مسّاس قوّادون بيوت للدعارة وحبر للتمرّد/ عقل العويط
لقد حصل ما حصل. لكن مهلاً ورويداً. جلّ ما عاينّاه خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، ليس فيه ما يدعو إلى الاستغراب، ولا إلى الذهول. فالشغور القانوني في السدّة الرئاسية، هو تتويجٌ رسمي وعلني لشغورٍ جوهري، ماحق، في أخلاقيات الطبقة السياسية ومعاييرها وقيمها ومفاهيمها وممارساتها. لن نعمّم. ولن نضع الجميع في زاوية واحدة. لكننا لن نتردد في وصف هذا الشغور، بأنه تراكمٌ متواصل منذ عقود، لا يخجل أطرافه المعروفون من استخدام كل ما يمكن استخدامه من سبل العربدة “الدستورية”، وفنون العهر “الديموقراطي”، ممتطين أبشع وسائل الانتهاز الرخيص، وأشنع صيغ التحليل الشكلاني، والتحايل المريع، والخطاب “الإقناعي” الصفيق، منعاً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي إلاّ وفق مشاريعهم وخططهم. هذه هي بلادهم، يديرون جمهوريتها مثلما يدير القوّادون بيوت الدعارة التابعة لهم، منظِّمين العمل فيها تنظيماً مبرمجاً، موزِّعين اللحم على أسرّة قادة الأحزاب والتيارات والطوائف، وأقزامها، الوالغين في أحقر المضاجعات وأشدّها إذلالاً للكرامة الوطنية.
لا الوصف ينفع. لا التحليل يجدي. لا التشدّق بالقوانين والأنظمة والدساتير يوصل إلى مرتجى. ولا الهجاء ينفّس عما في الوجدان من كرب. نحن – من دون تعميم – طبقة سياسية تحبّ أن تُقاد بـ”المسّاس”. هل تعرفون ما هو “المسّاس”؟ إنه رأس الحديد المسنون الذي يخز به الفلاح فدّانه (ذكر البقرة) كلّما خرج على ثلم الفلاحة. على كلّ حال، ينبغي لنا، من أجل مراعاة مقتضى الحال الوطنية، أن نجمع الأمثال والألفاظ والعبارات من أفواه شيوخنا الفلاّحين، لأنها اللغة التي تعبّر تماماً عما ينبغي استخدامه في التعامل مع المعنيين بعدم انتظام العمل العام في الجمهورية.
سيرى البعض في كلامٍ كهذا، إهانةً لفظية فظيعة للكرامات. هذا صحيح مع الاعتذار. على المجروحين بهذا الكلام إثبات العكس. وآنذاك، علينا أن نكرّر الاعتذار. لكنْ، أيّ إهانة هي الأفدح: إهانة الجمهورية أم إهانة المعنيين بالحؤول دون إنجاز الاستحقاق الرئاسي؟
هذا الشغور في الرئاسة هو مثالٌ ليس إلاّ. خذوا مثالاً آخر، مضادّاً، لكنْ على صيغة سؤالٍ إنكاري: هل يظننّ أحدٌ أن تأليف الحكومة، وأن التعيينات الإدارية في مؤسسات الدولة، التي تمكنت السلطة التنفيذية من إنفاذها أخيراً، كان من الممكن أن تبصر النور لو لم يجر تقاسمها بين أهل النفوذ، بما يشبع الجوع الرخيص إلى السلطة على حساب مصلحة الجمهورية ومؤسساتها؟
* * *
الإحباط ليس قدراً
صديقي سمير قصير، الذي اغتالته يد الاستبداد العريقة، الواحدة، المعروفة، في 2 حزيران 2005، كان من نوعية نادرة. شخصه ذو البعد الثقافي المكين والمترف، لم يصرفه عن الاهتمام بشخصه الكفاحي ذي البعد اليومي الواقعي الملموس. اجتماع “الشخصَين” هذين داخل كينونته، لم يوقعه في مطبّ الشعبوية التافهة، على رغم بريقها الخادع الكثير الإغواء. هذا مثالٌ ثقافي يمكن أن يُحتذى.
أن يجمع المرء في شخصه هذين البعدَين، المتنافرَين ظاهراً؛ لمهمةٌ ثقافية قاسية، لكنها ليست وقفاً على ندرةٍ من المثقفين الزهّاد المتنسّكين، بل يجب أن تكون ميزة مشتركة للمواطنين، موجودة على طاولة الاختبار الوجودي، الشخصي والعام، الثقافي والوطني معاً، حيث للقادرين على النهوض بهذا الاختبار، المكانات الباقية في الضمير الجمعي، يُهرَع إليهم للتمثل بحراكهم المزدوج، المتكامل.
هذه هي في اعتقادنا، وظيفة المواطن – المثقف العضوي، الذي ينخرط في الشأن العام، من دون أن يوصف بأنه كائنٌ طفيلي على ضفافه، ومن دون أن يخضع، في الآن نفسه، لشروط الطبقة السياسية ومعاييرها، أو يعتاش منها، لاعباً لعبتها، متعبداً لها، راضخاً لمساوماتها، ومضطراً لبذل نفسه في سبيل متطلباتها.
هذه مهمةٌ صعبة وشائكة بالطبع. ذلك أنها تتطلّب من المثقف الذي يستلهم مزايا هذا الدور، أن يكون من معدنٍ مشاكس وصلب، روحي وأخلاقي وعقلي؛ لا يلين، ولا يستسلم، بل يزداد، ويتراكم حرّاً، نزيهاً، نظيفاً، قادراً على أن يستشرف من مسافة، وأن يظلّ متمايزاً، ومختلفاً، بحيث يتمكن، كلما دعت الحاجة، من ممارسة حرية النقد الموجع، والفضح الجوهري، والرفض اللئيم.
نتذكر سمير قصير، في كلّ وقتٍ حسّاس وداهم، لأنه مقيمٌ معنا، في حضوره الجوّاني، وفي صداقتنا له، وممارستنا العمل الثقافي، ومهنة الصحافة. كلما احتجنا إليه، رأيناه أمامنا على الورق، وفي الوجدان. نتناقش وإياه، نختلف معه، أو نوافقه الرأي، عارفين في الحالَين كيف نبقى على مقربة. لا نتذكر أنه انزلق يوماً؛ على غواية، أو منخدعاً؛ إلى متاهات الشعبوية الرخيصة، حتى في عزّ انخراطه في العمل الشعبي (الجماهيري) العام. فهو لطالما عرف كيف يوفّق بين أن يكون مثقفاً حرّاً، وملتزماً الشأن الوطني، مدركاً أن هناك طريقَين للكفاح الثقافي الفكري (وللعمل السياسي)، لا ثالث لهما: الشكلاني الظاهري الاستعراضي الجماهيري اللفظي، والآخر البنيوي. الأول منتهز، سهل، خفيف، عابر، عمومي، استهلاكي، منبري، صالوني، مخدِّر، سريع العطب. الثاني أصيل، صعب، جوهري، شائك، مضنٍ، بنيوي، تحتي، غير قابل للعطب.
كان ليسهل على سمير قصير أن تدغدغه الطبقة السياسية، وأن يدغدغ الجماهير. لكنه لم يقبل أن يكون موضع دغدغة، ولا أن يدغدِغ؛ الأمر الذي جعله قادراً في كلّ آن، على أن يؤدي وظيفته العضوية تأدية ناجعة ومؤثرة، منحازاً إلى ما يجب أن ينحاز إليه المثقف الحرّ، ومعتبراً أن الإحباط ليس قدراً.
* * *
لسنا على الحياد
هل يُعقل أن يستسلم المثقف العضوي الحرّ للإحباط، أو أن يقف على الحياد، عندما يستفحل العطب الموجع الذي يفحش في تدمير البنى والمؤسسات والقيم، وفي تفكيك مفاصلها؟
نقول لا. ونزيد: لو كان سمير قصير بيننا الآن، ماذا كان ليكتب أو ليفعل؟ هل كان ليُحبَط؟ هل كان ليغرق في المستنقع الآسن؟ أم كان ليواصل الوقوف في وجه التعمية الاستبدادية، كما كان يفعل؟
إذا كانت تسهل جداً على رجل السياسة عموماً، مخاطبة الجماهير، بلغتها، فكم يصعب عليه أن يستدرجها إلى خارج لغتها. نادراً ما ترى رجل سياسة يناهض بلغته لغةَ الجماهير. فهو، مثلها (في الغالب الأعمّ)، يهوى الخيار الأول. مثلها، يذهب إلى حيث تأخذه الخفة والسهولة والانتهاز. حيث لا أسئلة. لا قلق. ولا هجس. هو، مثل الجماهير (ولا تعميم)، يحبّ الصعود السريع، والاستثمار السريع، والقطف الأكيد، لينام النوم الهادئ، المطمئن، المستكين، ويستيقظ اليقظة الفارغة البلهاء.
