مصر لا تقاطع زياد
أحمد ناجي
لم أذهب إلى حفلة زياد الرحباني التي أقيمت في القاهرة قبل بضع سنوات. والسبب لم يكن له أي علاقة بمواقف زياد، بل بالمكان الذى اختير للحفلة آنذاك أي “ساقية الصاوى”.
إلا أنني حضرت المؤتمر الصحافي الذي أقيم له وقتها، ورأيت علامات الصدمة المتبادلة بين زياد والصحافيين المصريين. كأن الطرفين يتحدثان لغتين مختلفتين. زياد محمّل بتصوراته النمطية عن مصر السبعينات، والصحافيون يسألون زياد عن علاقته بوالدته. بدا المؤتمر الصحافي أشبه بلقاء علمى لاستكشاف كائن من كوكب آخر. غير أنني ذهبت كتعويض عن عدم حضوري الحفلة، إذ أشعر باشمئزاز حقيقي اتجاه “الساقية” لسياستها الثقافية الفاسدة والرقابة التي تمارس بفجاجة في المكان على الفنانين والجمهور، بدءاً من طرد الجمهور في حالة تبادلهم قبلات الترحيب على الخدود، وصولاً إلى وضع أسماء فنانين على قوائم سوداء، والسطو على مستحقاتهم المالية لأسباب متنوعة من قبيل اعتراض “ابنة محمد الصاوى” على كلمات أو مضامين بعض الأعمال المقدمة أو محاولة الفنانين التحايل على رقابة “الساقية”. لكن الأهم، إضافة إلى ما سبق، هو إحساس الكآبة الذي يقبض على صدرى في شكل شخصي ما إن أدخل هذا المكان، “ساقية الصاوى”، وبالتالي كان ذلك كفيلاً بإفساد الحفلة في عيني حتى لو ذهبت.
الأرجح أن زياد لم يكن ليعرف كل هذا، ولعله لو عرف ما كان ليهتم. أقيم الحفل بمعدّات صوت متوسطة الجودة، وانتهى بالازدراء والتكبّر المعتاد من جانب زياد، والذي يعتبر عُنصراً أساسياً في شخصيته الفنية الجاذبة لجمهوره من الجنسين.
القصة السابقة تعكس الفجوة الغريبة بين صورة زياد في بلاد الشام وصورته في مصر. فزياد في مصر ليس الفنان الجماهيري واسع الانتشار، لكنه، في الوقت ذاته، الأسطورة التي نمت في دوائر شباب الفنان، والتي تعاظمت الحكايات حولها. أسطورة منزوعة من سياقها التاريخى والسياسي والجغرافي. لا يعلم جمهور زياد المصري بالكثير من التفاصيل عن طبيعة المشهد الطائفي والسياسي اللبناني، وموقف زياد منه. وبالتالى، حينما يبدى بعض الأصدقاء اللبنانيين ضيقهم من زياد بسبب مواقفه السياسية في الداخل اللبناني، لا يشعر المصريون بأنهم معنيون بذلك، وغالبيتهم لا تتوقف عند الإشارات والمضامين السياسية الخاصة بالحالة اللبنانية دائمة الظهور في ثنايا أعماله.
كانت أغاني زياد وأعماله تصل إلى مصر خالية من كل القصص المرتبطة بتفاصيل الحالة الفنية. قلة، على سبيل المثال، يعرفون من هو “صبحى الجيز” الذى “تركنى على الأرض وراح”، لكن ذلك لم يحُل دون وقوعهم في الأثر الموسيقي للأغنية.
هكذا، عندما ظهر زياد مؤخراً وعلّق على ما يحدث في سوريا “والربيع العربي” عموماً، بنبرة مشكّك، كانت تعليقاته السلبية صادمة لجمهوره من الشباب المصري، خصوصاً أن ضمن هذا الجمهور من عَبَر من “25 يناير” وما تلاها، ولم يعد لديه ميل لتقديس أي أساطير. يمكن لهؤلاء أن يحبوا أعمال زياد وشخصيته المركبة، لكنهم لا يقبلون منه رأيه بأنهم مخدوعون أو ضحايا مؤامرات كونية كبرى تهندسها الإمبريالية العالمية. وحينما أعلن موعد حفلة زياد في 23 آذار في القاهرة، وهذه المرة في “دار الأوبرا”، كان طبيعياً أن تنطلق دعوات المقاطعة، بل وأن تنحو إلى دعوات لتخريب الحفلة. لكن الأرجح أن الأمر لن يتطور إلى أكثر من نقاشات وتعبيرات غاضبة من الشباب على الانترنت. لكن حتى الذاهبين إلى الحفلة، سيذهبون بدافع الحنين لمشاهدة انبعاث خجول لأسطورة قديمة، كأنه العرض الأخير لآخر الديناصورات من الزمن القديم.
وحتى بالنسبة إلى الأوفياء من جمهوره المصري، دخل زياد الثلاجة منذ زمن بعيد. ألبومه الأخير مع فيروز “ايه في أمل”، بدا استنساخاً أو عزفاً على الأوتار ذاتها، منذ أكثر من عشرين عاماً. جمهور زياد الوفي لا يتوقع من زياد جديداً، كما هو الحال مع عمرو دياب مثلاً. فلا مفاجأة يحملها زياد، وهذا في حد ذاته مفاجأة لجمهوره توازي حفلة لعمرو دياب. فإذا كانت لديك فرصة للاستماع إلى عزف زياد في مكان مناسب، فلا معنى للدعوة إلى تخريب الحفلة أو مقاطعتها، لأن هذا لن يوقف حمام الدم المستمر في سوريا، ولن يغير من مسيرة مؤامرة الإمبريالية العالمية على المنطقة كما يتصورها زياد.
المدن