صفحات المستقبل

مدينة الحراك السوريّة: الساحات مدارس حريّة


معتصم الديري

تغلق المدارس، فتفتح ساحات الحرية من أول الفجر إلى حين نوم الأطفال والقذائف في مدينة “الحراك”. مدينة بـ30 ألف نسمة، فيها من الرجال ما لا ينقصها، أنجبت لها الثورة اسما يليق بصمود مدينة تقصف منذ أشهر: أيقونة الثورة السورية.

تقف كأنها جبهة الجنوب، عالية على هضبة، جميلة كقرطبة. بينها وبين دمشق زيتونها، بركتها الرومانية، مسجدها العمري القديم ومئة كيلو متر، وأيضا انتفاضة بدأت في آذار من العام 2011، مشياً إلى “درعا البلد”، لتعود بأربعة شهداء وصمود.

أهل المدينة يضمّون المدينة

كانت الحراك “الشعلة الثانية” بعد درعا البلد، كما يقول منشد الثورة سعدون: “مثلما كانت هذه المدينة الشعلة الثانية بعد درعا البلد، سوف تبقى كذلك”. ويتابع حديثه لينتهي بجملة تكاد تكون الشعار الأول لثوّار سوريا “الموت ولا المذلة.. يا أهل الحراك”.

حراك المدينة لم يتوقف عن “سخونته” إلى يومنا هذا. بل تبدو المدينة أكثر إصرارا. هذا ما حدث لأهلها مثلا حين أرسل لهم قائد اللواء المسؤول عن ارتكاب المجازر فيها: “سوف نهدم البيوت على أصحابها إذا خرجت مظاهرة واحدة، وإذا لم يسلم أهل المدينة كل المنشقين من الجيش الحر فيها”.

رد أهل مدينة الحراك على رسالة اللواء بمشهد تكاد تخلو منه السينما: خرجت أكبر تظاهرة منذ بدء الاحتجاجات في المدينة، حيث خلت البيوت من سكانها تماما، وامتلأت الساحات بالسكان الذين راحوا يرددون وراء أبو أحمد – عمر الحامد – شعارا يليق بصمودهم: “بدنا الصوت يوصل ع مكتبو لهالجبان, الحراك الأبية، ردي عليا. نحن شعب ننتصر، أو نموت، ننتصر أو نموت”.

أبو أحمد.. ومدرسة الحراك

أبو أحمد رجل في الأربعين من عمره، له عينان فاتحتان كنجوم علم الاستقلال، وبنات وزوجة أصبحن في الأردن نتيجة ما تعرضت له المدينة من قصف عنيف، ولفرط ما اقتحم بيته وهدّم. يفسر سعدون الأمر ساخرا: “أبو أحمد رجل محبوب من الأمن والجيش. كانوا كلما اقتحموا المدينة أول منزل يدخلونه هو بيته. لا يجدونه فيتركون له بعض الرصاصات في الجدران وبعض الكسور في أدوات البيت”.

ولكن أبو أحمد لم يبق وحيداً في مدينة تشتهي كل بيوتها أن يدخلها الرجل. هو من كان يُدخل الحليب إلى مدينة محاصرة منذ أشهر، من يُدخل الخبز، ومن يُهرّب اللاجئين إلى الأردن. وبحنكة نادرة كان يعمل على خطة الانشقاق، وكسر حالة الحصار الفكري الذي يتعرض له عناصر الجيش النظامي. ينقل نشرة الأخبار للحواجز التي تحاصر المدينة ويحرضهم على الانشقاق، وهو ما حدث بالفعل مع عدد من ضباط وعناصر الجيش.

يستيقظ أبو احمد والمدينة معاً. يأخذ على عاتقه مسؤولية “أيقونة الثورة السورية”. ينتظر أطفالها في ساحات الحرية في الصباح، حيث اعتادوا الاستيقاظ باكرا يوم كانوا يذهبون إلى مدارسهم، وقبل أن تغدو هذه الساحات هي المدرسة الوحيدة لهم. ساحات تعلمهم درساً في الكرامة والحرية. هي لعبة الأطفال الجديدة بعد أن قُصفت مدارسهم وحوصرت بالحواجز.. أو تحولت إلى ثكنات عسكرية.

يقول أبو احمد: “بدايةً هذا صراع كل الشعب السوري بكل أعماره، وهذه الثورة بدأت بأياد صغيرة لم يستثنها هذا النظام من الموت الذي وزعه علينا. قلع أظافرهم، وحرمهم مدارسهم وألعابهم, لكنه لم يسكت ذاك الثائر في داخل كل طفل وطفلة”. يضيف: “حين دعونا لاحتجاجات ودروس عن الحرية لم يتأخر طفل واحد عن ذاك الصباح الساخن بالهتاف، وبدؤوا يرمون أسئلتهم البسيطة علينا، كأننا حقا في مدرسة”.

الجولة بدأت والأطفال ينقصون

تبدأ الجولة من ساحة الحرية. لافتة صغيرة في يد طفل يرفع رأسه للكاميرا: “أطفال مدينة الحراك يشيّعون اليونيسف”. ربما أخبره أحدهم أنه بطل المدينة، وعليه أن يأخذ نصيبه كاملاً، وأن يحصل على ذكرى لطفولة تفيض بكل شيء.

يطلب أبو أحمد من الأطفال الصراخ بصوت عال كي يستيقظ من أخذته غفوة: “يا حر فيّق الحر، يا بتطلع يا منمرّ”. يتجول هؤلاء على شكل تظاهرة. يخبر أبو أحمد: “لقد بدأ الأبطال الصغار بالنقصان، كثيرون منهم خرجوا مع أهاليهم كلاجئين إلى الأردن، وبعضهم قتل في القصف اليومي. أما هؤلاء فسيذهبون إلى الملاجئ هذا المساء”.

ينخفض صوت أبو أحمد حين يعلو صوت طفل بدأ بالهتاف. يهزّ يديه كأنه يهزّ المدى كله. تمرّ التظاهرة أمام بيوت الشهداء والجرحى، ولهؤلاء هتافات خاصة على ألسنة الأطفال. هتافات ناعمة تقول أنهم معهم وأن الثورة ستنتصر.

تنتهي التظاهرة، إن صحت تسميتها بذلك، من ذات المكان الذي خرجت منه: ساحة الحرية. لكنها قبل ذلك تمرّ على مقبرة الشهداء. يلقي فيها الأطفال السلام ويقرؤون الفاتحة بيدين صغيرتين. يخبرهم أبو أحمد أن هؤلاء دفعوا بأنفسهم للموت كي نصير كلنا أحرارا.

يقول: “هذا هو حال أطفال مدينة الحراك في درعا، إما يزورون أباءهم وأقاربهم في المقابر، أو أن الآباء يزورون أولادهم فيها”.

تنتهي الجولة بالعودة في طريق طويل يقود إلى الساحة. يردد الأطفال فيها قسم متابعة الثورة، ثم يذهبون إلى خصوصية الطفل فيهم.. وإن كانت مشوّهة.

المدينة التي صارت على الأرض تكاد تنتهي، لكنها تظّل أعلى من رأس النظام. ثائرة ولو في الملاجئ، جميلة كقرطبة، صامدة كالجنوب.. وأيقونة للثورة السورية.

(دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى