مطالع سيرة روائية: صناعة الصور وهجاء النَّسب/ محمد أبي سمرا
مطالع سيرة روائية: صناعة الصور وهجاء النَّسب الروايات قد تولد هكذا فجأةً من طيف فكرة عابرة أو حركة عابرة
أظن أن رعباً قديماً وبدائياً من الكبار قد تملّكني في طفولتي الأولى في قرية جرديّة نائية. رعبٌ بدائيٌّ من أحجام أجسامهم الكبيرة، ومن قوتهم المعنوية والأخلاقية الغامضة التي يسيطرون بها على العالم والأشياء. وأظن أن مصدر تلك القوة كانت اللغة ومقدرتهم على الكلام. إزاء أحجامهم وقوتهم تلك، تراءى لي أنني ضعيف ومتناهي الصغر في عالمهم المكتمل قبلي ومن دوني، ولا أدري لماذا أتيتُ إلى ذلك العالم ومن أين، وماذا يمكنني أن أفعلَ فيه.
حين قالوا لي للمرة الأولى إن شخصاً منهم قد مات، تفاقم رعبي منهم ومن العالم، فاكتشفتُ الليلَ وأشباحَ الليل. ليست فكرة الموت الغامضة، بل القبور والظلام والأشباح كانت مصدر تهاويل الرعب المضاعف الذي ألمَّ بي، فعطّل قدرتي على النوم ليلاً، وأخرسني في النهار وضاعف غربتي وانقطاعي عن الكبار وعالمهم. في تلك العطالة النهارية الخرساء شطحتُ في الخيال، حتى صرت أراني خيالاً خالصاً، بل غير موجود في هذا العالم. ذلك الغياب عن الوجود أخذني في استغراق بصري أبكم في الأشياء الصامتة الجامدة، البلاعمر، ولا تحيا ولا تموت، وتتركني وشأني في خرسي. كان الدين، مثل اللغة والكلام، حاضراً بقوة في ذلك الرعب الليلي الذي كانت الشمس تتبدّده، من دون أن يتبدد خرسي وانقطاعي النهاريين. وحين أقول الدين أعني قَصصَه التي في المساء كانت ترويها أمي عن الموت والآخرة والأنبياء والملائكة والشياطين والجنة والنار.
ما أصفه أو أرويه الآن عن رعبي وخرسي الطفوليين، كان على ما أظنُ نواة روايتي الأولى (بولين وأطيافها) التي كتبتها في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، أو خيطاً من خيوط نسيجها الروائي. وقبل أيام قرأتُ مقالةً صحافيةً عن روايةٍ جديدةٍ للروائي الأميركي السبعيني ريتشارد فورد ففاجأني قوله إنه كتب روايته هذه (بينهما)عن والديه، مستغرباً أن يولد البشرُ من أمهات وآباء ويعيشون معهم أزمنة من دون أن يعلموا عنهم شيئاً، أو القليل من الأشياء. وهو قال إنه كتب روايته ليتعرف إلى والديه.
فكرته عن أن البشر يجهلون مَن يولدون منهم ويعيشون معهم، فتنتني وذكرتني بروايتي الأولى، وفتحت في وعيي نافذة جديدة للتفكير والتأمل: هل حقاً لا نعلم الشيء الكثير عن أهلنا؟ وإذا كنا لا نعرفهم، هل يسعنا لاحقاً التعرفَ إليهم، وكيف؟ أظن أن الرواية قادرة على الإجابة عن هذه الأسئلة بطرق وأساليب مختلفة ومتباينة، وقادرة على أن تعرّفنا على حياتنا الشخصية والخاصة كما لم نعشها ونعرفها، وعلى حيوات الآخرين كذلك.
فكرة ريتشارد فورد زودتني أيضاً بطيف فكرة جديدة عن الأب والأبوة وغيابهما في روايتي الأولى، أنا الذي قبل العاشرة من عمره لم يدرك أنه ولِدَ من أب، ولا يعي فكرة الأبوة أو يتحسس معناها.
أذكر الآن هذه الأمور لأقولَ إن الروايات قد تولد هكذا فجأةً من طيف فكرة عابرة أو حركة عابرة، تماماً كما قال الروائي ميلان كونديرا في مطلع روايته الباريسية الأولى باللغة الفرنسية التي ليست لغته الأم، إن تلك الرواية (وهي الخلود) ولدت من تلويحة يد امرأة لم أعد أنا أذكر أين شاهدها. لكن عليّ أن أقول أيضاً إن ما يولد فجأة من أطياف الأفكار والحركات والأشياء العابرة، ليس سوى فاتحة أو جملة لا نعلم أبداً إلى أين تقودنا لدى مباشرتنا الكتابة بعسر شديد.
*****
من تلك الأفكار الطَّيفية المفاجئة أتذكر عبارة قلتها مرةً في ندوة عن الفن الروائي. كان المطلوب أن أحكي سريعاً وبكلماتٍ مقتضبة عما أكتب؟، فقلت فجأة: أكتب عن أشخاص ولدوا من نساء عديمات الأنوثة.
كنت قد نشرت روايتي الثانية آنذاك (الرجل السابق، 1995). وانتبهت إلى أن تلك الجملة تشير إلى خيط أو نواة من تلك الرواية وتكشف عنها: ذلك الخيط هو نفور الراوي، أي الشخصية الأساسية في الرواية، نفوراً قاسياً وممضّاً من أمه، أي من جسمها وحضورها وكلماتها ونبرة صوتها ولهجتها. وهو لم يتوقف عن هجاء هذا كله هجاءً مقذعاً وأليماً، بل لئيماً، كلما سنحت له الفرصة في أثناء سرده أخبار حياته، من دون أن يكتمَ رغبته السيزيفية في أن يولدَ من امرأةٍ سواها. امرأةٌ تناسبُ شغفه المستجد، المحموم والأليم وشبه المستحيل، بأن يكون في جبلته وهيأته ومسلكه وحركات جسمه، مثل أشخاص آخرين غير أهله، وغير أهل الحي البائس الذي ولِدَ وأهلُه فيه ويقيمونويعملون عمال نفايات في المدينة.
هذه الغيرية الوجودية التامة، هي وليدة مهانة الراوي من أصله وفصله في ذلك الحي، قدر ما هي وليدة متاهة من الصور الزاهية المترفة التي ألهبت مهانته ومخيلته المستجدة في المدينة الغريبة عنه غربة تامة، مثل صور نساء الإعلانات اللواتي راح يُسقِطُ عليهن رغباته الجامحة، راغباً في أن يكون ابناً لأنوثتهن الطاغية. وفي هذا السياق تحضرني عبارة قرأتها مرة في أحد القواميس: لا شيء أصلحَ لتحضير رجل شاب وتهذيبه من محادثة السيدات. لكن رغبة الراوي لم تكن تتجاوز الرغبة البصرية الخرساء، وليدة مكابدته بكمَه وفقدانه القدرة على العبارة والتعبير طوال مراهقته المديدة. وهي كانت تعادل شغفه الهذياني المراهق والمديد بالكلمات المكتوبة الخرساء.
ذاك الراوي فيه الكثير من سيرة شخص لبناني عرفته لسنتين في مدينة ليون الفرنسية التي مضى على إقامته فيها 17 سنة. ربما ليس ضرورياً القول إن في ذلك الشخص شيئاً ما مني. فالروايات لا تكتب إلا إذا حلَّ كتّابها في شخصياتِها ورُواتِها وتلبّسوهم على هذا القدر أو ذاك. وإذا كنتُ قد عزفت عن تحميل راوي روايتي تلك عبءَ رعبي الطفلي البدائي القديم من الكبار والموت والدين، فلأن ذلك الرعب كان قد وجد تصريفه وانصرافه عني ليتحول في مراهقتي إلى شغف بالصور والكلمات المكتوبة الخرساء التي كانت، مع البكم، ما حملني لاحقاً على الكتابة تداوياً من بكمي إياه وانطوائي ورعبي الغامض والصامت من الآخرين. ولا أدري إن كان ذلك من أعراض التوحّد، أم أنه يشبه درجة ما من التوحّد. وكان ذلك الشغف نفسه هو ما دفع الراوي في روايتي الثانية إلى أقاصي نفوره من مهانة ولادته من أمه وأمومتها التي يلابسها الدين والتدين.
على الرغم من أن الراوي ذاك تتجسد مأساته الروائية في استحالة انقطاعه عن أصله وفصله بعد إقامته 17 سنة في فرنسا وزواجه امرأة فرنسية، أظن الآن أن رغبته في القطيعة وشغفه الهذياني بصور نساء المدينة، هما من السبل الممكنة التي تُخرج الإنسان المعاصر من النسب والأهل والجماعة، لتجعله شخصاً فرداً في المدينة، وتمكّنه من الرواية ومن قراءة الرواية والعيش في رواية، وتمنح مسار حياته روايةً ما. وذلك على غرار ما أخرج كلٌ من اللغة والدين إنسان الأزمنة البدائية من التوحش والرعب إلى التأنس والاجتماع والتحضّر، بحسب إميل دوركهايم مؤسّس الاجتماعيات الحديثة.
راوي “الرجل السابق” من أقاصي نفوره من مهانته الأليمة، ومن قوة رغبته في أن يكون ابن امرأة طاغية الأنوثة، ومن شغفه بالصور والكلمات المكتوبة، انهال في هجائه القاسي والعنيف للأصل والجذور والنسب والإرث والمنبت الاجتماعي، تلك التي صدر عنها مع أهله وسواهم من أمثالهم في حي بائس. وأظن أن هذه الجذرية في اجتثاث الجذور وصولاً إلى الولادة الطبيعية من الأم، هي وليدة خروجه وابتعاده الفيزيائيين من الحي وأهله أولاً، وصنيعة غربة وخرس جديدين عاشهما في فرنسا ثانياً. وهي ثالثاً ابنة شغفه بمثال ثقافي يستحيل عليه بلوغه، مثال فردانية وحداثة لا تبلفان، وهو جوابه على محنة أو وصمة ولادته من أمهوأصله ومنبته وجذوره التي لا شفاء له منها (الوصمة) أيضاً. وعن هذه الاستحالات الكثيرة تصدر قهقهاته في بعض اللحظات والمواقف. وأحيانا يتلبّسه نزوع إلى الانسلاخ الوجودي عن العالم، والعيش في ما يشبه “نرفانا” من العزلة أو الوحدة، للخلاص من تلك الاستحالات المؤلمة نفسها.
قد تكون حال الرجل السابق هذه كلها من حال امتناع الحداثة والفردية في مجتمعاتنا العربية، أو وليدة إجهاضهما المديد، وتحويلهما براقعَ وصوراً وأشكالاً خارجية خالصة وبرّاقة، وعبادتها عبادة صنمية أو وثنية، على مثال عبادة الراوي الأنوثةَ الطاغية في صور نساء الإعلانات.
وإذا كنا نحن لا نزال نعيش في مجتمعات ما قبل الانعتاق من الغيب والإرث والنسب والأهل، فإن الرواية وسواها من الفنون الحديثة وغير ذلك من الأشياء، قد وصل إلينا من هناك، وغالباً ما لا ندري ماذا نفعل به وكيف نتدبره. وكثيراً ما جعلناه ونجعله براقع وصوراً خاوية نسترُ بها عجزنا وانحطاطنا وعرينا وشقاق عالمنا الفوضوي الممزق. أما الهناك فهو تلك البلاد والمجتمعات والدول التي مضت قرون كثيرة على انعتاقها وخروجها من اعتبار الغيب والنسب والدم والإرث والأمجاد، مصدرَ الاجتماع ونظامه وعقله وأخلاقه.
أما هنا، فها نحن قد مضى ما يزيد عن قرن ونصف القرن على ما سميناه “نهضتنا الحديثة” من دون أن نكفّ عن إصرارنا على تجديد بنيان الغيب والإرث والنسب، بل على بعث ذلك البنيان بأشكال وألوان كثيرة، كلما أصابه صدعٌ ما، كبير أو صغير.
*****
في خيط من خيوط نسيجها تقصّت روايتي “سكان الصور” ما غيرّه في وعي مجموعة من الناس ابتعادهم من مساقطهم ومنابتهم ومواطن جماعاتهم الأهلية والقرابية الأولى، وإقامتهم متجاورين متخالطين في حيٍّ من أحياء ضاحية بيروت الستينيات والنصف الأول من سبعينات من القرن العشرين.
تبدأ الرواية بمشهد اكتمال تشييد بناية حديثة في طرف بستان غيّر اختفاؤه عادات قدامى ساكني بنايات وبيوت قديمة منفردة ومتباعدة وسط مساحات زراعية على طرفها اسطبل يأوي خيولَ سباق الخيل وسُيّاسها البعلبكيين. من مناطق ومنابت وانتماءات أهلية وطائفية لبنانية متباينة، توافد السكان الجدد للإقامة في البناية الحديثة التي يفوق عدد شققها الأربعين. وإلى دكان جديدة في طبقتها الأرضية، أُقيمت في ملجأ البناية مطبعة كبيرة استقطبت عشرات العمال من خارج ما جعلته البناية الجديدة حيّاً سكنياً متجدداً وصارت قطبه ومحوره، بعدما تقلصت المساحات الزراعية.
شخصيات سكان الصور الروائية يفوق عددُها الإحصاء، ويمكن القول إنها تؤلِّفُ شعبَ البناية الجديدة والحي المتجدد، أو أنها عيّنة جزئية من شعب ضواحي بيروت الستينيات.
شرع أولئك السكان المتكاثرون والمتجاورون في عملية متصاعدة من ما تسميه الاجتماعياتُ “المثاقفةَ”؛ أي صناعةُ الناسِ صوراً وتصورات ذهنيةً وتأليفها وتبادلها في ما بينهم. الصور والتصورات الذهنية هذه في “سكان الصور”، هي وليدة الإقامة الجديدة. أي ما تقيمه أو يفرضه التجاور السكني من تعارف وتبادل بين الجيران. والصور التي راح يؤلفها كل شخصٍ من سكان الحي عن نفسه وعن جيرانه، يستبطنها ويستقرئهاعلى نحو ذهني صامت مع نفسه، ويتبادلها متكلماً مع الآخرين، هي شكل من أشكال “المثاقفة” بين الناس.
يمكن أن نسمي هذا الشكل من “المثاقفة” تأليفُ أو توليفُ “هويات هجينة أومركبة”: تتداخل فيها عناصر من الهويات الأهلية السابقة على إقامة الساكنين في الحي الجديد، بعناصر أخرى مستجدة، هي وليدة التعارف والتبادل والاختلاط التي أتاحتها الإقامة الجديدة. هذه الهويات الهجينة المركبة هي التي تسمح لكلٍ من سكان الحي أن يَعرفَ من هم جيرانه وكيف يمكنُه التعاملَ معهم ومحادثتهم، وكيف يبدو هو نفسُهُ حيال الآخرين من الجيرانفي مراياهم.
الأرجح أن صناعة الصور والهويات الهجينة المركبة، استبطانها وتبادلها على هذا النحو، هي ركن علاقات التعارفوالسكن والتجاور والتخالط والعمل في مجتمعاتنا. فما أن يحلَّ موظف جديد في مؤسسة ما، أو ساكن جديد في بناية أو حي، حتى يروح الموظفون أو الساكنون الذين حلَّ بينهم يسائلون أنفسهم، وربما يتساءلون في ما بينهم، من يكون هذا الموظف الجديد أوالساكن الجديد، وما هو أصله وفصله؟ والموظف أو الساكن الجديد بدوره يروح يُسائل نفسه عن أصل الموظفين أو جيرانه وفصلهم؟
هذا كله كي ينسج كلٌ منهؤلاء في دخيلة نفسه وذهنه ومخيلته الاجتماعية ملامح صورة أوهوية لهذا وذاك من الموظفين أوالجيران. وبدون هذه التمارين الذهنية، بل الذهانية أو الهذيانية التي تشكل البنية التحتية المضمرة لاجتماعنا وعلاقاتنا و”تثاقفنا” المحلي، نفقد علامات الاستدلال على من نكون وأين نحن من العالم والناس والاجتماع، ومن هم الناس من حولنا وكيف يمكننا التعامل معهم. بل إننا نحسب أننا بدون هذه التمارين نسقط في الضياع والتيه وندبُّ في “الغموض العظيم”، على ما كتب الشاعر الراحل محمد العبدالله مرة في مديح الشيوعيين معتبراً أنهم راحوا “يدبّون في الغموض العظيم” عندما امتشقوا السلاح حلماً لتغيير مصيرهم ومصير لبنان. لكن ذلك الغموض المفترض أو المزعوم لم ينجلِ إلا عن الكارثة: حروب أهلية مديدة ومدمرة، لا نزال نعيش تبعاتها حتى الآن.
