صفحات العالم

مرحلة ما قبل السقوط وصورة ما بعد النظام


هل تبقى سوريا للسوريين؟

نصري الصايغ

مِن وعن حنة أرندت

÷ لا تحتاج السلطة إلى تبرير لها، كونها جزءاً عضوياً من وجود المجموعات السياسية، إلا أنها تحتاج إلى الشرعية. أما العنف فيمكن تبريره أحياناً، فيما يستحيل عليه، وفي المطلق، أن يكون شرعياً.

÷ في المجتمعات التي يحكمها القانون، تطغى السلطة، إلا ان الديكتاتوريات وحالات الغزو الخارجي، تجعلان العنف يطغى، في صورة عارية، وكوسيلة سيطرة لبعض الناس على بعضهم الآخر.

÷ في حالات معينة، يصبح العنف إرهاباً بحيث يستعمل الوسائل الوحشية، ليس ضد أعداء الطاغية وحدهم، بل أيضاً ضد أصدقائه ومؤيديه.. هنا تبدأ الدولة البوليسية بالتهام أبنائها.

÷ العنف في الأساس، نقيض السلطة، وحين يتصادمان يكون النصر للعنف.

من كتاب «في العنف»

I ـ المزيد من العنف.. القليل من الدولة

الفصل ما قبل الأخير في سوريا لن ينجز بسرعة.. هو بحاجة ماسة إلى عنف إضافي، إلى عنف جديد، إلى أنواع أخرى من العنف، إلى عنف أشد فتكاً ووحشية، إلى مزيد من القتلى، إلى ركام يرث خراباً، إلى قرى تشتعل، إلى ريف يلتهب، إلى معابر تقطع شرايينها، إلى مدن تسحق، إلى «دمشق الحرائق»، إلى حلب بشهباء دمائها.

الفصل ما قبل الأخير في سوريا لم يكتمل دمه بعد.. هو بحاجة إلى أرقام قياسية جديدة في عدد القتلى، إلى أرقام خيالية في عدد النازحين واللاجئين والهاربين، إلى كميات لا تنضب من الدماء، لأطفال يتناوبون على دمية الموت، لأمهات يرتكبن بكاء بلا دموع، لرجال يفض الخوف رجولتهم، لشيوخ يلفظون حكمتهم بعد النفس الأخير… الفصل ما قبل الأخير لسوريا يحتاج إلى المزيد من الخوف والعويل والاجتياحات.

لن يكتمل المشهد ما قبل الأخير للنظام.. هو بحاجة إلى مزيد من التسلح، من عمليات تفجير، من اغتيالات مفاجئة ومدروسة ومبرمجة، من اجتياحات واستعادات تليها الأرض المحروقة.. هو بحاجة إلى عسكرة شاملة تقفل المعابر السياسية، إلى تصديع زلزالي للأرض والكيان، إلى تشريع إضافي لدول العالم لتحضر بما لديها من نفط ونيران، أو من حبر جامد لا ينطق بخلاص.. هو بحاجة إلى إصابات أكثر، إلى تطييف أشد، إلى بلوغ حافة الهاوية.

ليكتمل المشهد ما قبل الأخير لسوريا، يلزم عدم التوقف عن تصعيد العنف، حتى يصبح غير مجدٍ. عندما يفلس العنف، تذهب سوريا إلى الفصل الأخير. ينتصر العنف، فَتَدُول الدولة، ويندحر المجتمع، وتغرق السلطة.. إنما، لا يزال الوقت باكراً. لم يكتمل المشهد بعد.

II ـ سوريا ما بعد السقوط

الفصل الأول بعد السقوط كثيف وملبد. سوريا بعد سقوط النظام المتوقع، أو بعد بقائه على خراب المدن، لا تبدو لها ملامح واضحة… ببقاء النظام، وهو أمر مستبعد. وبسقوطه وهو مرجح، وجه سوريا لا يمكن رسم قسماته. لكن، لا بد من المحاولة. فكيف تكون سوريا؟ أو كيف لا تكون؟ أو كيف لن تكون؟ سوريا التي كانت لم تعد موجودة، وسوريا الراهنة، الغارقة في دمها، لن تبقى حاضرة الموت والمجازر.

النظام أصيب في قلبه. تقطعت أطرافه. تشلّعت قواه. خارت حصونه الأخلاقية. ليس باستطاعته لملمة شتاته… النظام، إذا استمر، لا يملك غير تسييس العنف، بعدما مارس إلغاء السياسة بالعنف. هل سيكون ديكتاتوريا؟ لا يستطيع إلا أن يكون كذلك. هل هو قادر على توحيد المجتمع؟ الصورة مبهمة جداً. الأرجح أن يكون العدم السياسي ملجأه المؤقت. هل سيلد النظام الراهن، وهو مدنف، مولوداً سلطوياً جديداً؟ يستبعد ذلك. النظام لم يلد إلا نفسه. عاقر وعقيم يوم كان في عافيته. لا ينتظر منه وليداً. هل سيكون هذا النظام مؤقتا؟ بالطبع! لقد أخرج النظام من أبديته، وقد يخرج إلى الأبد الآخر. أخطاؤه الكبرى، قبل الاندلاع وإبانه، تقتله، وقد تجهز عليه.

لا وضوح البتة إذا نجا النظام.. عماء مطلق.. فماذا إذا سقط النظام؟ هنا، الخوف والقلق شرعيان. ليس لدى أي كان، ما يدعو إلى الاطمئنان.

لا بد من ترتيب الفوضى القائمة لترسيم مشهدية لسوريا بعد السقوط. السلاح المنتشر من يجمعه؟ «الجيش السوري الحر»، من يوحده ويلمّه من المناطق والشوارع والأزقة؟ قوى المعارضة المتناحرة، في عز حاجتها إلى الوحدة، مارست الشرذمة ولم تتفق إلا على ما دون الحد الأدنى، برغم الإلحاح الدولي «الصديق»؟ من يضمن أن لا تتحول سوريا إلى خنادق وميلشيات تعيش على القتل والسلب والنهب؟ من يضمن أن لا تندلع حروب الثأر الطائفية والمذهبية والسياسية، وتصير سوريا ساحة لوحوش المطاردة؟

حتى اللحظة، لم تتفتق عبقرية المعارضة على حلول عملية، وصياغات ملزمة. الميدانيون في الداخل، يخوضون المواجهات، فيما المعارضون في الخارج تخاض باسمهم المفاوضات… صلات الوصل بين الداخل والخارج ملغومة بالنيات والشك المتبادل والعجز المشترك.

لنسرع قليلاً: سوريا لم تعد للسوريين… إذا تركت لقواهم، تفتتت. إذا عهدت إليهم صياغة الحلول، تقسّمت… إذا ركن إلى اتجاهاتهم، تمذهبت، وإذا «احترمت» خصوصياتهم اندلعت أقوامياً، بدءاً من الشمال. وإذا كان لا بد من الحفاظ على وحدتها، فهي بحاجة إلى قوة موحدة عسكرية تحميها وتلحمها. لعل أكثر ما يثير الخوف، أن الحرب الأهلية أسهل في مرحلة ما بعد النظام. لبنان نموذجاً. عسكر المقاومة ليس مدرباً على الديموقراطية، وقد تأخذه المطامع والطموحات إلى عسكرة جديدة…

فيا لمآلات الثورة المغدورة.. بسلاحها.

III ـ من يربح أكثر؟

الرابحون كثر.

÷ إسرائيل ليست متروكة. العالم في خدمتها. الضمانات ستأتيها بسرعة. «حدودها» ستكون آمنة. الأسلحة كافة سيتم ضبطها. «الارهاب» سيكون مشغولاً عنها، ثم سيكون هدفا. ولا خوف من الإسلاميين. مصر دليلاً. ولا خوف من الليبراليين، إن واقعيتهم تضللهم.

ثم ستكون إسرائيل أكثر قوة.. سوريا لن تكون كما كانت على الدوام، فلسطينية بالعقيدة والسياسة والسلاح. والأخير، لم تبخل به على المقاومة الإسلامية في لبنان، و«حماس» في فلسطين.

أرباح إسرائيل كثيرة، بانتظار الجائزة الكبرى: تعريب سوريا خليجياً.

÷ تركيا سترتاح من منافسة إيران لها. ستصبح المعادل الإقليمي للنفوذ الإيراني. قد تمسك مرة أخرى بورقة التسوية الإقليمية، ولو قادتها إلى وضعها في ثلاجة الأزمات المستعصية.

÷ السعودية وقطر وامبراطوريات الخليج العظمى سترتاح. ستنضم سوريا إلى حضانة الاعتدال العربي، وسترشح لتكون أحد أعمدة المواجهة السياسية مع إيران، في لبنان. فرنسا، سيكون لها حصة صغيرة، أما الولايات المتحدة، فتسعى ميدانيا، لكسب سوري كبير، كان قد فات مثيله في العراق. لذا، رشح من مصادر كثيرة خريطة طريق أميركية، لسوريا المأزومة.

÷ أميركا: لا تترك سوريا للسوريين. لا بد من اقتناص الوكالة عنهم. المعارضة السياسية في الداخل والخارج ليست قوية ولا هي موحدة ولا اعتماد عليها. دورها السياسي مضمون في المستقبل، بعد تأمين مستلزمات السلطة القوية… الاعتماد إذاً على «الجيش السوري الحر»، فلا بد من هيكلته وتوحيده وتنظيم صفوفه ليكون أحد مكوّنات السلطة إلى جانب الجيش السوري، بعد اندحار قياداته الأمنية. جيشان الآن، لجيش واحد يمسك بالسلطة… انفجار مجلس الأمن القومي الذي أدى إلى قتل الممسكين بالقوى الأمنية والعسكرية، وانشقاق عدد كبير من القادة، ومن ثم انشقاق الحليف الأقوى والأخلص مناف طلاس، تشكل كلها عوامل ضعضعة الجيش وإضعافه، ليس كقوة نارية، بل كقوة سلطوية، في خدمة سياسات النظام… هذا الجيش السوري، تريده أميركا موحداً ومتوحداً مع «الجيش السوري الحر»، للإمساك بقبضة حديدية، لكل مؤسسات الدولة، حفاظاً على وحدتها، على أمل أن تتشكل سلطة سياسية سامحة بمنسوب ضروري من الحريات سياسية، بشرط أن لا تصرف نشاطها في المسائل الخارجية. سيكون جل اهتمامها: الحياة في الداخل.. الهدف من ذلك القبض على سوريا وأخذها إلى مربع الاعتدال العربي… فلا تكون سوريا فلسطينية ولا عربية..

ستكون سوريا سياسياً، في قبضة العسكر الجدد، أما شرائحها الاجتماعية السياسية فيكون ولاؤها للخارج. السنّة للسعودية، «الاخوان» لقطر، السلفيون لـ… الليبراليون لـ… الأكراد لـ…. على الطريقة اللبنانية والعراقية. أما المستقلون فيكونون ضحايا.

هؤلاء هم الرابحون. فمن الخاسرون؟

إذا كان هذا هو المشهد ما بعد النهاية، فالخاسرون كثر.

أولا: الثورة السورية تكون قد خسرت معركتها. أطاحت نظاماً عسكرياً مطلقاً، لإقامة نظام عسكري بهامش من الحريات. ستكون وظيفة الحركات السياسية في ظل السلطة الجديدة، الاهتمام بقضايا المجتمع السوري الحياتية والمعيشية. لا دور لهذه الثورة في رسم سياسة سوريا الخارجية… ستصبح سوريا مدجّنة، ولن يختلف سلوكها عن سلوك أي دولة عربية داجنة.

ثانيا: فلسطين ستكون الخاسر الأكبر. مهما قيل عن تجارة الانقلابات بفلسطين، تظل سوريا، في تاريخها الحديث، الدولة والمجتمع والثقافة الأكثر اهتماماً والتصاقاً والتزاماً بفلسطين. و«النظام البعثي» في مواجهة اسرائيل، له الفضل في جعل فلسطين ممتنعة عن الحلول التصفوية، إلى جانب دعمه الحاسم للمقاومة الإسلامية في لبنان… كل هذا سينتهي. لا فلسطين ولا مقاومة. أمر سوريا الاقليمي والدولي سيكون بيد حلفاء أميركا في الداخل السوري وفي المنطقة. ولا يشكل هذا اتهاماً للنيات، بل هو واقع ستفرزه الأحداث وتسلسلها. أميركا لا تهتم كثيراً بالأفكار المسبقة، بل بالواقع، والأمر الواقع، وتبني عليه.

ثالثا: المقاومة الإسلامية في لبنان تخسر حليفاً قوياً.

ينجلي المشهد على خسارتين. خسارة الحرية التي من أجلها كانت الثورة في مواجهة نظام استبدادي فاسد، وخسارة فلسطين التي كانت واسطة العقد في سياسة النظام الاقليمية والدولية.

إنها لصورة سوداء جداً تلك التي سيسفر عنها سقوط النظام المرجح. صورة مشهد إقامة حكم عسكري ثقيل، وتمثيل سياسي خفيف، إلى جانب صورة لسوريا وقد أصبحت واحدة من دويلات الخليج العربي، وواحدة من دول فضلات الموائد الأميركية والغربية.

هل بالإمكان رسم مشهدية أفضل؟

إن سوريا بعد سنة ونصف من النضال الدامي، تستحق انتقالاً ناصعاً، إلى بناء نظام جديد، ديموقراطي عن جد، حر بالتمام، وملتزم بوحدة المجتمع والشعب، ولا يحيد عن تراثه القومي النضالي، الذي بدأ مع ميسلون ولما ينته بعد.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى