مضادات حيوية للصمت/ خيري منصور
في حوار ربما كان الأطول والأهم مع أرنست همنغواي، الذي أجراه جورج بليمبتون يقول: «ما أن تصبح الكتابة رذيلتك الرئيسية ومتعتك الكبرى، حتى يعجز أي شيء عن إيقافك عنها إلا الموت».
واستوقفني إضافــــة إلى إصرار همنغواي على مواصلة الكتابة حتى الانتحار، استخدامه صـــــفة الرذيلة لهذه المهنة، وذلك ليس على سبيل الانتقاص منها، بل هو إجلال لها، لكن من خلال ما يمكن تسميته قطع المتواليات الرتيبة للعبارات المألوفة، تماما كما استخدم سارتر عبارة المومس الفاضلة عنوانا لأحد كتبه، أو ما يسميه الفرنسيون الخيانة المشروعة، وأحيانا النبيلة لوصف الترجمة الخلاقة، خصوصا إذا كانت من طراز ترجمة فتزجرالد لرباعيات الخيام، أو ترجمة جيراردي نرفال لأعمال جيته الذي ما أن قرأ الترجمة الفرنسية لقصائده حتى قال: إنها الأدق في التعبير عما أردت قوله.
الكتابة تتخطى ثنائية الفضيلة والرذيلة فهي فردوس وجحيم، ومسرات وأشجان، لأنها الحياة ذاتها وليس مجرد انعكاساتها أو أصدائها، لهذا عاش ماركيز كما يقول في مذكراته ليروي وليس العكس، فهناك من يروون ويكتبون ليعيشوا، لكنهم أخيرا يشعرون بالخديعة وقد يتساءلون مع أليوت، أين هي الحياة التي أضعناها في العيش، فالحياة ليست مرادفة للعيش، إنها الحرية مقابل الضرورة، لهذا تتفوق أخيرا في رهاناتها على الأبهى والأكمل.
وبالعودة إلى الحوار مع همنغـــواي يستشهد جورج بليمبتون بكتاب فيليب يونــغ عن همنغــواي، وهو الذي تقصى تحولات المؤلف من خلال شخوصه، ليجد أن هناك ما يشبه النمو العضوي داخل تجـــربة أصيلة، ويعترف همنـــغواي بأنه تجنب قــــدر الإمكان استخدام سيرته الذاتية في أول أعمـــاله، لأنه عندئذ سيعاني من بطالة، واستطاع كما يقول أن يحتفـــظ بقدر كبير من ذلك الاحتيـــاطي، وقد تبدو النصوص الأصيلة، كما لو أنها تعاني من التكرار، لكنــــه تكـــرار من طراز آخـــر، هو ما سماه البـــير كامو التكـــرارات الخلاقة، في وصفه لأعمال الشاعر ليرمنتوف، لهذا قال كامو في كتابه المبكر «وجها الحياة» إن لكل مبدع نبعا واحدا يغذيه على امتداد العمر، بعكس هؤلاء الأشبه بالقردة الذين يقفزون من شجرة إلى أخرى برشاقة وخفة لأنهم بلا أية حمولة ذاتية.
لكن هل كان منذ البدء قدر من تورطوا برذيلة الكتابة الاستمرار حتى الموت؟ أم أن هناك من انتحروا عقليا أو عادوا من منتصف الطريق لأن هذا الطريق الموحش، كما يصفه الشاعر أودن يندر فيه الماء والزاد والرفيق، وغالبا ما أتذكر في سياق كهذا قصيدة الشاعر أحمد حجازي في وداع النقاش الذي خذله جسده في أول الطريق ، يقول حجازي لماذا رجعنا جميعا وأوغلت أنت؟ فالنقّاش أوغل في الطريق الذي وصفه أودن بالموحش، بخلاف آخرين من جيله أو الأجيال الأخرى الذين يحتفظون باحتياطي خارج مغامرة الكتابة، وهو احتياطي يشبه سنام البعير، وقد يبدو المثقف بمعيار براغماتي وتبعا لمفاهيم الثقافة المشبعة بالذرائعية مهزوما، لكنه المهزوم الوحيد الذي يظفر بالغار، ولا غنائم يمكن أن يجتبيها المنتصرون الدونكيشوتيون منه، لأن المثقف يرى للتاريخ نصفا ثالثا هو التراجيديا المتخطية للربح والخسارة، خصوصا حين لا يخون الدور الذي أناطه به التاريخ ليكون شاهدا وشهيدا في آن.
إن مهنة العصيان على تعاليم الأسخريوطي والكلبيين في كل العصور هي الدفاع الباسل الوحيد للبشر أمام طغيان الموت وعبثية الوجود، ولولا ما ترك لنا الخالدون من أطلال ومخطوطات ومتاحـــف ومنظومة قيم ومفاهيم، لكنا الآن في مكان آخر، واصبح كوكبنا فريسة التوحش.
لقد أصبحت صفة المثقف في زمن البدائل والأشباه والاستنساخ أشبه باللحية، تصلح لأن تلصق على وجه كلوشار أو قديس أو فنان او مجنون، لا يأتمن موس الحلاق على عنقه، والقواسم المشتركة المخترعة والملفقة بين مثقف وآخر يحاول أن يشبهه، لا تتجاوز المشترك بين أي كائن وآخر، وهو أنهما يتنفسان، أو يجوعان أو يموتان في نهاية المطاف، والنقيض العضوي للمثقف ليس الأمي أو الجاهل، رغم الفارق بين هذين المفهومين، بل هو ذلك الذي يحاول أن يتقمّصه ويلعب دور الببغاء الطليقة من الأقفاص في ترديد الصدى، تماما كما أن نقيض الماء ليس الصحراء بل السراب الذي يشبه الماء ويخدع الشفاه الظامئة.
وإن كنت استخدم عبارة هزيمة المثقف فذلك انسجاما مع ما أسميته قطع المتواليات الداجنة والأليفة لعبارات مُتداولة، تماما كما استخدم همنغواي كلمة الرذيلة لوصف مهنة الفضائل كلها، وما أعنيه بهزيمة المثقف، هو تعففه وتعاليه عن استخدام أسلحة قذرة في حرب مقدسة، فهو توأم الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها، وأحيانا يخاف على فقره أن يُسرق، كما قال البياتي في قصيدته المهداة إلى ولده علي.
من عادوا من أول الطريق الموحش الذي وصفه أودن، هم الذين انتحروا عقليا وأبقوا على الجسد، أو الذين خاب رهانهم الغريزي لأنهم أرادوا مقايضة الحبر بماء الذهب، أو الذين بهرتهم القرائن المصاحبة لمهنة الكاتب، أما المفارقة فإن معظم هؤلاء الذين لم يتشبثوا برذيلة الكتابة حتى الموت أو الانتحار، غالبا ما تحولوا إلى ملاقط وقفازات للسلطة، وكأنهم يثأرون لأنفسهم من الذين ضبطوهم متلبسين بعارهم وعريهم.
٭ كاتب أردني
القدس العربي