مع غيفارا.. رحلة على دراجة نارية/ حكيم عنكر
بدأت رحلة الشابين ألبرتو غراندو وإرنستو تشي غيفارا سنة 1952. كان مخططهما أن يقوما برحلة على متن الدراجة النارية “لا بوديروسا”. رحلة طويلة انطلقت من الأرجنتين، نحو تشيلي، لكنهما سيضطران إلى مواصلة الرحلة، بعد خراب الدراجة راجلين أو “أوتوستوب”، على متن الشاحنات، مستفيدين من تبرعات السكان وضيافتهم، في هذه القارة الواسعة.
ستمكنهما تلك الرحلة من التعرف على أحوال بلدان أميركا اللاتينية، والفقر والتخلف والاستعباد الذي كان يسم كل مفاصل الحياة في تلك الفترة، وسيلمسان توق الناس إلى الحرية وتطلعهم إلى أوضاع أفضل.
يشكل كتاب هذه الرحلة الذي أنجزه الطبيب ألبرتو غراندو، رفيق غيفارا إبان تلك الرحلة المصيرية والهامة، وثيقة تاريخية عن تللك الفترة. كما يشكل المادة الرئيسية التي بني عليها فيلم “مذكرات دراجة نارية”، الذي أنتج سنة 2003، وأخر جه والتر ساليس، ويحكي عن تفاصيل تلك الرحلة التي قام بها إرنستو، مع صديقه، وهو شاب، قبل التزامه الثوري.
يقدم لنا كتاب الرحلة هذا، صورة مفصلة عن غيفارا الشاب، المنطلق، الواعي، صاحب الطرفة، والصاخب، والمحب للحياة.
وهذه ليست هي الرحلة الأولى التي قام بها إرنستو، إذ سبقها رحلة كان قد بدأها طولها 4500 كلم شمال الأرجنتين على متن دراجة نارية، لكنه في سنة أكتوبر من سنة 1951 سيقرر هو وصديقه في كلية الطب في بوينس آيرس، الذهاب عميقا باتجاه بلدان أميركا الجنوبية في رحلة طويلة على متن دراجة غراندو (الجبارة العظيمة) وصولا إلى تشيلي.
لم يكن آنذاك قد أصبح ثوريا، لكن تلك الرحلة، التي سيدون ملاحظات بشأنها، في مذكراته، ستوقد الشرارة في ذهنه، وستصبح آراؤه أكثر راديكالية منذ 1954، وفي سنة 1955 سيتغير مصيره تماما، بعد لقائه فيديل كاسترو، لتبدأ حياة جديدة من حياة القائد والرمز والأسطورة.
بدأت الرحلة من بيونس آيرس سنة 1952، وسيصلان إلى تشيلي في 14 فبراير/شباط من السنة نفسها ثم يتوجها إلى بيرو في 24 مارس/آذار، ومنها إلى كولومبيا في 23 يونيو/حزيران، ثم فنزويلا في 14 يوليو/ تموز، وفي أغسطس/آب سيعود إرنستو إلى بوينس آيرس، بينما سيبقى غراندو.
يكتب أرنستو عن نضوج فكرة القيام برحلة مع غراندو “بلغنا طرقات حلم يقظتنا بلادا نائية، وأبحرنا في بحار مدارية وارتحلنا عبر كل آسيا، وفجأة برز السؤال منسابا كما لو كان جزءا من تخيلاتنا:
– لم لا نذهب إلى أميركا الشمالية؟
– أميركا الشمالية، لكن، كيف؟
– على متن الجبارة، يا رجل.
هكذا اتخذنا قرار الرحلة، ولم يحد قط عن المبدأ الرئيس المطروح آنذاك: الارتجال”.
ولا يختلف غراندو عن ذكر ظروف وملابسات تلك الرحلة في مقدمة كتابه “السفر مع تشي”، وهو واحد من أجمل كتب الرحلات وأعذبها، عما ذكره غيفارا في مذكراته. يقول “لعل من الصعب أن أحدد بالضبط متى طلعنا بفكرة الرحلة، ولعل الأدب كان اللاعب الأساس في جزء كبير منها. لقد نما الحافز للسفر واشتدّ إلحاحاً مع قراءة كتب لـ “سيرو آلجيريا” مثل “الأفعى الذهبية” و”الكلاب الجائعة” و”غريب وواسع هذا العالم”. تلك الكتب رحت ألتهمها بنهم.
كنت بحاجة لأن أرى العالم، بيد أن أول ما وددت مشاهدته كان أميركا اللاتينية – قارتنا التي طال عليها ألم المعاناة- ليس بعيون سائح جلّ ما يستهويه مناظرها الطبيعية وأسباب الراحة والمباهج الزائلة، وإنما بعيون وروح أحد أبناء شعبها؛ بعيون شخص يسعى لاستكشاف جمال هذه القارة وغناها ومن يعيش فوق أرضها من نسوة ورجال، كذلك معرفة أعدائها في الداخل و الخارج، ممن يبتغون استغلالنا وإفقارنا”.
مشروع جنوني
تطور علاقة غراندو وإرنستو، سيدفعهما إلى هذا المشروع الجنوني المشترك” منذ ذلك العام وما تلاه، أمسى آرنستو داعماً لي في كل أفكاري ومشروعاتي. وقد مّرعقد من الزمن قبل أن ترتدي الخطة حّلة الواقع. وكان كلما لمس تراخياً من جانبي، أو تراجعاً في عزيمتي، يتدخل بلازمته المعتادة: “وماذا عن الرحلة إذاً؟ “فأجيبه على الفور: “يمكن لأي شيء أن يتعطل إلاّ هذه”.
ومن مجرد الحديث، وسط أجواء العائلة، التي فهمت أن الأمر لا يتعلق إلا بمحاولة الشابين فهم الجغرافيا وولعهما بها، إلى المرور للتنفيذ “كبرت صداقتي مع آرنستو عاماً إثر عام، وزادت معها الحاجة للشروع بالرحلة، بل لعلّها غدت أكثر إلحاحاً.
أحداث ذاك العقد من الزمن تعبر أفق خيالي كأنها لمحات تنعكس لناظري في مشكال يبدل عدداً لا نهاية له من الصور الملونة: نضال الطلبة دفاعاً عن الحرية البورجوازية الديمقراطية تهدده ، في تلك الحقبة، النازية المحلية التي، رغم تنكرها في ثوب الوطنية، بدت مهيمنة على البلد. اضطهاد وسجن الأبطال الحقيقيين من الشعب الأرجنتيني، وكذلك الصراع بين الطلبة والمعلمين الرجعيين الذي استثارنا للعمل بشكل أفضل من أولئك المتزلفين الطامعين بامتياز ما.
لقد حدث خلال تلك السنين أن عرفت وآرنستو عن الاتحاد السوفييتي ومقاومته الجبارة لحشود النازية التي كانت تحاول إزالة أول بلد اشتراكي عن وجه البسيطة. لقد اتخذت كلّ من “ستالنغراد” و “لينينغراد ” و”بريست” و”موسكو” في أعيننا بعداً جديداً. وكان من المستحيل على من يدّعون الدفاع عن الحرية والديمقراطية أن يطمسوا بطولة الشعب السوفييتي.
لقد كشفت سنوات الحرب زيف الصحافة الرأسمالية، حيث تلاشت أكاذيبها عن “الرعب الأحمر” وعدم الارتياح الشعبي أمام وحدة الشعب والحكومة والحزب الشيوعي السوفييتي. حصلتُ عام 1945 على أول تعيين لي كممارس مبتدئ، وقد منحني ذلك أول فرصة للعمل في الأبحاث، الأمر الذي لم أتخل عنه رغم أن الحياة كانت، بين الحين والآخر، تفرض عليّ بعض الواجبات الأخرى. بعد ذلك بعام واحد بدأت عملي في مصحّة (بوينتيه) للجذام في قرطبة- أيّ عالم رحب فُتح أمامي. كان سوط الجذام يكره ضحاياه على النأي عن المجتمع، ولكنه كان في ذات الوقت يجعل منهم أكثر حساسية وعرفاناً. لا يمكن لأيٍّ ممن شاهد مصحة للجذام إلاّ أن تستميله تلك الصورة لمجتمع المنبوذين”.
في لوتارو بالشيلي.. غشت 1952
يكتب غراندو عن وصوله رفقة تشي غيفارا إلى الشيللي: انقطعنا في هذه البلدة التشيلية الصغيرة وأمسينا بوضع لا نحسد عليه. تعرضنا لعطل ميكانيكي خطير، أظهر مرة أخرى مدى ضيق فرص نجاحنا في الاستمرار مع الـ(بوديروسا 2) بصراحة، هذا أمر كان يجب أن نتوقعه. لقد اجتزنا كل هذا الطريق بحالة أقل ما يمكن وصفها بأنها محفوفة بالمخاطر. فقد تعطل شاحن البطارية في (باليستيروس) ولم نكن قد قطعنا سوى ستين ميلا عن نقطة انطلاقنا. كذلك المكابح الخلفية أصابها الإعياء، ومنذ ما بعد (باهيا بلانكا) ونحن نفرمل تقريبا باستخدام ناقل الحركة. أعني، لقد كان لنا أن نتمتع ونخوض مغامرة عبور أعلى سلسلة جبلية في العالم دون مكابح، فمنذ (دونين دي لوس آنديز) إلى هنا لم تعد المكابح الأمامية تعمل إلا بشق النفس هي الأخرى. بأية حال، سأستمر في سرد وقائع الأحداث منذ الخامس من شباط/ فبراير. بعد أن قمت بتغطية الدراجة، استمريت في تفريغ الماء من حوض الزورق إلى أن وصلنا (بيترو هيو)، حيث ارتدينا أفضل ما لدينا من ملابس في الزورق، لا بل إن (بيلاو) أخذ حماما. ومن ثم ذهبنا لمقابلة الفتاتين البرازيليتين. أخذت زميلتي ونزلنا إلى شاطئ البحيرة. وبعد الحديث عن الكيمياء الحيوية استمرينا، وبقبل متبادلة، في الحديث عن التشريح الوصفي. أتمنى لو لم أصل في الحديث إلى موضوع علم الأجنة.
في صباح السادس عشر تلقينا عرضا بأن نأخذ عربة نقل نصل بها إلى (أوسورنو). كان (آرنستو) ليقودها وأنا سأتبعه على الدراجة النارية. كانت الطريق إلى البلدة تسير بمحاذاة بحيرة (لانكيهيو)، على سفح بركان (أوسورنو).
وكانت الحمم البركانية الناجمة عن الانفجارات القديمة تغطي مساحات منها جاعلة السير فوقها بالغ الصعوبة. لأول ميل أو ميلين يبدو المنظر رائعا. وفي بعض الأماكن يضيق الدرب ويتخذ شكلا تفرضه عليه الأشجار على الجانبين.
وحالما تبتعد قليلا بعد البحيرة يصبح المنظر مختلفا تماما. هنا تظهر الأراضي التي تزرع لصالح السوق، والمزارع الصغيرة التي تزرع القمح وطبعا كل ذلك بأيدي المزارعين المستأجرين الذين يحرثونها ويبذرون الحب فيها، بينما يعيش المستغلون ذوو الأرباح الفاحشة كالطفيليات في (أوسورنو) و(سانتياغو). وصلنا إلى (أوسورنو) وبعد التجوال اللامثمر حول ثكنة شرطة الحدود، انتهى بنا الأمر في مشفى خاص تمتلكه شركة تأمين. استقبلنا المدير الذي كان مهذبا، ولطيفا جدا، إلا أن مظهره الخارجي كان طفوليا، وغريبا عن المنطق إلى حد أننا لم نقو على كبت ضحكاتنا.
حاول أن يقنعنا بأن أي بلد – ولا سيما تشيلي – بحاجة لأن يحكمها دكتاتور. كل جدلياته كانت مفككة وبعيدة الاحتمال، حيث إنه وللأمانة، من خلال تلوينه للعبارات بصيغ محلية، بدا وكأنه شخصية أفرزتها مسرحية هزلية ساخرة. ولعل السمة الوحيدة الجدية والأكثر خطورة في كل هذا هي أن الرغبة بوجود الدكتاتورية – والممثلة هنا بأنصار الجنرال (إيبانييز) – عميقة الجذور، وليست فقط في الأذهان كما في حالة صاحبنا. لقد وجدنا القناعة نفسها في كل شبر وصلنا إليه في (تشيلي) حتى الآن. فقط (إيبانييز) يمكنه إنقاذ البلد، رغم أن لا أحد لديه فكرة عن كيفية ذلك. الناس يؤمنون به وكأنه هبة من الله. ولم تمض سوى مدة قصيرة طبعا حتى رزح بلد آخر من جيراننا تحت نير نظام حكم يحكم بالعنف، يقوده رجل لا يمتلك حتى ذكاء.
العربي الجديد