مسار الاحتجاج الاجتماعي ومحدّداته/ ورد كاسوحة
عادت الاحتجاجات للتصاعد من جديد في المنطقة والعالم. هي لم تتوقّف قطّ خلال الفترة الماضية، لكن تدخّل الرأسماليات والإمبرياليات الدولية المتواتر فيها كان يفعل فعله أحياناً كثيرة، فيحدّ من تأثيرها، ويجعلها خاضعة لمنطق التوازنات الدولية. المنطق هنا لا يصادر الاحتجاج فحسب، بل يتحوّل كذلك إلى عامل داخلي، ويغدو بفعل تأثيره المادي أقوى من السلطة نفسها. رأينا ذلك في سوريا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وقد نراه مستقبلاً في تركيا ومصر وتايلاند وفنزويلا وباقي الدول التي تشهد احتجاجات متدحرجة ضدّ السلطة.
ولا يستبعد أيضاً أن ينتقل الاحتجاج ومعه التدخّل إلى كلّ بقاع العالم التي تعاني مشاكل اقتصادية ومعيشية، بما في ذلك الغرب الإمبريالي نفسه. هناك سيصبح التدخّل أقل، وسيأخذ أشكالاً أخرى، ليس من بينها التلويح بالقوّة العسكرية. من سيفكّر أصلاً في استخدامها ضدّ الغرب في ظلّ موازين القوى الحالية؟ ومن سيجرؤ بالأساس على استبدالها بالاقتصاد، ما دام هذا الأخير يقدر على صياغة التدخّلات وتحقيق المراد منها من دون كلفة تذكر. طبعاً، باستثناء الصين، لا أحد حالياً يقدر على فعل ذلك بالغرب، فمن دون امتلاك القدرة على التأثير في الأسواق الأميركية الداخلية يستحيل حتّى على تكتّل كبير كالبريكس أن يتدخّل هناك مالياً، وبالتالي يحتاج الأمر إلى كثير من العمل والجهد. وفي الانتظار، يمكن التعويل على ضعف الغرب اقتصادياً، وتصاعد الاحتجاجات بين ظهرانيه، ويمكن كذلك مشاهدة انحساره العسكري بأمّ العين. وهو في الحقيقة انحسار اقتصادي أكثر منه سياسياً، على اعتبار أنّ الأساطيل المجهّزة للتدخّل والمنتشرة هنا وهناك موجودة بالأساس لحماية الأسواق الجديدة وتأمين التدفقات المالية من دول الأطراف (وخصوصاً في الخليج). أحياناً يفشل التدخّل العسكري وينحسر تأثيره لأسباب اقتصادية تتعلّق بالبلد المراد التدخّل فيه، وبنمط التنمية الذي يعتمده. في فنزويلا مثلاً، لم يتمكّن الغرب من التدخّل عسكرياً طوال حكم تشافيز، وحين فعل ذلك جزئياً عام 2002 تحرّكت القاعدة العريضة المؤيّدة للرجل وأحبطت الانقلاب، ولولا تحرّكها واستجابتها السريعة لهزم تشافيز وانهارت «الاشتراكية البوليفارية» فوراً. لا يمكن تفسير هذه الاستجابة من دون الاعتماد على نظرية التوزيع الجديد للثروة التي باشرها الراحل؛ فتشافيز رغم اعتماده على نسق ريعي في إنتاج النفط، إلا أنه استطاع كسر احتكار أصحاب الرساميل للثروة في البلاد، الأمر الذي وسّع من شريحة المستفيدين من الحكم الجديد، فلم يعد هنالك امتيازات تذكر، وبالتالي وصلت الأموال التي استعادتها الدولة من الأغنياء على شكل جباية وضرائب تصاعدية إلى الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى (مزارعون، عمّال… إلخ). هذه «الوفرة الاقتصادية» هي التي أتاحت للرجل التخلّص بسرعة من التأثير الأميركي التاريخي على قطاع الأعمال في فنزويلا، وضاعفت من شعبيته لدى شرائح عريضة من السكّان الأصليين والفقراء. وبالمناسبة أيضاً، «انتهاء هذه الوفرة» (لا الفقاعة كما يحلو للبعض تسمية نمط الإنتاج المعمول به أيّام تشافيز) هو بالضبط ما يصعّب على مادورو اليوم مواجهة الاحتجاجات المتصاعدة ضدّه، فالتأثير الأميركي موجود دائماً، ولكنه يقلّ أو يزيد بحسب القدرة الموجودة على مجابهته، وهي اليوم «أقلّ بكثير» ممّا كانت عليه أيام تشافيز. قد لا تستسيغ الممانعة السطحية والمنقطعة عن المجتمع نقاشاً كهذا، إلا أنّها مجبرة على الخوض فيه من باب تصاعد الموجة الاحتجاجية في فنزويلا وانعدام القدرة على احتوائها تقليدياً. من هنا تأتي أهميّة الفعل الاحتجاجي، فعبر الاعتراف به وبما يمثّل اجتماعياً يمكن احتواء أيّ أزمة، سواء قادها اليمين أو اليسار، وفي حالة فنزويلا بالتحديد، بدأت الأزمة الاجتماعية من التضخّم وتزايد معدّلات الجريمة ونقص المواد الغذائية… إلخ، قبل أن تتحوّل إلى مناسبة لاستعراضات اليمين وأصحاب الرساميل المتضرّرين من حكم تشافيز وانحيازاته الاجتماعية. العامل الطبقي هنا أساسي ومركزي، ومن دونه لا يمكن فهم ما يحصل؛ فالنقمة على مادورو لم تأت من الفقراء والطبقات التي أسهمت اشتراكية تشافيز في ارتقائها اجتماعياً والحدّ من استغلالها، بل أتت من الشرائح البورجوازية والمتوسّطة التي اعتبرت نفسها مهمّشة سياسياً. ولذلك تحديداً امتلأت التظاهرات المناهضة للحكومة بالطلّاب وأبناء الطبقة الوسطى المندّدين بانعدام الأمن، والمعترضين على قمع الشرطة لرفاقهم. ليست فنزويلا بهذا المعنى نموذجاً للاحتجاج ضدّ السلطة وانحيازاتها، إلا أنها مؤشّر على تزايد النزعة الاقتصادية داخل الاحتجاجات، بما يؤكّد كلامنا على عودة الصراع الطبقي داخل المجتمعات، وتغلّبه في أحيان كثيرة على نزاعات الهوية وصراعاتها.
هذه الأخيرة هي الممرّ الأساسي للتدخّل الإمبريالي العسكري وغير العسكري، و«بتراجعها» تتراجع حظوظ التدخّل نفسه، ويصبح حدوثه أصعب وأكثر كلفة من السابق. ومن تجربتنا في المنطقة، نعلم أنّ الاحتجاجات الاجتماعية هي الأساس تماماً كما يوضح ذلك «المثال الفنزويلي»؛ فالصراع لا ينتشر ويتجذّر إلا حين يرتبط ببعد اجتماعي اقتصادي، وهذا بالضبط ما حدث في تونس ومصر. صحيح أنّ الاحتجاجات هناك قد انتكست واصطدمت غير مرّة بعامل الهويّة، إلا أنّ امتدادها الفعلي بقي أفقيّاً، ولم يتأثّر كثيراً «بالتفرّعات الهامشيّة» التي أوجدها التدخّل الإمبريالي ووضعها في مواجهة المجتمع المنتفض. الغرب لم يفهم ذلك في البداية، ولهذا اصطدم بالمجتمع المنتفض لدينا، ولما تدخّل الروس لاحقاً في سوريا «حصل معهم الأمر ذاته»، وأصبحوا بالنسبة إلى المنتفضين هنا «قوّة إمبريالية» محضة. الاثنان تدخّلا إلى جانب أطراف بعينها، مستفيدين من الانقسام الحاصل، ومعتقدين أنّ الاحتجاج هنا ضعيف بالفطرة، ولا يغلب عليه إلا الطابع الهويّاتي. وتعاملهما هذا هو بالضبط ما سيصعّب عليهما لاحقاً التعاطي مع أيّ احتجاج يقع في نطاق سيطرتهما و«سيادتهما الصورية». فروسيا الآن، بدل أن تترك الاحتجاجات في شبه جزيرة القرم – الواقعة «ضمن نطاق سيطرتها» أو تأثيرها – تتصاعد وحدها حتى إسقاط سلطة كييف الفاشية تتدخّل مباشرة وتحرّك الأساطيل والقوّات البرية، وبالتالي تضع عملية استقلال القرم برمّتها «موضع الشكّ». لا يفعل ذلك عادة إلا الخائف من الاحتجاجات ومن القوّة الكامنة في الطبقات الاجتماعية المنتفضة، وروسيا بالتأكيد ليست محصّنة ضدّ هذا الأمر. مثلاً، حين تستقلّ القرم غداً أو تنضمّ إلى روسيا من يضمن بقاء ولاء أهلها لسلطة بوتين أو من يخلفه؟ الأرجح أنّ التناقضات الاجتماعية حينها ستكون قد همّشت العامل القومي – وهو «الهامشيّ» أصلاً، رغم كلّ النفخ الجاري فيه حالياً – أو حجّمته، وظهرت إلى العلن على شكل بطالة أو فساد مالي أو تضخّم أو… إلخ، وبالتالي لن يكون بالإمكان عندها التدخّل عسكرياً لضبطها. وهذه في الحقيقة ليست مشكلة الروس وحدهم، فإلى جانبهم ثمّة شركاء إمبرياليون يعانون اقتصادياً، وفي الوقت ذاته يتدخّلون هنا وهناك لمنع الآخرين من «التدخّل في شؤونهم»! يعتقدون أنّهم إذا دعموا اليمين الفاشي في أوكرانيا وأوصلوه إلى السلطة، أو إذا غضّوا الطرف عن تنامي الفاشيّات الدينية هنا، فسيكونون في مأمن داخل دولهم، ولن تصلهم التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن عزل القوى الاجتماعية الجذرية وتهميشها. يحار المرء فعلاً في توصيف «خبل» هؤلاء، فبدل أن يستفيدوا من التلاعب بالهويّات اصطدموا بها، وأصبحوا مجبرين على الاختيار بين من يستخدمها ليلاً ومن يستعملها نهاراً. ليس الخيار هنا بين السعودية وقطر، أو بين الوهابية السافرة والوهابية المقنّعة، بل بين طرفين أضحيا في مواجهة فعليّة مع طبقات اجتماعية عريضة ناقمة عليهما، ومستعدة للانقضاض على سلالتيهما (آل سعود وآل ثاني طيّب الله ذكرهما). هذه المواجهة طبقيّة بالتأكيد، وصياغتها على هذا النحو لا تعبّر عن تذاكٍ بقدر ما تعنى بتوصيف المأزق الذي وقع فيه الغرب حين اعتقد بأنه يغذّي بالفعل صراعاً بين «طوائف» و«جماعات» و«عصبيات» و… إلخ. ولهذا، فانّ انتقال المواجهة مع أدوات الغرب في الخليج من مستوى «الطائفة» إلى مستوى الطبقة هو الذي يربك المشهد حالياً، ويخلط الأوراق جميعها، إذ إنّ القوى الاجتماعية الصاعدة في مصر وتونس واليمن (وغداً في سوريا) و… إلخ لم تعد متمرّسة صراعياً فحسب، بل أضحت أيضاً متطلّبة كثيراً، ومستعدّة للتضحية بكثير من الأمور في مقابل استعادة مكتسباتها. في بدايات الاحتجاج أمكن انتزاع الكثير من هذه المكتسبات: حقّ التظاهر، حقّ الإضراب… إلخ وبقيت مطالب أخرى رهناً بتطوّر الحركة الاحتجاجية وتجذّرها واتساعها. ولأنّ التدخّل الإمبريالي أو الإقليمي هو الذي عوّق هذا التطور، فإن مواجهته أصبحت السبيل الوحيد لاستعادة المبادرة من أصحاب الرساميل (الكومبرادور) الذين أطبقوا على المشهد من جديد. هؤلاء يخشون على مصالحهم من بعبع كبير اسمه الإضرابات القطّاعية والعمّالية، وينسّقون مع شركائهم في الخليج لسحق هذه الاحتجاجات عبر جهاز الدولة القمعي والبيروقراطي. بهذا المعنى لا يعود تمويل الخليج (السعودية والكويت والإمارات) للسلطة الجديدة في مصر مقتصراً على ضخّ الأموال في الخزينة العامّة، فهو يعطي أجهزة الدولة الأموال (لسدّ احتياجاتها ومستورداتها وتمويل خدمة الدين) من جانب، ويأخذ منها قمع الاحتجاجات والإضرابات النقابية والعمّالية.
يُعَدّ هذا الدور خلافاً لما يعتقد كثيرون استكمالاً لما فعلته قطر والسعودية بسوريا – هكذا يغدو التناقض بين السعودية والإخوان ومن خلفهم قطر «ثانوياً» – فعندما كفّ التلاعب بعامل الهويّة عن تحقيق المراد منه، انتقلت الاستراتيجية الإمبريالية إلى مربّع آخر، هو محاصرة الطبقات الاجتماعية المنتفضة بكلّ الوسائل المتاحة. لقد تعلّم هؤلاء السّفلة الدرس من تجربة سوريا وعرفوا أنّ إيقاف الاحتجاجات في المنطقة مستحيل من دون التعامل مع جذرها الاجتماعي. ولهذا السبب يغرقون مصر الآن بالأموال – تماماً كما أغدقت شقيقتهم قطر على الإخوان من قبل – معتقدين أنّها وسيلة ممكنة للحفاظ على مصالحهم هناك، ومعتمدين في ذلك على الجيش والبيروقراطية الحكومية وطبقة رجال الأعمال المرتبطة بهم. المطمئن في الأمر أنّ الأموال لم تذهب كلّها إلى أجهزة القمع، فثمّة فائض تتولّى الدولة المصرية توزيعه بمعرفتها على «المحاسيب الجدد»، ومن هنا يبدأ الاحتجاج عادة. هنالك ما هو أفدح أيضاً: الكهرباء الآن تنقطع أكثر من ذي قبل، ومخزون القمح يكاد ينفد، والأمراض الوبائية تعاود الانتشار، والأسعار ترتفع باطّراد، وبالإضافة إلى كلّ ذلك تلوّح السلطة برفع الدعم عن سلع أساسيّة! إن لم تدفع هذه المقدّمات إلى معاودة الاحتجاج على نطاق أوسع، فهي على الأقلّ أظهرت محدودية التأثير النفطي والخليجي على سير الأحداث. وبإضافة هذه «المحدودية» الإقليمية إلى محدودية التدخّل الإمبريالي برمّته نصبح إزاء مشهد جديد لا يد عليا فيه لأحد… سوانا.
* كاتب سوري
الأخبار