مقالات تناولت أحداث دمشق
الثورة في دمشق
علي حماده
سوف يظل تاريخ الخامس عشر من تموز ٢٠١٢ مفصليا في الثورة السورية. فيومذاك انتفضت احياء دمشقية عدة ضد النظام وفتحت بشكل رسمي جبهة داخل العاصمة مع توالي الاشتباكات العنيفة بين “الجيش السوري الحر” وقوات النظام بكل انواع الاسلحة. في الخامس عشر من تموز ترسخت اقدام الثورة في العاصمة وظهر أن النظام صار اكثر فاكثر في موقف دفاعي حرج ومقلق الى حد دفع بوزير خارجية روسيا الاتحادية سيرغي لافروف الى اصدار موقف دراماتيكي قائلا ان بشار الاسد لن يترك السلطة بالقوة.
لقد وصلت الثورة بقوة الى دمشق ولن تخرج منها قبل ان يسقط القصر الجمهوري ويهرب بشار الاسد وبطانته او يواجه مصيرا صعبا.
لا نقول ذلك من باب استعجال الشيء قبل اوانه، بل بالعكس ما مر يوم منذ اندلاع الثورة إلا وازددنا يقينا بأن النظام لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية، وانه منذ آذار ٢٠١١ صار من الماضي، ولن تقوم له قيامة حتى لو انهالت عليه كل المساعدات العسكرية الممكنة وغير الممكنة من روسيا وايران. فمشكلة النظام في سوريا تتلخص في استحالة اعادة عشرين مليون سوري الى منازلهم من دون أن ينهوا مراسم دفن ” جمهورية حافظ الاسد” نهائيا. هذا ما لن يفهمه اركان النظام او هكذا يبدو. ومن هنا اقتناعنا بأن الحل في سوريا لن يكون سياسيا، ولا تفاوضيا عبر آليات حوار بل سيكون في ميدان المعركة.
هذا تحد كبير للموقف الروسي الذي يزداد حرجا كون موسكو قادرة على اغراق النظام في سوريا بالسلاح والعتاد من غير أن تتمكن من معالجة نقطة الضعف الكبرى التي يعاني منها النظام المذكور: الثورة الشعبية وتصميم الناس على دفع اغلى الاثمان لاسقاط آل الاسد من الحكم. وفي هذه الأثناء فإن سلاحا آخر يتدفق على الثوار أكانوا من “الجيش الحر” أم مجموعات مسلحة مستقلة بما يغير المعادلات على الارض حتى صرنا نرى مشاهد كالتي شاهدناها قبل يومين في دمشق. ومن علامات ضعف النظام انه ما عاد قادرا على حسم المعركة في اي منطقة من مناطق سوريا.
بالامس طال سهر بشار الاسد ولم ينم لا هو ولا بطانته. وسوف يتكرر هذا الامر في المقبل من الايام والليالي لأن الثورة وصلت الى دمشق. هي باقية فيها. وكل يوم ترد معلومات من الداخل السوري تفيد ان النظام يتفكك وإن ببطئ، لكنه بالتأكيد يتفكك مع ارتفاع وتيرة الانشقاقات في صفوف الجيش، وهروب العديد من كبار الموظفين الى قراهم، والاهم من ذلك بدء انفكاك حلقة التجار الكبار المحيطين ببشار وعائلته وقيام العديد منهم بفتح قنوات اتصال مع “الجيش الحر” ومباشرة البعض المساهمة في المجهود الحربي بالمال.
لا بوتين القيصر المفبرك، ولا لافروف وصراخه، ولا ايران وتقيتها الدموية يمكن ان ينقذوا نظاما انتهى انتهى انتهى. وقد اقتربت النهاية.
النهار
الثلاثاء
المعركة في قلب دمشق
الياس حرفوش
ها هي المعركة بين النظام والمعارضة السورية تبلغ أحياء العاصمة. وكلما تقدمت المواجهة، يتعزز معها الشرخ الطائفي العميق الذي بات يميز الثورة. نظام يُغرق نفسه ويُغرق معه الطائفة العلوية بادعائه الحرص على المحافظة على مصالحها وبتخويفها مما ستتعرض له بعد الثورة، فيما تأخذ المعارضة اكثر فأكثر اللون الذي تنتمي اليه اكثرية السوريين. وهكذا يضاف الى صورة حكم الاقلية المذهبية التي كانت للنظام منذ انقلاب حافظ الاسد على صلاح جديد عام 1970 صورة اخرى هي افتقاره الى الاكثرية الشعبية وبقاؤه على رأس الحكم رغماً عن ارادة معظم السوريين.
تصبح هذه الصورة اكثر وضوحاً مع اتساع الانشقاقات العسكرية والديبلوماسية عن النظام، وهي انشقاقات لعشائر وعائلات وشخصيات بارزة من الطائفة السنّية، دعمت النظام على مدى عقود. وتتضح الصورة اكثر مع هوية المدن المنتفضة على النظام، والتي راهن طويلاً على اغرائها بالمنافع الاقتصادية في مقابل قبولها بحالة الجمود السياسي وحرمانها من أي رأي له تأثير في ادارة البلد. ينطبق ذلك بشكل خاص على حلب ودرعا، مثلما ينطبق على عائلات حمص والرستن، التي ناصرت الرئيس الراحل وسكتت على مضض على وراثة ابنه له، وهي فعلت ذلك على أمل ان يتسع الافق السياسي للنظام مع رئيسه الجديد الشاب وان تتسع معه قاعدة الولاء المذهبي التي اختار ان يتحصن بها.
وبعد غالبية المدن السورية التي انتفضت على النظام وعانت من بطش آلته العسكرية وما خلفته من خسائر كبيرة في الارواح ودمار لا يعوض في الممتلكات وخسارة لجنى العمر لمعظم العائلات، يصل الدور الآن الى الاحياء السنّية في دمشق. ومن الدلالات التي لها مغزى كبير ان حي الميدان مثلاً، الذي كان من بين احياء العاصمة التي شهدت اعنف المعارك امس، لم ينتفض اهله ضد النظام الحاكم منذ انتفاضتهم ضد الاحتلال الفرنسي في العشرينات، والتي انتهت بتدمير بيوتهم كما يحصل لها الآن. هكذا بات اهل دمشق يقاتلون النظام «القومي» اليوم كما قاتلوا الاحتلال الاجنبي في الماضي، ويظهرون الاستعداد لدفع الكلفة العالية للتخلص منه مثلما فعلوا لكسب معركة الاستقلال.
في وجه التطورات المتسارعة والمتلاحقة في سورية يثير الاستهجان كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمره الصحافي امس عن «الدعم الشعبي الكبير» الذي لا يزال يتمتع به الرئيس السوري. من الصعب ان يكون وزير خارجية روسيا جاهلاً بحقيقة ما يجري على الارض وهو الذي باتت بلاده متورطة مباشرة في دعم الاسد. ومن الصعب ايضاً ان لا يكون لافروف على دراية بحقيقة المسرحية التي ابتدعها النظام السوري بتعيين «وزير دولة للمصالحة الوطنية» للتفاوض مع المعارضة، وهي المسرحية التي لم تنطلِ على كوفي انان نفسه خلال لقائه الاخير مع الرئيس السوري. غير ان الحقيقة ان موسكو، في محصلة الامر، لا تقدم أي خدمة بموقفها هذا لا لنفسها ولمصالحها، ولا للنظام السوري. على العكس، هي تدفعه الى التصلب في مواقفه، من خلال رفضها أي تحرك جدي ضده في مجلس الامن. ولن يؤدي ذلك سوى الى اتساع رقعة الحرب الاهلية ومعها ارتفاع معدلات القتل، وبالتالي الى التعجيل في السقوط الدموي للرموز الكبيرة في النظام، بعد ان فوتت على نفسها اي فرصة للتسوية او للمصالحة مع شعبها.
الحياة
الثلاثاء
دمشق في دوامة الألم والأمل
خالد غزال *
وسط المأساة الدائرة في سورية، لا بد من تسجيل علامات تدعو الى التفاؤل، أولها الإصرار العنيد على استمرار التظاهرات الشعبية، التي لم تتوقف يوماً رغم النيران المسلطة على المتظاهرين، ورغم إدراك المشاركين فيها أن مقرّهم قد يكون في نهاية اليوم إما القبر أو المستشفى أو السجن.
لم يسجل التاريخ الحديث في العالم كله مثيلاً لحجم البطولات التي يقدمها الشعب السوري منذ العام ونصف العام، في وقت راهن كثيرون في النظام والمجتمع الدوليين على تعبٍ سيصيب الشعب المنتفض نتيجةَ اليأس وعدم القدرة على اسقاط النظام. هذا الحراك في الشارع سيظل يشكل نقطة القوة الأساسية للانتفاضة السورية، والامل شبهَ الوحيد الذي تمكن المراهنة عليه لإسقاط النظام.
النقطة الإيجابية الثانية تتمثل في مقدرة الانتفاضة على الاتساع والسيطرة على اكثر من نصف مساحة سورية، وفق ما يرد في تقارير محلية وعربية ودولية. هذا الاتساع يساهم في انهاك قوى النظام الامنية، ويتسبب في عجزها عن السيطرة على الارض وقمع الانتفاضة، كما يساهم في تأمين ممرات للمساعدات، العسكرية منها والامنية.
وإلى جانب هذا الاتساع، لا بد من تسجيل أهمية الانشقاقات المتوالية في صفوف الجيش والانفكاك عن النظام. إن ما يظهر من هذا الانفكاك لا يشكل سوى نزر يسير مما هو حاصل فعلاً، ويتخذ شكل انكفاء من دون إعلان الانشقاق. ليس في الامر غرابة، فالنظام السوري مارس ويمارس القمع على كل مَن يشتبه في معارضته، وينسحب الامر على أسرة المعارض، بل ومجمل عائلته.
في المقابل، ليست قليلةً العثراتُ والتعسّرات في وجه الانتفاضة السورية، فبداية لا بد من تسجيل الخيبة من واقع المعارضة السورية في الخارج. صحيح ان هذه المعارضة قد جرى تكوينها «على عجل» مع بداية الانتفاضة، وأنه كان مهماً جداً انخراط كمية كبيرة من المعارضين في هيئات وتنظيمات، على الرغم من مشاربهم الفكرية والسياسية المختلفة، وخلافاتهم حول الاهداف المرحلية والنهائية للانتفاضة… لكن مرور هذه الفترة الزمنية كان يجب ان يؤدي الى «نضج» هذه المعارضة والتوافق على الاهداف الأساسية في إسقاط النظام، وذلك قبل ان تصل إلى السلطة وتستشري عندها صراعاتها. كان منظراً مزعجاً ما نُشر وعُرف عن مجريات النقاش في مؤتمر القاهرة واندلاع الصراع بين مكوناتها، وكأنها قد حققت انتصارها واستلمت السلطة، وهي تخوض معركة الإقصاء المتبادل بين اطرافها.
أما في المقلب الدولي، فلم يكن مفاجئاً اعلان الموفد الدولي كوفي انان فشل خطته في وقف العنف وإحلال السلام، ومنذ البداية كان معروفاً ان النظام السوري يتحدث بلغتين، لغة كاذبة عن استعداده لتسهيل مهمة المراقبين وإنجاح خطة انان، ولغة حقيقية، يمارسها عبر الإفادة من الزمن المعطى في المراوغة الدولية، لممارسة مزيد من القتل والتدمير، عسى ان ينجح في إنهاء الانتفاضة. لذا، كان مفاجئاً هذا التجديد في مهمة انان وتوسيع دائرة اتصالاته، مكرراً الاقاويل السابقة نفسها، فيما يستمر النظام في كلامه السابق اياه، قولاً وقتلاً. اما على صعيد المؤتمرات الدولية والصلات الديبلوماسية بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وروسيا من جهة ثانية، فإن الشكوك وسوء النية ضرورية تجاه الأطراف جميعاً. يبدو ان روسيا قد رفعت سعر النظام عالياً، وباتت تريد ثمناً باهظاً للدخول في صفقة على حساب حليفها السوري. اما بالنسبة للمعسكر الغربي، فلا يظهر ان الإستراتيجية التي اعتمدها منذ البداية، والقاضية بتشجيع الحرب الأهلية ومنع التدخل لإسقاط النظام في آن، وذلك بهدف إنهاء الموقع الذي تحتله سورية في الجغرافيا السياسية للمنطقة، الذي جعل منها لاعباً قوياً يحمل مخاطر تهديد للمصالح الإستراتيجية الغربية، لا يظهر ان هذه الإستراتيجية قد تبدّلت، بل ان سوء الظن يذهب الى القول إن المطلوب هو إنهاء سورية جيشاً وقوة اقليمية، وتفكيك نسيجها الاجتماعي، وإدخالها في حرب طائفية طاحنة… ما يعني ان جميع الحلول المطروحة ليست سوى «تقطيع وقت» من اجل الوصول الى سورية ضعيفة جداً، بما يسمح عندها بجلوس هذه القوى على طاولة تقدِّم للسوريين ما جرى تقديمه للبنانيين عام 1989، اي انجاز تسوية على غرار «اتفاق الطائف».
لا يبدو ان رحلة العذاب السورية سائرة قريباً الى نهايتها، بل يتوقع المزيد من العنف، مقابل المزيد من الصمود الشعبي. هذا الصمود هو الأمل، والنقطة المضيئة في النفق السوري العميق، الذي سيصل الى خاتمته السعيدة في نهاية المطاف.
* كاتب لبناني
الحياة
عندما اكتشف الفلسطيني السوري سوريّته
يوسف فخر الدين *
خلال أشهر الثورة السورية حاول النظام الاستمرار في سياسة «فرّق تسد»، من خلال محاولة تأليب السوريين بعضهم على بعض: الطائفة على الطائفة؛ المدينة على المدينة؛ الحي على الحي. واستخدم لهذه الغاية مؤسساته، الأمنية منها على وجه الخصوص، وشبكات مخبريه غير المسبوقة إلا في الأنظمة التي تشبهه في شموليتها. لكن النظام الشمولي كان يواجه عملية لم يعهدها، حيث جموع شعبية تنشقّ عن سيطرته وإيديولوجيته، وتنبذ مؤسساته صانعة بديلاً عنها آليات أهلية للإدارة الذاتية، حيث استطاعت. فأخذ الصراع بين النظام والشعب، على نحو متصاعد، شكل صراع بين سلطتين: واحدة تضعف، بمقدار ما أدرك الناس عناصر قوتهم، وزادت وطأة آلة القتل فعضّدت الافتراق النفسي بينهم وبين حكامهم؛ وأخرى هي سلطة المجتمع الثائر، التي يشتدّ عودها تحت الضربات. وفي أتون الحرب التي أعلنها النظام على المجتمع، انصهرت الأنا الجماعية للأخير، لتعود للتشكّل وطنية جديدة يبني الناس تفاصيلها في سياق مواجهتهم الامتحان المهول. وطنية تعددية، لا يعيبها أنها ليست كتلة صمّاء كما صوّر النظام الوطنيات. وهي لا تنحو باتجاه طمس الخلافات نتيجة توهّم أن إنكار وجودها يساوي عدم وجودها، أو تحت ضغط الاستكانة لاستحالة حلها، كما كان الحال عليه قبل الثورة.
يعيش المجتمع السوري عملية إعادة إنتاج على نطاق واسع، تحت ضربات لم يتوقع أحد أنه قادر على تحملها. ويتعرف في خضمّها الى نفسه ومشكلاته، ويعمل من دون تهيب على معالجتها عبر مؤسسات بسيطة يصنعها ناشطوه ومثقفوه، وعبر بناه الأهلية. ويوماً بعد يوم تزداد خبرة الناس، ويزداد تمييزهم للسلوكيات والأفكار المؤذية لوحدتهم وتحررهم فيتجنبونها، وتلك المفيدة فيعممونها. وهو ما يبرر قدرتهم على تجنب حرب طائفية –حتى الآن- دفعهم إليها حكامهم بكل السبل والوسائل. وفي هذه العملية يبرز دور المثقّف النقدي، الذي يمارس بدوره سلطة الكلمة، فيصوّب سهام النقد من دون تردّد على مواقع الخلل، وينبه لمخاطر الاستكانة لحتمية الانتصار على النظام والمشكلات التي يخلقها.
الوجود الفلسطيني في سورية من القضايا التي عالجتها هيئات الحراك الشعبي بحكمة، حيث تعاملت بحساسية عالية معه؛ فتجنبت الاحتكاك بالمخيمات، حتى ولو من باب ردّ الفعل على دفع أجهزة الأمن شبيحة من مخيم خان دنون في دمشق، ومخيم النيرب في حلب، لمواجهة المتظاهرين. وبدلاً من الانفعال قامت التنسيقيات، حيث ظهر التشنّج، باللقاء مع من تعرف فيهم الحكمة في المخيمات لتدارك الانزلاق إلى التصادم، وقلّما فشلت في مسعاها. ساعد في نجاح هذا التدبير التفاعل المبكر من الشبان الفلسطينيين في مخيم اليرموك مع الثورة السورية، من خلال التظاهر في المناطق المجاورة للمخيم، تحديداً الحجر الأسود والميدان وحي التضامن. وهو ما تلقى دفعاً كبيراً بعد أحداث مخيم اليرموك في 6/6/2011، حين أعطى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة، أحمد جبريل، الأمر لعناصره بإطلاق النار على المتظاهرين المستنكرين لما اعتبروه «المذبحة في الجولان» يوم النكسة، والتي كان قد شارك وتنظيمه، مع «حزب الله» وأجهزة أمن سورية، في إعدادها. حينها أدرك الشبان الفلسطينيون ما يُعدّ لهم وللشعب السوري، وأدركوا أنهم ليسوا مخيرين حتى يختاروا الحياد. وفي التجربة تعرّف الشباب الى بعضهم بعضاً، في بلد حرص الحكم فيه، عبر أدواته، على تفرقة الناس جاعلاً منهم مجتمعات متجاورة متفارقة. ومن خلال شبكة العلاقات الإبداعية (عملت لجان تنسيق محلية على احتضان لجان التنسيق الفلسطينية التي نشأت بمبادرات شبابية، وتفاعلت مجموعات الأحرار من الطرفين) ذابت الحدود، وزادت عناصر الوحدة، ليخرج الشعب السوري منتصراً أيضاً في تحدّ جديد.
وكان مخيم درعا الأمثولة لعلاقة تم تصويبها، حين تحول طوال أشهر الثورة إلى مستشفى ميداني قبل أن تتخذ السلطة القرار بقصفه على رؤوس سكانه. وكذا حال مخيم العائدين في حمص، الذي تظاهر للدفاع عن الجرحى السوريين في مستشفى بيسان، وأصر على أن من يدخل المخيم جريحاً آمن، إن كان من الثوار أو الأمن. وهو ما قبلته الأجهزة الأمنية على مضض، ويتوقع أن تتراجع عنه للانتقام من المخيم حين تتفرغ له.
لا يقلّل من نصاعة صورة التلاقي بين الفلسطيني السوري وسوريته نجاحات محدودة للأجهزة الأمنية، وعملائها الفلسطينيين، في تجنيد شبيحة فلسطينيين، كما لا يقلّل من نصاعة الثورة أن من يواجهها هم من السوريين. بالعكس من ذلك، فإن مراقبة حجم النجاح الضئيل لأدوات النظام يبعث على الاستغراب! كيف أن تنظيمات فلسطينية، كانت طوال عقود جزءاً لا يتجزّأ من النظام السوري، فشلت في امتحان تجييش مجتمعها لخدمته عندما خضعت لامتحان الثورة الشعبية عليه. هذا أيضاً مشترك سوري عام، فالشعب السوري بكلّ مكوناته استطاع التخلص من تأثير المنظمات التابعة للنظام.
من المعلومات التي نطّلع عليها عبر الناشطين في مخيم اليرموك، التي توردها تنسيقية اليرموك، وصفحة أحرار اليرموك، وشبكة التضامن مع الثورة السورية، مدعمة بالفيديوات، يظهر تزايد المشاركة الفلسطينية في الثورة السورية. ومن الواضح أن الناشطين لا يهتمون بالحديث عن الأخوّة الفلسطينية السورية، فهو محض إنشاء لغوي مكرّر، ما يهتمون بقوله عبر صفحاتهم هو حقيقة سوريّة الفلسطينيين في سورية، عبر تصدير الشعار الذي اعتادوا رفعه في تظاهراتهم منذ بداية الثورة «فلسطيني وسوري واحد». ومن الواضح لمتتبّع مجريات الثورة السورية، والمشاركة الفلسطينية المتنامية فيها، أن أربعة وستين عاماً من حياة الفلسطيني في سورية لا يمكن إلا أن تعيد صياغة وجدانه وتعريفه لنفسه. ومن الواضح أن مخاطر التوطين لا معنى لها في هذا الموضع بالتحديد، لأن سورية لم تكن يوماً للفلسطيني إلا وطناً، حتى قبل النكبة. وإن أدركنا هذا سنعرف أن إصرار السوري، كما الفلسطيني السوري، على حق العودة للأخير ما هو إلا تعبير سياسي عن تمسكهما بحقهما في أرض فلسطين، ورفضهما الاحتلال الصهيوني.
في كل يوم من أيام الثورة كان الشعب السوري يزداد وحدة في مواجهة عوامل التفكك التي يعمل النظام على توسيعها، ولا يستثنى من ذلك المكوّن الفلسطيني السوري. وإذا كان بقاء النظام على رغم ترهّله، واحتفاظه بعناصر قوة على رغم إنهاكه، ينذر بمزيد من المشكلات، فإن نجاحات الحراك الشعبي تبشّر بقدرته على التصدي لها بالسبل التي ابتدعها، وتدلّ على أن الخبرة التي يكتسبها ستتيح له إنتاج عوامل حصانة جديدة كلما احتاج لها. وهي الدينامية التي لا غنى عنها لضمان أن آثار الصراع الراهن لن تتحول إلى وقائع عنيدة تهدّد مستقبل الشعب السوري.
* كاتب فلسطيني
الحياة
الأربعاء
معركة دمشق الكبرى
جاسر الجاسر
قبل سقوط صدام حسين بساعات ظهر الصحاف مهدداً ومتوعداً الأمريكيين بهجمات مخيفة، بينما كانت قواتهم على مشارف بغداد.
في الصباح كان الجنود الأمريكان يتجولون في ساحات بغداد.
في ليبيا وقبل سقوط طرابلس بليلة واحدة نفى سيف الإسلام دخول الثوار إلى العاصمة، ودعا بضعة صحفيين إلى التجول تأكيداً لكلامه. في الصباح اختفى مع أبيه وظهر الثوار في باب العزيزية.
في حزيران 2006 دُكت مواقع حزب الله ودُمرت مراكزه ولم يبقَ منه سوى صوت حسن نصرالله عبر الشاشات التي لم يغادرها إلى اليوم.
لم يفكر أحد في الذين سقطوا بل تغنوا بالذي بقي محتجباً.
كل الأنظمة العربية التي تهاوت سقطت فجأة كأنها فقاعة صابون. إبراهيم موسى المتحدث باسم القذافي، ألقى آخر بياناته من غرفة نوم ومع ذلك كان صوته مليئاً بالثقة.
في الأنظمة العربية الدكتاتورية لا مؤشرات على الانهيار، بل تبقى إلى آخر لحظة بحماس تتحدث متوهمة أن الأمر سينقلب لصالحها في لحظات كما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا، وهو ما تنتظره سوريا وإن بجروح أعمق وأحزان لا تنقضي.
العلامة الفارقة في النهايات العربية هي أن الإعلام يفتح آفاقاً رحبة قبل السقوط الأخير؛ ينثر المشروعات والخطط المستقبلية الطويلة المدى، ويعيد تشكيل المؤسسات، ويشنق سارق خبز، وهذا ما يحدث في سوريا؛ اليوم تبث قنواتها المسلسلات بينما يقتل جنود النظام كل المشاهدين في الداخل، تنشر أخبار تعيين محافظين لمناطق لا مساكن فيها سوى القبور، تزعم أن دمشق آمنة بينما مدافع الأسد تطمس تاريخاً حافظ عليه حتى الأعداء.
التلفزيون في سوريا هو بوابة السقوط، فكلما انتفخ جعجعة وادعاء أصبح أقرب إلى الانفجار.
العرب فعلاً ظاهرة صوتية لكنهم حين يتحركون على الأرض يصبح الرصاص صوتهم.
*نقلا عن “الشرق” السعودية
الجمعة
إنتقال الثورة الى دمشق يؤشر إلى النهاية؟
سركيس نعوم
تلقيت في الأسابيع الماضية معلومتين من صديق أميركي يتابع أوضاع سوريا والمنطقة وسياسات بلاده حيالهما. الاثنتان متناقضتان، لكنه ربما حَرِص على اطلاعي عليهما اولاً ليلفتني إلى استمرار غموض ما ستفعله اميركا ازاء الأزمة السورية، وإلى تكاثر الشائعات عن اقتراحات اميركية غير نهائية ولكن مع التعامل معها على أنها ثابتة. وثانياً لكي يأخذ رأيي فيهما ربما. المعلومة الأولى اشارت الى اقتناع روسيا وايران الاسلامية بأن نظام بشار الأسد سيسقط في النهاية، والى انزعاجهما من ذلك. واشارت ايضا الى الى ان وزيرة الخارجية الاميركية حملت معها الى زعيم روسيا، في اثناء زيارتها الاخيرة لموسكو، عرضاً يتضمن استعداد ادارتها لقبول قيادة روسيا عملية جدية لإنهاء الأزمة في سوريا مع ما يعيده هذا الأمر الى روسيا من هيبة فقدت الكثير منها عند انهيار الاتحاد السوفياتي. ويتضمن العرض ايضاً طلباً واحداً، هو رفض اميركا استمرار بشار الأسد على رأس الدولة السورية، ولكن مع تطمين الطائفة العلوية التي ينتمي اليها، وذلك بتعيين أحد ابنائها نائباً لرئيس الجمهورية. أما رئيس الجمهورية فلا بد أن يكون من الغالبية الشعبية السورية السنّية المعارِضة. ولم تتضمن المعلومة نفسها اي شيء عن الجيش والأجهزة الأمنية وقوى الشرطة و”الشبّيحة” في سوريا، وتحديداً عن هوية الجهة، أو الجهات التي ستقودها. وهل تبقى قيادتها “القديمة” أو تُعيّن لها قيادة جديدة منسجمة مع الواقع السوري الجديد، أي واقع ما بعد بشار ونظامه وحزب البعث. وهذا أمر صعب جداً. ذلك أن الاعتماد على القديم او السابق قد لا يستقيم مع “المجازر” التي ارتُكبت والتي لا بد من مجابهة مرتكبيها.
اما المعلومة الثانية فكانت ان آب المقبل سيكون شهراً حاسماً على صعيد سوريا وأزمتها الدموية ونظامها وشعبها الثائر عليه. طبعاً لم يفصح لي الصديق الأميركي المشار اليه اعلاه عن اسم مصدر معلومته هذه، لكنه أكد ثم كرّر التأكيد أنه ذو صدقية عالية وواسع الاطلاع.
أي من المعلومتين أقرب الى الصحة؟ لا أمتلك جواباً واضحاً وحاسماً عن ذلك. لكنني أكثر ميلاً الى الأولى وخصوصاً بعدما لفت صحافي غربي معروف قبل مدة غير طويلة الى تفاهم توصلت اليه اميركا وروسيا يحل الأزمة السورية خلال سنتين، وتكون الانتخابات الرئاسية عام 2014 المرحلة الأخيرة من الحل. علماً اني لا أزال مقتنعاً بأن الصراع أو الحرب أو الأزمة أو الثورة في سوريا طويلة، ولن تنتهي الا بعد تفاقم الفوضى وانتشار سفك الدماء. وهذه أمور يمكن أن تنتقل الى لبنان وخصوصاً اذا شعر النظام “بحشرة” كبيرة، أو اذا احتاج الثوار الى اللبنانيين، أو اذا قرر حلفاء الأسد في لبنان النزول الى الساحة اللبنانية لمساعدته عبر ضرب أعدائه فيه، وفي الوقت نفسه لمساعدة انفسهم. علماً أن قراراً من هذا النوع لا بد ان تكون له خلفية ايرانية.
في اختصار ما هو تقويم الاميركيين اليوم للأوضاع في سوريا؟
يشير الصديق الأميركي المتابع نفسه في جوابه الى أن حوادث دمشق في الايام القليلة الماضية تدل على أن جهة قادرة ما أعطت الثوار السوريين نصائح استراتيجية منها نقل المعركة الى العاصمة. ويشير ايضاً الى ان عدد القوات المسلحة (أي الجيش) قد انخفض بنسبة النصف تقريباً. وتحديداً الوحدات المنتمية الى الغالبية (السنّية)، في حين بقي المنتمون الى الأقلية على نسبتهم وهي 40 في المئة من الجيش.
انطلاقاً من كل ذلك يلخّص المتابع اياه تأثير نقل الثورة الى دمشق بالآتي:
1- إجبار النظام على نقل القوات الثابت تأييدها له الى العاصمة، الأمر الذي يحرّر الارياف ومدن عدة، وربما يدفع الثوار الى إدارتها.
2- شلّ العاصمة دمشق ودفع الكثيرين من سكانها الى الانتقال اما الى لبنان (مسيحيين مثلاً) أو الى مناطق الثوار.
3- لن يستطيع الثوار السيطرة على دمشق، لكنهم يستطيعون انزال ضربات مهمة وقاسية بقوات النظام داخلها. وقد يؤدي تزايد الضحايا المنتمية الى عصبية الأسد الى نوع من النقمة عليه.
4- سيثير القصف المتكرر للعاصمة من قوات الأسد غضب الغالبية السنّية في البلاد، ولا بد أن يدفعها الى مطالبة اميركا وتركيا بالنزول على أرض سوريا لانقاذها.
5- ان عرض ايران استضافة حوار بين نظام الأسد ومعارضيه يشير الى اقتناعها بأن الرئيس الأسد في مشكلة.
6- يؤشر انتقال الثورة الى العاصمة السورية الى ان نهاية نظام الأسد صارت قريبة.
النهار