مفاوضات أم تجاذبات تعصف بالملف السورى؟
سلام الكواكبي
منذ انطلاقة خطة كوفى أنان ذات البنود الهلامية الستة فى ابريل الماضى، يسجل عدد الضحايا فى سوريا ارتفاعا ملحوظا وتثبت الوقائع اليومية فشل تطبيق كل نقاط الخطة ووجود رغبة «إنانية» فى تمويه هذا الفشل بالبيانات حمّالة الأوجه والتى تساعد فى الحفاظ على صيغة وظيفية دولية مهمة للمعنى وفريقه.
لم تتم الإشارة من قبل المعنى المباشر بتنفيذ الخطة والمحيطين به، إلا خجلا، إلى العقبات الأساسية والواضحة للقاصى والدانى والتى اعترضت تنفيذ النقاط «الهادئة والمهادنة» الواردة فى الخطة بخصوص احترام وقف اطلاق النار والافراج عن المعتقلين والانفتاح على الإعلام الخارجى والعمل الإنسانى الدولى وسحب المعدات الحربية.
وقد أتى «اتفاق جنيف» الميمون فى الأسبوع الماضى، ليرسّخ صيغاّ أكثر هلامية وقبولا للاجتهاد من الخطة الأصلية لإرضاء الطرف الروسى تحديدا والذى عبّر رغم ذلك عن رفضه للتفسيرات الغربية لما جرى الاتفاق عليه فى جنيف.
●●●
القاء نظرة سريعة على النص الجديد يحمل على الابتسام رغم مرارة الموقف، فالسادة والسيدات فى جنيف، وفى اتفاق دولى على أعلى مستوى لحل الأزمة السورية، لم ينسوا أن يوردوا بندا واضحا وصريحا حول ضرورة أن «تحظى النساء بتمثيل كامل فى كل جوانب العملية الانتقالية»!! وكأن المجتمعين فى جنيف، الذين تداعوا للقاء بهدف محاولة إيقاف العنف والمذابح، يضعون تصورا تفصيليا لمراحل العملية الانتقالية التى هى فى طور التطبيق. ويُخال لقارئ هذا البيان بأن من صاغه يريد أن يضع فيه كل العبارات الملائمة للنصوص المتعارف عليها من القواعد الحقوقية «المثالية» البعيدة عن مركز المأساة وعن واقع المذابح اليومية. كان من الأجدر ربما أن يرد فى النص ما يشير إلى ضرورة أن تحظى جثث الشهداء بمعاملة إنسانية أو حتى بقبر، أو يتم تطبيق وقف مؤقت لإطلاق القذائف لتوفير ممر إنسانى للمقابر.
وبعيدا عن الكوميديا السوداء التى أصبح السوريون من أهم ضحاياها ومن أكثر مستخدميها أيضا فى إدارتهم الإبداعية للمرحلة، يبدو أن ما يسمى تسرعا بالمجتمع الدولى يقف فى حالة عجز وترقب وتمنى.
عجز عن معرفة ما يريده فعلا من التغيرات الحاصلة فى المنطقة، بحيث يطور صيغا تخويفية من بروز أو طغيان تيار لا «يستسيغه» بعد. وعجز أمام موقف روسى واضح النية وصريح التعبير، بحيث إن الروس يريدون أن يكونوا مفتاح الحل والإغلاق بعيدا عن كل التفسيرات المتسرعة التى تربطهم بمصالح ضيقة أو آنية. وعجز أمام تلبية الاحتياجات الإنسانية المتعاظمة بحيث لم يستطع كل هذا المجتمع الدولى بأن يساعد مراقبيه المصطافين فى سوريا على زيارة مواقع المجازر إلا عندما انقشع الظلام ودفنت الجثث وتغيرت الروايات وسمح السلطان.
أما الترقب، فهو الأساس فى الاتفاق الروسى الأمريكى الواقع فى جنيف. حيث فهم الروس بأن الأمركيين مجمدون فى سياستهم الخارجية بانتظار الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر القادم، وفهم الروس بأن الأمريكيين يولون الشأن الإسرائيلى المرتبط بالملف النووى الإيرانى حيّزا أكبر فى صياغة مواقفهم. وبالتالى، فالطفل المدلل يوجه سياستهم الخارجية ويدفعها للبحث مع الروس على حل الملف النووى الإيرانى بأولوية تتعالى بكثير على دماء الضحايا فى بقاع أخرى من العالم وخاصة إن كانت دماء سورية. ولتعزيز مرحلة الترقب والانتظار، ليس من المضر أن يطلب الأمريكيون من المعارضة السورية أن تتحد، وبالمقابل، يساهمون فى تعزيز انقسامها من خلال تقاسم الأدوار بين ممثليهم الدبلوماسيين بحيث يدعم هذا فريقا وذاك فريقا آخر ولتأتى النصيحة بالتوحيد. وعلى الرغم من أن التوحيد فى أى إطار سياسى، وخصوصا إن كان ساعيا للتعددية وللديمقراطية، هو ظاهرة شمولية ليست واردة فى تجارب المعارضات التى نجحت فى وضع تصور مشترك، ولكن يبدو بأن هذا الأمر أسعد أيضا الأوربيين فأضافوه إلى صيغهم الدبلوماسية بالتوازى مع افتقارهم لسياسة خارجية منسجمة ووجود تيارات متنوعة تشابه مثيلاتها الأمريكية فى تعزيز تشتيت المعارضة السورية.
وفيما يتعلق بالتمنى، فالجميع يتمنى أن يتم حلّ المسألة السورية بعيدا عن حديقته المرتّبة وزهوره الملوّنة. لا يريد أن يلوّث صفاء عطلته الأسبوعية برماد الحرائق أو صور الثكالى. يشارك فى لقاءات تضامنية صوتية أو تعبيرية ويعود ليستحم ويجلس لمشاهدة التلفاز أو مؤشرات البورصة أو رسائل الرضى من ناخبيه فى الداخل وفى الخارج. وكان التمنى، الذى أخّر اتخاذ المواقف، بأن يتم الحلّ عن طريق النظام نفسه بالقيام ببعض الإصلاحات التجميلية وإيقاف مسلسل العنف من طرف واحد قبل أن يتمدد بكل الاتجاهات. وكان التمنى أيضا، ولم يزل، بأن تحصل انشقاقات أساسية تسرّع فى زعزعة أركان المنظومة القائمة. وكان التمنى أيضا، ولم يزل، بأن يتفق السوريون على صيغة تفاوضية وسطية تزيل عن عاتق هذا الكائن الغريب المسمى بالمجتمع الدولى ثقل مسؤولية إنسانية وأخلاقية وسياسية.
ومن المؤكد بأن العجز والترقب والتمنى ليسوا خصائص غربية بامتياز، ففى الحالة السورية، يبدو أن هناك مشاركة فاعلة لجميع القوى الإقليمية والدولية. والعرب لاعبون أساسيون كما الأتراك فى هذا النطاق السياسوى المرن هلامى الأبعاد.
ليس بالضرورة إذا أن تتوحد المعارضة السورية لعدم حتمية هذا المسار ولعدم واقعيته فى ظل التاريخ السياسى الحديث لسوريا وتاريخ التشكيلات السياسية التقليدية والمستحدثة. وعليها السعى إلى تعزيز عملها السياسى باتجاه الشعب السورى فى الوطن وفى المهجر، وأن تبعد عن صفوفها متسلقى الفرصة أو عشاق الذات أو كارهيها. ومن الضرورى أن تتعرّف بجلاء إلى حقيقة الموقف الدولى بكل أبعاده. إن توجه المعارضة نحو موسكو، إن حصل، ليس دليل ضعف أو تراجع، ولكنه اعتراف بواقع دولى يجب التعامل معه بالحنكة السياسية اللازمة وليس بالغوغائية الخطابية. والحديث مع موسكو بعيدا عن الأقنية الغربية غير الواضحة والمتناقضة هو خطوة أولى فى تعزيز استقلالية المسار الدبلوماسى المأمول.
●●●
إن السند الأكبر لكل تشكيلات المعارضة السياسية والفكرية السورية هو الشعب السورى، والذى أثبت طوال سنة ونصف السنة من عمر ثورته، قدرة هائلة على الإبداع والتحمّل والتكاتف رغم كل ما جرى ويجرى العمل عليه من سياسات تفريقية ممنهجة بهدف تخريب النسيج المجتمعى الذى طالما افتخر به السوريون. ومسئولية التأطير، إن كانت نخبوية بالمعنى السياسى، فهى تكمن فى خلق الظروف الملائمة لتعزيز قواعد الحياة الجديدة للسوريين وبناء مسار انتقالى واعٍ على أسس علمية مدروسة يتفق عليها كل السوريون بطرائق مؤقتة مبتدعة تؤسس لليوم التالى. وهى ستؤول حتما، إن نجحت، إلى أن يلجأ السوريون، وبعد خمسة عقود من القحط السياسى فى الممارسة والتفكير، للاتفاق بالاستناد إلى صناديق اقتراع شفافة الغلاف وجليّة المحتوى ومضمونة التمثيل.
الشروق