مصائر “الواقعية السحرية” كهوية لاتينية/ أحمد عبد اللطيف
جمالية وأسئلة استطاعت تقديم “رواية لاتينية” تحمل ختم “الهوية اللاتينية” وتخالف نموذج الرواية الأوروبية، بل وتتجاوزها، رواية نفخت في الفن الروائي روحًا جديدة.
لماذا انتصرت الواقعية السحرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؟ ولماذا استمر أثرها داخل وخارج الأدب اللاتيني، مثل الواقعية، كمدرسة أدبية لا تنفد؟ بالطبع لاستخدامها جماليات جديدة، جماليات أسست لما سُمي بـ “الرواية الجديدة”، بنيتها الأساسية لغة غير مطروقة تعتمد الشعري كأفق، وتكنيك يخالف البنية العمودية ليغدو الزمن أحد ألعابه الأثيرة، وتعيد طرح سؤال جاد حول الراوي وموقعه في السرد، كما يتغذى المضمون على الغرابة التي هي مكون رئيسي في الواقع وعمود أساسي في السرد، ورؤية عميقة للعالم تهدف التعرف إليه بمحاولة فهم ما هو غير منطقي. لكنها نجحت أيضًا، وغزت أوروبا (مهد الرواية) ثم غزت العالم، لأنها استطاعت أن تمزج هذه القيم الجمالية بسؤال راهن وانشغال عام، هو بالتأكيد الحالة السياسية المضطربة والطموح لحالة ديمقراطية كان يجب أن تتمخض عن عصر ديكتاتوريات.
خطاب روائي/خطاب سياسي
تمكنت هذه الرواية من تأسيس خطاب سياسي ساخر في مواجهة خطاب السلطة الجاد في ظاهره المضحك في مضمونه، خطاب سلطة سلطوية يحتكر معاني الوطنية والرؤية المستقبلية ويرى العالم من برجه البطريركي. خطاب، بتحليله، ينتهي فيه المواطن إلى مجرد ابن طائش في حاجة لأب (زعيم) يعيده إلى رشده. رشد معناه الطاعة واحترام القمع والتخلي عن شعارات التمرد وحرية التعبير. رشد معناه احتياج المواطن لرضعة السلطة حتى يبلغ (ولن يبلغ) سن الفطام. خطاب السخرية الروائي كان تعرية لهذه الأوهام، كان محاولة صائبة لإزالة القدسية المتوهمة عن شخص الحاكم، كان إعادة السلطة السياسية لدورها الطبيعي كوظيفة تستهدف تقديم خدمة للمواطنين وليس تربيتهم وإرضاعهم والأخذ بيدهم للتنزه في المعتقلات السياسية. هذا الخطاب الساخر بلغ ذروته في “خريف البطريرك” رواية ماركيز الأهم، و”أنا الرئيس” لأنخل أستورياس، و”أنا الأعلى” لباستوس روا، وإن كان سؤال السلطة ظل مطروحًا في أغلب أعمال جيل الانفجار مثل كارلوس فوينتس وبارجس يوسا. إننا إزاء السخرية كوسيلة، هي الأكثر فعالية في الحقيقة، لهدم خطاب احتكاري.
سخرية تستخدم لغة عنيفة في تهكمها على عالم حقير وعلى نظم فاسدة، كما تستخدم، بالتساوي، المجاز كوسيلة فتية تحتل على الدوام الأولوية الأولى في النص.
لقد أدى السياق السياسي إلى خلق سياق سوسيوثقافي ترك بصمته الجلية على الرواية، فقدمت هذه الرواية بديلًا سرديًا كان بمثابة الخطاب المضاد للسلطوية، سياق تولّد عقب الحرب العالمية الثانية التي أكدت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الحداثية الأوروبية مختلة، وأنها حين انتصرت للعقل وحده لم تستطع أن تجيب على أسئلة خاصة بجوهر الإنسان، وحين انتصرت للحقيقة الواحدة والمطلقة والثابتة تجاهلت بذلك كل الحقائق الأخرى التي ارتبطت بالتاريخ الإنساني والتي لا يمكن محوها بين ليلة وضحاها، بل وفي حال محوها لم تقدم الحداثية بديلًا مقنعًا ليحل محلها.
