معركة الساحل في الصراع المفتوح/ يوسف فخر الدين
تعمّ المنطقة أجواء من التشاؤم بعد موجة التفاؤل التي رافــقت «الــربــيـع العربي» في بداياته. ومن بين البلدان التي خرجت تطالب بالتغيير، يبقى الوضع في سورية هو الأعقد، والأكثر دموية بما لا يقارن. فالسلطة الحاكمة هناك رفضت، وما زالت ترفض، الحلول السياسية. ودفعت بالعنف إلى أقصاه، وعملت بمنهجية لتجفيف المجتمع من حركته المدنية الناشئة عبر القتل والاعتقال والدفع باتجاه الهروب الى خارج البلد. ولم تتوانَ عن توجيه «أوراقها» الخارجية نحو الداخل؛ وهكذا صار حزب العمال الكردستاني، بنسخته السورية، مشكلة داخلية، وأصبحت الفصائل الفلسطينية التابعة لها ميليشيات مقاتلة على الأراضي السورية، من أبرز مهماتها حصار مخيم اليرموك. وبالطريقة نفسها، حاول حكام دمشق تحويل ورقة التطرف الإسلامي إلى مشكلة داخلية وخطر خارجي في آن، معتمدين على جشع السلطة، وعدوانيتها مع مخالفيها في الداخل، وعلى الخوف الغربي منها.
وإذا كان النجاح يقاس بالقدرة على البقاء، أمكن الحديث عن نجاح لهذه السياسة متناسب مع حجم المناطق التي ما زالت تحت سيطرة سلطة الأسد. إلا أنه بالتأكيد يحتاج الى أكثر من هذا لإثباته، فهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن قدرة بقايا النظام على الحكم؛ من الجيش الذي لم يعد معظمه موجوداً فعلياً، إلى المؤسسات التي انهارت، وصولاً، بعد سلسلة تطول، إلى حجم الخراب الهائل الذي يصعب إصلاحه، تحديداً من جانب حكـم محاصَر. وثبت أن الولايات المتــــحدة لا تهتم بمدى طول الصراع، وأنها قادرة على ضبطه ضمن الحدود السورية ليكون مستنقع خـــصومها. كل ذلك يدلّل إلى ضعف احتمـــال انتصـــار بشار الأسد، وإلى أنـــه سيبـــقى حتى نهايته على رأس دولة فاشلة تعاني عوامل التمزق والاحتراب الداخلي. حتى ما يمكن أن يعدّه في أحسن أحلامه انـــتصاراً، ما عاد يضمر الكثير من حدود البلد كله في كل الأحوال.
ولكن أصبح واضحاً أن الأوضاع على الأرض أعقد من التوقعات، وخرجت منذ زمن من دائرة «اللعبة المسيطَر عليها» من جانب الطرف الذي حوّل المناطق الثائرة إلى جحيم، إذ يصعب حكمها بواسطة مبادرات مجتمعها الذي تهاوى في بعض المناطق وعلى وشك أن يفعل في أخرى. وتحوّلت الأوضاع إلى حيث لا تضبطها إلا «الانتظارية الأميركية» التي يظهر أنها لا تنوي السماح بانتصار «المعارضات» في وضعها الحالي، وإن كانت لا تسمح بانتصار الأسد في الوقت ذاته. وهي التي أدارت «الأزمة» ووضعت الخطوط الحمر الداخلية التي كان منها منع امتداد الحرب إلى خارج الحدود السورية، وإلى مناطق الأقليات لتضمن دور حاميها المستقبلي، وتُبقي الباب مشرّعاً للطائفة العلوية للالتجاء إليها كمخرج من الورطة التي تتخبط فيها، ولتكون ضامنة مصالحها بعد سقوط صيغة الحكم الحالية.
لكن الحكم الأسدي استمر في سياسة قطع الطرق التي بدأها منذ ورث بشار السلطة عن والده المؤسّس. ظهر ذلك جلياً في تعاطيه مع المسار التفاوضي في «جنيف 2» الذي انهاه قبل أن يبدأ، وفي تفضيله سيطرة إيران على سورية، بما في ذلك سيطرتها على إرادته، على الفرص التي تتيحها له إدارة أوباما لضمان تحوّله إلى شريك في النظام الجديد… الأمر الذي كان لا بد سيصل في وقت من الأوقات إلى حيث سيقرر الطرف المسيطِر تحريك المعادلات على الأرض ليزيد عوامل الضغط على سلطة الأسد. وهو ما تُرجم عملياً من خلال إزاحة الخط الأحمر في الساحل، ما أطلق يد تركيا لترعى تقدم قوات معارضة على جبهة كبحت محاولات سابقة للتقدم باتجاهها، في تهديد مباشر لمناطق سكن قاعدة السلطة الطائفية، والتي لطالما بررت جرائم الحكم باعتبارها أفضل السبل لحمايتها.
يشي فتح جبهة الساحل بأن الادارة الأميركية صارت مقتنعة بأنه لم تعد هناك إمكانية لوقف الحرب في سورية، من دون أن يكون ذلك مطلباً للطائفة العلوية التي يعتمد الأسد على تأييدها للاستمرار في تصلّبه، وأن الوسائل الأخرى، في هذا الخصوص، لم تجدِ نفعاً. وعلى رغم أنه لا توجد ضمانات بأن يؤدي وصول الحرب إلى مناطقهم، إلى إقناع العلويين قريباً بضرورة الضغط للوصول إلى تسوية سلمية، طالما أن إيران تندفع كلما وجدت وهناً لديهم إلى توريط مزيد من أتباعها (شيعة العراق، و «حزب الله»، وغيرهم)، فإنه أصبح أكيداً أن هذا التورط بحد ذاته، بما هو استنفاد، لا يخرج عما يعتقد الأميركيون بأنه مصلحة لهم ومقدمة للوصول إلى النهايات التي يأملونها.
أغلب الظن أن الحرب في سورية ستستمر زمناً لا يمكن التكهّن به، ولم يعد في الإمكان التهرب من حقيقة أن الخروج من دائرتها لن يتم إلا حين يقتنع كل السوريين، وفي مقدمهم العلويون، بعبثيّتها، وبأن لا إمكانية للعودة إلى خلف. حينها ستتولد احتمالات جديدة، لن تكون في مجملها وردية، بل على الأغلب ستكون سلسلة من التحديات… وهو ما يتطلب خلاص الأطراف المتصارعة من وهم معادلة النصر والهزيمة. ولعلنا سنشهد حينها حرباً أخرى أقصر، وبخريطة تحالفات مختلفة، قبل أن يتاح إغلاق سيرة الحرب، والدخول في زمن التسويات.
الحياة