صفحات الرأيياسين الحاج صالح

مستقبل إنكار: عن القتلة وشراكاتهم/ ياسين الحاج صالح

 

 

لم يكن الهولوكوست في أي وقت منزهاً عن تسخير سياسي مباشر، استفادت منه إسرائيل في تشريع نفسها وسياساتها العدوانية المنكرة للمساواة حيال الفلسطينيين والمحيط العربي. ولم يكن لازماً أن يأتي بنيامين نتانياهو لـ «يُنقِّح» تاريخ الهولوكوست حتى يُرى التوظيف السياسي الرخيص. في جعله هتلر، من كان يفترض أنه الشرير المطلق، مستوحياً للشر من الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس البائس، ما يجدر اعتباره إهانة لضحايا الهولوكوست وللسردية المهيبة المبنية عليه، وإن كانت تكشف وظيفة سياسية صغيرة لطالما قامت بها هذه السردية.

كان رفع الهولوكوست فوق كل شر ليكون هو الشر المطلق أو الشر القياسي الذي تقاس إليه شرور العالم كلها، بحيث يحاول مقاومون متنوعون استمداد شيء من الشرعية لقضيتهم بتشبيه فواجع شعوبهم بالهولوكوست، كان ذلك مسلكاً يتعذر على أي كان الوقوف في وجهه. ليس فقط لأن الجريمة فظيعة، وهي بالغة الفظاعة، وإنما كذلك لأنه جرى شغل هائل عليها في بلدان الغرب التي لم تقع على أي منها أو فيها مآسٍ تاريخية كبرى منذ الهولوكوست، وإن تكن أوقعت بغيرها الكثير. في جانب منه، الانشغال بالهولوكوست متولد عن غياب المأسوي الراهن من أفق الراهن الغربي من جهة، ومن ممانعة غربية قوية لرؤية ما هو مأسوي عند الغير من جهة ثانية. وتكمل ذلك قضايا الشعور بالذنب حيال اليهود ودور اليهود الكبير في صنع الغرب المعاصر والحديث، وصولاً إلى إعادة هيكلة الوعي الذاتي للغرب بحيث يكون اليهودي مكوناً ماهوياً له.

وبفعل ذلك، ارتفع إنكار الهولوكوست إلى مرتبة جريمة يحاسب عليها القانون في بلدان غربية كثيرة، إن لم يكن في كلها.

بتصريحه الغبي والسفيه، نتانياهو لم ينكر الهولوكوست، لكنه تلاعب به تلاعباً يفتح الباب لتلاعبات أخرى، فأساء بذلك إلى سردية الهولوكوست، وإلى إسرائيل، إساءة بالغة. لكن سيكون خطأً كبيراً في تقديري العملُ على إغراق الهولوكوست في النسبية، وإن يكن هذا بالذات ما سهل فعله نتانياهو. الأصوب فتح ثغرة في اتجاه الاعتراف بوحدة الألم البشري، ورفض استخدام آلام ضد آلام، أو التوظيف الانتهازي واللاإنساني لآلام لجعل آلام أخرى غير مرئية أو غير مشعور بها.

غير أن ما أريد قوله هنا في مقالة صغيرة ليس له علاقة بالهولوكوست واستخداماته وإنكاره، بل هو بضعة سطور تتصل بشيئين. أولهما الإلحاح على أن الألم البشري واحد، وأن من يشغل أفضل موقع لتقرير ذلك هو المتألمون، وليس من يستخدمون الألم لبناء سرديات تنصر جماعة أو تشرع سلطة. لا أحد يشبه اليهودي الذي أحرق في أفران الغاز أو مات جوعاً أو فقد إرادته وتحول إلى خرقة بشرية أكثر من السوري أو الفلسطيني الذي قتل بعد أيام أو أسابيع أو شهور من التعذيب في المقرات الأمنية الأسدية، أو الذي مات جوعاً إلى الهواء في زنزانة لا يتاح للسجين فيها أكثر من بلاطة واحدة، أو لمن ماتوا جوعاً في المعتقلات الأسدية أو في المناطق المحاصرة. والـMuselmann في المعسكرات النازية هو نفسه الشاب الذي «فصل» في المعتقلات الأسدية، انهار جسدياً ونفسياً وعصبياً وفقد صلته بمحيطه وسيموت بعد قليل، على ما أظهر ذلك عبدالحي السيد (بناء على تقارير «مركز توثيق الانتهاكات» التي أشرفت عليها رزان زيتونة، المخطوفة والمغيبة منذ ما يقترب من عامين). كلمة «مسلمان» الألمانية تعني مسلم، ولعلها تفيد في صورة ما بأن المسلمين فاقدون للإرادة مستسلمون كل الاستسلام لقدرهم، مثلما كان حال من كان يجري تحطيم حياتهم من اليهود في معسكرات الاعتقال النازية. وصناعة الموت في تلك المعسكرات لا تسجل فرقاً مبدئياً عن تصنيع الموت في المعتقلات الأسدية، مع «العقلنة» والتنظيم اللازمين لهذه الصناعة، على ما أظهر تقرير «سيزار» الشهير. وليس هناك أي سبب وجيه لاستبعاد قتل السوريين المعارضين، وبالأصح بيئات الاعتراض السورية، بالسلاح الكيماوي ثم بالبراميل المتفجرة، واليوم بالسلاح الروسي وعلى يد الروس أنفسهم، من التقريب المشروع، الوجيه والواجب، مع الهولوكوست.

كان اليهود أضعف من أن يقاوموا النازي، وهو ما أخذته على قياداتهم من موقع متعاطف حنة آرندت، لكن هل كان هتلر ليتردد في قصفهم بكل ما أوتي من أسلحة لو فعلوا؟ وهل، إذاً، تكون مقاومة من قدروا على المقاومة مبرراً لإنكار مذابحهم؟

ولا يقتصر الأمر بحال على صناعة الموت الأسدية، أو على القتل الصناعي، حتى يعترف بوحدة الألم الإنساني. ليس هناك سبب لاستبعاد مقتل مئات ألوف العراقيين في سنوات الحصار الأميركي، ثم بعد الاحتلال، أو لقتلى دارفور في السودان، والقاتل لا يزال آمناً حاكماً، أو لقتلى المذابح الرواندية، أو للقتلى الفلسطينيين واللبنانيين على يد إسرائيل ذاتها.

سيقال إن ضحايا الأسدية وحلفائها، وضحايا المَقاتل الأخرى، أقل بكثير من ضحايا الهولوكوست. صحيح. لكن يعطي هذا الكلام الانطباع بأنه ينبغي أن يموت ملايين السوريين، ما يقترب من 6 ملايين أو أكثر، حتى تكون المقارنة شرعية. هذا ليس تعبيراً عن انعدام الحس فقط، وإنما هو بمثابة حكم بأن كل ألم لا يبلغ هذا الحد لا يستحق الاعتبار، وتالياً هو تسهيل لوقوع مقاتل رهيبة، هولوكوستات أكبر. الدولة الأسدية إن تركت لنفسها ودعم حلفائها الروس والإيرانيين، والرضا الإسرائيلي الغامر والأميركي المغمور، قادرة على قتل ستة ملايين وأكثر. وليس القول الذي يُنسب إلى مسؤولين أسديين من أنهم «استلموا» سورية وهي 6 ملايين، وأنهم سيعيدونها إلى هذا العدد قبل التخلي عن السلطة، ما يمتنع على التصديق منهم. إنهم مؤهلون لقتل 16 مليوناً من السوريين ما دام هناك من يقاوم، إن لم يحل دون ذلك حائل خارجي. ولكانت النازية قتلت أكثر لولا هزيمتها.

الشيء الثاني الذي أريد قوله أن الخشية من إنكار الهولوكوست قلما كانت خشية أخلاقية إنسانية، تحركها بالفعل اعتبارات متصلة بالعدالة. ليست وظيفة مركزية الهولوكوست في ثقافة الغرب المعاصر وعقيدة إسرائيل أن «لا يتكرر أبداً» ذلك، بل أن لا يتكرر وقوعه لنا نحن (الغربيين والإسرائيليين). أما وقوعه لغيرنا، أم إيقاعنا نحن له على غيرنا، فليس في مركزية الهولوكوست ما يحول دونه بحال، هذا إن لم يكن فيها ما يسوغه بالأحرى.

ويكفي لإثبات أغراض إنكار الهولوكوست، أن بعض من لا يتجاسرون على قول كلمة واحدة بخصوص الهولوكوست هم من منكري قتل السوريين وصناعة القتل الأسدية والمجزرة الكيماوية، ومن مساندي القاتل العام والدافعين إلى التحالف معه، وإن كانوا يقرون بأنه مجرم. روبرت فيسك ليس منكراً المسؤولية الأسدية عن المقتلة السورية، بل هو مساند دؤوب للقاتل الأسدي. ومثله باتريك كوكبيرن الداعي لتحالف دول الغرب مع القاتل السوري العام، ومثلهما ميشائيل لودر الألماني الذي قال قبل شهور قليلة إن بشار مجرم، لكن دعا إلى أن يتحالف معه الغرب. وبأي شيء يختلف أخلاقياً سايمور هيرش الذي أنكر المذبحة الكيماوية عن منكري الهولوكوست؟ لم يسقط 6 ملايين في المذبحة الكيماوية؟ بلى. لكن إن كان الضمير لن يصحو إلا بقتل 6 ملايين، فلمَ يصحو؟ فليبق نائماً إلى الأبد. هذا من دون قول شيء عن مساندي الأسد الفاشيين من اليمين الفرنسي والألماني ممن زاروه وتضامنوا معه في دمشق. ومثل هؤلاء وأولئك معظم المسؤولين السياسيين الغربيين في الواقع. وهم جميعاً، خلافاً للمسكين أمين الحسيني، لديهم كل الفرص للحصول على كل ما يلزم من معلومات عما لحق بالسوريين، وخلافاً للمسكين أيضاً، بلدانهم ليست واقعة أو مهددة بالوقوع تحت استعمار فلسطيني أو إسلامي.

ويجمع الكل أيضاً إنكار تمثيل السوريين لأنفسهم وشهاداتهم على ما أصابهم، ورفض صدقية أي مصدر محلي. هذا قتل رمزي للسوريين يضاف إلى قتلهم الفيزيائي.

إنكار المقتلة الأسدية في سورية، بل تعويم القاتل، وما يشبه إجماع القوى الدولية على بقائه «موقتاً»، بدل عقاب لا نهائي له، يثير الاحتقار العميق لقادة العالم المعاصر، ولمعنى هذا العالم ذاته.

بقدر ما هو واجب اليوم العمل على بناء القضية السورية، وتجريم شركاء بشار الأسد الدوليين، من نتانياهو إلى أوباما، ومن خامنئي إلى بوتين، ومن حسن نصر الله إلى المالكي ووريثه، تبدو فرصة النجاح محدودة. لماذا؟ لأن من يملكون السلطة والمال ومراكز الأبحاث، أي المعرفة المقبولة، كلهم سيكونون حلفاً ضد بناء قضية سورية. لا ينكرون فجيعة السوريين لأن قلبهم على فجيعة أخرى، بل لأن القلوب على السلطة والامتياز والتفوق.

هذا يجعل مهمتنا شاقة ومأسوية، أو هو يضفي صفة مأسوية مضاعفة على الصراع السوري: المذبحة، والإنكار، وتسهيل الإنكار. هتلرنا ليس محمياً من وريث روزفلت فقط، ولا هو حليف لوريث ستالين فقط، ولكن حاميه الأول لوريث الهولوكوست أيضاً: «التنقيحي» بنيامين نتانياهو.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى