وجوهه المفزعة. كذلك لن يمكنه انتزاع مصداقية تمثيل أقلوي حقيقي أمام الخارج، بسبب تهافت تمثيله لأقليته في داخلها، وعجزه عن التعبير عن مصالحها الصغرى بتضمينها بشكل مقبول وملموس في المصالح الوطنية الكبرى.
نجح النظام الفاشي، وغالباً عن سابق تصوّر وتخطيط، في دفع الثورة السورية إلى حدود وخيارات لم تكن ترغبها، أو لم تكن تتوقعها لنفسها، بدءاً بخيار التسلّح الذاتي للدفاع عن النفس، إلى مطالبة الخارج بالمساعدة العسكرية لإسقاط السفاح وإيقاف الإبادة الجماعية بحق شعبه، وصولاً إلى قبول المتطرفين الإسلاميين في صفوف المقاتلين، للإستفادة من قدراتهم، وما تسببوا به للثورة من ويلات وتدمير. لذلك وكاستفادة من الدروس السابقة لا يجب على العلويين الشرفاء، ونعتقد أنهم ليسوا قلائل، أن يسمحوا للنظام من خلال إجرامه وفاشيته أن يدفعهم إلى هكذا طائفية مقلوبة غير ذات جدوى، كما يجب على الثورة ومثقفيها وإعلامها و»فيسبوكها» الكفّ عن دفعهم بشكل مقصود أو غير مقصود إلى هذا المنتهى الخاطئ.
() كاتب وناشط سوري
المستقبل