صفحات المستقبل

“داعش “ماركتينغ/ ضحـى حسـن

 

 

فصل الرأس عن الجسد، هو المشهد المسيطر على الساحة الإعلامية، والمهيمن على النقاشات والحوارات الاجتماعية في أيامنا الدموية هذه. وقد أثار ذلك مشاعر الدهشة التي تبعثها طريقة القتل وما يرتبط بها من معتقدات دينية وفكرية. وشكّل تصدير المشهد حالة من الهياج الجماعي، فحوّل تنظيماً متطرفاً مسلحاً إلى أسطورة رعب كبرى. وخلط المشاهدون بين التضخيم الذي لحق بالحدث، وبين الحدث بحد ذاته. وأصبحت هذه الصورة المثارة هي فقط الواقع والحقيقة، فيما ترك الجسد وحيداً.

الخلل

الجزائر- 1955: نفذ الاستعمار الفرنسي حكم الإعدام بالمقصلة الحديدية بحقّ المعارض الجزائري أحمد زبانة.

المسافة الزمنية لسقوط الرأس بعد فصله عن الجسد، تقدر بالطريقة نفسها التي يقاس بها سقوط الأجسام على السطح تحت تأثير قوة جاذبية الأرض. إلا أن عملية إدراك المشاهد للمدة الزمنية تختل بتأثير الصدمة. هذه الصدمة تصيب الساعة البيولوجية لدى المشاهد من اللقطة الأولى لمسلحي داعش حول الرجل الضحية، فيرى العقل عبر العين لحظة قطع الرأس، ومن ثم الرأس على الأرض، فيما يغيب عنه مشهد تهاويه بصرياً بسبب الخلل الذي أصاب إدراكه للزمن.

حلب – 2014 الباب: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام يقطع رأس شابين في الساحة العامة بتهمة محاربة التنظيم.

وربما لا يقتصر الخلل على إدراك المتلقي الزمن، بل يمكن أن يحجب باقي المشهد عن بصره، فيكون الجزء العلوي من الجسد، أي الرأس، هو العنصر الوحيد المرئي بالنسبة للمشاهد المصاب بالتوتر والانفعال والهلع، ما قد يؤدي إلى خلق وسواس قهري جماعي في هذه الحالة.

الاستراتيجية الإعلامية الداعشية

فرنسا – أحيا الفرنسيون قبل 4 أعوام في باريس معرضاً عن “المقصلة” وهى الآلة التي كانت تستخدم في تنفيذ حكم الإعدام في فرنسا منذ عام 1789، وحتى إلغاء هذه العقوبة في فرنسا عام 1981.

مزج تنظيم الدولة الإسلامية بين القديم والجديد في عملية القتل وعرض الجثة. وبذلك أثار أكبر المخاوف الإنسانية. فما يخزنه الإنسان عن التاريخ وما يفرزه من صور متخيلة عنها لا تكفي لتلغي حالة الشك والغموض عنها، لا سيما أن التاريخ المروي يحمل قصصاً كثيرة عن الحروب والأساطير والمجازر والخرافات والأديان، والتي أعيد تمثيلها كرواية أحداثها مختلفة، نصية وبصرية وتمثيلية وسمعية …

في حالة قطع الرأس، استدعت داعش لدى المتلقي الصور القديمة وما يرافقها من مشاعر، تلك المرتبطة بالطريقة التي كان يعتمدها الملوك والأمراء والرؤساء لفرض قوتهم وبث الرعب والخوف في الشعوب، كتنفيذ حكم الإعدام بأحد معارضيهم في ساحة عامة أمام أعين السكان، مستخدمين المقصلة الحديدية، أي فصل الرأس عن الجسد.

2012 – قتلت قوات الأمن السوري 114 مدنياً بينهم 55 طفلاً في الحولة، ذبحاً بالسكاكين.

عدد قتلى النظام السوري يفوق عدد القتلى على يد داعش بأضعاف كثيرة، ويفوق كذلك عدد القتلى في صفوف الجيش السوري النظامي. وعلى الرغم من أن المجازر المرتكبة بحق المدنيين من قبل النظام مازالت مستمرة ولا تقل إجراماً عن إجرام داعش، إلا أن تنظيم البغدادي بات قادراً من خلال قطع رأس واحد، حجب مقتل 100 مدني جراء قصف النظام، عن عدسات الإعلام وعن النقاشات الاجتماعية.

وفي ذلك، لا تكتفي داعش بتعريض الناس لصدمات عنيفة بصرية فوضوية لفرض سيطرتها، بل تعتمد استراتيجية تسويق إعلامي مستدامة وذكية للغاية.

فالإخراج السينمائي الواقعي لمشاهد قطع الرأس وتداولها الواسع في قنوات التواصل كافة، تحقق للتنظيم المتشدد غايته في تخويف خصومه وإرهابهم في أنحاء الكرة الأرضية كافة.

يعتمد تنظيم الدولة في عملية التسويق الإعلامي على الصدمات المحفزة، وحين يشعر أن حدثاً ما خفّض من اهتمام العالم به كقوة تهديدية مرعبة، يعمد إلى تذكير العالم بوجوده وحقيقته، في مشاهد قاسية معدّة بحرفيّة فنيّة كالتي راح ضحيتها الصحافي الأميركي جيمس فولي ومن بعده ستيفن جول سوتلوف.

يوحي المشهدان أن لداعش طاقماً فنياً محترفاً تبدأ مهارته في كتابة السيناريو ولا تنتهي بتصميم الملابس.

وبعد ذلك، تنطلق الماكينة الإعلامية المنظّمة، لنشر مضمون الرسالة الدموية بلغات عدة وبوتيرة توزيع عالية للتثبت من أنها وصلت إلى أكبر عدد من الناس، وإلى حيث يجب أن تصل… ثم تتابع الملاحظات وردود الفعل في ما يشبه مكتباً للبحث والتخطيط الاستراتيجي الاعلامي.

تسويق الموت

مع انتهاء يوم أمس استطاعت لجان التنسيق المحلية المؤلفة من ناشطين مدنيين في مختلف أنحاء سوريا توثيق مقتل خمسة وستين مدنياً، بينهم ست سيدات، وخمسة عشر طفلاً، وأربعة شهداء تحت التعذيب في أقبية الأفرع الأمنية التابعة للنظام.

65 – قتلاً – نساء – أطفال – تعذيب، المعلومات الموجودة في هذا الخبر، كافية لإثارة الرأي العام، والإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والانسان المجرد، لكن يبدو أن هذا لم يعد يكفي، فالقضية السورية وقعت في آلية الاعتياد البشري.

ما يجري مع العالم في تعاطيه مع المأساة السورية هو كحال السجين السياسي الذي يعتاد بعد ثلاث سنوات في السجن الانفرادي المكان، ويعتاد جسمه التعذيب، وتصبح مأساته روتيناً يومياً.

ما أحس به السجين في العام الأول لم يتلاش، لكنه أخذ شكلاً آخر مع مرور الوقت، السجين مازال يشعر بالألم أثناء التعذيب، والوحدة في زنزانته المنفردة.. لكن شعور الصدمة هو الذي تبدد، وتحوّل إلى عادة.

يبدو أننا اليوم بحاجة إلى إعادة بناء الخبر السوري، وخلق استراتيجية تسويق جديدة، تعيد القضية السورية إلى الوجود، إذ إن نشر خبر مقتل 65 مدنياً بالطريقة ذاتها لمدة 3 سنوات لم يعد كافياً لإثارة اهتمام الانسان.

استراتيجية التسويق الإعلامي لدى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، انتصرت على خبر موت المدني السوري على يد النظام.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى