صفحات الناسهيفاء بيطار

مدارس سوريا/ هيفاء بيطار

تُمثل يارا ذات السنوات التسع، شريحة كبيرة من الطلاب السوريين، يارا التي نزحت مرتين، المرة الأولى من حمص إلى حي جرمانا في دمشق قبل أن يأتي دوره في القصف، والمرة الثانية من دمشق بعد إصابة المنزل الذي استأجرته أسرتها في جرمانا بصاروخ أدى إلى تهدمه كلياً، ومن حسن الحظ أنها وأهلها لم يكونوا في البيت. حالياً أسرة يارا تسكن في حي شعبي هو الرمل الفلسطيني في اللاذقية. تهدر يارا وقتها في اللعب مع الأطفال المكوبين مثلها في شوارع قذرة تزينها هضاب حقيقية وعملاقة من القمامة! وبما أن موعد المدارس قريب شغلتني أسئلة عدة: هل سيذهب الأطفال إلى المدرسة؟ وهل من مدارس أصلاً في سوريا بعد أن صار معظمها مأوى للاجئين، أو بعد أن تهدم .الربيع العربي جر وراءه خريف دراسي، منظر الأطفال في حي الرمل الفلسطيني في اللاذقية يلعبون ويصرخون بقرب هضاب القمامة يجعل الإنسان يخجل كونه إنساناً، كانوا أشبه بقطط وكلاب الشوارع، هائمون وتائهون، بلا مأوى ولا رعاية، وبعض هؤلاء الأطفال ينبش في القمامة باحثاً عن طعام لم يفسد كلياً. استوقفتني يارا بين حشد الأطفال، بعد أن صرخت مُبتهجة أنها وجدت في القمامة كيساً من الرز اللذيذ، التهمته بسرعة خوفاً أن يقاسمها الأطفال غنيمتها، اقتربتُ منها وأنا أقاوم عاصفة غثيان من رائحة القمامة، وأغويتها كي تتحدث معي بأن قدمت لها عدة قطع من الحلوى، خطفتها من يدي وخبأتها داخل ثوبها العتيق، وجدتني أسألها عن المدرسة فقالت إنها في الصف الثالث، واستدركت قائلة: حين كنت في حمص. فالنزوح الأول ثم الثاني جعل من المستحيل أن تلتحق بالمدرسة. وسألتها: طيب ألم تذهبي إلى مدرسة و… لم تتركني أكمل، انفجرت بضحك صاخب آلمني ذلك، فقد بين لي كم هي متألمة ومرتبكة بألمها لدرجة لا تجد سوى الضحك الهستيري عوضاً عن البكاء، تجمهر الأطفال حولنا وبدت لارا راغبة بالكلام عن مدرستها أمام جمهور من المشردين، الأطفال السوريين المنكوبين والنازحين: وضعت يديها القذرتين على بطنها وانطوت من الضحك ونظرت إلى رفاقها وقالت بصوت يتقطع من الضحك: الآنسة تسألني عن المدرسة! فاستفزتها طفلة تماثلها في العمر وقالت لها: طيب إحكي لها عن مدرستك. تمالكت يارا نفسها ونظرت إلي بلامبالاة وقالت: مدرستي في حمص جميلة جداً، تصوري باحتها تغص بالأزهار وفيها شجرة بلوط عملاقة، نحفر على لحائها أسماءنا ونكتب أيضاً كلمات وأشعاراً، لكن لما أخذتني أمي إلى المدرسة يوم افتتاحها ـ تحكي يارا قبل سنه من الآن ـ لم أصدق أن هذه هي مدرستي، رأيت أطفالاً يتغوطون في باحة المدرسة ورجالاً يفترشون الأرض. هرعت إلى صفي فصعقتُ أن السبورة مثقلة بالمسامير التي علقت عليها الثياب المغسولة والقذرة، وأن بعض الرجال والنساء يحملون فؤوساً لكسر المقاعد وإشعال النار في خشب مقاعد الدراسة للطهو والتدفئة، وجدتني كالمجنونه أبحث عن مقعدي الذي حفرت عليه حرف اسمي داخل قلب يخترقه سهم. لم تعرف لارا أن السهم الذي رسمته على مقعدها قد أصاب قلبها حقاً.

