صفحات الثقافة

معارضات ثرثارة ضد معارضات المغالبة


عناية جابر

الانتفاضات العربية الحالية ابتداء من تونس وصولا الى سوريا اليوم ومرورا بمصر واليمن تميزت بمشهدين ملفتين لاي مراقب. مشهد الانطلاق غير مشهد السلطة. اعني أن من قام بالثورة اختفى فجأة من الصورة ولم نعد نسمع عنه شيئا تقريبا. انتفض الشباب العربي وثار مستعملا وسائل الاتصال الحديثة والافكار العصرية الانسانية المحدثة ثم غاب تاركا المجال لفئات ملتحية تريد دستورا يمنح حق تزويج الطفلة ذات التسع سنوات. انتفض شباب العرب العصريون وملؤوا الساحات بشعارات ووعود حول دولة القانون وتداول السلطة واحترام المواطن المتساوي بالقانون مع اخيه المواطن ثم تركوا الساحات لديمقراطية اوصلت احزابا تتحين الفرصة وتتحايل لكي تطبق ‘دستورها’ وشريعتها غير الموحدة بين المواطنين فماذا حصل حتى غاب الشباب وجاء الملتحون الذين وللمناسبة لم يشاركوا كما قيل في الانتفاضة الا بعد أن تأكدوا من انتصارها ؟

اين توكل كرمان ووائل غنيم وعلمانيو تونس وليبيا ؟ لقد وعدونا باشياء كثيرة. اذكراللقاء التاريخي بين عظيمتين، توكل كرمان و هيلاري كلينتون، ‘ممثلةب الشباب الثائر في اليمن والعالم العربي وممثلة االعالم الحر’، وسمعنا يومها كلاما معسولا حول دولة القانون وتساوي المواطنين وحرية الشعوب. وعدتنا كرمان بالدولة الحديثة فيما ايدتها هيلاري بدون اي تحفظ، على العكس.انا أتذكر ايضا وعود وائل غنيم ودولته العتيدة. وكذلك هذا الحقوقي الذي اصبح اليوم رئيسا لبلاده في تونس من دون سلطة. كذلك اذكر هؤلاء الشباب الليبيين الذين اقادواب الثورة لكي يتم ابعادهم فور انتصارها.

بلاد شبابها يشكل ثلثي سكانها يبعدون عن الانتفاضات ما أن تنتصر لكي تحكمها الكهلة في الاعمار وفي العقل. علينا جميعا ان نجد سر هذه المجتمعات التي تنتج ثوارا يعدون بالمن والسلوى، متكلمين، ولا ينجحون، وثوارا كتومين لا يصرحون بما يريدون لكن يستلمون دفة السلطة ويقودون البلاد الثورية الجديدة.

في سوريا حيث لم تنتصر الثورة نسمع الكثير من الشباب والمثقفين يتحدثون عن االدولة غداب وعن شكلها واحترامها للمواطن الفرد المتحرر من الاستبداد والقرابة الطائفية والذل السلطوي وعن انفتاح المجتمع على االسياسةب بعد أن سدته قوى التخلف والدكتاتورية. يتحدثون عن دولة، دولتهم، ستحترم حقوق الجميع من النساء الى الاكراد والاقليات الدينية والعرقية. واقول في نفسي لقد سبق وسمعت شبابا ومثقفين عربا يتحدثون اللغة نفسها ويعدون ويعدون في بلاد عربية اخرى انتصرت ثوراتها لكنهم اختفوا كليا عن الشاشة اليوم ولم يعد احد يسألهم اين هي الوعود التي بذروها في كل تلفزيون وشاشة كمبيوتر وصلوا اليه.

مجتمعات تجري الانتفاضات فيها من قبل اناس لا يعلنون شيئا، ولا اي برنامج، بدون اي وعد تنموي سياسي أو اجتماعي، قوى غير معلنة تتقدم في العتمة والصمت فيما يضاء المسرح ويضج بصوت وصورة مثقفين لا يملكون سلطة ما يعدون به. وكعادة المثقف في كل حين يظن ان السلطة اللحقيقةب التي يملكها هو بالطبع. صاحب السلطة الاجتماعية القادرة لا يقول ما يستطيع وصاحب الصوت لا يتردد في الوعد بما لا يملك ولا يستطيع. حتى اذا وصلت ساعة الحقيقة استلم من يجب ان يستلم وغاب الواعد المثقف اصاحب الحقيقةب عن المسرح تاركا جمهوره االحبيبب المغفل الذي صدقه في حالة ضياع كلي. الم يقل احدهم يوما أن الوعود في السياسة لا تلزم الا من يصدقها.

المثقف الثرثار يظن انه يتحدث باسم الثورة التي لا اتعرفب ان تعبر عن ذاتها. وكأني بالمثقف يثرثر ليملأ الفراغ المقصود من صاحب الصمت. القوى الفعلية على الارض تعرف هي اسباب صمتها ولا تريد أن تعلن اهدافها مواجهة وصراحة فتترك المثقفين يملؤون الفراغ بشعاراتهم الانسانوية الصالحة لكل زمان ومكان. واحد يضج بالكلام والآخر يفعل ويتصل ويعقد التحالفات ويقدم التنازلات ويتعهد بالالتزامات ويتقدم. واحد ايمسكب الحقيقة وواحد ايظنهاب.

الثورات في التاريخ لا تعرف الثرثرة ولا الصدفة. فهي ان تكلمت قالت ما تريد واذا لم تفعل فلانها لا تريد قول ما تفعل.اما المثقف الذي لا يملك قوى اجتماعية فعلية على الارض إذ هو لا يملك غير بنات افكاره فيستطيع أن يعدك بكل ما يمكن ان تحلم به. ثوراته تأتي من بعيد من الافكار من المطلق والجوهر لا من الواقع. فاذا سألته عن القوى المتصارعة على ارض الواقع سخر منك ومن اسئلتك المادية التي لا تفهم اسرار الكون وحلم الشعوب في التحرر والانعتاق. الثورة عند المثقف الثرثار هي االمقدسب المطلق لا تناقش ولا تخضع لمعايير التاريخ والجغرافيا. هي هي الحرية مجسدة بـبالجماهيرب بـبالشعبب كفكرة لا كإجتماع وكقوى تتصارع في قلب هذا الشعب.

فإذا نشبت حرب اهلية بين قوى الشعب لا يكترث المثقف الثرثار لهذه التفاصيل الثانوية. عندما نشبت الحرب الاهلية الاخيرة في لبنان عام 1975 بقي المثقفون يظنون انها ثورة الشعب من اجل الحرية وظلوا يساهمون في قيادتها وسن برامجها االوطنية الديمقراطيةب حتى جاءت كلمة السر وتداعى الجميع الى طاولة الحوار. عندها تم توجيه الشكر اليهم، شكر حار طبعا على خدماتهم الجلَى، استبعدوا وتم توجيه الدعوة الى قوى الطوائف الفاعلة لكي تحل الاشكال فيما بينها. وكان ذلك اول اختفاء للمثقفين الثرثارين عن الساحة التي كانوا ملؤوها صخبا وضجيجا. وكان ذلك اول اختفاء ثوري ثرثار سبق اختفاء توكل وغنيم شركاه.

اليس من الافضل للمعارضات ‘المتكلمة’ أن تتعلم تاريخها واجتماعها اولا وقبل الشروع في القيادة وتوجيه النخب ؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى