مظفر النواب: ثمانينية هادئة للشاعر الصاخب/ أحمد عزّام
“يتهمني البعض بأنّي مبتذلٌ وبذيء، أعطِني موقفاً أكثر بذاءةً مما نحن فيه”. هذا ما قاله الشاعر العراقي مظفر النواب (1934) ردّاً على أولئك الذين يعتبرونه سكيراً عتيقاً يكاد لا يغادر حانته، فيثبت العكس بقوله: “إن لم تكُ شفّافاً رقيقاً كزجاجِ الكأس/ لا تدخل طقوس السكرِ والكينونة الكبرى”.
إذاً، ليس الإنسانُ جزيرة إلا لمن ينظر إليه من بعيد، وهذا الشاعرُ المُخضّبُ بتاريخ آلامِ هذه الأمة هو اختزالٍ هادئ يمكننا أن نستشفّ من خلاله انفعالات النصر والهزيمة، وصوت الفقراء وعشق الماضي ومورفولوجيا الألم.
وقد ندّعي أنه وصل إلى مرحلةِ النبوةِ في الشعرِ ضمن ملحمته الشعرية “وتريات ليلية”، وهو الذي قالَ فيها: “سيكون خراباً/ سيكون خراباً/ سيكون خراباً/ هذي الأمةُ لا بدَ لها أن تأخذ درساً في التخريب”.
لسنا هنا في صدد الحديث عن شعر مظفر النواب بقدر ما نود الحديث عن الشاعر نفسه. لكن كان لا بد من هذا المدخل لأنه من الصعبِ سلخ الشاعر عن شعره، خصوصاً عندما تكون حياته عبارة عن قصيدة يُحسِن نحتها وإطلاق العنان لشطحاتها .
في عام 2010، عندما كان مظفر النواب ما يزال مقيماً في حي الروضة الدمشقي، طلب مني أحد الأصدقاء أن أزوره يومياً لكي أقرأ له الجرائد وبعض الكتب. فبعد أن أصيب الشاعر بمرض الـ”باركنسون”، أصبحت الكلمات تتموّج أمام ناظريه، فلا يحسنُ اصطيادها. دخلتُ مرةً فوجدت باب المنزل مفتوحاً لأجلي.
وكانت الخادمة قد اعتادت أن تتركه مفتوحاً حين يكون الشاعر في انتظار ضيف؛ لأن المرض لا يعينه على النهوض. رأيته جالساً يتأمل في ما يشبه صمت الحمامةِ فوق بيضها، فعلمتُ أنني بكّرتُ في المجيء.
رفعَ لي بحاجبيه وكأنه لا يريدني أن أنبسّ ببنتِ شفّة، ثم مرّت نصفُ ساعة وهو يتأملُ صامتاً، وكانت الخلاصة كلمتين على الورق. ثم راح يشرح لي كيف أن هذا المرض، الذي يسبّب نقص هرمون الدوبامين في الدماغ، يؤثّر سلباً على الكتابة، وأنه بعد ساعةٍ من التأمل في جملة ما ومحاولة صنع صداقة معها وتركيبها في خياله، تخونه حين يريد أن يمليها على الورق بخطه الصغير جداً.
فالوقت المتاح بين رفعه للقلم بحركته البطيئة ولحظة الكتابة كفيلٌ بأن ينسيه ما هو الشكل الذي وصل إليه تحديداً. ثم ضحك وقال لي بلهجته العراقية: “أنا أقبل أي شيء بس لا تقلي في شيء ممكن يضل معك لآخر العمر.. هذا المرض عاشقني”.
وعلى الرغم من جلدِ هذا المرض للذاكرة، إلا أن ذاكرة الشاعر الشيخ الحديدية صمدت أمام المرض بما جعلنا آنذاك نخجل من ذاكرة الشباب التي لدينا. فبغضِّ النظر عن تركيزه الشديد وتصحيحه للأخطاء الإملائية التي كنت أقع بها أحياناً، كانت ذاكرته أشبه بالهوامش أسفل الصفحة، فلا تَمُر صفحة من دون أن يعلّق عليها بحادثة أو مثَل، أو التحدث عن تاريخها أو تاريخ الشخص الذي مرّ بها، ما يجعلنا على قناعة أننا أمام موسوعة حقيقية وشاهد تاريخي وموضوعي على المرحلة التي عاشها.
هذا الشاعر الجماهيري الذي نالَ المنسوب الأعلى من التصفيق، لم يطبع ديواناً واحداً ما عدا ديوانه الشعبي “الريل وحمد” الذي طُبِع من دون معرفته الشخصية. وهو يُرجع السبب في ذلك إلى كثرة تنقلاته أولاً، وأيضاً إلى الأحداث السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة وعدم تجرّؤ دور النشر في حينها على التعامل معه لما يحمله شعره من ذَم لكافة الحكام العرب.
كثيراً ما تصدر كتب من إعداد مؤلفين أو شعراء تحوي أعمال النواب. حين كنت أقرأها له، كان يسأل باستغراب: “بغض النظر عن الأخطاء الإملائية والنحوية، لكن هذوله حين يتسمعون للكاسيت ما يتسمعون صح؟” ناهيك عن إضافة بعض الموتورين لقصائد يَدَّعون أنها له مع أنها لا تمُت إلى أسلوبه الشعري بصلة، وفي أغلب الوقت تكون مكسورة الوزن. وحين نسأله لماذا لا يرفع قضية على هؤلاء الأشخاص، يقول: “أخاف يكون بعضهم أصدر الكتاب لأنه يحبني، ولكن من الحب ما قتل” .
وبحسب النُواب، إن إنتاجه الشعري أكثر بكثير من الذي تم إلقاؤه على المسارح وتسجيله في الكاسيتات، ونراه يتحدث بلهجة لا تبدو آسفة كثيراً عن ضياع عشرات القصائد الطويلة حينما غرقت الباخرة الليبية التي كانت تحمل مكتبته وأشعاره، خصوصاً أنه الشاعر الذي لا يحفظ شعره أبداً ويتعامل مع القصائد القديمة كالحبيبةِ القديمة، أي يتذكر حالاتها وينسى تفاصيلها.
وحدث أحياناً أن ألقيت على مسامعه مقطعاً من قصيدةٍ له فطُرب لها، وحين كنت أقول له: “هل تعلم لِمن هذه القصيدة؟” كان يلتقط الإشارة ويقول لي: “تشبه شعري”.
أي شيءٍ يثير النواب ويجعله في قلقٍ من أمره. يراقب الأحداث التي تجري في العالم العربي وكأنه العربي الأخير، وهو لا يحب المواعيد المتأخرة، ليس من باب الالتزام بقدرِ ما تأخذه الأفكار عن أسباب التأخر.
وحين يشتدُ عليه المرض نراه متمسكاً بصوته الداخلي كأنه يستمعُ إلى صوت دقاتِ قلبه وحركة الدمِ في الشرايين، وكثيراً ما يقيس ضغطه. وقد يمضي ليلةً كاملة لا يستطيع خلالها النوم، وأحياناً حين كنت أنام عنده، كان يناديني من دون أن يكون بحاجة إليّ، ثم ينظر إليّ بانتباهٍ قلِق وكأنه يريد أن يتأكد بأنه لا زال هنا .
لا يمكن فصل سمتَيّ الحزن والحب في شخصِ مُظفر النواب، فحزنه ناتجٌ عن حبه الذي يبدأ من ذاته الرقيقة ويتجاوزها ليشمل حباً كوني الطابع، وهذه سمةٌ متأصلة فيهِ، وقد تكون السبب الأول والرئيسي في إصابته بداء الـ”باركنسون”. أذكر حين كان يُطِل من شرفةِ منزله ويرى أباً يضرب ابنه، كيف كان يتوتر، ويقول لي بصوتٍ متحشرج: “حرام.. يظربو بقسوة.. قلو يوقف”، فكيف وهو يرى صور المجازر التي ترتكب يومياً بحق الأطفال وبحق مدنه المنهوبة التي استطاع اختزالها بأرقّ وأقسى المعاني في شعره الخصب.
مرضٌ أطول من الوقت. لذا، لطالما تمنى الشاعر أن يتعافى، فقط من أجل أن يجمع شعره ويصدره في طبعة جيدة، ومن أجل كتابة سيرته الذاتية لما تحويه من تفاصيل يتمنى أن يقولها لو أسعفه الوقت.
كان آخر ما قرأت له ومما لم يُقَل على المسارح أو يدوَّن في كتاب:
خاطبني من عدمٍ ليس يشفُّ
أنا سأشِفُّ لهُ
يراني فأراهُ
إن شفَّ المولى
شاهدَ مولاهُ.
العربي الجديد