قلائل هم السياسيون الذين ليسوا على هذا النوع من الاستنقاع. هؤلاء يجترحون بوجودهم معجزة أخلاقية وقيمية وسياسية. وهؤلاء يمكن، بل يجب المساهمة في تكثيرهم.
الجماهير؛ حتى الجماهير؛ يمكن تفكيك قطيعيتها. لطالما اختبر سمير قصير، الطبقة السياسية، والجماهير؛ فعايشهما، ممتحناً أداء تلك وإيقاع هذه، بحسّه النقدي المسنون، وذكائه في تفكيك المواقف، عارفاً، من دون تعميم، أن لا خير – جوهرياً – يُرجى من هذه الطبقة السياسية، وأن الجماهير تنحاز؛ نعم؛ لكن إلى الخيار الأول. لأنه خيارٌ منوِّم. رائع. مدغدِغ. مستثير. ويضرب على أوتار الغرائز والانفعالات.
خاطب سمير قصير الطبقة السياسية وخاطب الجماهير، لكنه لم يغرق في خضمّهما الهَوَسي، حتى عندما كان في داخل البحر السياسي الهائج المتلاطم. وإذا كان أبى أن يغرق، فإنه، في المقابل، لم يُحبَط، بل عرف كيف يساهم، إلى حدّ، في تفكيك قطيعية الطبقة السياسية وقطيعية الجماهير، مما استدعى اغتياله.
في لحظةٍ مشرقطةٍ ما، عندما تتوافر بعض المعطيات الموضوعية التاريخية الخلاّقة، قد تخرج بعض الطبقة السياسية على ذاتها، وعلى لغتها. في تلك اللحظة المشرقطة نفسها، قد تخرج جماهير على ذاتها الجماهيرية، وعلى لغتها، لتلتحق بذات المواطن المثقف العضوي الحرّ، ولغته!
اليوم، يبدو واضحاً، بعد انسداد الطريق أمام المرشح “التاريخي”، والقائد الضرورة، القوي، والملهم، وبعد نفاد المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس، أن ثمة انقلاباً متواصلاً، متدرجاً، مبرمجاً، واضح البصمات والمعالم ضد الجمهورية والدستور، يُجرى تنفيذه بخبث “إقناعي”، علني، رابط الجأش، وعلى مراحل. ثمة من يجاهر بالفم الملآن أن الميثاقية مفقودة بسبب الشغور – وهذا صحيح – وأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتطلب التوصل مسبقاً – والآن! – إلى إقرار قانون جديد للانتخاب، تُجرى على أساسه الانتخابات النيابية، على أن يتولّى مجلس النوّاب الجديد انتخاب الرئيس العتيد. متى؟ الآن! كيف؟ هاكم الجواب: ثمة مَن وقف ليعلن أن “المقاومة” لا تحتاج إلى رئيس يحميها، بل هي التي تحمي الرئيس والكيان والدولة والجمهورية والدستور ومكوّنات السلطة. وهلمّ. “المقاومة” هي التي تنتج الرئيس، وهي هؤلاء جميعاً. بل هي البديل من هؤلاء إذا اقتضت الحاجة.
هذه هي خطة الطريق إذاً! وإلاّ فليواصل لبنان نزوله الحرّ إلى الجحيم، بطبقته السياسية (من دون تعميم)، ومجلس نوابه (من دون تعميم أيضاً)، وأحزابه، وتياراته، وطوائفه، وجماهيره، ومكوّناته (من دون تعميم)، ولا يجد مَن يكبح نزوله، ويلجم انفلاته.
كثرٌ ينقسمون الانقسام القطيعي. لن نكون هكذا. لكننا لن نقف على الحياد. نحن ضدّ هذا الانقلاب العلني السافر. وسنظلّ نبحث عن الضوء الألمعي الذي ينجّي. وظيفتنا أن نظلّ نستخدم الحبر الكريم الموجع، مستلهمين هذا السؤال: أيّهما أفضل للجمهورية، لطبقتها السياسية، لنوّابها، والقائمين على ما بقي من مكوّناتها الدستورية والمؤسسية: المسّاس الإقليمي والدولي أم حبر المثقف الوطني الحرّ، الذي ينحت المستحيل؛ طموحه أن يعثر على بقعة ضوء، وأن يساهم في تفكيك القطيعية العمياء؟
مسّاس. قوّادون. بيوت للدعارة. وحبر للتمرّد: عليكم أن تختاروا. لا يجوز الوقوف على الحياد!
النهار