مقالات تناولت الائتلاف الوطني السوري
«الائتلاف الوطني السوري» علاج شافٍ أم مسكن للألم؟
مها بدر الدين
تسارعت الأحداث خلال الأسبوع الماضي في الدوحة تناغماً مع تسارعها الدامي في دمشق، وتسابق المعارضون السوريون للوصول إلى حسم سياسي لعله يدفع عجلة الحسم العسكري لإنهاء الأزمة السورية التي تتعقد مجرياتها وتتشعب طرق الالتفاف عليها وحولها يوماً بعد يوم، وتصبح ارتداداتها الداخلية والخارجية أكثر عشوائية وأقوى في ردة فعلها من الفعل نفسه، خصوصا وأن الأطراف تكاثرت والاتجاهات اختلطت وأصبح من الصعب التفريق بين الاتجاه الموافق والاتجاه المعاكس.
وبعد مخاض عسير وطويل، ولدت من خضم هذه الفوضى المتعمدة مبادرة جديدة على يد المعارض الشهير رياض سيف تدعو لتوحيد جميع أطياف وتيارات المعارضة السورية السياسية منها والعسكرية في الداخل والخارج تحت سقف ما يسمى «هيئة المبادرة الوطنية السورية»، هذه الولادة المفاجئة لمبادرة السيد رياض سيف، والدعم الإقليمي والدولي الغربي والأوروبي لها، ورغبة بعض الدول الراعية الرسمية للمعارضة السورية من أخذ هذه المبادرة على محمل الجد، وطرحها مباشرة على طاولة الحوار للنقاش والمداولة، ورغم ما تعرضت له هذه المبادرة من انتقادات متفاوتة القيمة من هنا وهناك، إلا أنها في النهاية أسفرت عن اتخاذ الخطوة السياسية الأكثر أهمية منذ اندلاع الثورة والتي كان يجب اتخاذها منذ أمد لتجنيب السوريين المزيد من الدماء، فانبثق «الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة».
الائتلاف الجديد تميز بأصالة جميع أعضائه السياسية والفكرية، وجذورهم الممتدة في العمل السياسي المناهض للنظام السوري الفاشي، وبتمثيلهم لجميع أطياف المعارضة السورية بانتماءاتها السياسية والفكرية والدينية والجغرافية المختلفة وهو ما يعكس بشكل رائع التكوين التاريخي للمجتمع السوري منذ الأزل، فقد ضم الائتلاف أسماء معتقة في عالم المعارضة السورية تتجه غالبيتها وعلى اختلاف مشاربها إلى الاعتدال في طرح الأفكار والموضوعية في تناول الحوار والمرونة في إبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر، كما أنها من الأسماء التي كان لها دور فاعل وأساسي في الدعوة للحراك الثوري في الداخل السوري وتنظيمه والمشاركة الفعلية في فعالياته، فعانت في هذا ما يعانيه الثائرون في الداخل من الملاحقة الأمنية، والاعتقال التعسفي، والتعذيب الممنهج، والترهيب الاجتماعي وهو ما أضفى عليها روح المصداقية ومنحها الأحقية في تمثيلها لمطالب الشعب السوري.
اليوم أصبح للسوريين ائتلاف جديد أوسع وأشمل يمثلهم أمام المجتمع الدولي الذي كثيرا ماعلق تردده في دعم الشعب السوري على اختلاف المعارضة وتشتتها، ورغم أن دول المجتمع الدولي بدأت بالتعامل مع هذا الائتلاف باعتباره الممثل الشرعي للشعب السوري، إلا أن هذا التمثيل يلقي على عاتق أعضائه مسؤولية تاريخية مزدوجة في أصول التعامل مع الملف السوري المثخن بالمآسي، فعليه دولياً أن يسارع إلى انتزاع الشرعية الدولية من جميع الدول المؤثرة على قرار إنهاء الأزمة السورية لصالح الشعب السوري، وإلى كسب التأييد الدولي والأممي المطلق لقضية شعبنا المنكل به، وهذا لن يتأتى إلا بعد توحيد الجبهات العسكرية في الداخل وإعلان قيادة عسكرية موحدة تنضوي تحت لوائها جميع الكتائب والألوية المسلحة والتي يقع على عاتقها تحرير الأرض والمواطن في الداخل، وبهذا يكون قد اكتمل الشكل الأمثل للائتلاف ليمثل الشعب السوري عن جدارة.
أما محلياً،فإن هذا الائتلاف مسؤول أمام الله وأمام الشعب على العمل بشكل جاد ومجد على إنهاء الاحتلال الأسدي للأرض السورية واستعباد آل الأسد للسوريين ومقدراتهم الإنسانية، وإيقاف آلة الحرب التي يشنها النظام السوري لإحراق البلد مقابل الانتفاضة على الأسد، كما أنه مسؤول عن تحقيق رغبة الشعب السوري في بناء دولته الحديثة الديموقراطية التي اندلعت الثورة لإحقاقها وبذلت في سبيلها الدماء الغالية، والمطلوب من أعضاء هذا الائتلاف العملاق أن يكونوا عمالقة في أدائهم للمهام التاريخية التي أوكلت إليهم والتي لن يتهاون الشعب السوري في الوقوف على أي تقصير في تنفيذها، خصوصا وأن كلفة كل يوم من الأزمة السورية يدفع ثمنها مئات من الشهداء والجرحى وآلاف من اللاجئين والمشردين وملايين من المهمومين والمقهورين على الوطن النازف.
وفي المقابل المطلوب من الشعب السوري بأطيافه ومستوياته الاجتماعية والثقافية والسياسية كافة أن يلتف حول هذا الائتلاف ودعمه وتشجيع أعضائه على العمل الجاد والسريع، وإعطائهم حقهم في فسحة من الوقت لمباشرة أعمالهم دون أي تشويش وانتقادات لا معنى لها في الوقت الحالي سوى تقويض هذا الكيان السياسي الضروري للمرحلة الانتقالية الحساسة التي تلوح خيوطها في الأفق السوري، مع إبقاء العين مفتوحة والأذن مرهفة على ما يجري في كواليس هذا الائتلاف تحسباً لأي انزلاق سياسي قد يدفع باتجاهه، خصوصا وأن أطرافاً كثيرة خارجية وداخلية لا يرضيها هذا التوحد في المعارضة الذي يضع المجتمع الدولي برمته أمام مسؤولياته التاريخية تجاه الشعب السوري.
ان الآمال كبيرة في الائتلاف الوطني السوري، والعيون السورية الحزينة تتطلع إليه بأمل كبير في مسح غبار التعب عن رموش دمشق التي تبحث عن علاج فعال وشافٍ للأمراض السياسية التي فتكت بها والتي لم يعد يجدي معها أي نوع من مسكنات الآلام المزمنة، وكما أن آخر الدواء الكي، فإن آخر آمال السوريين في إنهاء محنتهم قريباً هو هذا الائتلاف الذي لن يتوانوا عن استئصاله بأيديهم إن لم يثبت فعاليته القصوى في معالجة الأزمة الدامية.
الرأي العام
الاعتراف بـ”الائتلاف السوري“
خطّ تماس سياسي جديد
ايلي الحاج
عاجلاً أو آجلاً سيفرض الاعتراف بـ”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” نفسه على حلبة النزاع في لبنان، وسيشكل خط تماس سياسياً جديداً بين قوى 14 آذار من جهة و”حزب الله” وحلفائه من جهة. إنها مسألة وقت لا أكثر.
تنطلق المعارضة اللبنانية في رؤيتها الى التطورات السورية من ان نظام الرئيس بشار الاسد مات سريرياً ولا يهم إن كان موعد الدفن بعد اسابيع او اشهر. انتهى ولن يعود. وها هي تكرر تباعاً اعترافات فرنسا وايطاليا وبريطانيا والدول الغربية والعربية بالائتلاف الذي سيتكون من أطرافه النظام الجديد. “فماذا نحن فاعلون؟” السؤال مطروح في اوساط 14 آذارية تحاول استباق الأحداث لئلا تدهم لبنان في لحظة غفلة، فلا تلائمه النتائج.