رواية ما بعد حداثية
لقد واجه الفرد الغربي أزمة الأسئلة التي تجنبتها الحداثية حين انتصرت للعقل المحض، نفس هذا الفرد هو من تلقى رواية الواقعية السحرية ووجد فيها تشاركًا لأسئلته وهمومه، إذ أعادت تقديم رؤية ما بعد حداثية للعالم، رؤية رأت في الفانتازي والسحري مكونات رئيسية لم يؤد غيابها إلا لصنع ثغرة وتوسيع المسافة بين الفرد وعالمه. ربما لذلك لاقت الرواية اللاتينية نجاحًا في أوروبا أكبر من أميركا اللاتينية نفسها، إذ قدمت هذه الرواية الحقائق السيالة وأكدت على الضعف الإنساني، ونزعت عن البشر ألوهيتهم المزيفة، مستخدمًة تكنيك التشظي ومتكئة على سؤال الزمن.
بذلك، مع إرساء مصطلح “ما بعد الحداثة” سواء عبر إيهاب حسن أو ليوتار، ظهرت دراسات عن العلاقة الوثيقة بين ميلاد التيار السردي اللاتيني والمصطلح الجديد، الذي كان أيضًا نتاجًا لانهيار الأفكار الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية. مصطلح صار في الحقيقة يفنّد أوهام الحداثة، ويؤكد على “نسبية الحقيقة”، وفي الأدب صار أدبه متشظي البنية ومتعدد الأزمنة، فيما صار المكان غائمًا أو متخيلًا، وصار بطله مهزومًا وحائرًا، على عكس بطل الحداثية المتماسك والعاقل والرصين. لقد أدى السياق السياسي إلى تكوين أدب تختلف قيمه عن القيم السابقة، وتختلف أسئلته عن أسئلة الاستقرار، فكانت الواقعية السحرية رأس سهم خرق المستقر، حتى ولو لم يضم كل خصائص ما بعد الحداثية (إذ كان السؤال الجمعي مطروحًا والقضايا الكبرى مركزية). مع ذلك يمكن ملاحظة الفروقات الكبيرة ما بين “خريف البطريرك” و”ذكريات عاهراتي الحزينات” لماركيز.
لقد انتقل المؤلف نفسه من “السرديات على هامش هذه الواقعية كانت هناك فانتازيا ميتافيزيقية أخرى تتكوّن، عميدها كان بورخس (الأكبر منهم سنًا والمكرس من قبل ظهورهم) وخلفه كورتاثر(الذي اعتبرت روايته الحجلة فتحًا لجيل الانفجار)، الأول استقى من التراث العربي والإسباني والجيرماني مفردات عالمه، والثاني اعتمد على خياله الشخصي ورؤيته الفردية للعالم مع تأثيرات قادمة من إدغار آلن بو وكافكا من ناحية وجيمس جويس والرواية الفرنسية الجديدة من ناحية أخرى. ورغم أن كلًا منهما اعتمد الفانتازيا الميتافيزيقية، إلا أن لكل منهما أسلوبه المنفرد.
في الحالتين، حالة الواقعية السحرية التي اتكأت على الثقافة الشعبية والموروث الثقافي، وحالة الفانتازيا الميتافيزيقية التي تجرّد العالم فتصير القراءة محض تأويل من ضمن تأويلات أخرى كثيرة، كان الميل والانتصار للأدب المفارق، الخارق، المخالف لقوانين الطبيعة. هو ما يسمى بإيجاز “الغرائبية” بكل ما تشي به الكلمة من دلالات الغرابة والبعد عن المألوف. إنها السؤال الذي تجنبته الحداثية اتكاءً على أن بوسع العقل، وترجمته العلم، مواجهة العالم المعقد وحل ألغازه، وهو تبسيط مخل لعالم لا نعرف عنه إلا القليل، لعالم يدهشنا يومًا وراء يوم بأنه أكثر اتساعًا مما نتخيل، وأن الكائن الموصوف بأنه أرقى المخلوقات لا يعدو أن يكون أدناها في نفس الوقت، هذا الكائن المعقد والمركب لا يمكن أبدًا أن يكون كائن الحداثية المتفوق.
