معرض “فنون سورية ـ بيروت” لدعم الأطفال اللاجئين/ تهامة الجندي
أن نبيع لوحة لنمحو عاراً
ربما تكون الثورة السورية، هي الوحيدة في العالم التي أشعل فتيلها الأطفال، وسجّلوا مشاركتهم في مختلف مراحلها… الثورة التي بدأت بمشاكسات صبية، تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخمسة عشر، خطّوا على جدران درعا نداء الحرية، وكان عقابهم أن اعتُقلوا وضُربوا واقتُلعت أظفارهم، فخرج أهلهم إلى الشارع مطالبين بقصاص الجاني، ليخطوا بذلك أولى علامات الفصل بين زمن الخوف والصمت، وزمن الرفض والاحتجاج. مذ ذاك التاريخ وحتى اليوم، قدّمت البلدة لوحدها سبعمائة وسبعين من أرواح فتّيتها، وسُلب الأطفال السوريون جميع حقوقهم بالحماية والرعاية، وباتوا يعيشون في مرمى الخطر، يُقتلون ويُسجنون، يفقدون أهلهم، بيوتهم ومدارسهم، يتشردون، يجوعون ويمرضون، حتى بات حالهم وصمة العار التي تدمغ جبين القرن الحادي والعشرين.
وإذا كان بعض الأطفال السوريين قد تظاهروا وطالبوا بالكرامة، رفعوا علم الاستقلال، ورسموه على وجوههم البريئة، وعلى جباههم كتبوا الحرية، منهم من ساعد بأعمال الإغاثة، ومنهم من تجرأ وحمل السلاح أيضا في المناطق الثائرة، فأصابهم ما أصاب الكبار من أشكال العقاب الفردي والجماعي، غير أن الأذى الذي لحق بهم، كان أكبر بكثير من إسهاماتهم المتواضعة، وتجاوز أعداد الطفولة الناشطة، ليطاول الجميع، فثمة ما لا يقل عن ثلاثة ملايين طفل، تأذوا بشكل مباشر، وذهبوا ضحية الاحتجاجات والمعارك الدائرة في سوريا منذ ثلاثة أعوام، بين النظام والمعارضة السلّمية والمسلّحة.
حسب آخر التقديرات، بلغ مجموع الشهداء، ممن هم دون سن السادسة عشرة، ثمانية آلاف ومئتين واثنين وسبعين طفلا، حتى تاريخ 21/10/2013، 69% منهم ذكورا (5691)، والبقية من الإناث (2581). منهم من أرداه القصف والرصاص أثناء تواجده في الشارع أو في المظاهرات، ومنهم من قُتل في بيته أثناء المداهمات الأمنية، أو تحت الأنقاض، بعضهم قضى نحّبه بالقنابل الفراغية، التي يستخدمها النظام السوري منذ العام 2012، حسب منظمة “هيومن رايتس ووتش”، ومنهم من اختنق بالكيماوي في مجزرة الغوطة الشرقية بريف دمشق في آب الماضي من هذا العام، والبعض قضى بالذبح، بعد أن اتهمته الجماعات السلفية بالكفر، وأقامت عليه الحدّ في المناطق المحرّرة.
يتعرض الأطفال السوريون أيضا للاعتقال والتعذيب والإحالة إلى المحاكم، شأنهم في ذلك شأن الراشدين، حيث قام مركز توثيق الانتهاكات في سوريا بتوثيق تسعمئة وتسع وتسعين حالة اعتقال لأطفال (ذكور)، وثلاث وثمانين حالة اعتقال إناث أطفال، وتم توثيق حالات إعدام أو موت تحت التعذيب لمعتقلين أطفال، داخل السجون ومراكز الاحتجاز السورية بحق ثمانية وتسعين طفلا وطفلتين، في مقدمتهم حمزة الخطيب وهاجر، مع العلم أن الحكومة السورية صادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب، وغيره من ضروب العقوبات القاسية أو المهينة عام 2004.
فقد الكثير من الأطفال السوريين مدارسهم، ومن حالفهم الحظ، ولا يزالون قادرين على متابعة دراستهم، فإنهم يعرّضون حياتهم لخطر القصف العشوائي بمجرد ذهابهم إلى المدرسة، ففي سوريا، دُمرت أو لحقت الأضرار بأكثر من ثلاثة آلاف مدرسة، كما أن ما يقارب التسعمئة مدرسة، تشغلها عائلات النازحين، الهاربين من أعمال العنف، حيث يقدر عددهم بأربعة ملايين نازح، الأمر الذي تسبب بحرمان أربعين بالمئة من التلاميذ حقهم المشروع في التعليم، وهي “نسبة مخيفة، بالنسبة إلى بلد، كان على عتبة الوصول إلى مرحلة التعليم الابتدائي للجميع، قبل اندلاع النزاع” على حد تعبير المتحدثة باسم الـ”يونيسف” ماريكسي ميركادو.
والأرقام السابقة على فظاعتها، لا تصف إلا الجزء اليسير من مجمل المأساة الإنسانية، التي تثقل كاهل المدنيين، صغارهم وكبارهم، ففي المناطق المحاصرة تعطلت البنى التحتية، وانقطعت الخدمات الحكومية، ولا تصل إليها امدادات الإغاثة، وهناك يعاني جميع الأطفال الجوع اليومي وبرد الشتاء القارص، يفتقدون الكهرباء، ويشربون المياه الملوثة، يصابون بإعاقات جسدية ونفسية مستديمة، جراء القصف والقنص والرعب، وتنال منهم أمراض السلّ والشّلل والليشمانيا، وفي ظل هذه الظروف المتردّية على كافة المستويات، لا يبقى لهم سوى النزوح داخل الأراضي السورية، أو اللجوء إلى دول الجوار، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
أحصت المفوضية العليا للاجئين، مليوني لاجئ سوري، نصفهم دون سن الـ18 عاما، بينهم 740 الفا دون الـ11 عاما، وبينهم 3500 طفل لجأوا إلى الأردن ولبنان والعراق، من دون أن يرافقهم أحد من أفراد عائلاتهم، وسوف يظهر جيل جديد من الأطفال السوريين، ممن وُلدوا في المخيمات، وكل هؤلاء المليون، ومن ولدوا في المنافي، وسوف يولدون، من الذكور والإناث، ليسوا بأفضل ما يرام، نصفهم على أقل تقدير يعيشون ظروفا في غاية السوء، تعوزهم الإقامة الصحية والطبابة، محرومون من الدراسة، ويضطرون للعمل والتسوّل لتأمين قوتهم اليومي، ومنهم من يتعرض للتحرش الجنسي، والإتجار به، ومنهنّ يتزوجّن وهنّ قاصرات. وحتى اليوم لم تتلقَ الـ”يونيسيف” سوى 51 مليون دولار، من اصل 161 مليونا طلبتها لتغطية احتياجات أطفال سوريا هذا العام.
في لبنان وحده، يُقدر عدد اللاجئين السوريين بنحو مليون و200 ألف لاجئ، 77% منهم أطفالا ونساء، 85% من الأطفال لا يرتادون المدرسة، وهؤلاء ليسوا بأفضل حال من أشقائهم في دول الجوار، بل قد يتفوقون عليهم بالفاقة والحرمان، وفي مبادرة جديرة بالاهتمام والاحترام، قامت السيدة نورا جنبلاط، بالشراكة مع عدة هيئات أهلية ودولية، بدعوة فنانين تشكيلين من مختلف دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، للتبرع بعمل فني، لوحة كان أم منحوتة، على أن تُجمع أعمالهم في معرض خيري، وتُباع ضمن مزاد علني، يذهب ريعه للتخفيف من هول الكارثة الإنسانية التي يكابدها ضحايا الحرب من الأطفال السوريين، ذلك على غرار معرض “سيري ارت:101 عمل من أجل سوريا” “SyriArt :101 oeuvres pour la Syrie” الذي استضافه معهد العالم العربي في باريس كانون الثاني/يناير 2013.
افتُتح معرض “سيري آرتس” (الفنون السوريّة- بيروت) مساء الثلاثين من تشرين الاول في مركز بيروت للمعارض، بتنظيم جمعية “كياني” ودعم شركة سوليدير، بالشراكة مع: وزارة الشؤون الاجتماعيّة اللبنانيّة، منظمة الامم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، المنظمة الدولية لإنقاذ الأطفال Save the Children””، معهد العالم العربي IMA، منظمة مكافحة الجوع “Action Against Hunger”، إضافة إلى عدد من الجمعيات الأهلية الصغيرة التي تنشط ميدانيا، لمساعدة اللاجئين السوريين على تأمين المأكل والمشرب واللباس والدواء والتعليم لهم.
يضم “سيري آرتس” مئة وسبعة وأربعين عملا فنيا، ما بين لوحة ومنحوتة وتصوير فوتوغرافي، تحمل تواقيع اثنتين وأربعين فنانة، وسبعة وثمانين فنانا، جلّهم من تشكيليي سوريا ولبنان، والبقية من: العراق، فلسطين، السعودية، مصر، المغرب، تونس، ايران وبعض الدول الأوروبية، ومن بين هؤلاء الفنانين من تبرّع بأكثر من عمل، كضياء العزاوي الذي تبرّع بثلاث لوحات، كذلك أمين الباشا. نبيل نحاس تبرّع بلوحتين وكذلك ميشيل شكور، وقدّم علي فرزات أربعة من رسومه الساخرة، كما قدّم نسيم الياس أربع لوحات.
وحسب النشرة الإعلامية، كان المزاد العلني على الأعمال المشاركة، قد أُطلق في العشرين من تشرين الأول/أكتوبر، على الموقع الإلكتروني “بادل 8” Paddle8.com/auctions/syriarts وهو موقع خاص بالمزادات العلنية في الولايات المتحدة، ويستمر طيلة فترة العرض، ويُتوج بمزاد علني حي، يُقام في ختام المعرض، يوم الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر، بإشراف مديرة قسم الفنون المعاصرة في معهد سوذبيز للفنون “Sothebys Institute of Art” كاثي باتيستا.
تُعرض الأعمال الفنية في المزاد، بأسعار أقل من سعرها الفعلي، وتُقدر القيمة التقريبية لمجموع الأعمال المشاركة، بما يقارب مليون وثلاثمائة الف دولار، قد ترتفع بنسبة عشرين إلى ثلاثين بالمئة، وعلى سبيل المثال، يترواح ثمن كل من منحوتة مصطفى علي (66×14×14سم)، ولوحة حمود شنتوت (200×120سم)، ما بين سبعة إلى تسعة آلاف دولار، بينما يصل ثمن لوحة لنبيل نحاس (120×99سم) إلى مئة وعشرين ألف دولار، وهو الأغلى من بين جميع المقتنيات الأخرى.
الفنانون المشاركون في المعرض، ينتمون إلى مختلف الأجيال الفنية، منهم المكرّسين، المعروفين على المستوى العربي والعالمي، أمثال: جبر علوان وضياء العزاوي من العراق، اللبناني نبيل نحاس، الفلسطينيتان سامية الحلبي ومنى حاطوم، السوري مروان قصاب باشي، ونجا مهداوي، وأغلبهم من جيل الشباب، كأيمن بعلبكي وفرح الأتاسي وناديا العياري ووليد رعد، والرابط الوحيد بين جميع الأعمال المشاركة، هو التعبير عن روح المعاصرة، واتجاهات الفن الحديث، ما عدا ذلك يبدو التباين والاختلاف هو السائد، إن كان على مستوى الموضوعات، وخامات التنفيذ، أو كان على مستوى التيارات الفنية وأساليب التعبير.
المشاركة اللبنانية الكثيفة، كانت الأكثر تنوعا على كافة المستويات، مع أن الطابع المحلي وسم عددا كبيرا من الأعمال، فعلى سبيل المثال صوّر نبيل نحاس أرز لبنان، وقدّم إدغار مازجي “جوقة العازفين”، واحّتفت لوحة ريم الجندي بعائلة كردية في عيد النيروز، ورسم سعيد بعلبكي الحياة الوردية محمولة على حقائب المهاجرين، وتبرّع جميل ملاعب بصورة “لبنان قبل الباطون” وانشغلت لوحة أيمن بعلبكي بكوفية تنتمي لكل المناطق، بألوانها الحمراء والبيضاء والسوداء.
على العكس من ذلك، حاكت أغلب الأعمال السورية، واقع الثورة دونما مواربة، طغت عليها مشاهد القمع والموت والدمار، وغطتها ألوان الدماء النازفة. يوسف عبدلكي الذي خرج لتوه من المعتقل، قدّم بورتريه “الشهيد” عينان جاحظتان، وعنق مقطوع، ومن الأعلى مقطع من الشعر العامي: “يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي، الأجواد اخذتي والأنذال خليتي”. وتغنّت حروف منير الشعراني الكوفية بالكرامة، ورقصت كائنات سعد يكن المشوّهة رقصتها الهمجية، وكانت شخوص فادي يازجي غارقة بالألم، وجسّدت ريشة علي فرزات “ذكرى مرور عام على الثورة السورية 2012” بشبيح يكمّم فم المواطن.
ولا يتسع المكان لذكر جميع الفنانين المشاركين، أو إنصاف أعمالهم، لكن مبادرتهم لحماية الطفولة المهدّدة والمحّرومة، سوف تظل موضع الشكر والتقدير، سيما إذا ما قُورنت بسلوك أولئك الذين يقطعون الإمدادات عن المدنيين المنكوبين، ويمنعون طواقم الإغاثة من الوصول إليهم في سوريا، تحت شتى الذرائع الواهية.
المستقبل