يُذكّر احد سياسيي التحالف السيادي بأن سوريا – الاسد لطالما اعتمدت منذ حرب 1973 اسلوب ترك الدم اللبناني يهرق من الحدود الجنوبية امتداداً الى الداخل لتحسين مفاوضاتها على استعادة الجولان، ولطالما اصرت على ترك الحدود المشتركة والمتداخلة سائبة لزوم تهريب السلاح والسياسات وسوى ذلك. رسالة “المجلس الوطني السوري” الى قوى 14 آذار في احتفال “البيال” 2012 كانت علامة فارقة في سياق مناقض تماماً، فهي أكدت النية لاحترام سيادة لبنان واستقلاله والعلاقات المتكافئة. علينا التعجيل في ضمان الاّ تكرر سوريا انتاج الأزمات للبنان. هل يمكن البناء على المراسلات المتبادلة والاتصالات مع “المجلس الوطني” لإرساء تفاهم مع الائتلاف الجديد؟
لا شك ان القيادة الجديدة لتحالف الثورة السورية منشغل بقضايا ملحة جمة، وان الوقت لا يزال ضاغطاً عليه، ومبكراً للخوض معنا في عمق مشكلة العلاقات اللبنانية – السورية التاريخية، ولكن ما دام الرابح في سوريا معلوماً في نهاية المطاف وهو الشعب السوري الثائر على الظلم والذي يواجه احدى أعتى الديكتاتوريات في التاريخ بدعم كبير عربي ودولي لا بد ان يترجم في قابل الايام، فلماذا الانتظار لفتح خطوط الاتصال وصولاً الى “الاعتراف” الذي يتيح للبنانيين ان يكونوا شركاء نوعاً ما مع النظام الجديد في الانتصار على النظام الاسدي، والذي أذاق اللبنانيين بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم مرارة القمع والتنكيل والتقتيل، خصوصاً انه في كل الاحوال ذاهب بلا عودة؟
طارحو السؤال من ضمن 14 آذار يسألون 14 آذار: ماذا تفعل في هذا الوقت الضائع غير انتظار من يكون التالي بعد اللواء الشهيد وسام الحسن وانتظار اشكال الفرج من السماء وتلهّي بعض اطرافها بحسابات انتخابية ضيقة، فضلاً عن سماع الأمين العام لـ”حزب الله” في خطب تدور على فكرة واحدة هي “روحو بلّطو البحر”. على الاقل يمكن ان يثير الجدل حول الاعتراف او عدم الاعتراف بائتلاف الثورة السورية نوعاً من حافز لدى الحزب المذكور للتواضع والتفكير جدياً في مخرج لأزمته الآتية مع بقية اللبنانيين، وايضاً مع سوريا – المستقبل.
النهار
اختراع الـ «غاندي» السوري!
عبدالله ناصر العتيبي *
اكتشف السوريون الساعون إلى تحرير بلدهم من الاحتلال الأسدي أخيراً، أنهم بحاجة إلى «غاندي» تلتف حوله المجاميع السورية بتنوعها وتمايزها واختلافاتها وخلافاتها. أدركوا متأخراً أن النضال من الخارج باتجاه الداخل بحاجة إلى شخصية ذات جوانب «كارزمية» تجذب الجميع باتجاه الهدف الأسمى. عرفوا بهذا الأمر بعد مرور أشهر سلبية طويلة، لذلك اخترعوا أحمد معاذ الخطيب.
جاءوا بالرجل من كواليس الدعوة المعتدلة والصوت الخفيض، وقالوا له: أنت بطلنا، رمزنا، موحدنا، أنت صوتنا العالي، صحيح أن تاريخك النضالي ليس واضحاً بشكل كافٍ، وصحيح أنك لستَ مفكراً عظيماً يتناقل الناس نظرياته ورؤاه، وصحيح أنك لست معروفاً بحروبك في الإصلاح الاجتماعي، لكن نوعيتك هي التي نريدها بالضبط في هذه المرحلة، إسلامي معتدل ينحاز الشعب إليه، وسليل عائلة دمشقية ينتهي نسبها بالحسن بن علي رضي الله عنه، فتلتف حوله طوائف الغالبية السورية كافة، وقليل حظ من التاريخ السياسي، فلا خصوم سياسيين له، ورجل يلبس البدلة الإفرنجية بلا مواقف عدائية للغرب.
الوضع في سورية اتخذ مساراً مختلفاً عن الأوضاع في تونس ومصر واليمن. الثورة الخاطفة لم تجدِ نفعاً في البلاد الشامية، لذلك كان لا بد من اختراع شخصية غاندية تعمل بصبر وروية على مدى زمن قد يطول، ويكون دورها الرئيس جمع الأصوات المعارضة (العسكرية والمدنية) في حنجرة واحدة.
عرف صناع قرار المعارضة أخيراً أن المقاتلين في الميدان (الذين يذكرون الله كثيراً في فيديوات “يوتيوب”)، بحاجة إلى شخصية جاذبة تصنع منهم جيشاً منظماً يتبع مرجعية واحدة بدلاً من التشكيلات الحالية التي تتكون من جماعات متمردة، تأتمر كل منها بإمرة قائد ميداني ربما لا يعرف عن عملية تحرير سورية سوى أنها جهاد مقدس فقط!
وأدركوا كذلك أن التظاهرات الحاشدة التي لا تتشكل إلا إثر كل صلاة جمعة بحاجة إلى رجل ذي زبيبة صلاة!
عرفوا أن عليهم جر الشارع السوري الداخلي بواسطة حبل عاطفته! وترك مسألة الاعتراف الخارجي لظروف الضمانات والوعود المسنودة أصلاً، بتعيين المسيحي جورج صبرا رئيساً للمجلس الوطني السوري. مسلم معتدل للناس هنا، ومسيحي معروف بوطنيته للناس هناك، هكذا تستقيم الأمور وتعتدل من وجهة النظر السورية المعارضة.
لا بأس إذاً من هذه الحركة الذكية، لكن على منظري المعارضة أن يضعوا في حسبانهم عدداً من الأمور التي تعضد هذا التوجه وتساهم في نجاحه في الغدين القريب والبعيد.
أولاً: ينبغي للمجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أن يتفقا على دستور موقت للثورة السورية، يكون بمثابة ديباجة للدستور السوري الجديد الذي سيُكتب بعد القضاء على نظام بشار الأسد، ليس شرطاً أن يتحدث هذا الدستور عن التفاصيل الدقيقة للبناء السوري الحديث، وإنما يمكن الاكتفاء فقط بإعلان المحاور الرئيسة لشكل سورية المقبل ونظام علاقاتها الداخلية والخارجية، هذا الدستور الابتدائي الذي قد يكون على غرار إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الصادر في 1789، سيؤمن جدار حماية للسوريين كافة بعد القضاء على الأسد، وسيجعل من غاندي الجديد شخصية قابلة للذوبان في المستقبل السوري، بحيث لا يظل طوال الوقت يرمي فردة حذائه الأخرى على الشعب للانتفاع بأختها الضائعة، ولا يسلب الشعب أحذيتهم في المقابل وينتفع بها ويبقيهم حافين، لكونه فقط «الرجل المتفق عليه»! عليهم أن يصنعوا دستوراً يؤكد ما قاله الشيخ الخطيب ذات يوم: السياسة وسيلة لا غاية، وعمل الأنبياء هو الهداية، ونفضل أن يصل الإيمان إلى أصحاب الكراسي، على أن يصل أصحاب الإيمان إلى الكراسي.
ثانياً: على السوريين الذين يريدون أن يعبروا بغاندي الجديد إلى سماوات الحرية، عليهم كذلك أن يحتفظوا به للسنوات التي تلي إسقاط بشار الأسد. المزاج العام في سورية ليس مدنياً وليس ديموقراطياً، ولم يكن كذلك عبر التاريخ، وبالتالي فإننا لا نتوقع أن يتحول المجتمع بكبسة زر بعد سقوط نظام البعث إلى المدنية والديموقراطية. المجتمع سيمر بمرحلة انتقالية قد تطول وقد تقصر، وهذه المرحلة بحاجة إلى غاندي جاذب لا تقل أهمية دوره عن غاندي التحرير، لذلك فإنه ينبغي للسوريين أن يعوا أن وجود أحمد الخطيب على رأس الحكومة السورية، كرئيس لها أو مشرف عليها، في سنوات الانتقال بعد التحرير، سيجنب البلاد صدمة الحرية الجديدة، وما علينا في هذا الجانب سوى تخيل الوضع في ليبيا، لو كان غاندي التحرير الليبي مصطفى عبدالجليل ما زال موجوداً حتى اليوم! كل البلاد الجديدة على المدنية والديموقراطية بحاجة إلى عرّاب يشمل برعايته حركة التغيير حتى يكتمل بناء الروح الديموقراطية في نفس كل مواطن كبر دوره في المجتمع أو قل.
ثالثاً: على غاندي الجديد أن يعرف أن التغيير في هذا الزمن لا يتأتى بقدرات الأفراد الخارقة، هذه الأنواع من التغيير ولى زمانها، التغيير الآن لا يمكن أن يكون إن لم تتضافر الجهود في إدارات يتغلب فكرها الجمعي على الأفكار والرؤى المفردة مهما بلغت من العبقرية والتفرد، عليه ألا ينجرف كثيراً خلف سحر وجاذبية الجماهيرية التي قد تتشكل له قريباً. عليه أن يدرك أن الالتفاف المتوقع حوله إنما هو التفاف حول رمز ذي شخصية اعتبارية، ربما يسقط بمجرد أن يتحرك بناءً على حقه في استخدام مصداته الدفاعية الجماهيرية!
سينجح غاندي الجديد، سينجح إن لم تكبر ذاته الداخلية إلى الدرجة التي تحجب عن عقله أنوار الهدف الحقيقي، وسينجح إن لم يستخدمه أبطال النضال كـ «خيال مآتة» فقط كما يقول إخواننا المصريون.
* كاتب وصحافي سعودي
الحياة
الائتلاف السوري: شرعية ناقصة بلا مقعد نيويورك
حلّت المعارضة السورية أزمة انقساماتها وتشتّت قواها وتعدّد رؤسائها، واكتسب الائتلاف كالمجلس الوطني شرعية سياسية. لكنه لا يزال يحتاج إلى أكثر منها: قانونية الشرعية التي لم تشأ البلدان المتعاطفة معه ــ ومنها فرنسا وكلّ العرب ــ نزعها عن نظام الرئيس بشّار الأسد
نقولا ناصيف
أعطى الغرب دفعاً قوياً للائتلاف السوري المعارض، بدت باريس رأس حربته السبت لدى استقبالها رئيسه أحمد معاذ الخطيب. وافق الرئيس فرنسوا هولاند على اعتماد سفير للائتلاف في العاصمة الفرنسية انسجاماً مع اعترافه به ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب السوري. يعكس هذا الاعتراف رهاناً متبادلاً بين الائتلاف وفرنسا في المضي معاً لإسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد، على أن تكون الخطوة التالية، الطبيعية في عرف هذا الرهان وحساب الجميع، إعلان حكومة منفى والاعتراف بها ومنح الحقوق والواجبات.
وعلى أهمية الإجراء الفرنسي الذي لا يكتفي بالقطيعة النهائية مع شرعية الأسد ونظامه ويستعجل إطاحته، يظلّ موقفاً سياسياً أكثر منه قانونياً، ويتيح للائتلاف شرعية سياسية أكثر منها قانونية، لكنه في الوقت نفسه لا يُسقط شرعية الرئيس السوري في معزل عمّا آلت إليه سلطته على بلاده ومدى مقدرته على الاستمرار في حكمها، واستعادة سيطرته عليها. وهو إذ يفقد تدريجاً كل شيء، لا تربح المعارضة بالضرورة شيئاً من كل الذي يفقده.
إلا أن الاعتراف الفرنسي المتقدّم بالائتلاف المعارض وتحضّره لاستقبال «سفير» له، يشير إلى بضع ملاحظات، منها:
1 ـــ إن سوريا التي لا يزال يرأسها الأسد ويمثّل شرعيتها القانونية، هي عضو في الأمم المتحدة، ولها فيها من الحقوق ما عليها من الواجبات. لا تزال تحتفظ بمقعدها وشرعيتها كاملة أمام المنظمة الدولية. لم تُعلّق عضويتها ولم تُطرد منها. الحال قريبة ممّا حصل في الجامعة العربية التي اكتفت بتجميد عضوية سوريا في مجلسها ومنعها من المشاركة في أعماله، من دون طردها أو اتخاذ قرار بسحب اعترافها بشرعية الأسد.
وشأن الجامعة التي أدخلت إلى صفوفها ممثلاً للائتلاف المعارض بصفة مراقب له أن يحضر ويتكلم لا أن يُصوّت ولا أن يشغل مقعد ممثل النظام ويمارس حقوقه، يُدخل هولاند إلى باريس سفير الائتلاف كي يقيم في مكان سوى السفارة السورية التي هي ملك الحكومة السورية على عقار يُعدّ سورياً، وليس لباريس دخولها أو وضع اليد عليها أو التصرّف بمحتوياتها ووثائقها وأموالها. ليس لها خصوصاً إدخال مَن لا توافق عليه الحكومة السورية، ولا تسهيل اقتحامها بحجّة انتقال الخطيب إليها. على نحو كهذا تصبح للائتلاف ممثلية أكثر منها سفارة.
2 ـــ في جدول أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في دورتها كل سنة، بند تقليدي هو مشروع قرار حماية البعثات الديبلوماسية يصير إلى إقراره دورياً، ويُعطي للدولة التي تتعرّض بعثتها الديبلوماسية لاعتداء على أرض دولة أخرى حقّ تقديم شكوى لدى الأمم المتحدة على الدولة المعتدية. يرتكز هذا البند على معاهدة فيينا الموقعة عام 1961 التي ترعى تنظيم العلاقات الديبلوماسية بين الدول. لكنه يضمن شرعية الدولة العضو.
لسوريا، والحال هذه، التقدّم بشكوى لدى الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى وجه «شرير» ـــ غالباً ما يتصف به النظام وعنفه ـــ مكمّل لهذه المشكلة هو مصير السفارة الفرنسية في دمشق، المقفلة منذ آذار الماضي بعد مغادرة السفير إريك شوفالييه الذي تعرّض لأكثر من اعتداء بالرشق من مواطنين سوريين عندما قابل بعض معارضي الداخل.
3 ـــ يفتح تعيين «سفير الشعب السوري» لا الدولة السورية في باريس باباً على مشكلات إضافية تتصل بالمحاكم الوطنية فيها. يصحّ أيضاً على سائر الدول ومحاكمها الوطنية إذ تحذو حذو فرنسا، وهو الإطار القانوني الذي يمكّن المحاكم الوطنية من التعامل مع «سلطة» تعترف بها فرنسا، ولكنها لا تملك شرعية قانونية ولا تصحّ عليها الأصول القانونية المتبعة في تلك المحاكم. ولا سند قانونياً لها في الأمم المتحدة.
يصحّ أيضاً وأيضاً على الأرصدة السورية المحتملة التجميد في فرنسا في حال طلب «سفير الشعب السوري» استعادتها، أو التصرّف بممتلكات السفارة أو نشوء نزاعات داخل فرنسا تحتّم تدخّل المحاكم. يبدو الأمر أكثر سهولة عندما تقطع باريس علاقتها بالنظام وتوصد أبواب سفارتها في دمشق. بيد أنه يصعب إضفاء شرعية قانونية على سلطة شعبية، غير قانونية في ظلّ شرعية أخرى، ترحب بنشوئها. لا يسع المحاكم الوطنية سوى التعامل مع أفراد كأفراد، ومع دول أو مؤسسات بالصفة تلك. لكنها تخفق في إحلال فرد أو هيئة محل دولة لا تزال قائمة ومعترفاً بها.
4 ـــ بالتأكيد للاعتراف الفرنسي، وكذلك التركي والإيطالي، أهمية خاصة على صعيد العلاقة الثنائية بين الطرفين. يصبح الائتلاف في نظر باريس ممثلاً وحيداً للشعب السوري وله سفيره، وتتعاون معه ثنائياً. وهو دعم معنوي محض يضفي على الائتلاف شرعية سياسية فحسب. إلا أن إعلان حكومة في المنفى تخرج العلاقة الثنائية من نطاق ضيّق إلى أرحب عندما يعترف الاتحاد الأوروبي بحكومة المنفى، ثم تنضم سائر الدول إليه، إذ ذاك يكون الائتلاف على طريق شرعية جدّية فعلاً. لكن خاتمة المطاف تقع في الأمم المتحدة ومجلس الأمن اللذين يصوّتان على إنكار شرعية وإحلال أخرى، وانتقال المقعد من سلطة إلى أخرى. يبرز الوجه الآخر من المشكلة في تصويت روسيا والصين في مجلس الأمن على خلع الشرعية عن الأسد لإعطائها لرئيس الائتلاف.
إلا أن الدينامية الدولية الضاغطة ضد الأسد، بالتزامن مع رهان على ترجيح كفّة المعارضة المسلحة على الأرض، تدفع في اتجاه إرباك النظام والتضييق عليه. لكن الصورة لا تبدو بمثل هذا الوضوح لدى أفرقاء إقليميين آخرين معنيين مباشرة بالنزاع السوري. تبيّن هذا الجانب معطيات:
أولها، مهمة بعثة من الحرس الثوري الإيراني زارت دمشق مطلع هذا الشهر، ثم انتقلت إلى بيروت وأجرت تقويماً للوضع السوري مع مسؤولين في حزب الله، أفضى إلى تأكيدها أن على إيران مساعدة نظام الأسد، مهما تكن الظروف والوسائل، اعتقاداً منها بأن التأخر في دعمه والتسبّب، من ثمّ، بسقوطه يؤولان إلى ندم كبير على خسارته وإلى تداعيات تتجاوز هذا الندم. يستند أصحاب هذا الرأي في البعثة إلى ما كانوا قد سمعوه من المسؤولين السوريين عن خطأ انسحابهم المفاجئ من لبنان، ومن البقاع خصوصاً في نيسان 2005، الذي أدّى إلى انتقال المعارك من البقاع إلى شوارع حلب ودمشق. بل يذهب تقدير البعثة الإيرانية إلى أن التخلي عن الرئيس السوري وسقوط نظامه ينقل المعركة إلى شوارع بغداد، ثم طهران.
ثانيها، خلاصة ما يبوح به ديبلوماسيون غربيون بارزون في لبنان في أوساط رسمية يلتقون بها، عن توقعهم في الأشهر القليلة المقبلة زعزعة جديدة في نظام الأسد، ويتحدثون عن ثلاثة توقعات:
ــــ إعلان الائتلاف المعارض حكومة في المنفى تسارع أكثر من مئة دولة، وأخصّها عربية وأوروبية وأميركية، إلى الاعتراف بها.
ـــ استمرار النزف من دون سقوط النظام الذي لا يزال يحتفظ بتماسكه وولاء الجيش والاستخبارات العسكرية له.
ـــ تفاوض أميركي ـــ روسي تنضم إليه السعودية وتركيا للاتفاق على آلية انتقال السلطة في سوريا وإنهاء النزاع المسلّح المدمّر. ومن دون مشاركة إيران التي تتحفّظ عنها واشنطن، سيكون من المتعذّر بلوغ الآلية تلك.
ثالثها، معلومات متناقضة في حوزة الديبلوماسيين الغربيين تتحدّث عن رأيين إيرانيين حيال ما يجري في سوريا: أحدهما يقول بأن طهران تخسر كل شيء إذا سقط نظام الأسد، وآخر يقول إن خسارتها جزئية وتقتصر على سوريا فقط بسبب امتلاكها أوراقاً مهمة أخرى في العراق ولبنان والبحرين. أضف ما يُنسب إلى مسؤولين إيرانيين من أن الحوثيين في اليمن أصبحوا، بعد تحسين تدريبهم وتسليحهم، مشابهين لقوة حزب الله في لبنان. وهم إحدى الأوراق الإيرانية النائمة.
الأخبار
الائتلاف الوطني: الإمساك بزمام سوريا من الداخل
مركز الجزيرة للدراسات
شكّلت قضية وحدة قوى المعارضة السورية هاجسًا لدى النشطاء الميدانيين وقوى الثورة في الداخل السوري، على مدى شهور عديدة خلت، وتحولت إلى مطلب رئيس لمعظم القوى الدولية الفاعلة، التي راحت تضعها شرطًا ضروريًا للإسهام والمساعدة في الخروج من الأزمة السورية.
الإخفاق والتعطيل
يتجسد هدف توحيد المعارضة في قدرتها على التوصل إلى بنية جديدة وقوية، تضع رؤية مشتركة، وتشكّل قطبًا ديموقراطيًا، يوحّد الجهود ويدعم ويتواصل مع قوى الحراك، ويرتب العلاقات مع القوى العربية والدولية. ولم تكُ المشكلة منحصرة في تنوع الأطر السياسية للمعارضة السورية، ولا في الاختلافات الأيديولوجية، لكنّ هناك أسبابًا عديدة كانت تعرقل الوصول إليه، لعل أهمها:
حالة العطالة السياسية، الموروثة من عقود الاستبداد وانتفاء السياسة ومصادرتها في سوريا، والتي طبعت العمل السياسي المعارض بطابع من الهامشية، وشوهت الفعل السياسي، بوصفه ممارسة تهدف إلى تغيير الواقع، وليس موقفًا أخلاقيًا أو مبدئيًا فقط، الأمر الذي يفسر تعلق بعض المعارضين وتركيزهم على المواقف المبدئية فقط، مع غياب الاستراتيجيات السياسية.
يضاف إلى ذلك غياب برنامج تغيير واضح لدى معظم قوى وأحزاب المعارضة، وتركيزها على الإرث الشخصي لبعض رموزها التاريخيين، فبات النشاط السياسي منقطعًا عن التحولات الجارية، وصار مرتبطًا بإنجازات شخصية.
لجوء بعض الشخصيات المعارضة إلى معارضة المعارضة والمزايدات، وكلها تكتيكات لا تهدف إلى الحد من تغوّل السلطة وإنما إلى مواصلة الصراعات الأيديولوجية والشخصية السابقة بين قوى بعيدة عن السلطة الفعلية.
هذه الصراعات جعلت تشكيلات المعارضة السورية عبئًا على الثورة بدلاً من أن تكون داعمًا حقيقيًا لها، فلم تتمكن من قيادتها ولا توسيع قدرتها على الحركة، بل اكتفت قيادات المعارضة بترديد مطالب المحتجين، الأمر الذي بيّن ضعف تحكمها في الثورة ومسارها وتحولاتها.
والناظر في تركيبة مختلف تشكيلات المعارضة، بما فيها المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطني، والمنبر الديمقراطي وسواها، يجد أنها لم تنبثق من قلب الحراك الاحتجاجي الثوري، لذلك لم تتمكن من تمثيله فعليًا، بل حاولت الالتصاق به والالتحاق بركبه دون أن تتمكن من قيادته ومساعدته. وحتى القوى التي رفضت التدخل الخارجي، خاصة العسكري، لم تنأَ بنفسها عن التدخلات الدولية والإقليمية في شؤونها، وفشلت في توفير الدعم اللازم والضروري للثورة، بينما ذهب الدعم المالي القليل الذي حصلت عليه إلى مجموعات قريبة منها، وتعاملت معه وفق حساباتها المتمثلة في كسب الولاء وليس العمل وفق مقتضيات الحراك الثوري.
وقد بُذلت مساعٍ عديدة مع “المجلس الوطني السوري”، كي يضم مجموعات المعارضة الأخرى، لكنه فشل في ذلك، بالرغم من عقد عدة اجتماعات لقوى المعارضة السورية، أهمها كان مؤتمر القاهرة، الذي عُقد في الثاني والثالث من يوليو/تموز 2012، وصدرت عنه وثائق مهمة.
ومع توالي جهود جمع قوى المعارضة في هيئة أو ائتلاف جديد، برزت مبادرة رياض سيف، التي عُرفت باسم “المبادرة الوطنية السورية”، ولاقت قبولاً ودعمًا قويًا لدى قوى دولية وإقليمية وعربية، حيث اجتمع في لقاء تشاوري بالعاصمة القطرية الدوحة، في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ممثلون عن غالبية قوى وهيئات المعارضة السياسية السورية، إلى جانب شخصيات مستقلة، وممثلين عن قوى الحراك والمجالس المحلية للمحافظات السورية. وبعد ثلاثة أيام من الشد والجذب والنقاشات والاجتماعات، اتفق المجتمعون على تشكيل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، الذي يعتبر تحولاً في مسار المعارضة السورية، سيؤثر بلا شك بشكل كبير على مسار الأزمة السورية، وقد يسرّع الوصول إلى نهايتها.
رهان القوى الدولية
لعل السؤال المركزي: ما الذي دفع قوى دولية وإقليمية وعربية للمراهنة على مبادرة رياض سيف؟
هناك اعتبارات عديدة، أفضت إلى رهان قوى دولية رئيسية على تشكيل خارطة جديدة للمعارضة السورية، بالاستناد إلى أن رياض سيف يُعد شخصية وطنية، معروفة بنضالها ضد نظام الأسد، في طوريه: الأسد الأب والأسد الأبن، ولما يمثله من اتجاه ليبرالي صناعي، دمشقي المنبت، وبالتحديد من حي الميدان العريق.
ولا شك في أن هدف توحيد صفوف المعارضة السورية، لا يُقصد منه دمجها في هيكل تنظيمي واحد، بل تجميع القوى تحت مظلة واحدة، والتنسيق في المواقف والتوافق في الآراء، لرسم ملامح المرحلة الانتقالية، بغية الوصول إلى سوريا الجديدة، الديموقراطية والتعددية. والأهم هو توحيد الجهود للخروج بمواقف سياسية موحدة، ترقى إلى مستوى التغيير الديموقراطي، وتساعد على وقف نزيف الدم المستمر منذ أكثر من عشرين شهرًا.
ويبدو أن عناصر عديدة، تقف وراء مسعى قوى المجتمع الدولي الفاعلة في الملف السوري لتجميع المعارضة تحت مظلة واحدة.
الخشية من الفراغ الذي قد يحدثه سقوط مفاجئ ووشيك للنظام السوري، بناء على التقدم الواضح للجيش السوري الحر والتشكيلات العسكرية الأخرى، وعلى حالة الإنهاك التي بات الجيش السوري يعاني منها، بعد إقحامه في معارك الشوارع والأحياء والبلدات السورية، وحدوث انشقاقات متتالية ومتسارعة في تركيبته. إضافة إلى اقتراب النظام من حالة الإفلاس الاقتصادي وتناقص الموارد المالية، التي يعوض جزءًا منها الدعم الإيراني، ودعم أطراف في الحكومة العراقية وقوى أخرى داخلية وخارجية.
التخوف من حدوث حالات انفلات وفوضى نتيجة الفراغ الذي يحدثه سقوط النظام السوري، في ظل غياب مرجعية سياسية مؤهلة للإمساك بزمام الأمور في المرحلة الانتقالية، خاصة مع تعدد مرجعيات القوى المسلحة والمجالس العسكرية، والخوف من حالات انتقام وتصفيات كبرى.
الخوف على مصير الأقليات؛ حيث تضع الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الدول الأوروبية، في حساباتها حدوث حالات انتقام من العلويين، بسبب استعمال النظام لهم في قمع الثوار والانتقام من المحتجين، والخوف كذلك على مصير المسيحيين والدروز وسائر الأقليات الأخرى. إضافة إلى خشية تركيا من سيطرة عناصر “حزب العمال الكردستاني” على مناطق سورية محاذية للحدود معها.
تخوف الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية من تنامي قوة بعض التشكيلات المسلحة المتشددة، في ظل توارد تقارير عن تدفق عناصر متشددة إلى سوريا، ووجود تشكيلات عسكرية مثل “جبهة النصرة” وبعض المجموعات السلفية المتشددة الصغيرة، حيث توالت الأنباء عن وجود عناصر من تنظيم “القاعدة” في سوريا قدموا من شمال العراق ومن أماكن أخرى، وعن الخشية من أن تتحول البلاد إلى دولة فاشلة، ومأوى لما يسمى بالمجموعات “الإرهابية” والمتشددة.
الخوف من امتداد الأزمة السورية إلى دول الجوار، وخاصة إلى لبنان والعراق؛ حيث يحاول النظام السوري جاهدًا تصدير الأزمة إلى الخارج. يشهد على ذلك التوتر والمناوشات التي تشهدها الحدود التركية-السورية، وكذلك الحدود الأردنية، إلى جانب التوتر والاحتقان الذي تعرفه الساحة اللبنانية، خاصة بعد انكشاف ملف التفجيرات الذي اتهم فيه الوزير اللبناني الأسبق جوزيف سماحة، ثم عملية اغتيال رئيس شعبة المعلومات في الاستخبارات اللبنانية؛ حيث ما زالت تبعات عملية الاغتيال تتفاعل في ثنايا توظيفات الطائفية السياسية في لبنان.
فوز باراك أوباما بولاية رئاسية ثانية، ما يعني انتهاء ساسة الولايات المتحدة من حساباتهم الانتخابية، ومن ثم الالتفات إلى الملفات الدولية، وبالتالي إعطاء الملف السوري المزيد من الاهتمام. وهو أمر يعيه الأوروبيون جيدًا؛ حيث أعلنت بريطانيا، خلال زيارة رئيس وزرائها ديفيد كاميرون لمخيم الزعتري في الأردن في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري (2012)، أنها ستفتح خط اتصال مباشر مع المعارضة المسلحة في سوريا، بعد أن كانت تقصر اتصالاتها على القادة السياسيين، ثم جاءت تصريحات رئيس أركان الجيش البريطاني، الجنرال “ديفيد ريتشاردز”، عن إمكانية نشر قوات بريطانية حول الحدود السورية. إضافة إلى تصريحات، “أندرس فوغ راسموسن”، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، عن استعداد الحلف لحماية تركيا من أي خطر ناجم عن الصراع في سوريا، وتأكيده على وجود خطط جاهزة في هذا الصدد.
ترتيب موازين القوى
مع الإعلان عن التشكيل الجديد للمعارضة السورية، بدأت تصدر بيانات التأييد والدعم داخل سوريا، من مختلف التنسيقيات والمجالس المحلية، المدنية والثورية، في المحافظات والبلدات السورية، ومن قوى المعارضة العسكرية، بل إن تظاهرات يوم الجمعة 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 كانت تحت شعار “دعم الائتلاف الوطني”؛ الأمر الذي يعني بداية عملية إعادة ترتيب موازين القوى لمختلف القوى الفاعلة في الثورة السورية.
ويضم “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية” ممثلين عن “المجلس الوطني السوري”، والمجالس المحلية لجميع المحافظات السورية، والعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة، وشخصيات منشقة عن النظام. كما يضم ممثلين عن الهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، والمجلس الثوري لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريين، ورابطة الكتّاب السوريين الأحرار، والمنتدى السوري للأعمال، وتيار مواطنة، وهيئة أمناء الثورة، وحركة معًا، وحزب الاتحاد الاشتراكي، العضوين في “هيئة التنسيق للتغيير الوطني في سوريا”، والكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، وممثلين عن تنظيمات الحركة التركمانية.
وقد أكدت وثائق الائتلاف على الحفاظ على السيادة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني السوري، والحفاظ على وحدة التراب الوطني السوري، ووحدة الشعب السوري، وعلى رفض الحوار مع النظام السوري، وأن لا يبدأ الحل السياسي في سوريا، إلا بتنحية بشار الأسد، ومعه رموز السلطة القامعة، وضمان محاسبة المسؤولين منهم عن دماء السوريين، مع التأكيد على قيام سوريا المدنية التعددية الديمقراطية. وسيسعى الائتلاف إلى إنشاء صندوق دعم الشعب السوري، ودعم الجيش الحر، وإدارة المناطق المحررة، والتخطيط للمرحلة الانتقالية، وتأمين الاعتراف الدولي. وينبثق عنه مجلس عسكري أعلى، يضم ممثلي المجالس العسكرية والكتائب المسلحة، ولجنة قضائية، وفي نهاية المطاف تشكيل حكومة مؤقتة من التكنوقراط.
والناظر في خارطة القوى والشخصيات المشاركة، يجد أنها شاملة لمختلف القوى الفاعلة في الثورة السورية. وهو أمر لم يتحقق من قبل في أي تشكيل سياسي للثورة السورية، والأهم هو أن قادة الائتلاف هم من نتاج الثورة في الداخل السوري، وساهموا في حراكها على الأرض وتعرضوا للسجن والملاحقة، واضطروا إلى مغادرة بلدهم.
ويمكن القول: إن المبادرة الوطنية السورية، التي تمخض عنها تشكيل الائتلاف، نشأت بناء على حاجة داخلية سورية، ولم تك وليدة ساسة قوى خارجية، أي صنعها سوريون، مع عدم التقليل من الجهود الكبيرة التي بذلها المسؤولون في دولة قطر، وبعض سفراء دول الداعمة للثورة السورية في العمل على تقريب وجهات النظر.
ويُنظر إلى الائتلاف الجديد، بوصفه إطارًا يعبئ طاقات وقوى الثورة السورية، بأنه يهدف إلى توفير الدعم للثورة، لتحقيق أهدافها، من خلال السعي إلى عمل كل ما من شأنه أن يسهم في قلب موازين القوى، لصالح إسقاط نظام الأسد، وانتصار الثورة على الصعيدين الداخلي السوري والخارجي.
وتدل تشكيلة الائتلاف الجديد والقوى الدولية التي ساندته على أن هناك تشكّلاً لموازين قوى جديدة، فقوى الداخل السوري باتت أكثر وزنًا من قوى المعارضة السورية بالخارج، وصار الموقف الأميركي متقدمًا على الموقف التركي، وتراجع الموقف المصري بعد أن حاول الامساك بزمام المبادرة من خلال فكرة الحل الإقليمي المتكون من توافق كل من تركيا وإيران والسعودية.
تأثير التحول الجديد
رهان الائتلاف الجديد هو تجاوز خلافات المعارضة فيما بينها، على المستوى الأيديولوجي والسياسي، وعدم جعلها معوقًا، أو مانعًا أمام توحيد وتنسيق الجهود من أجل إسقاط نظام بشار الأسد.
ويمكن لموازين القوى الجديدة أن تعطي دفعة قوية لحراك الناس، من خلال تنفيذ الاتفاق على رؤية استراتيجية للمرحلة الانتقالية في سوريا، وطمأنة السوريين، بمختلف أطيافهم وحساسياتهم، والإجابة على مخاوفهم وهواجسهم من المستقبل في مرحلة ما بعد الأسد. إضافة إلى أن الائتلاف الوطني يمتلك فرصة التوصل إلى توافق على تحديد مواصفات النظام السياسي للمرحلة الانتقالية، وتبيان مكوناته، وبرنامجه، وتحالفاته، وأفكاره الرئيسية، وتحديد المدى الزمني لفترة الانتقال، والاتفاق على دستور جديد، يقطع مع دستور عهود الاستبداد، والعمل على تحقيق العدالة الانتقالية، وصولاً إلى تحقيق الأمن والاستقرار لمختلف مدن ومناطق وبلدات سوريا.
وتتجسد ممكنات تغيير موازين القوى في بناء علاقات قوية بين الائتلاف الجديد وقوى الداخل، كالمجالس المدنية والجيش الحر ومجاميع المقاومة المسلحة، واتباع أسلوب تمويل محدد لهذه القوى، وفق آلية معروفة وممأسسة لوصول المال والمعدات إليها. علاوة على تأمين احتياجات الناس في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، من مواد معيشية واحتياجات ضرورية، وتوفير الأمن لهم وسبل عيشهم الكريم. كل هذه الإجراءات ستعطي الائتلاف سلطة على القوى الثورية داخل سوريا، فيتمكن من توجيهها حسب استراتيجيته والتحكم فيها بعد سقوط النظام.
ولا شك في أن تأمين الدعم الدولي والإقليمي والعربي، سيؤثر في قدرة الجيش الحر والمجموعات الأخرى على تحقيق تقدم على الأرض وتحويلها إلى مناطق محمية من هجمات القوات النظامية، ومن ثم تمكين قوات الجيش الحر من تنظيم نفسها والاستعداد للسيطرة على أقاليم جديدة في مسعاها نحو السيطرة على دمشق وإسقاط النظام.
الائتلاف الوطني السوريّ.. دوافع النشأة ومقومات النجاح
وحدة تحليل السياسات في المركز
نجحت قوى المعارضة السوريّة بأطيافها المختلفة التي شاركت في اللقاء التشاوريّ الذي عقد في الدوحة (في الفترة ما بين 8 و11 تشرين الثاني / نوفمبر 2012) في التوصل إلى اتفاقٍ يوحّدها في إطار سياسيّ هو “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة”. وقد ضمّت الهيئة السياسيّة للائتلاف، والمكوّنة من 63 شخصًا، معظم تكتلات المعارضة السوريّة (باستثناء هيئة التنسيق الوطنيّة)، إضافة إلى قوى الحراك الثوريّ والمجالس المحليّة في المحافظات (وهي أجسام جديدة لم تتضح ملامحها بعد)، وعددًا من الشخصيات الوطنيّة وممثلًا عن المنشقين السياسيّين عن النظام. وبتركيبتها هذه، تكون الهيئة أوسع جسمٍ سياسيٍّ جامعٍ وموحدٍ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة.
تقيّم هذه الورقة عملية تشكيل الائتلاف، وتحاول الإجابة عن سؤال: هل يشكّل هذا الائتلاف الجديد نقلة نوعيّة في تمثيل الثورة السوريّة سياسيًّا؟
الطريق إلى الائتلاف:
قدّمت الثورة السوريّة نموذجًا مختلفًا عن الثورات التي انطلقت في العالم العربيّ منذ عام 2011 في كثير من المجالات. ويعبّر الجانب المتعلق بالنشاط والفعالية السياسيّة للمعارضة عن أحد جوانب هذا الاختلاف، لا سيما حقيقة أنّ الوجوه السياسيّة للثورة يتركز معظمها خارج سورية.
نشأت هذه الخصوصية من تضافر عوامل مختلفة، على رأسها إحكام النظام قبضته على الحياة السياسيّة وغياب أي هامش للعمل السياسيّ، فحُوصرت القوى السياسيّة المعارضة داخل سورية وعُزلت بالقمع والتخويف، وجرى تقليص تأثيرها قبل اندلاع الثورة، فأصبح هامشيًّا ومقتصرًا على بعض الأوساط الاجتماعيّة المحيطة بالمعارضين مباشرةً، آخذًا بذلك شكل نوع من الثقافة الفرعية.
وفي غياب فاعلية القوى السياسيّة المعارضة المنظَّمة وانحسارها، كان على السوريّين بعد انطلاق الثورة أن يُعيدوا إحياء القوى السياسيّة المنظَّمة القليلة القائمة، وأن يعملوا خلال الثورة على بناء أُطرٍ وقياداتٍ سياسيّةٍ تعبّر عن هذه الثورة في الوقت ذاته. ولا شك في أنّ شباب القوى الحزبيّة التقليديّة وقواعدها كان لهم دورٌ مهمٌ في الحراك الثوريّ المدنيّ في البداية. ولكن من المهم أيضا الإشارة إلى أنّ أغلب القيادات السياسيّة لجأت إلى الخارج تجنبًا لقمع النظام، أو بهدف الحصول على حريةٍ أكبر في العمل، تمكّنها من اتخاذ مواقف سياسيّة أكثر وضوحًا والتعبير عنها في خضم الثورة.
لم تنجح القوى السياسيّة المعارضة – في البداية – في تشكيل هيئات تنظيميّة جامعة لقيادة الثورة نتيجة تبايناتها السياسيّة واختلافاتها الفكريّة والأيديولوجيّة، وكذلك لأسباب متعلقةٍ بالذاتويّة والتنافس الشخصيّ. لقد كشف رفع غطاء الاستبداد الكثير من عيوب المجتمع الذي يعيش منذ سنوات طويلة في ظله، وظهرت معالم ثقافة الاستبداد في سلوكيات أوساطٍ من المعارضة.