وتكمل يارا: لا أعرف لماذا نزعت شرائط شعري الملونة الجديدة ومزقتها وأنا أبكي، حتى اقتربت مني إحدى النساء وسألتني: خير يا ابنتي من أين أنت نازحة؟ ما بك هل ضيعت أهلك؟ هل ماتوا؟ هربت، وصرخت بأمي هذه ليست مدرستي، هذه ليست مدرستي، ووعدتني أنها ستأخذني إلى مدرسة أخرى، لكنها اخذتني إلى مدينة أخرى بعد أن قُصف بيتنا في حمص، ووجدتني في جرمانا لدى أقارب يتضجرون منا، ثم هوى صاروخ على منزل أقربائنا فنزحنا كلنا إلى اللاذقية وهنا ..قاطعتها لأسألها: يعني يا يارا، ألم تتعلمي شيئاً خلال عامين؟ انفجرت بالضحك وقالت: أجل أجل تعلمت، ثم مسحت وجوه رفاقها المُتعبة البائسة الطفولية بنظرة تواطؤ وقالت كما لو أنها تنطق نيابة عنهم: نعم يا آنسة تعلمنا، قالوا لنا في الغرفة الحقيرة التي ذهبنا إليها ذلك اليوم: شوفوا يا أولاد إذا صاروخ نزل على بيتكم لازم تنزلوا الملجأ، وإذا كيماوي نزل وانضرب عليكن لازم تطلعوا السطح. جمدني كلام يارا البسيط لكنه يلخص جوهر المأساة. فمدارس سوريا تنوس بين ملجأ وسطح، يحيا العلم، فعلاً العلم نور، لكن ألا يبدو الحديث عن المدارس ضرباً من الترف والتفاهة في وطن تحول إلى ساحة للمجازر ولاختبارات كل أنواع الأسلحة المُتطورة، أليس من المعيب أن نرى طاقماً من العلماء الأنيقين يقفون أمام الكاميرا ويشرحون للعالم التواق للعلم والمعرفة تأثير الغاز الكيماوي على الأحياء وأمامهم قفص زجاجي كبير فيه حيوانات تجربة! أظن الحيوان كان نعجة، كانت تقوم بحركات هوجاء وتلطم نفسها بأطرافها وتدور رأسها كالمجنونة لأنها تختنق، ربما لم يتسع قفص التجربة لوضع مواطن سوري، ربما الشرح المبدئي على حيوان أسهل، أما التطبيق الواسع فعلى الشعب السوري، الذي يكاد يفقد عقله من هول إجرام العالم، منظر أناس يحدثون أنفسهم في الشارع صار عادياً، حالات الاكتئاب المُروعة صارت عادية أيضاً، يكفي أن نلقي نظرة سريعة لما يكتبه السوريون على مواقع التواصل الاجتماعي لندرك هول الآلام والانهيارات النفسية التي يعانون منها، وسادة العالم يحكون بالخطوط الحمراء، التي يبدو أنها تحولت إلى أشعة حمراء لحرق الأخضر واليابس وحرق الأمل وحب الحياة في نفوس السوريين. تركتني يارا أسيرة ذهولي وسؤالي الغبي عن المدرسة والعلم، عن حال ملايين الأطفال السوريين المحرومين من العلم والذين يعيشون في خيم بائسة إن لم يُقتلوا أو يُعطبوا أو يجنوا، العلم الوحيد الذي قُدم لهم: إذا نزل عليكم صاروخ إنزلوا الملجأ، وإذا نُسفتم بالكيماوي إطلعوا إلى السطح. يحيا العلم في سوريا!!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى