صفحات الثقافة

مسألة زر

عباس بيضون

قد يخطر لنا أن نسأل أي أدب سيخرج من تلك العاصفة الهائلة التي تسمّى الربيع العربي، أي سينما، وأي مسرح وأي فن تشكيلي وأي موسيقى. في البداية بدا الأمر هيّناً، امتلأت الحيطان بالغرافيتي، بدأ المغنون يصدحون في الساحات، ارتجلت أشعار للهتاف وللأغاني. كان يكفي أن نرسم سكيناً مغروساً في الخشب كما فعل يوسف عبدلكي لنقول شيئاً، لكن لا ننسى أن الأمور كانت آنذاك أوضح. الكلام كان أسهل، العبارة كانت ملء الفم، لكن فجأة أعتم كل شيء.اختلطت الأمور ببعضها بعضاً، تشابكت. بدا أن الواقع يحمل في جوفه خليطاً هائلاً من المواد الحارقة، الواقع يحمل في جوفه كثيراً من اللاتجانس، كثيراً من الفوضى العارمة. وكلما حميت المعركة أخرج الواقع ما في أحشائه، وقذف كل هذه المادة الحارقة اللامتجانسة وزاد الاختلاط والعماء والسديم والفوضى، بل يبدو أن الواقع يملك استعداداً هائلاً لامتصاص ما يأتيه من خارج لنسقه ونضده في وقت غير معلوم. لم نعرف كيف صارت «هيئة النصرة» كياناً فاعلاً. لا نعرف كيف تمّ جمعها وترتيبها وتجهيزها. الأيام تزيدنا جهلاً وعماوة. ونشعر بأن ما يحدث أقرب إلى الانخطاف، إلى السحر وأن كل تحليل وكل بحث لا يقوم على شيء. بل نحن في انذهالنا لا نعرف إذا وجدت في الأساس بنى قائمة وأسس وقواعد نشعر بأن الواقع يتموّج أو هو يتمطّى ويميد ويأتينا بالبرق واللمح ويسبق أحياناً المخيلة. إذ لا نعرف تماماً ماذا يحبل به وماذا يحمل في أحشائه، ولا نعرف تماماً ماذا تكوّن في فترة البيات التاريخي التي امتدت قروناً وماذا تشكل في الركود والتراكم والشقع. لا نعرف ونفاجأ ونذهل. ابتعدنا منذ وقت عن ليبيا وما يجري فيها وعادت ليبيا ما بعد القذافي إلى مجاهيل الذاكرة. وسوريا التي لا منفذ لها، تركناها في مأساتها وصرنا نرقب ما يترتب في جنيف وأملنا ان تتفق أميركا وروسيا فتهدأ الحال ونجد الحل. نقفز هكذا من على أكثر من مئة ألف قتيل وعدد مماثل من الأسرى وخراب عام شامل وشتات كبير. وكأن ما جرى كان بإذن من روسيا وأميركا وكانت ساحته جنيف أو نيويورك أو موسكو. هكذا نفكر أحياناً وكأن الشعوب لا شيء وكأن الصراعات الدموية لعبة وكأن الحشد والتعبئة تمارين مسرحية وكأن الحزازات والعصبيات أمور بسيطة. انه أكبر انفجار في تاريخنا الحديث ولن يحاسبنا أحد إذا حسبنا أن الأمر عابر وأن ليس لنا تاريخ. لن يحاسبنا أحد إذا حسبنا أن زراً في نيويورك وزراً في موسكو كفيلان بوقف المأساة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى