مفهوم الثورة بات اليوم عربياً
عمر كوش
بدأ مفهوم «الثورة» يعود من جديد، إلى الساحة الثقافية العربية، بعد أن غاب عنها طويلاً، وخصوصاً بعد انهيار جدار برلين وانقشاع الوهم عن مرحلة بأكملها، وإعلان سقوط متصور معين من الايديولوجيا. ومع بدء مرحلة من الشعور بالخيبة، راح مفهوم الثورة يخبو شيئاً فشيئاً، ووصلت الأمور إلى حدّ باتت فيه كلمة الثورة غير محببة في النقاشات العامة وفي كتابات العديد من الكتاب والدارسين، بل صارت مرذولة لدى بعض المتشددين الذين يميلون بأفكارهم وأطروحاتهم نحو اليأس والسأم والتشكك بإمكانية حدوث أية تغييرات أو تحولات، وراحوا يعطون الأهمية للعامل الخارجي في تغيير الداخل في البلدان العربية.
غير أن مرحلة جديدة بدأت بالتشكل منذ قيام الحركة الاحتجاجية في تونس، وتحولها إلى ثورة أسقطت واحداً من أشد النظم الاستبدادية العربية، الذي جثم على صدور التوانسة ثلاثا وعشرين سنة. ثم أخذت تداعيات الحدث التونسي بالتفاعل سريعاً في أغلب البلدان العربية، وجاءت الثورة المصرية التي أسقطت النظام المصري الذي يمتد إلى عقود طويلة من الظلم والاستبداد والمهانة، لتعلن تدشين هذه المرحلة الجديدة، التي ترتفع فيها الكلمة الفصل للثورات والحركات الاحتجاجية الشعبية. وأخذت مفاهيم جديدة بالتشكل، ولعل مفهوم الثورة عاد من جديد ليكتسب بريقاً لامعاً وجديداً. وصار مفهوم «الثورة» عربياً بامتياز، ليس بالمعنى القومي الضيق، بل بالمعنى الإنساني الرحب والواسع، وراح العالم بأسره يتابع وقع أحداث الثورات والاحتجاجات في ليبيا واليمن والأردن والبحرين والمغرب وغيرها. وأصبح مفهوم «الثورات العربية» متداولاً، ليس في الكتابات العربية الجديدة، بل في كتابات العديد من الفلاسفة والمفكرين والكتاب في العالم، وخصوصاً في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية والبلدان الأخرى.
الثورات العربية
ويتلاقى في عبارة «الثورات العربية» مفهومان: مفهوم الثورة ومفهوم العرب، حيث تحمل الثورة معنى جديداً، تنهض أقلمته على حراك سلمي مدني، يهدف إلى تغيير النظام الاستبدادي، وتشارك فيها قطاعات واسعة من الشعب، وتتمحور أهدافها حول مقولة ثلاثية، تجمع بين الخبز والحرية والكرامة. أما مفهوم العرب فيحمل معنى جديداً ومركبات جديدة أيضاً، حيث العرب الثائرون اليوم غير عرب الجاهلية، ولا عرب الأسلاف، ولا عرب الخنوع والذل، وليسوا عرباً كارهين للآخر، بل أظهروا تلاحماً وتضامناً اجتماعياً لافتاً في الثورة التونسية والثورة المصرية وسواهما، وقدموا صورة مختلفة عن العرب، التي حاول الحكام العرب تسويقها، أو تلك التي حاول أصحاب المقاربات الأنثربولوجية والعنصرية ترويجها.
وينشأ من تلاقي مفهومي الثورة والعرب مفهوم جديد، يرتبط تعريفه بتعريف المفهومين اللذين يشكلانه، ليغدو بشكل أدق في صيغة ثورات الشعوب العربية، ومنها ثورة الشعب التونسي، وثورة الشعب المصري، وثورة الشعب الليبي، وثورة الشعب اليمني، وعلى الأغلب ستطول القائمة لتطاول الصيغة ثورات أخرى في باقي البلدان العربية. لكن الهام في الأمر هو أنه، للمرة الأولى، تأخذ الثورة صفة عربية، بعد أن كانت الثورة تحمل صفات عديدة، لم تقترب منها الصبغة العربية منذ عقود عديدة، بل منذ قرون عديدة، حيث لم تحدث ثورة عربية، قادها شعب عربي في تاريخنا الحديث. وكنا نقرأ ونسمع عن الثورات، الثورة الفرنسية، والثورة الأميركية، والإنكليزية، والروسية، وحتى الإيرانية، وعشنا وقع الثورات في بلدان أوروبا الشرقية، فيما غاب مفهوم الثورة طويلاً عن أقلمته وعن تحققه في التربة العربية.
وقد قُصفت وأتخمت عقولنا بثورات وهمية في هذا البلد العربي أو ذاك. هي ليست بثورات قط، بل حركات انقلابية قادها العسكر، من أمثال العقيد القذافي. وحاولت النظم التي حكمت بلداننا بالقوة والقمع، منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين المنصرم، تسويق حركاتها الانقلابية على أنها ثورات شعبية، وأجبرت الشعوب على أن تكون خانعة وخاضعة للسلطة الحاكمة وأن تكون ذليلة، فاقدة الحراك والكرامة، ولا تنعم سوى بنعم «الإنجازات» التي أنجزتها النظم التسلطية والقمعية، مع أن تلك الإنجازات ليست إنجازات هامة، علمية أو تقنية أو صناعية، كونها لم تتعدّ حدود تأمين بعض أساسيات الناس وضرورات عيشهم من إيصال الكهرباء والماء وبناء الطرق والمشافي والمدارس.
الخوف
وأمام خوف الشعوب وصمتها، نظراً لشدة سطوة وتسلط النظم الحاكمة وقمعها أي حراك اجتماعي أو سياسي يخالف توجهاتها أو يحتج على ممارساتها، أو يطالب بالحريات والعدالة الاجتماعية، فإن العديد من المفكرين والباحثين والدارسين، في البلدان الغربية والعربية، حاولوا تسويق أطروحات ونظريات تفسر حالات الخوف والانهيار والتردي وانسداد الأفق في البلدان العربية، واستسهلوا البناء على عوامل الثقافة والدين والعادات والتقاليد، بل بالغوا في إيلاء الدين الإسلامي دوراً شمولياً وتأثيراً كلياً على حياة الإنسان العربي، فراحوا يتحدثون عن خصوصية عربية، وعن «الاستثناء العربي» والاستعصاء العربي حيال الحداثة والديموقراطية وسواهما. ووصل الأمر بأوساط فكرية وثقافية غربية بإشاعة أفكار عن وجود خصائص معينة وثابتة تحكم المجتمعات العربية، ورددت ما قالته بعض الأوساط الفكرية والثقافية العربية، وأسالت حبراً مديداً حول وجود قوانين تغير وتطور خاصة بالإنسان العربي، يفترق بها عن سواه في بقاع أخرى من الأرض.
غير أن الثورات العربية ضربت عرض الحائط بجميع المقولات الثقافوية والماهوية والجوهرانية، التي نهضت على تلك الخصوصيات الدينية والثقافية، وأثبتت أن صورة العربي لا تتماهى مع صورة الكائن الديني، ولا مع جميع صورهم المتخيلة عن العرب، وفنّدت كل كلام عن الاستعصاء العربي حيال الديموقراطية والحرية وممانعة الحداثة، وعن الخنوع والذل، بل والرضا العربي بالاستبداد والمستبدين، والاستئناس بالظلم والظالمين.
وحملت الثورات العربية مركبات جديدة، وقدمت للعالم مثالاً جديداً للنضال الشعبي ضد الاستبداد والتسلط، وللخلاص والانعتاق والتوق إلى الديموقراطية والعيش الكريم، لذلك تفاجأ أصحاب المقاربات الثقافوية والماهوية واندهشوا مما حدث، وباتوا مستائين من سقوط معتقداته وأفكاره، بالرغم من عدم افتقارهم للمنهجية اللازمة، لكن النظرة الثقافوية والعنصرية كانت هي الغالبة، وكانت تحجب مفاعيل ومسببات الحراك العربي، الأمر الذي كشف عن مشكلة إيديولوجية، تحجب إمكانية معرفة القوى التي كانــت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفــاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير.
اليوم، بات بالإمكان تماماً الكتابة والحديث عن مفهــوم جديد للثورة، تشكل الشعوب العربيــة مركباته ومقامات تشييده في مختلف بلدانها، وتسطر معه فصلاً جديداً من حياة الإنسان في فضاء البلاد العربية وجغرافيتها البشرية.
(كاتب سوري)
السفير