مستوى الوعي العربي بين الشعبوي والنخبوي/ حواس محمود
يمكن القول ان الوعي الذي ساد العالم العربي طيلة خمسة عقود متتالية من حقبة ما بعد استقلال الدول العربية كان وعياً شعبوياً إلى حد كبير، ولم تستطع النخب أن ترتقي كثيراً في مستوى الثقافة عند الناس الى مستوى الوعي الرصين الذي يقارب بين الوعي الشعبوي والوعي النخبوي، ولذلك أسباب عدة، منها قصور المثقف عن تحمّل المسؤولية التاريخية في النهوض بوعي الشعب، ومنها الممارسات التضييقية على المثقفين الذين إما زجّوا في غياهب السجون أو تم شراؤهم باغراءات مادية ومعنوية من قِبَل السلطات الحاكمة أو ظلوا معزولين منطوين على انفسهم ساكتين خانعين، ومنها انتشار نسبة كبيرة من الجهل والامية بين الناس، بجميع أنواعها الأبجدية والثقافية والتكنولوجية.
خمسة عقود متتالية من ممارسات القمع والفساد، لجأت إليها الأنظمة الاستبدادية العربية، وهي تحاول ما استطاعت وما امتلكت من امكانات ضخمة اعلامية وامنية ومجموعات فساد متنفذة، أن تروج وتبرر وتسوق كل هذه الممارسات من خلال لفت أنظار الشعب إلى الخارج، الخارج الذي يتآمر على الداخل الوطن الخارج المحتل للأراضي العربية وفلسطين، والخارج الرجعي… الخ.
أما السؤال البريء في الداخل عن تحسين الوضع المعيشي للمواطن أو إجراء تنمية وطنية لكافة المجالات فكان هذا محرماً ومؤجلاً، وربما صاحبه مشبوهاً ومتهماً بالعمالة للأعداء، لأنّ الوطن كله مشغول بالتصدي للمؤامرة الكونية على الوطن شعباً وقيادة، إنها مؤامرة الصهيونية والرجعية والامبريالية، مؤامرة رضعت هذه الأنظمة من حليبها وخيراتها خمسة عقود متطاولة أو يزيد، لكن هذه المؤامرة لم تتوقف مع استمرارية هذه الأنظمة وبالتالي تشكلت علاقة جدلية ذات أبعاد ثلاثية.
البُعد الأول الأنظمة ووجودها مرتبط بالمؤامرات وهي البُعد الثاني أي المؤامرة فمن دون المؤامرة لا وجود للأنظمة الاستبدادية ومن دون هذه الأنظمة لا وجود للمؤامرة، أما البُعد الثالث وهو الشعب فمن دون أحد طرفي الجدلية السابقة الأنظمة الاستبدادية المؤامرة، لا يمكن أن يكون على الحالة الاستلابية مهملاً ومرمياً على حواف هذه الجدلية التضليلية بامتياز، أما مع وجود بُعدي الجدلية فالبُعد الثالث موجود بحالته الاستلابية التي عرفناها حتى اندلاع ثورات الربيع العربي 2011.
تعتبر لحظة البدء مع «البو عزيزي» في تونس وانطلاقة الربيع العربي بداية مباشرة لنشوء وعي فكري مستيقظ على هول الصدمة الاستبدادية إن جاز التعبير وانكشاف الأنظمة الاستبدادية التي مارست على المواطن عملية التضليل الايديولوجي بحمولة إعلامية كبرى ضاغطة وهائلة ومبرمجة، بغية الاستمرارية في السيطرة على مقدرات الشعب، ولم تكن لهذه الأنظمة أي علاقة ضدية أو مجابهتية بالتحديات الخارجية، بل كانت موغلة في علاقة مشبوهة وغير شفافة مع الخارج على حساب حياة شعوبها وكرامتها وانسانيتها.
لقد تشكّل لدى المواطنين في العالم العربي وعي شعبوي كحصيلة التأثر بآلة الإعلام الاستبدادي، وما كان تضخه من سموم وخطابات بلاغية تخاطب العواطف دون العقول باستغلال معاداة الآخر أياً كان الآخر، الآخر المحتل، الآخر القومي، الآخر الطبقي، الآخر الجغرافي، والآخر التاريخي، في سعي حثيث منها إبقاء هذه الشعوب في حالة سبات نهضوي طويل. لقد تشكل هذا الوعي بغياب واضح لدور المثقف التوعوي، وتبعية المثقف السياسي، مما أثر على تأخره بالنهوض الثوري إلى لحظة البوعزيزي الحاسمة.
إلا اننا لا ننكر دور وجهود فئة قليلة من الكتّاب والمفكرين والباحثين العرب في توعية الشعوب العربية، بما أتيحوا من فرص ثقافية وإعلامية، لكن لم تكن هذه الجهود كافية لإزالة الغشاشة والغمامة التضليلية عن أعين الشعوب، لأنّ آلة التضليل الاستبدادية كانت أكبر بما لا يضاهى من جهود قلة قليلة من المثقفين العرب، فكان الوعي الفكري بطيئاً وضعيفاً بطبيعة هذه الأنظمة الاستبدادية الطاغوتية، وعوضاً عن الوعي الفكري الناضج نشأ وعي شعبوي متأثر بأنظمة الاستبداد، وشكل هاجس الخارج حملاً ذهنياً ثقيلاً على عقلية المواطنين، ونسي الناس أنهم ضحايا أنظمة ترفع شعارات للاستهلاك الإعلامي ليس إلا، وكان للإعلام الاستبدادي كما أسلفنا دوره الكبير في نشوء وعي شعبوي سطحي وساذج، ومنع نشوء وعي نخبوي فكري ناضج، الاعلام الذي كان يتستر على الأخطاء والممارسات الاقتصادية والسياسية والتنموية، عمل الاعلام على غسل أدمغة الشعوب العربية وقام بتوجيه الأنظار طيلة عقود الظلام إلى القضية المركزية فلسطين التي كانت أحلام تحريرها تدغدغ أدمغة وقلوب كل مواطن عربي شريف ومخلص، لكن هذه الأنظمة استغلت مواطنيها البسطاء استغلتهم أبشع استغلال، دون أن تساهم ولو بأضعف الإيمان في تحقيق ما كانت تردده على الاذاعات والصحف والتلفزيونات، وما كانت تصبو إليه هذه الشعوب تطبيقاً وتنفيذاً واقعياً على الأرض، فكانت الخسارة كبيرة وهائلة، الفشل في التحرير والفشل في التنمية، والفشل في بناء الدولة كما الفشل في بناء المواطن، وظلت الشعوب مستهلكة لمنتجات الغرب، والتكنولوجيا مستوردة، والمناهج التربوية والدراسية تقليدية تلقينية، لا تتناسب وتطورات العصر ومتغيراته العديدة.
ولعل مفاجأة العديد من المثقفين والكتّاب العرب هو أنّ الوعي الشعبوي الذي ظلّ تائهاً ومحتاراً أمام الأنظمة التي أجهلته وأبقته في ثقافته الشعبوية البسيطة العاجزة عن فك طلاسم الاستبداد، والتحكم والسيطرة والقمع ورفع الشعارات والتضليل الاخطبوطي الهائل والفظيع، قد اختط لنفسه خطاً ثورياً هائلاً وكبيراً بإعلان الثورة على هذه الأنظمة التي حكمته بالحديد والنار، إذ من خلال هذا الخط تجرأ المواطن في العالم العربي في رفع صوته ضد الاستبداد العربي، بما قد لا يتجرأ عليه المثقف الذي خبر بطش هذه الأنظمة وسطوتها وقسوتها اللامتناهية، وهذا ما حاول الاستبداد العربي في زمن ما بعد انطلاق الربيع أن يستغله لصالحه بالقول ان الكلام كلام حق يراد به باطل، فمتى كانت الأنظمة الاستبدادية تسمع للمثقف أو تترك له حرية التعبير أو النقد السياسي للزعامة أو الرئاسة المقدسة عندها، وماذا عن مئات المثقفين الذين قبعوا ويقبعون في غياهب السجون، أو الذين يعيشون منذ عشرات السنين في المنافي والمهاجر الأوروبية وغيرها؟ حتى تتحدث عن غيابهم في الثورات العربية، ثم لماذا هذا الإنكار لدور الشعب في اكتشاف الوعي الناضج والارتقاء، تحت ضغط المعاناة والخبرة بالقهر من خلال تفجير ثوراته الرائعة ضد الاستبداد والقمع والفساد ومن أجل الحرية والكرامة والعيش الكريم؟
لقد كانت الأنا العربية السلطوية ولا زالت ملفحة بآلة التضليل والديماغوجيا الإعلامية، والنتيجة خسارة الأنا بحيث دخلنا مرحلة ما بعد اندلاع الثورات العربية في حالة الدفاع عن الوجود، إذ ان المواطن في كل دول الربيع العربي يعاني إما القلق الوجودي بالداخل، أو معاناة التشرد واللجوء والحلم بالعودة وهو بالخارج أو معاناة البحث عن مآلات آمنة لهذه الثورات بعد أن عصفت بها رياح الصراعات السياسية المدمرة والخطيرة متأثرة بإرث ايديولوجي مستلب بكسر اللام وهذا ما نجد ملامحه بعد ثورة يناير 2011، وهذا ما يدغدغ أحلام المستبدين بالاستمرار أو العودة إلى الحكم، أو الشعور بالتشفي من الشعوب الثائرة، انهم المستبدون الذين سقطوا عن عروشهم المزمنة أو الذين ينتظرون.
المستقبل