مخيّم اليرموك في الأزمة السورية
ماهر أيوب
شهدت بدايات الحراك السلمي في سوريا تساؤلات عن موقف فلسطينيّي مخيمات سوريا من المطالب المعلنة، وحكمت مشروعية التساؤلات اعتبارات التاريخ والجغرافيا، التي لم تفصل الفلسطيني يوماً عن السوري، واعتبارات الدور الذي يؤديه اللاجئ الفلسطيني في بلد أعطاه، منذ منتصف الخمسينيات، حقوقاً كاملة باعتباره «فلسطينياً بحكم السوري».
وبحكم التمازج الكامل بين السوريين والفلسطينيين اجتماعياً واقتصادياً وقرابياً، انخرط الفلسطينيون على نحو طبيعي في هذا الحراك، وانحازت غالبيتهم إلى مطالب الشعب السوري، رافعين شعار «فلسطيني سوري واحد»، لكنهم، مع ما يمتلكون من تجربة قاسية وتاريخ مرير مع الأنظمة العربية، وكذللك بسبب تشعبات الوضع السياسي الإقليمي والدولي وتأثيراته في مجمل قضية اللاجئين الفلسطينيين، فضّل الفلسطينيون في سوريا أن يؤدوا دوراً إغاثياً اجتماعياً واقتصادياً يستفيد منه منكوبو المناطق السورية المجاورة لمخيمات اللاجئين في سوريا، وقد أدى مخيّم اليرموك الدور الأبرز في هذا المجال.
اختار أهالي مخيّم اليرموك دوراً انسانياً بابتعادهم عن الحالة المسلحة التي نشأت، وفضلوا تحويل مخيّمهم إلى ملاذ آمن للنازحين من أحياء التضامن، ويلدا، والحجر الأسود، والميدان، وأدّت الهيئات الأهلية وتجمعات الشبان المستقلين سياسياً دوراً مهماً في هذا الجهد الإغاثي وتحوّل مخيّم اليرموك، كما المخيمات الأخرى، إلى رئة يتنفس منها السوريون الذين وقعوا تحت وطأة ظروف التهجير من منازلهم.
وبالرغم من انخراط بعض الفلسطينيين في الحالة المسلحة، إلّا أنهم لم يمثلوا الرؤيا الفلسطينيه الشعبية والفصائلية العامة، حيث أعلنت فصائل منظمة التحرير، في أكثر من مناسبة، موقفها بضرورة تحييد المخيمات الفلسطينية، كما أعلنت حركة حماس وقوفها إلى جانب الشعب السوري، لكن دون أن تؤيد انخراط الفلسطينيين في الصراع المسلح. بيد أنّ وجود فصائل فلسطينية خارج منظمة التحرير أدى، كما في كلّ مرة، إلى ارتفاع أصوات تلعلع خارج الإجماع الوطني، وتجرّ الشعب الفلسطيني إلى مغامرات سياسية وعسكرية، حيث برز من جديد اسم الأمين العام للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، أحمد جبريل. الذي كان قد عُرف بارتباطه العضوي بالنظام السوري، ومثّل ضربة للقرار الوطني المستقل على مدى نصف قرن من عمر مسيرة النضال الفلسطيني المعاصر.
بدأ جبريل بتأليف لجان مسلحة تحت الشعار البرّاق: «حماية المخيم وأهله»، بيد أنها صبّت فعلياً في خدمة النظام، من حيث رفع بعض العبء الأمني المتمثل في ضبط المخيمات، ومنعها من الانخراط في الحراك الثوري السوري. ونظراً إلى قلة عدد المنتسبين إلى هذا التنظيم في المخيمات الفلسطينية، عمد المسؤولون عنه إلى تأطير الكثير من شباب المخيّم، ومن هنا بالضبط بدأ سيناريو الزجّ بمخيّم اليرموك في الأزمة السورية، بعدما زُجت مخيّمات أخرى كما حصل في مخيّم درعا، ومخيّم الرمل الفلسطيني.
يعدّ مخيم اليرموك المدخل الجنوبي لمدينة دمشق، ويمثّل كتلة اقتصادية سياسية وثقافية فلسطينية، وعاصمة رمزية لفلسطينيي سوريا، نظراً إلى كونه أكبر تجمعات الفلسطينيين في الشتات، ونظراً إلى أهميته السياسية والاقتصادية وظروفه الاجتماعية تبلور اجماع على رفض التمركز المسلح للمعارضة فيه.
اختيار المخيم للدور الإغاثي الانساني نشأ من اعتبارات، أهمها عدم وحدة المعارضة السورية السياسية والمسلحة، وعدم وضوح موقفها من الفلسطينيين في سوريا، وانعدام البرنامج الذي يتطرق للقضايا الوطنية الفلسطينية وتعبيرها الأهم حق العودة، إضافة إلى تحول المناطق المجاورة التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة إلى مناطق فارغة من سكانها، وإلى هدف دائم لنيران النظام. ولهذا اختار الفلسطينيون أن يكونوا فقط إلى جانب الشعب السوري ومطالبه في الحرية والديموقراطية.
لم ينظر النظام السوري بعين الرضى إلى هذا الدور الانساني، فعمد إلى القصف المتكرّر للمخيّم بقذائف الهاون، موقعاً عشرات الشهداء والجرحى، وصعّد أخيراً بقصف مخيم اليرموك بطائرات الميغ، مستهدفاً مسجداً يقع تماماً في وسط المخيم، وبالنظر إلى دموية القصف وعشرات الشهداء والجرحى بدأت غالبية أهالي المخيم بالخروج منه، أسهم في ذلك الشائعة التي انتشرت عن منح النظام السكان ساعتين للخروج قبل إعادة القصف، وبدء التدمير الشامل.
ذكّر مشهد الخروج من المخيم بالخروج الكبير للفلسطينيين بعد نكبتهم عام 1948، هذه المرة لم يكن لإسرائيل علاقة ظاهرية بهذه الهجرة، بل إن النظام السوري هو الذي أعلن بدء عقابه للفلسطينيين المتعاطفين مع اخوانهم السوريين، وبلغت عنجهية هذا النظام حتى مؤيديه في قصفه، بينما سيطرت المعارضة المسلحة على المخيّم في ما سمته «معركة تحرير المخيم»، التي لم تشهد اشتباكاً مسلحاً إلا في محيط مبنى الخالصة (المقرّ الرئيسي لتنظيم أحمد جبريل في مخيّم اليرموك) بعدما اتفقت اللجان الشعبية في غالبيتها مع المعارضة المسلحة على دخول المخيم دون أي معارك حقناً للدماء.
اليوم يعاني مخيم اليرموك من القصف الدائم، وانتشار القناصة ونقص المواد الطبية، والغذائية، والتموينية. ويخضع لحصار خانق من قبل النظام، الذي يمنع دخول هذه المواد إلى المخيم، بينما غالبية سكانه باتوا مشردين في شوارع دمشق ومدارسها، ومنهم من استطاع الوصول إلى لبنان، فيما اختار القليل البقاء في انتظار موت مشرّف يغنيهم عن مرارة التشرد وذلّ التهجير.
إن الخوف الأساسي من استهداف مخيم اليرموك، وبقية المخيمات الفلسطينية في سوريا، هو التأثير السياسي في ملف اللاجئين الفلسطينيين من ناحية شطب جزء أساسي هو لاجئو سوريا، بينما يبقى السؤال الأساسي مفتوحاً وحاداً وراهناً: ماذا ستفعل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، «الممثل الشرعي والوحيد»، لتجنيب فلسطينيي سوريا مصيراً مأساوياً كالذي شهده إخوانهم في العراق؟
* كاتب فلسطيني