مقالات تناولت الأوضاع في اليمن
تفكّك اليمن ومزاج هذه الأزمنة/ حازم صاغية
اليمن يتفكّك أمام أعيننا»… هكذا تكلّم بان كي مون، وكان وجهه كالحاً جدّاً. وسريعاً ما وجدنا أنفسنا نعاود الانكباب على الخرائط: هنا الحوثيّون وهناك «القاعدة». هنا السنّة وهناك الشيعة. هنا الزيود وهناك الشوافع. إنّها الكلمات والمعاني ذات الحمولة الدلاليّة الكاملة. بها نعضّ على الواقع، ومعها لا نحتاج إلى إضافات كي نفهم.
ونندفع عقوداً إلى الوراء، تماماً كما يحدث لدى احتضار المسنّ من تذكّر لصباه وأيّام فتوّته.
فيوم قام الانقلاب الجمهوريّ في اليمن في 1962، لم يكن يخطر على بال أحد دين عبد الله السلاّل وطائفته، ولا دين خصومه الملكيّين الذين أطاحهم. وحين كان يُذكر تعبير «زيديّ» ويُربط بالإمامة المتوكّليّة، كان الظنّ أنّ هذه التسميات من قبيل عرض المعلومات الميّتة التي لا تفيد أحداً. إنّها أقرب إلى محفوظات يتبارى بها «المتفوّقون» في برامج تلفزيونيّة. أمّا «حاشد» و»بكيل» فليسا أكثر من عدّة فولكلوريّة ينتسب إليها مضغ القات أو حمل الجنّابيّة. واليمن طوى هذه الصفحات وهو على وشك إحالتها على المتحف بالمعنى الذي طوت فيه أميركا المعاصرة هنودها الحمر.
بدا لنا الصراع يومذاك بين «تقدّميّين» و»رجعيّين»، وفي موازاته كان جنوب اليمن يعيش حربه بين «وطنيّين تحرّريّين» و»استعمار بريطانيّ» يدعمه عدد من السلاطين. هؤلاء كانوا يتقدّمون إلى المسرح بصفتهم هذه، وكان ينبغي أن يمرّ زمن طويل قبل أن نكتشف أنّ الوجوه تلك ناقصة والمعاني مبتورة.
وعلى نحو مشابه استُدرجنا إلى تأويل الصراعات التي تلت في عدن، بعد استقلال الجنوب في 1967. فإذا تعاقب على تمثيل «البورجوازيّة» ثمّ «البورجوازيّة الصغيرة» كلّ من عبد الله الأصنج وقحطان وفيصل الشعبيّ وسالم ربيّع علي، لم يتعب عبد الفتّاح اسماعيل من تمثيل «البروليتاريا». أمّا أن يكون الأخير من أصول شماليّة فهذا أيضاً بدا أقرب إلى العلم الذي لا يفيد فيما الجهل به لا يضرّ. وبالطبع ظلّت كلمة «شافعيّ» إقحاماً للتفاهة في المعنى وإجلاساً لها في حضرته.
فقط في 1975 اللبنانيّة، عام الدخول الأوّل في الحروب الأهليّة الصريحة، بتنا نقول على استحياء: «مسلم»، «مسيحيّ»، قبل أن تتدحرج الكلمات إلى «سنّيّ» و»شيعيّ» و»مارونيّ شماليّ» و»مارونيّ جبليّ». فعندما أطلّت علينا وحدة 1990 بين اليمنين، كانت تجمّعت لدينا عدّة مفهوميّة أشدّ استعصاء على الخداع. وحين نشبت حرب 1994 بين الشطرين، تأكّد لنا أنّنا عشنا طويلاً على نوع من الجهل النبيل. في هذه الغضون كانت مياه كثيرة من هذا القبيل قد حفرت قنوات وضعضعت جسوراً في سوريّة والعراق ثمّ في ليبيا وسواها. وفي هذه الأثناء بقي المصريّون يلحّون على أنّ المشكلة القبطيّة تسمية مجّانيّة لا تسمّي شيئاً.
والآن، إذ يتفكّك اليمن وينهار عالمنا بكامله، يتّضح حجم التجهيل الشرّير الذي صدر عنه جهلنا النبيل. فالمكبوت الذي لم نره ولم نشأ أن نسمّيه، يعود عودته الصارخة، مضرّجاً بدماء اليمن ودماء سوريّة ودماء كثيرين هنا وهناك، في عدادهم الـ21 قبطيّاً في ليبيا الذين حصدت السكاكين أعناقهم.
إنّ «الكون طائفيّ» حقّاً، كما سبق للمثقّف السوريّ الراحل الياس مرقص أن كتب ذات مرّة، أو أنّه اليوم لا يتبدّى إلاّ على هذا النحو.
الحياة
خسائر «القاعدة» في سورية قد يعادلها فوز في اليمن/ لينا الخطيب
تقرّب سيطرة الحوثيين على صنعاء، اليمنَ من سيناريو الدولة الفاشلة. ويرى تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، وتحديداً ذراع «القاعدة» الرئيس في اليمن (أنصار الشريعة)، في هذا السيناريو فرصةً للانبعاث شبيهة بالفرصة التي شهدها في العام 2009، حين أُسِّس هذا التنظيم بعد الوهن الذي أصاب القيادة المركزية لـ «القاعدة». وقد يوازن هذا الانبعاث خسائر «القاعدة» المتوقعة في سورية في حال قرّرت «جبهة النصرة» التابعة حاليّاً لـ «القاعدة» الانفصال عن المنظمة الأم.
حتى وقت قريب، كان تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» يتكبّد خسائر في اليمن، فقد تعاونت الحكومة اليمنية بشكلٍ وثيق مع الولايات المتحدة لمحاربة «القاعدة» في عهد كلٍّ من الرئيسَين علي عبدالله صالح وعبد ربه منصور هادي. وركّز هذا التعاون على تبادل المعلومات الاستخباراتية، وعلى هجمات نفّذتها الطائرات الأميركية بلا طيار (الدرونز) على أعضاء تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» وقادته الموجودين على التراب اليمني. لكن خسارة تنظيم «القاعدة» هذه لم تكن مطلقة، إذ لم تكن هجمات الطائرات من دون طيار بالدقة التي صوّرتها الولايات المتحدة، بل أسفرت عن مقتل عدد من المدنيين، ولا سيما في جنوب اليمن، معقل «القاعدة». وقد أثار هذا الأمر استياءً كبيراً من الحكومة اليمنية ومن الولايات المتحدة في جنوب اليمن وفي سائر أرجاء البلاد.
في غضون ذلك، في شمال اليمن، رأى الحوثيون الذين يطالبون منذ مدّة بزيادة حصتهم في السلطة، تعرّض جماعتهم إلى المزيد من الإقصاء في أعقاب المبادرة التي أطلقها مجلس التعاون الخليجي، والتي أرغمت علي عبدالله صالح على تسليم الرئاسة إلى هادي. ومع أن الحوثيين شاركوا في الحوار الوطني الذي أُطلِق في اليمن نتيجةً لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، إلا أنهم رفضوا هذه المبادرة في نهاية المطاف، واعتبروها خطة للاستيلاء على اليمن. وأتاحت الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العديدة للحكومة اليمنية في ظل رئاسة هادي، الفرصة أمام الحوثيين لمحاولة توطيد نفوذهم في البلاد.
شكّل استياء الحوثيين المزمن من الحكومة والاستياء المتنامي في الجنوب نتيجةً هجمات الطائرات من دون طيار، إضافةً إلى فشل الحكومة اليمنية الجديدة في ظل رئاسة هادي في توحيد اليمن وفقاً لمسار سياسي وتنموي واضح، فرصةً للحراك اليمني الجنوبي للبدء بتصعيد مطلب انفصال الجنوب عن الشمال. ومارست الاضطرابات المدنية الواسعة في اليمن ضغوطاً كبيرة على الحكومة، التي لم تكن تمتلك إمكانات السلطة الكافية لاحتوائها.
استغل الحوثيون هذه الاضطرابات لزيادة نشاطهم حتى وصل إلى مستوى الانقلاب المسلّح الذي بدأ في أيلول (سبتمبر) 2014، والذي أدّى إلى استقالة هادي وحلّ البرلمان وسيطرة الحوثيين على صنعاء. أثارت هذه السيطرة غضب العديد من القبائل اليمنية التي بدأت بالتظاهر ضد الحوثيين، بينما بدأ الحراك الجنوبي يرى في سيطرة الحوثيين على الشمال فرصةً ذهبية للدفع نحو الاستقلال في الجنوب. وفي غياب سبيل واضح إلى الحلّ، على الرغم من دعوات الأمم المتحدة المتواصلة إلى إقامة حوار وطني جديد، يبدو اليمن متجّهاً نحو سيناريو الدولة الفاشلة. فقد بدأت البلدان الأجنبية بإقفال سفاراتها في صنعاء، فيما يبدو برنامج التعاون اليمني- الأميركي لمكافحة الإرهاب في حالة من الفوضى إثر سيطرة الحوثيين على الحكومة.
تراقب «القاعدة في جزيرة العرب» هذه التطورات بعين الاهتمام، إذ إنها تفيد من الفوضى، وترى في البلدان التي تتّسم بحوكمة ضعيفة فرصةً لفرض سيطرة التنظيم عليها. وهكذا، استندت «القاعدة في جزيرة العرب» إلى الاستياء في الأقاليم الجنوبية من حكومة صنعاء، وإلى غياب قدرة الحكومة على الردّ عقب استيلاء الحوثيين، فبدأت عملية تجديد نفسها في الجنوب. وقد أُفيد الأسبوع الماضي بأن «أنصار الشريعة» استولوا على معسكر للجيش في محافظة شبوة في الجنوب، وحصلوا على أسلحة ثقيلة أثناء الهجوم، كما أعلنت «القاعدة في جزيرة العرب» عن نيّتها إقامة إمارة إسلامية في اليمن.
هذه التطورات تحصل بموازاة خسارة محتملة لـ «القاعدة» في سورية، إذ يُشاع أن أبو محمد الجولاني، قائد «جبهة النصرة» التابعة لـ «القاعدة»، يتفاوض مع زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري لفصل «جبهة النصرة»، أو على الأقل بعض فصائلها، عن «القاعدة» المركزية. ويعود حافز «النصرة» للسعي وراء هذا السيناريو إلى المحافظة على النفس. فالتحالف الدولي الذي يهاجم تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية يستهدف أيضاً «جبهة النصرة» بهجماته الجوية، خصوصاً أنه لا يمكن أن يُنظَر إلى الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين في التحالف على أنهم يصطفون بشكل غير مباشر إلى جانب «القاعدة»، إذا عمدوا إلى حصر الهجمات بـ «الدولة الإسلامية» فقط. وتواجه «النصرة» أيضاً استياءً متزايداً في المناطق الخاضعة لسيطرتها في سورية، حيث تقود الاحتجاجات الشعبية ضدها مجموعات علمانية من المجتمع المدني، ترفض طغيان نظام بشار الأسد وتطرف «القاعدة» على السواء. لذا، فإن أفضل رهانٍ لـ «جبهة النصرة» هو أن تعلن استقلالها عن «القاعدة». ومع أن هذا الانفصال قد يكون تكتيكياً، إلا أنه لا يزال يعني أن أي خطط لإقامة إمارة لـ «القاعدة» في سورية ستتعثر.
بالتالي، ستحتاج «القاعدة» إلى طريقة للتعويض عن هذه النكسة إذا جرّ الحوثيون والحراك الجنوبي و «القاعدة» اليمن في اتجاهات مختلفة، فسيستخدم تنظيم «القاعدة» هذا التفكّك لتعزيز نفوذه وإعلان «إمارة إسلامية» في جنوب اليمن، ولا سيما أن مثل هذا الإعلان من شأنه أن يساعده في التنافس مع خصمه الرئيس، «الدولة الإسلامية»، الذي سبق أن أعلن قيام «خلافة» في سورية والعراق. ومع أن كلاً من الحوثيين و «القاعدة» يستفيد حالياً من الفوضى التي تعمّ اليمن، إلا أن انقسام البلاد إلى شمال وجنوب سيضعهما في مواجهة مباشرة أحدهما مع الآخر. ولا يمكن لهذا إلا أن يعني حرباً أهلية طويلة في اليمن، الأمر الذي يوفّر بدوره ظروفاً مثالية لـ «القاعدة» لتستخدم اليمن مرةً أخرى من أجل إحياء نفوذها.
* كاتبة لبنانية ومديرة مركز «كارنيغي» للشرق الأوسط في بيروت
الحياة