مشهد إعدام الحقيقة
طريف الخياط
وقفت على كرسي خشبي، حافية القدمين، تلك الفتاة التي بدت في مقتبل العمر، التف حبل المشنقة حول عنقها.. مشى الجلاد خلفها، جيئة و ذهابا، بخطى عسكرية واثقة.. لم ينفذ حكم الإعدام حتى الآن، هو صاحب القول و الفصل، لا بد أن شيئا ما في خلده..
عيناها شامختان بنظرات حادة، تسحرك حتى الثمالة، تقودك حتى الموت، فترغب لو تتبادل الأدوار معها صاغرا، بدت غير مكترثة بما حولها، غير آبهة بالنتائج، أو أن شيئا ما يدور في خلدها هي الأخرى..
وقفنا جميعا، نسترق النظر، و رغم أن الجلاد قد أمرنا بالمجيء إلى الساحة، لنشاهد حفل الإعدام، إلا أنه منعنا أن ننظر إليها، بل إليهما..
***
منصة الحفل تتعالى فوق أعناقنا، بعيدة فوق أن تطالها أحلامنا، و من عليائه، يطل الجلاد علينا، ليطمئن أن أبصارنا نحو أقدامنا، فلا نرى ما جمعنا كي نراه!..
بقي جمهرة الحاضرين يسترقون النظر.. تلك الشفاه الحمراء المكتنزة، و الخدود البيضاء تلثمها خصل من شعر أسود فاحم، انتثر سبلا بكل بداءة، و تراقص مع نسمات الحفل.. تلك العينان، أسرت الجميع..
رفع الأعمى رأسه بوجل، و نظر إليها بعينيه المعدمتين، فالسحر تجاوز البصر، و دخل في غيبات الشعور، إلى مساحات تناسى البشر مكانها، عبر مسارب لم يدركوا وجودها، في عش سري بين الروح و الغريزة، و اختلاط بين الخوف و العبادة..
***
طال الانتظار، ساعات ثم أيام، و مضى من العمر عقود.. تابع الناس أشغالهم و حياتهم، متجمهرين في ساحة الحفل، باعوا و اشتروا، تزوجوا و أنجبوا، و لدوا و ماتوا، في ساحة الحفل..
ظل القليلون يسترقون النظر إلى صبية لم تتخلى عن صباها. اعتاد الكثيرون جمال وجهها، ظن بعضهم أنها ماتت، أنها ميتة، و أن الجلاد أبقى على جثتها فوق المشنقة. لم يشهد أحد لحظة الإعدام،تركوا ظنونهم في يقين مائع، فالجلاد يفعل مالا يستطيعون، و يعلم مالا يدركون..
***
ضاقت ساحة الحفل بسكانها، تململ أحدهم، ثم مات برصاصة. أقساط الرصاص من فروض الولاء، فبعد أن أصبحت ساحة الحفل حظيرة بأسوار عالية، صار الموت نصيب كل ضال يشخص إلى المنصة، أو يتحدث عنها.. ليس الجلاد من يطلق الرصاص، بل سكان الساحة أنفسهم!..
تململ آخر فقتل، حمل جثمانه آخر فقتل، ذهب آخرون كي يدفنوا الجثتين، فمات بعضهم و حملهم آخرون، فأتى آخرون، ثم آخرون.. زمجر الجلاد من منصته، فزمجر الناس من ساحتهم.. لقد هرم أو مات من كانوا يخافون الزمجرة..
***
حول الجثث، تحلق الكثيرون بلا دموع، لقد تمردوا على طقوس الموت، تشابكت أكفهم و تلاقت أعينهم في نظرات سجلت لحظة من الوجود و للوجود.. أدركوا أن الساحة تغص بهم و أن في جدرانها صدوعا و شقوق، أخبرتهم الأرواح أنها انعتقت من أجسادها، و طارت فوق المنصة ، لم تعد تخاف الجلاد..
و في البحث عن السبيل، استجمعوا ما تبقى من شجاعة مقيدة و كرامة سليبة، و صوبوا أعينهم مرة واحدة نحو المنصة، كما لم يفعلوا من عقود.. ابتسمت لهم فتاة الحفل، و انسابت من حبل المشنقة، تسمر لها الشجعان و الخائفون الصامتون، الضحايا و القتلة الخائنون، فابتسمت من جديد، خلعت عنها القماش الكحلي، و تعرت أمامهم كجسد شهي من كينونة أخرى، فتحت ذراعيها و انسابت كالأثير لتهبط إلى ساحة الحفل.. سارت عبرهم كالسراب، تتخللهم و تبتسم، فتراكمت مزيد من الجثث، سالت مزيد من الدماء، لقد سحرتهم ليقتلوا من أجلها صاغرين في ذهول…
جسد من سراب، من كينونة أخرى… و أطل الجلاد شاحبا من منصته، لكن على شفتيه ابتسامة!
***
لنتعرى قليلا أمام أنفسنا، و نقر أن فتاة الحفل، لا بد أغوتنا، و لو للحظات..
بعد كل جثة، و كل مجزرة، تقام محكمة، نترافع فيها عن أنفسنا ضد أنفسنا.. ليست كل محاكماتنا عادلة، فدستور قيمنا شفهي، قابل للانحياز إلى ما في حجراتنا الاجتماعية السرية..
ننجرف، بعضنا و ليس كلنا، بلذة الغواية.. متغافلين أن القتال بين الضحية و الضحية، أن القتال قد يبلغ حدا، لا ينفع فيه تبادل الاتهامات، في لحظة تغرق فيها كل نفس بهمجيتها، فيتساوى الجميع بالخطيئة..
***
قتال بين الضحية و الضحية، كلانا بشكل أو بآخر ضحايا الجلاد.. بعضنا تم استلاب وعيه إلى هوية بدائية، و بعضنا اضطر أن يدخل الحرب بهويته البدائية..
***
لم يكن مشهدا لإعدام الحقيقة، بل عقودا، لتزيين السراب بلون الحقيقة..
***
الطائفية..
***
كفى، لا لأجل أحد، بل لأجل سوريا تئن تحت أقدامنا..
8-أيلول-2012