الباعث على تمارين صناعة الصور تبادلها بين الناس ليتعارفوا ويؤلفوا هوياتهم”الفردية” والتجمعية والاجتماعية في مجتمعاتنا، إنما هو خشيتهم من السقوط في التيه والضياع، في حال تخفهم من نسبهم وأهلهم وهوياتهم الأصلية في المدن وضواحيها التي حولتها حروبنا الأهلية معازل ومعاقل أهلية مغلقة ومتنابذة. – كثيرة جداً. اما المادة الذهنية الهذيانية لصناعة الصور والهويات، فكثيرة: الكلمات، اللهجات، ملامح الوجوه، الحركات، الثياب والأزياء، أنواع العمل والوظائف والمكانات، وصولاً إلى الهويات المناطقية والطائفية للأسماء والكنيات العائلية. وذلك لأننا بدون هذا كله نصيرُ أفراداً مغفلين أو مجهولين، ونفقد مقدرتنا على التخاطب والتعارف والتعرّف إلى أنفسنا، وعلى إدراج أنفسنا وهذا وذاك من الناس في موضع من بينان اجتماعي متماسك عماده الأهل والمنبت والنسب والدم والقرى والقرابة والهويات الأهلية الصلبة. ويوماً بعد يوم تمتلئ مخيلاتنا الاجتماعية بالصور والمشاعر والتهاويم والهذيان والغثيان والأهواء والأحكام والمواقف المتنافرة، على شاكلة عمران مدننا وأحيائنا وقرانا، وتجمعاتنا الأهلية المتنابذة، وشاكلة سياساتنا وزعاماتنا الأهلية وأحلافها القبلية وشِقاقها.
لكن شعب “سكان الصور” في الرواية والواقع سابق على التصدع الكبير الذي ألمَّ بلبنان وبالاجتماع اللبناني منذ عشيات الحروب الأهلية عام 1975. ويتراءى لي اليوم أن ذلك الاجتماع السابق على الحرب، كان في وجه أساسي من وجوهه اجتماعاً بلَدياً يقوم على تسويات عائلية وأهلية هشة وموقتة. ذلك عندما كانت تلك التسويات العائلية والبلدية قادرة بعدُ على تدبّر شؤون اجتماعنا وتناقضاته ونزاعاته وتصريفها على مثال قروي ومديني بلدي وأحيائي، سابق على التذرر الفوضوي الكبير والعشوائي في المدن والضواحي. وهو المثال الذي سرعان ما تصدع وانفجر، بعدما صار غير قادر على الاستمرار والتجدد. وقد يكون ذلك التصدع سبق بداية الحرب الأهلية عام 1975. وهي الحرب التي ذهبت بتصدّعِ الاجتماع اللبناني وتذرّرِه نحو الأقاصي في غمرة التدمير والتهجير والمقاتل التي غيرت مصير لبنان على النحو الذي نعرفه اليوم.
*****
أخيراً يتراءى لي أن ما حدث ويحدث في لبنان قصّرت الرواية وسوى الرواية عن الخوض فيه، إلا لماماً وعلى نحو جزئي. أما أسباب التقصير فشأن آخر يصعب الخوض فيه، وتصعب مقاربته، وأجدني أعجزُ عن تلمّسه إلا في حدوسٍ غائمة لم تعثر على لغتها حتى الآن.
المدن