صفحات الرأيعمر قدور

مظلمة شيعية وماضٍ يراد له أن يبقى حاضراً!

عمر قدور

كان من المفترض منطقياً أن يتوارى الجدل السياسي بين الشيعة والسنة، بعد أن أُشبع تدقيقاً وتمحيصاً، وأيضاً تأليفاً واصطناعاً، بخاصة أن الموضوع الأساسي الذي تفرعت عنه التباينات لم يعد مطروحاً منذ قرن على الأقل. ففكرة الخلافة، وما تنطوي عليه من هيمنة سياسية صارت في ذمة التاريخ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصراعات على السلطة التي لم تخلُ منها الإمبراطورية الإسلامية في أيام مجدها التليد. ومع الأخذ في الاعتبار أن الانقسامات السياسية الكبرى تحولت وتكرست تباينات دينية مع الوقت، فقد توقف اصطناع الفرق المذهبية، أو تباطأ كثيراً في العالم كله، بفعل متطلبات المواطنة والدولة الحديثة، والتي قضت في معظم الأحيان بوضع الوقائع في متحف صراعاتها القديمة، وصار التحلل من الماضي شرطاً جوهرياً للدخول في الحاضر، مع الاعتراف للجماعات بحرية الانتساب الثقافي إلى ما تنتقيه من جذور الماضي.

ذلك كله لم يُلغِ قابلية الانكفاء على الماضي، أو التقوقع حول سردياته، لدى بعض الجماعات، بل اعتبار هذا التمركز حول الذات علامة نهوض ودخولاً إلى المستقبل. ففي نهاية القرن التاسع عشر، وبينما كانت الجمهورية الفرنسية الثالثة تتطهر من عناصر الكراهية والشوفينية التي قد تتخلل أي مشروع قومي بنسب متفاوتة، عبر ما عُرف حينها بقضية دريفوس، كانت قبضة من اليهود تستثمر القضية ذاتها من أجل تعزيز الانفصال عن محيطها الأوروبي. لا شك في أن محاكمة الضابط اليهودي دريفوس كانت آنذاك جريمة كراهية تنمّ عن انبعاث اللاسامية بعد المساواة التي أقامتها الثورة الفرنسية. لكن الجدل الذي أثارته المحاكمة في الأوساط الفرنسية، وأدى إلى إعادة الاعتبار لدريفوس، كان يعبّر عن تحول جزء واسع من الفرنسيين لصالح الانفتاح على الآخر، على العكس من البروباغندا التي استغلت الحدث للإعداد للمؤتمر الصهيوني الأول، والبناء عليه من أجل اصطناع وطن قومي لم تكن مبرراته الأولى لتضعه سوى في مستوى الغيتو الكبير.

وبالاستناد إلى فكرة الغيتو الذي عُزل فيه اليهود وفُرض عليهم العيش فيه منذ القرون الوسطى، بدت الاستعدادات قائمة ومستمرة للنظر إلى قضية دريفوس من جانبها المعتم فقط، حتى أن الدعاية الصهيونية اللاحقة تجاهلت إلى حد كبير إعادة محاكمته وتبرئته. لكن المحرقة النازية، بهيوليتها وبشاعتها، ستوفر الفرصة الأثمن لهذا الوعي، وستسرّع تحويل المظلومية اليهودية المسالمة، والمستسلمة للعقاب الإلهي، إلى «يهودية جهادية». وسيكون من شأن الأخيرة أن تضرب مثالاً على المثابرة والنجاح في تحويل المظالم التاريخية إلى عوامل شدّ وتماسك داخلية، وعلى إبقاء شواهد الكراهية حيةً لابتزاز الآخرين بها إلى ما لا نهاية.

في هذا السياق ليست تهمةً فكرة اصطناع المظلمة الشيعية، ولا افتراء من قبل «الأغيار». فبعض الأقلام الشيعية هي أول من بادر إلى تمحيصها وإثبات أحقية الشيعة بأن تكون لهم مظلمة. والعقدة الأساس في المظلمة المتخيلة هي معركة كربلاء و»السبي» الذي تعرّض له أصحاب الحسين إثر خسارة المعركة، فضلاً عن الشعور العميق بالذنب بسبب التخلي عن نصرة آل البيت، والذي يتم تجديده موسمياً في أيام عاشوراء.

وذلك كان ليبقى طقساً دينياً تاريخياً، أسوة بصيام بعض السنّة أيام عاشوراء احتراماً لمكابدة آل البيت في تلك الأيام، لولا تحويل طقوس عاشوراء إلى التزام مستمر باسترجاع «الحق» المهدور.

في الواقع أفضت ثورة الملالي في إيران إلى تحويل الشيعية العقيدية إلى شيعية جهادية، لا بواسطة نمذجة الطقوس الشيعية وتوحيدها فحسب، وإنما عبر عسكرة «المظلومية» الشيعية وتحويلها إلى مشروع عابر للحدود. فالشيعية، وفق هذا التصور، أضحت قيمة تعلو على الانتماءات والولاءات الوطنية التي راحت تتشكل في القرن الماضي. لن ينفع مثلاً في تفنيد ذلك أن ديكتاتوراً كصدام حسين كان ديكتاتوراً في المقام الأول قبل أن يكون طائفياً، ولن ينفع أن مشروع إطاحته اعتمد على تحالف إقليمي عماده من يتم تصنيفهم كسنّة، مثلما لن تنفع العودة إلى وراء والإشارة إلى أن المقاومة التي لقيها مشروع توريث يزيد لم تقتصر على شيعة آل البيت، وإن لم يتذرع أصحابها الآخرون بدعوى الحق التاريخي.

خلال عقود تلت انتصار الملالي عمل التبشير الشيعي الإيراني، مدعوماً بتمويل ضخم، على هيمنة نموذجه الطقسي والعقائدي، وأخيراً السياسي، من خلال ترسيخ مرجعية ولاية الفقيه. لم يتوقف التبشير الشيعي عند «أسوار» الطائفة، فقد شهدت سورية على سبيل المثال محاولات حثيثة، أثمر بعضها، لتشييع أبناء طوائف أخرى كالطائفتين العلوية والإسماعيلية. كان من شأن استمرار هذا النجاح أن يلغي فعلاً التباينات المذهبية العديدة من أجل خلق استقطاب شيعي- سني ينخرط فيه الجميع بين «نواصب» و»روافض» ، وتُستعاد به، وإن رمزياً، موقعة كربلاء.

إن قوة الحق الأزلي تستعلي دائماً على المتغيرات التاريخية، ولا ترى، المظالم إن وجدت، في إطارها الظرفي، وهذا ما يدفع أصحابها دائماً إلى الترفع عن المشاركة لأن الحق يقتضي الغلبة، ويفضي غالباً إلى تنميط الآخر «العدو» لحساب شوفينية مستترة أو ظاهرة. التاريخ لا يبخل علينا بسرديات انبنت على فكرة المظلومية، ثم تقمصت صورة الآخر الراسخة في مخيالها لأن الحق يتغذى أيضاً من ذلك المخيال ويثأر منه عندما تحين الفرصة. على ذلك لن يكون جزّ الرؤوس والذبح بالسكاكين، كما تفعل الميليشيات الطائفية في سورية، إلا استعادة للماضي بأدواته ذاتها. وإذا كانت الميليشيات الطائفية الموالية بدأت بالمذابح، وصار مألوفاً مشهد حمل السيف جنباً إلى جنب مع الرشاش، فليس مستغرباً أن تنجح في جر أعدائها إلى تقمص المتخيل عنهم.

على رغم بشــاعة ما يلاقيه السوريون من قوات النظام وميليشياته وحلفائه إلا أنهم يتحاشون استخدام الكلمات الدالة على المَظلمات لوصف مأساتهم. على الضد من ذلك لا يتوقف أسياد إيران و «حزب الله» عن التذكير بكربلاء بوصفها المظلمة التي تبرر المذابح الآن، وهي مظلمة لم يكن ينقصها سوى أن تصبح الشام قدس أقداسهم.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى