صفحات الثقافة

مشوار مع ميار الرومي

 

ديمة ونوس

 قبل أيام، عُرض فيلم ميار الرومي “مشوار” في متروبوليس أمبير صوفيل. الفيلم الذي أهداه المخرج إلى شهداء الثورة السورية، يأخذنا في نزهة من دمشق إلى حلب، فتركيا، وصولاً إلى طهران. ثم من طهران إلى تركيا، فحلب، وصولاً إلى دمشق. صبية في نهاية العشرينات، تعشق سائق تاكسي. دمشق، تلك المدينة الكبيرة والشاسعة والمتعددة الهويات الفكرية والاجتماعية، تضيق وتضيق، حتى تتحول إلى مجرد سيارة تاكسي صغيرة بالكاد تتسع لجسدين هائمين. للقبل والعناق المتعجّل خوفاً من النظرات والتلصّص.

الفيلم الذي أنجز قبل الثورة السورية، ومدّته ساعة وربع، يفتقر إلى الحوار. الممثلان (السوري عمار حاج أحمد واللبنانية ألكسندرا قهوجي) يبرعان بإيصال أحاسيسهما عبر نظرات محكمة، لا تفلت ولا تتوه. نظرات تجعل المتفرّج مأخوذاً بالمتخيل وليس بما يقدّمه الفيلم من أفكار. كل متفرّج يسرح بخياله على هواه. الفيلم ليس معنياً بذلك الخيال. لأنه ببساطة لا يقدم أي أفكار. والحوار القليل الذي يدور بين الشخصيات، يعطّل ذلك التواصل الذي ينشأ بين إحساس الممثلين وبين المتلقي. حوار ينتمي في كثير من الأحيان إلى أفكار مستهلكة. مثل أن تسأل البطلة عشيقها سائق التاكسي المنتمي إلى بيئة محافظة: “هل يزعجك لو أقامت أختك علاقة مع حبيبها كما هو حالنا؟”.

 خرجتُ من الفيلم مثقلة به. أكثر ما أمتعني هو تأمل اللقطات التي صورّت في دمشق (الكراجات- المزرعة- أوتوستراد المزة واللقطة التقليدية التي افتتح بها الرومي فيلمه من جبل قاسيون حيث تمسك الكاميرا بكل رقعة من دمشق). ورحت أتساءل عن سبب ذلك الثقل. أحببت الممثلة ووجدتها بارعة وهي صامتة، ما أن تتكلم حتى تخرج الكلمات مصطنعة وكأنها تمثل حقاً. لمحت دمشق في أكثر من لقطة وحاولت استبقاءها قدر الإمكان. الموسيقى (تأليف زيد حمدان) غريبة وجميلة مع أنها مباشرة أحياناً، إذ تتحول إلى موسيقى تركية لدى الوصول إلى تركيا ثم تعطي إيقاعات فارسية لدى الوصول إلى طهران وهكذا. ما سرّ ذلك الثقل إذاً؟ هل تكفي تلك الأمور لتعكير المزاج ولإثقال الروح؟

 سنتان مرّتا على الثورة السورية. إنهما مجرّد سنتين، صحيح. لكنهما كانتا كفيلتين بقلب المعايير والعبث بكل ما كان ثابتاً في الذاكرة، من أفكار وقيم وثقافة وتقليد وطقس وحب وكراهية. فقد بعض الإبداع السوري قيمته بعد الثورة. صار رماداً. صار مجرد فكرة عابرة لا تترك وراءها أي أثر يذكر. وكل ما نشاهده بعد الثورة، نجد أنفسنا مجبرين على مقارنة مشاعرنا بما كانت عليه قبل سنتين. لو أنني شاهدت هذا الفيلم أو ذاك قبل الثورة، لكانت مشاعري مختلفة بالتأكيد. لو أن المسلسل الدرامي الذي عشقته قبل أربع سنوات، أعيد بثه الآن، هل سأرى فيه ما كنت أراه قبل الثورة؟ مستحيل. خاصة وأننا في كثير من الأحيان، نرى أنفسنا في هذه الشخصية أو تلك. نرى المجتمع والشارع والناس والحجر. كل تلك الأمور لم تعد كما كانت عليه قبل الثورة.

 ثمة ثورة تغلي في الشارع. ثمة أشخاص من لحم ودم، كانوا كومبارس الدراما السورية لسنوات طويلة (بائع في محل حلويات، عتّال، سائق…)، صاروا الآن أبطال الثورة في الشارع وفي الموت وفي الصراخ وفي سورية الجديدة. ثمة عمارات قصفت، مات أهلها أو تأملوها تسقط كعلبة كرتون. إنها سورية التي تبدّلت ملامحها خلال سنتين، بحيث لا يمكن لمن خرج منها قبل سنة ونصف فقط، أن يتعرف عليها وعلى رائحتها ولونها.

 كثيرون من المبدعين والفنانين والمثقفين السوريين مطالبون بإعادة النظر بإنتاجهم قبل الثورة. وليست إعادة النظر سوى أضعف الإيمان لمن يشارك الناس ثورتهم، عن بعد.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى