مسبحة الحمصي/ زينة حموي
ينحني أبو مخلص على حافّة النهر. يمدّ يده ببعض فتات الخبز ليجذبَ البطّ ويلهو بمراقبته. يتعبُ الرجل الخمسيني من وضعية انحنائه فيقوم ويمشي بمحاذاة الماء. هي عادته اليومية منذ وصل إلى ألمانيا قبل خمسة أشهر. لم ينقطع عنها إلا خمس أو ست مرات أيام اشتداد الثلج في الشتاء وتَشَكُّل الصقيع.
يحبُّ أبو مخلص أن يخترع لنفسه عادات وهوايات. العادة تفيد في التغلب على الوقت وتساعد على انقضائه. في حمص قضى العشرين سنة الأخيرة كما لو أنها يومٌ واحد. نُسَخٌ متطابقة من آلاف الأيام تتوالى وتمرّ وفقاً لعاداته وهواياته. يستيقظ في السابعة والنصف، يتوجه إلى عمله في مديرية الزراعة، يعود بعد انتهاء الدوام الرسمي، يتناول وجبة الغذاء ثم يأخذ قيلولة طويلة.
مشواره المسائي اليومي يبدأ من منزله في وادي السايح باتجاه شارع الأظن، شارع الحميدية الرئيسي وصولاً إلى الملجأ وينتهي عند كنيسة سيدة السلام. يقضيه أبو مخلص رافعاً يمينه في وضعية التحية فأهل الحارة كلّهم معارفه وأصدقاؤه وليس من اللائق تجاوز أحدهم أو تجاهله في الطريق حتى لو صدف وأن مرّ بجواره أكثر من عشرين مرة في اليوم الواحد.
يتأكد من شرائه كافة مستلزمات السهرة قبل أن يستدير عائداً إلى البيت. يتفقّدُ زجاجتي العرق، تشكيلة الموالح والمكسرات، الخضار والمقبلات الضرورية لإعداد طاولته الليلية المعتادة التي يهندسها ببطء ولذة. نادراً ما يسهر أبو مخلص وحيداً. بيته عامر دائماً بالأصدقاء أو الأقارب أو الجيران ولا حاجة لمناسبة كي يقصده الأصحاب.
وما إن تبدأ السهرة حتى تنتهي العادات وتبدأ الهوايات، أو تختلط معاً لتؤلف أهنأ لحظات أبي مخلص وأقربها إلى نفسه. فيقوم ويجلب صندوق مسابحه، يلمُّ المعروض منها في الصالون وغرفة الجلوس، يجمعها في حضنه أمام الحاضرين ويبدأ باستعراضها واحدةً واحدة شارحاً مزايا وخصائص كل منها. يُفصِّلُ في العرض ويستفيض حسب تفاعل الحاضرين واهتمامهم، يحدثهم عن الحبّات وطريقة خرطها آلياً أو يدوياً، الخيطان وطراوتها، الفواصل أو الشواهد بسمكها ودقة نحتها ومقاومتها للطَّرْق المتواصل الناتج عن التسبيح.
ينتقل إلى المئذنة “المادنة بالعامية” وينوّه إلى أن بعضهم يسميها المنارة. يصلُ إلى الشرّابة، أو الكشكول، فيروي لهم قصته الشهيرة مع التاجر الحموي وكيف أُعجبَ بمسبحة أبي مخلص العاجية واقترح عليه أن يبدّل له شرابتها “الصفراء الخفيفة” حسب رأي التاجر بأخرى من الفضة. وكيف حبس أبو مخلص ضحكته كي لا يحرج التاجر أمام الحاضرين لأن الشرّابة الأصلية كانت من ذهب!
