مختلفات، إذن عاهرات/ دلال البزري
يكفي أن تكون المرأة مختلفة معهم، أو عنهم، حتى تصبح “عاهرة”. يكفي أن تكون من المعسكر الآخر، أي آخر، أن تعبّر عن رغباتها، أن تتمتع بجمالها وشبابها، أن يكون لها دور ما، حظوة ما، أو موهبة، حتى تستحق لقب “العاهرة”. وذلك مهما اختلفت البيئات والإتجاهات: تقليدية أو حداثوية، تقدمية أو رجعية، نخبوية أو جماهيرية الخ. الفرق بين هذه البيئات جميعاً، هو الطريقة، اللهجة، الإخراج. والآن، مع شبكات التواصل، تحرر هذا النزوع من قيوده الأخلاقية، وانطلق في التعبير عن نفسه، بأغزر مما يمكن تصوره. وما عزّزه هو ذاك العدد الهائل من اللايكات (like) التي تنالها الكلمات الصادمة، الصاخبة، “القوية”، بقاموسها المتجدد من الألفاظ النابية والقاسية.
بالأمس كان دور الإعلامية ديما صادق (ال. بي. سي.) في هجمة على أسئلتها لأحد ضيوفها، في برنامج “توك شو” عن فساد يطاول مسؤولين في “حزب الله”، ومواقفها السياسية من بشار الآسد وعلي مملوك. فانهالت عليها أوصاف العهر بالعامية، مرفقة بتعبيرات جنسية، مشفوعة بذكورية إنتصارية إنتصابية. بالأمس كان دور ديما صادق، وكان لافتا، نظراً لشهرة صاحبته على الشاشة والشبكة. ولكن كم من النساء يلاقين يومياً هذه “الصفة”، ولأمور أقل ظهوراً، أقل “أهمية”، أقل ذيوعا: “عاهرة” لأنها مختلفة أو مخالفة.
مع أن تعريف العهر واضح، لا لبس فيه: عهر المرأة يعني اضطرارها، بضغط من ظروف بائسة دائماً، أن تقدم ملذات جسدها الجنسية إلى أي رجل مقابل مبلغ من المال. وهو تعريف ساعد كل الإدارات الحكومية، حيث يوجد دول بعينها، على تنظيم العهر وتقنينه وإقامة الرقابة الصحية عليه. شبكات العهر العالمية تتفلت من هكذا رقابة، وهي تنظم عبودية جنسية عابرة للقارات. والنساء العاهرات المنتظمات تحت الحكم الرسمي أو المافياوي، ليس لهن وجود ولا ظهور ولا دور في المشهد العام.
لذلك، يطرح السؤال: ما الذي يسهل على رجالنا إلصاق صفة العاهرة على أية امرأة لا تروقهم شخصيتها أو فكرها أو هندامها، أو أي شيء آخر يمكن أن يخطر على البال؟
لأنهم يتصورون، في مكان ما من وعيهم بأن مجرد إطلاق هذه الكلمة “المحرمة”، سوف يدفع “المتهمة” إلى الإنكفاء، حماية لـ”شرفها” من الاتساخ، فتقوم بتغيير هذا الذي لا يروقهم. طبعا هنا يفشلون تماما، ولولا هذا الفشل لاختفت النساء من الصورة؛ ذلك ان ما امرأة إلا وقد نالتها صفة “العاهرة”، بشكل من الأشكال، على الأقل مرة واحدة في حياتها؛ كما هو الحال مع التحرش الجنسي.
ولأنهم، في مكان ما من لاوعيهم، في خلفية بعيدة من “عقليتهم” المعلنة، المتعفِّفة دائماً، ينظرون إلى أية امرأة بصفتها صاغرة، مغلوبة، مستباحة، منبع رغبة مأجورة أجرا زهيداً، دائماً؛ لا يشبعون من النساء الدنيا، لأن مخيلتهم تسكنها هوامات الحريم، في الدنيا كما في الآخرة: الحواري والعذارى والجواري والكواعب (عارمات الصدر)…
لأنهم، بتسليطهم السيف “الاخلاقي” هذا، يعتقدون انهم سوف يتمكنون من السيطرة على النساء، رمزياً، على أمل السيطرة على عقلهن وجسدهن، عملياً. هل كان هذا السيف مسلَّطا في الماضي البعيد، عندما كانت النساء يوزعن خروجهن من بيوتهن بين بيت أبيهن والقبر؟ لا نعرف تماما، ولكن المؤكد ان الفضاء الثقافي المعاصر يتلوث بهذه الصفة على نحو جرثومي.
الآن، البيئة التي انقضّت على ديما صادق هي نفسها بيئة “أشرف الناس”، التي “تحارب التكفيريين”. ومع ذلك، بنشاطها المحموم في إطلاق صفات مخلّة بشرف الاعلامية، لمجرد خلافها السياسي معهم، ينمّ عن عقلية لا تختلف عن عقلية أولئك “التكفيريين”. إذ ما الفرق بين سبي النساء وإخضاعهن، عملياً، للعبودية الجنسية، كما يفعل “التكفيريون”، وبين تصنيف أية واحدة منهن، إعتباطياً، على انها عاهرة، “سائبة”، كما تفعل بيئة “حزب الله”، المعادية لـ”التكفيريين”؟ ما الفرق بين السبي عملياً والسبي رمزياً؟
المدن