الفلسفة المثالية والواقعية السحرية
كان انتصار هذا الأدب في حقيقته انتصارًا للفلسفة المثالية وسبينوزا تحديدًا، وكانت الشكوكية هي المنهج. هذا البحث في الماورائي أعاد للعالم اتزانه المختل حين اعتبر العقل إلهًا، هذا البحث الميتافيزيقي أعاد الاعتبار للغرابة، والعجز عن الفهم، والتواضع قليلًا أمام جبروت عالم معقد. وأثناء ذلك كانت معركته المبطنة ضد الفلسفة المادية المنتصرة في الأساس لهنا والآن، لما نرى ونسمع، والتي نتيجتها الطبيعية، أو معادلها الأدبي، هو الواقعية (رغم تنوعها وعدم ثباتها، إلا أن جذرها تناول العالم المرئي وطرح أسئلة منه وإليه، في حالة حداثية بامتياز). هذه الفلسفة تبدو تحديدًا، بجلاء ظاهر للقراء، عند بورخس، حيث لا شيء أكيد وما من حقيقة ثابتة. حيث العالم محض تصور، وحيث الكائنات ليست إلا أحلاماً في ذهن إله ما. حيث الزمن دائري وليس خطًا مستقيمًا، وحيث نصل للنهاية وندور حتى نصل لنقطة البدء بإخلاص. وإذا كان العالم البورخسي عالمًا مجردًا، يمكن تأويله وإحالته بالطبع، فالعالم الماركيزي أكثر وضوحًا، إذ قام على الثقافة الشعبية والنبش فيها، استغل ما فيها من مجاز من ناحية وتصورات عن العالم من ناحية أخرى ليصنع رواية لاتينية، كولومبية خصوصًا، في مواجهة رواية أوروبية صارت في مأزق، ووفي مواجهة رواية إسبانية خصوصًا وقعت في فخ تناول الحرب الأهلية وتحولت لمنشور سياسي باهت أكثر منها عمل فني حتى أدركوا الفخ في السبعينيات وحاولوا الخروج منه.
أدب يصنع هوية
لكن تيار الواقعية السحرية لم يكن محض قيم جمالية وأسئلة فلسفية فقط، ولا كانت انتصارًا للميتافيزيقي والثقافة المحلية فحسب، وإن كان البعد الجمالي ركيزة أساسية في التيار. فالحقيقة أن السياق السياسي لعب دورًا محوريًا سواء في تكوينه أو انتشاره. بالإضافة للحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية، كان المؤثر الأكبر في تكوين هذا الأدب هو الثورة الكوبية عام 1959. إنها الثورة التي جسدت أحلام اليسار وفتحت أفقًا لأحلام جديدة، أحلام بالعدالة الاجتماعية تحديدًا وبناء هوية لاتينية مستقلة عن الولايات المتحدة التي حاولت غزو كوبا وأخفقت. ثورة جاءت بعد سقوط الجنرال خوان دومينجو بيرون في الأرجنتين لتحل محله حكومة يمينية تابعة للولايات المتحدة. تبع ذلك فتح قنوات تواصل بين القارة بأسرها، وتكوّن وعي جديد ينحو للديمقراطية والاشتراكية. أحلام ما لبثت أن أجهضت بانقلابات عسكرية متوالية. في بيرو انقلب الجنرال بيلاسكو ألبارادو على فرناندو بيلاوندي تيري في 68، وفي تشيلي أجهضت واحدة من أهم التجارب الديمقراطية في القارة اللاتينية، إذ انقلب أوجوستو بينوتشيه على الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور الليندي عام 73، بالإضافة لاندلاع العنف المتبادل ما بين الحكومات الديكتاتورية والمجموعات الثورية في العديد من الدول منها كولومبيا. لذلك احتوت رواية الواقعية السحرية على الأمل والسخرية جنبًا لجنب، أمل لم ينهه إلا اعتقال الشاعر الكوبي إربيرتو باديّا، وزوجته الشاعرة بلقيس كوثا، عقب إلقائه لقصيدة تناهض نظام فيدل كاسترو في عام 71، إذ اتهمه أمن الدولة بأنه يمارس “أنشطة ثورية ضد النظام الكوبي”، وهي اللحظة التي تضامن فيها كُتّاب هذا التيار مع الشاعر ضد كاسترو الذي صار، بعد أن كان ثوريًا، ديكتاتورًا جديدًا.
هذا الأمل السياسي وما أعقبه من اضطرابات وانقلابات عسكرية لفت النظر بقوة إلى القارة اللاتينية، وخاصة بعد الثورة الكوبية. أنظار أوروبا توجهت للحراك السياسي والتفتت للمنتج الأدبي لطليعة تجريبية قادرة على تقديم جمالية جديدة دون أن تتخلى عن أسئلة الراهن اللاتيني. جمالية وأسئلة استطاعت تقديم “رواية لاتينية” تحمل ختم “الهوية اللاتينية” وتخالف نموذج الرواية الأوروبية، بل وتتجاوزها. رواية نفخت في الفن الروائي روحًا جديدة.
ألهذا السبب راحت جائزة نوبل لرواية غارثيا ماركيز ولم تذهب لسرد بورخس ولا لكورتاثر؟ ألنفس السبب فازت بها قصيدة بابلو نيرودا وأوكتابيو باث؟ إننا إزاء أدب حقق في عوالمه ما لم تستطع السياسة أن تبلغه: خلق هوية لاتينية غير منصاعة للغرب.
ما بعد الواقعية السحرية
بعد هزيمة الأحلام، سيتراجع، منذ بدايات الثمانينيات، “جيل الانفجار”، وهو الاسم الذي أطلق على كُتّاب الواقعية السحرية، لكن الواقعية السحرية كتيار أدبي لن يتراجع، بل ستتوغل قيمه الجمالية في الأجيال التالية، وسيتجاوز القارة اللاتينية ليصل إلى سلمان رشدي في الهند، وبن أوكري في نيجيريا، ومويان في الصين، وسيترك أثره كذلك في السينما، خاصة اللاتينية، ليرسخ نفسه بهذه الطريقة كتيار أدبي يتمتع بأسباب بقائه، ليتساوى في ذلك مع الواقعية نفسها، رغم الفارق الزمني في ظهور كل منهما.
سيخلف كُتّاب الواقعية السحرية كُتّاب حقق بعضهم انتشارًا في العالم العربي، مثل إيزابيل الليندي، أنطونيو سكارميتا، إدواردو جاليانو، ومؤخرًا ريكاردو بيجليا، يتبعهم في الجيل التالي (التسعينيات) روبيرتو بولانيو. وسيلاحظ لجوء أغلب هؤلاء الكُتّاب لتجنب الطرق التي سارت فيها الواقعية السحرية، فيصير السؤال الاجتماعي والهامش سؤال بيجليا، وتصير أزمة الإنسان المطحون في ظل النظم الرأسمالية شاغل جاليانو، فيما سيتجه سكارميتا للانتصار لمتع الإنسان بتأثيرات أنغلوسكسونية، وينشغل بولانيو باللغة من ناحية وبالوسط الثقافي كمادة خام من ناحية أخرى، دون أن يتجاهل البعد السياسي خاصة في السبعينيات والثمانينيات.
وفي النهاية، بعد مرور جيلين على وهج الواقعية السحرية، وبعد زوال الحساسيات الفنية بين الأجيال، سيظهر مع الألفية الجديدة جيل ينتصر بعض كُتّابه للقيم الجمالية التي أسست للواقعية السحرية، جيل سيكون على رأسه الأرجنتيني باتريثيو برون، والإسباني فرناندو فرنانديث مايو، وسيعترف كلاهما بتأثيرات خورخي لويس بورخس عليه.
*كاتب من مصر يقيم في إسبانيا
(صورة تجمع بورخيس بأكتافيو باث، غيتي)
ضفة ثالثة