طبعاً، كثيرون من زوار أبي مخلص وندمائه سمعوا قصص مسابحه مئات المرات، لكن أحداً منهم لم يملّ من تكرار سماعها لأنه يحكيها كل مرة بشغف المرّة الأولى وحفاوة المرة الأولى. ولا يكتفي أبو مخلص بتعداد المواصفات المادية لمسابحه بل يمزج شروحاته واستطراداته بمشاعره تجاه كل مسبحة راوياً قصته الشخصية معها كما لو كانت امرأة أو حبيبة:
“هاي دوختني، ضليت وراها لحتى جبتا… هاي حبيتا من أول ما شُفتا…. هاي عزيزي، عزيزي كتير، حدا بقلك مُرجان يا عمّي.” لا بل إن بعض الساهرين كانوا يحفظون القصص بالاسم، ويطلبون من مضيفهم أن يحدثهم عن المسبحة الاسطنبولية السوداء، أو المسبحة الإيرانية الفيروزية، أو المكّية ذات اليسر المفضض، وهكذا…
ينتبه أبو مخلص أنه قطعَ النهر وابتعدَ كثيراً، يتلفّتُ حولَه بحركة من رأسه في الاتجاهين، يقررُ أن يعودَ مسرعاً بصحبة ذكرياته وأن يسهر اليوم سهرةً يستذكر فيها أيام زمان. ما المانع؟ سيحضّر لسهرته جيداً وسيحاول جمع كل العناصر اللازمة لإخراج سهرةٍ على طريقته ومزاجه. يحاذي النهر مرة أخرى فيرفع يده اليمنى في تحية وداع للبطّات. وحدها هنا تعرفه وربما تنتظره.
يستعجل قليلاً ويعرّج على متجر عراقي يبيع منتجات عربية فيشتري علبة حُمُّص وعلبة لبنة مدعبلة. في البيت يُخرِجُ زجاجة العرق الصغيرة ويفتحها. هذه الزجاجة التي أرسلها له ابن أخته من لبنان مع صديق مشترك. كان أبو مخلص يخبئها إلى حين الانتهاء من إجراءات لمّ الشمل ووصول أم مخلص مع الأولاد بخير وسلامة. يُعِدُّ طاولة متواضعة ويفتح اليوتيوب ويختار كخلفية موسيقية لسهرته أغنية: “رقّ الحبيب” لأم كلثوم.
لا يمرّ وقت طويل حتى ينهض أبو مخلص تاركاً كل شيء، كأس العرق الأول لم ينتصف، الطاولة كما هي ولم ينقص منها إلا لقمة حُمُّص واحدة، أم كلثوم تغني وحدَها وتعيد: “صُعُب عليّ أنام أحسن أشوف في المنام غير اللي يتمناه قلبي..”.
تنتهي السهرة باكراً وتعلقُ في عينيّ أبي مخلص دمعتان كبيرتان وثقيلتان، دمعتان كافيتان لتغرق فيهما حمص كلّها ببيوتها المحروقة والمهدَّمة والمنهوبة، بشوارعها وأزقتها ودكاكينها، بذكرياتها وسهراتها وناسها. دمعتان تتغذّيان كل لحظة من ملوحة غربته ومرارة خوفه.
يغصّ أبو مخلص بدمعتيه ويحاول أن يحجّرهما، لا يُرِيدُ لهما أن تسقطا، لا يريد تركَهُما تفِرَّان، يعرفُ أنه لو فعل لكرّت من عينيه مسبحة من الدموع، مسبحة طويلة شفافة ونقية، مسبحة حبّاتها بعدد خيباته وخساراته، خيطانها بطول صبره، فواصلها منحوتة من روحه، مئذنتها من أملٍ كاذب، وشرّابتها من معدن نادر لم تنجب مثله كلُّ مناجم الأرض. مسبحة حسب توصيف أبي مخلص نفسه لأجود المسابح وأنفَسِها: “مسبحة وحيدي… مسبحة إزا بتلف الكون ما بتعرفلا تمن”.
* كاتبة قصة من سورية
العربي الجديد