وبعد نصف عام على اندلاع الثورة، مثّل تأسيس المجلس الوطنيّ (تشرين الأول / أكتوبر 2011) أول محاولةٍ جدّية لتشكيل هيئةٍ جامعةٍ تكون الوجه السياسيّ للثورة، وتحظى باعترافٍ دوليٍّ كبير. لكن آلية عمل المجلس المؤسسة على قاعدة التوافق والتوازنات والمحاصصة بين كُتلِهِ (الإخوان المسلمون، إعلان دمشق، مجموعة العمل الوطنيّ، المستقلون) ثبّطت عمله، ومنعت توسيعه، وأعاقت التنسيق الجدّي والفاعل مع أطياف المعارضة الأخرى. كما عجز المجلس عن مواكبة التغيّرات المتسارعة في مسار الثورة، لا سيما عندما تحوّلت إلى ثورةٍ مسلحة، إذ لم يتمكن من تلبية متطلبات هذه التطورات، خاصة في الجانب العسكريّ والإغاثيّ، وهو ما أوجد هوّة بين قياداته و تطورات الداخل السوريّ. وفي وقت تواصلت فيه المناشدات الدوليّة للمعارضة بتوحيد صفوفها، ساهمت الدول ذاتها في إضعاف المجلس، وأعاقت وحدة المعارضة بإصرارها على الاتصال بالقوى الثوريّة على الأرض مباشرة من دون المرور بأيّ هيئة قياديّة. وتفاقم هذا النهج مع انتقال الثورة إلى الكفاح المسلح، إذ ربطت القوى الخارجيّة الاتصال مع الكتائب على الأرض مباشرةً، ما منع عمليًّا تشكيل هرميّة قياديّة سياسيّة تربط قوى الثورة بأيّ قيادة سياسيّة على المستوى الوطنيّ.
من ناحية أخرى، ارتكبت قوى المعارضة المختلفة أخطاء في تحديد الإستراتيجيّة، لأنّها قامت على التحليل الرغبويّ، أو البيان الشعبويّ، وليس على تحليلٍ واقعيٍّ للحقائق. فقد أيّد تيارٌ في المعارضة السياسيّة الحوار مع النظام بدايةً، ليس بأي ثمن، وبشرط التغيير، معتقدًا أنّ الحوار قد يكون هو الطريق لتغيير النظام. وراهن تيارٌ آخر في المعارضة عمليًّا على التدخل الخارجيّ. وقد فشل التياران في تشخيصهما، وأدركا ذلك بعد أن تحوّلت الثورة المدنيّة عفويًّا إلى الكفاح المسلح بسبب تعرضها إلى قمعٍ غير مسبوق. وقد استغلت قوى سياسيّة دينيّة متطرفة قائمة هذا التحوّل إلى العنف بشكل غير منظم، لكي تفرض أجنداتها القديمة المعروفة والتي ما كانت لتنجح في قيادة ثورة في سوريّة في يوم من الأيام. ولا تزال هذه القوى تشكّل أقلّيةً في الشارع السوريّ حتى اليوم.
جاء مؤتمر القاهرة يومي 2 و3 تموز / يوليو 2012 كمحاولةٍ جدّيةٍ لتجاوز الواقع السابق برعاية الجامعة العربيّة. وقد استطاعت المعارضة السوريّة (باستثناء المجلس الوطنيّ الكرديّ) توحيد رؤيتها السياسيّة والمستقبليّة في وثيقتي “العهد الوطنيّ” و”المرحلة الانتقاليّة”. وجرى تشكيل لجنة متابعةٍ تتولى تنسيق مساعي المعارضة السوريّة، إلا أنّ عقلية المحاصصة، والبحث عن تعظيم المكاسب الحزبيّة والسياسيّة على حساب العمل الوطنيّ الجمعيّ، واحتكار بعض قوى المعارضة التمثيل والشرعية، أبقت على حالة الانقسام.
وأصبح هذا الانقسام مأزقًا لقوى المعارضة المختلفة، وسحبت فوضى العمل المسلح في الداخل من القوى الميدانية إمكانية تشكيل ضغط حقيقيّ على المعارضة لتوحيد صفوفها. فقد غذّى التشتت الداخليّ الانقسام السياسيّ والتنظيميّ في الخارج، والعكس صحيح.
أدى هذا الواقع إلى ظهور عدة مبادرات سياسيّة لتوحيد المعارضة في الأشهر الماضية، كان من أبرزها مبادرة الدكتور برهان غليون لإقامة لجنة مبادرةٍ وطنيّةٍ من شخصياتٍ وطنيّةٍ مُتوافَقٍ عليها، تقوم بتعيين حكومةٍ مؤقتة لملء الفراغ السياسيّ. وقد تحوّل النقاش بشأن الحكومة المؤقتة وكيفية تشكيلها إلى نقاشٍ يشغل المعارضة، فاقترح البعض أن يشكّلها المجلس الوطنيّ. كما طرح النائب السابق رياض سيف مبادرةً لتجاوز المجلس الوطنيّ. وجاءت هذه بعد انتقادات علنيّة وجهتها الإدارة الأميركيّة للمجلس، وذلك باقتراح إيجاد هيئةٍ سياسيّة مصغّرة تضم القوى السياسيّة في المجلس الوطنيّ وتكتلات المعارضة الأخرى بحيث تستطيع تجاوز حصرية تمثيل المجلس التي أعاقت الاتفاق في جولات التفاوض السابقة. وقد شكّلت هذه المبادرة التي اصطلح على تسميتها “هيئة المبادرة الوطنيّة” الأساس الذي ارتكز عليه الجهد القَطريّ والتركي والعربيّ لتوحيد المعارضة السوريّة ضمن الائتلاف الجديد. وجرى تغيير شكل هذه المبادرة تمامًا خلال المفاوضات والاتصالات التي جرت في قطر قبل عقد الاجتماعات الرسمية، فتحوّلت إلى جسمٍ أوسع يفترض أن يشكّل نوعًا من البرلمان الذي يتولى تأليف حكومةٍ مؤقتةٍ وهيئةٍ قضائيّةٍ ومجلسٍ عسكريٍّ موحد، وهذا ما لم تتضمنه المبادرة الأصلية. وعُقدت اجتماعات تشكيل الائتلاف على أساس المبادرة المعدّلة.
تزامنت المطالبات الشعبية من الداخل السوريّ بضرورة وحدة المعارضة مع نشاطٍ دوليٍّ وإقليميٍّ وعربيٍّ ضاغطٍ، استهدف أيضًا تحقيق وحدة المعارضة السوريّة. وثمّة العديد من الأسباب والعناصر التي دفعت الدول المؤثرة في الملف السوريّ لإيلاء هذه القضية أهمية كبيرة، من أبرزها:
1. ازدياد رقعة المناطق المحررة نتيجة تنامي قدرة الجيش الحر، والتآكل الحاصل في سيطرة قوات الجيش النظاميّ السوريّ على الأرض.
2. ضرورة تشكيل بديلٍ سياسيٍّ عن النظام في حال انهياره.
3. ضرورة تشكيل حكومةٍ تدير شؤون الثورة وتتحدث رسميًّا باسم الثورة وتدير شؤون البلاد بعد الثورة مباشرة، وقبل تشكيل الحكومة الانتقاليّة.
4. مخاوف غربيّة تقليدية، تتلخص في فوضى السلاح، وتنامي قوة التيارات الأصوليّة، والدينيّة المتشددة.
5. مراهنة المبادرين وبعض الدول العربيّة والإقليمية الحاضرة في الأزمة السوريّة على انخراط أميركيّ أكثر فاعلية، بعد فوز أوباما بولاية ثانية في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وهذا من شأنه أن يكسر حالة الجمود الدوليّة في معالجة هذه الأزمة. والواقع أنّ الولايات المتحدة هي القوة الغربية الأكثر تريثًا في دعم الثورة السوريّة والتخلي عن النظام.
تعدّ مجمل المعطيات السابقة عوامل رئيسة فرضت على المعارضة السوريّة تجاوز خلافاتها والوحدة تحت مظلة الائتلاف الجديد. وعلى الرغم من أهمية هذه العوامل، والتي ساهمت في ميلاد الائتلاف، إلا أنّ تأسيسه لم يكن أمرًا يسيرًا. وقد جاء بعد مباحثاتٍ ومفاوضاتٍ طويلة بين أطراف المعارضة، وعلى رأسها المجلس الوطنيّ السوريّ الذي ارتاب بدايةً من المبادرة المطروحة كونها تتجاوز دوره و”مكتسباته” بشأن شرعية تمثيل الشعب السوريّ، وتفسح الطريق لترجمةٍ عمليةٍ لتصريحات أميركيّة طالبت بتفكيك المجلس وتجاوز هيكليته إلى جسم جديد. لقد نجحت المفاوضات في الوصول إلى توافقٍ على صيغة الائتلاف، إلا أنّ هذا الائتلاف لم يكن عمليةً اندماجيّةً للقوى السياسيّة المعارضة، بل كان – كما يعبّر عنه اسمه – “تحالفًا” بين المجلس الوطنيّ السوريّ بمكوناته المختلفة – والذي حصل على الحصة الأكبر من مقاعد الائتلاف (40%) – وباقي قوى المعارضة الأخرى التي لم تكن منخرطةً في المجلس الوطنيّ. أي أنّ الائتلاف مثّل صيغة توافقٍ بين المجلس والقوى التي كانت خارجه، وبعضها كان أصلًا في المجلس وانسحب منه. وإذا لم يتحول الائتلاف بسرعة إلى ما يشبه البرلمان الذي يصوت بالأغلبية، فسوف يصبح نسخةً مكررة من المجلس بنواقص المحاصصة ذاتها.
مقومات الفاعلية والنجاح
لاشك في أنّ الإعلان عن ولادة الائتلاف يؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ في حراك المعارضة السياسيّة – والثورة السوريّة أيضًا – وهي مرحلة تختلف عن سابقتها من ناحية وجود قيادةٍ سياسيّةٍ موحدة تطمح لتشكيل بديلٍ سياسيٍّ وديمقراطيٍّ يتولى إدارة الثورة والمرحلة الانتقاليّة، وتحظى بدعمٍ مشروطٍ من الشارع المؤيد للثورة داخل سوريّة وهيئاته التنظيمية، وتلقى ترحيب غالبية الفصائل العسكريّة. كما تحظى هذه القيادة باعترافٍ دوليٍّ من الجامعة العربيّة والاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة كـ”ممثلٍ شرعيٍّ لتطلعات الشعب السوريّ”، واعتراف كلٍّ من دول مجلس التعاون الخليجيّ، وفرنسا، وإيطاليا، وتركيّا، وبريطانيا بها كـ”ممثلٍ شرعيٍّ وحيدٍ للشعب السوريّ”.
إلا أنّ هذا الترحيب في الداخل السوريّ، إضافة إلى الاعتراف الدوليّ، لا يمثّلان مقوماتٍ كافية لإنجاح الائتلاف الجديد، فالاعتراف الدولي في حد ذاته لا يمثّل نقلةً نوعية، إذ كان لقوى دوليّة وإقليميّة دورٌ أساسيٌّ في ميلاد هذا الائتلاف أصلًا، وعليه فإنّ الاعتراف الدوليّ يبقى في إطاره الرمزيّ ما لم يُترجم إلى: أولًا، الاعتراف بطابعه الوطنيّ السياديّ الذي يمنع التدخل في شؤونه؛ وثانيًا، تقديم دعمٍ عمليّ وفعليّ يجعل هذا الائتلاف قادرًا على أن يكون لاعبًا مؤثرًا في مسار الثورة السوريّة داخليًّا، وعنصرًا أساسيًّا في أيّ مبادراتٍ دوليّة وإقليميّة لفرض حلٍ سياسيٍّ على النظام السوريّ.
لقد كانت العلاقات الدوليّة للقوى السوريّة المعارضة حتى الآن عامل ضعفٍ لا عامل قوة. فقد منعت هذه التعددية في الاتصالات مع الخارج بناء سقفٍ وطنيّ يضم الجميع، كما منحت ملاذًا لكل من لم يرض بحصة، أو وفرت دعمًا يتيح له العمل على تشكيل جسم ما، أو أتاحت له ظهورًا إعلاميًّا، أو غيره. والأهم من هذا كله أنّها منعت تركيز دعم الثورة، وأدت في حالاتٍ إلى اتخاذ قوى المعارضة المختلفة مواقف متعارضة مع مواقف القوى الأخرى لإرضاء هذه الجهة أو تلك.
لقد كان هنالك تدخّل أميركيّ وأوروبيّ محدود في عملية التوصل لإنشاء الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة. وهذا من عناصر ضعفه. ولكن الوساطة الرئيسة في تشكيله كانت عربيّة، والسلوك الوطنيّ السياديّ الناجم عن وجود أغلبيةٍ وطنيّةٍ واضحةٍ من الشخصيات الموثوق بها سيمكّن من تجاوز هذا العطب، ويمنح هذه الأغلبية إمكانية أن تتصرف على نحوٍ مسؤولٍ في التعامل مع قضايا نظام الحكم الديمقراطيّ في سورية، وكذلك مع قضايا سورية الوطنيّة والقوميّة.
وليس هذا ممكنًا من دون فصل الخطاب الديمقراطيّ في معارضة النظام عن الخطاب الطائفيّ في معارضة النظام ذاته، وفصل العنف الثوريّ عن العنف الجنائيّ، والتمسك بعروبة سورية بالتوزاي مع منح الحقوق المتساوية لغير العرب، لأنّ البديل لعروبة سورية هو انقسام العرب إلى طوائف، ولأن عروبة سوريّة ذات علاقة مباشرة بوضعها الإقليميّ الإستراتيجيّ.
ويجب أن يكون واضحا في سلوك المعارضة أنّ حقوق السوريّين والموقف المعادي لأيّ طائفيّة أو شوفينيّة قوميّة هو موقفٌ سوريّ وطنيّ، ومصلحة سوريّة، وليس استجابةً لضغوطٍ أجنبية. فمن المهين وغير الديمقراطيّ أن تستمع أيّ قيادة سوريّة وطنيّة إلى نصائح – بل شروط – وزير الخارجية البريطانيّ بهذا الشأن، وكأنّ الموضوع هو حقوق الأقليّات في الدولة العثمانيّة في القرن التاسع عشر.
أما على صعيد الداخل السوريّ، فإنّ نجاح أيّ هيئةٍ معارضةٍ للنظام السوريّ تُشكَّل خارج سورية مرتبطٌ بأثره في إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في مسار الثورة السوريّة. وعلى الرغم من أنّ مسار الثورة محكومٌ بموازين القوة العسكريّة في الداخل، إلا أنّ الواقع يشير إلى أنّ الائتلاف يمكن أن يضطلع ببعض المهمات التي تمكّنه من الحصول على قيمة تمثيليّة وشرعيّة لدى المواطنين السوريّين، إذ إنّ الواقع الموضوعيّ يشير إلى أنّ الفاعل الأساسيّ اليوم في الثورة السوريّة هو الجانب المسلح فيها، من كتائبَ عسكريّة وفصائل الجيش الحر، وهي لا تزال تعاني من غياب التنسيق والتواصل فيما بينها، على الرغم من تحقيقها لانتصاراتٍ محليّة وسيطرتها على أجزاء واسعة من التراب السوريّ. كما أنّها تعجز حتى الآن عن بناء إستراتيجيات عسكريّة موحدة، وتغيب عنها الرؤية الإستراتيجية الواحدة أصلًا. ويكرّس ذلك اعتمادها على مصادر التمويل والدعم الخارجيّة التي تعكس توجهات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المشهد السوريّ ومصالحها. ولن يكون بالإمكان الاستغناء عن الدعم الخارجيّ، ولكن لا بد من تنظيمه في إطار علاقةٍ سياديّة بين قيادة وطنيّةٍ سوريّةٍ موحدة ودول أخرى.
ليس متوقعًا من الائتلاف الوطنيّ أن يكون قادرًا على تمثيل الثورة السوريّة ما لم يصبح المسؤول الرئيس -إن لم يكن الأوحد- عن تمويل هذه الكتائب والفصائل المسلحة وإمدادها. أي أنّ ترحيب غالبية القوى المسلحة المبدئي يجب أن يتحوّل إلى علاقةٍ اعتماديّة من جانب هذه القوى على الائتلاف الوطنيّ. بالطبع، لا يرتبط الأمر بالأمنيات والقدرات لدى الائتلاف الوطني وقيادته وهياكله فحسب، بل أيضًا بإرادةٍ سياسيّةٍ للّاعبين الإقليميّين والدوليّين الذين أصبح لهم موطئ قدم في الداخل السوريّ، أن يحوّلوا دعمهم لهذه الكتائب والفصائل المسلحة ليكون من خلال الائتلاف الوطنيّ. فإذا ما كانت إرادة الدول الإقليميّة وبعض القوى الدوليّة واحدةً من العوامل الرئيسة لميلاد هذا الائتلاف، فلا بد من أن يترجم هذا عمليًّا في أن يتحوّل الدعم اللوجستيّ والماليّ ليكون من خلال الائتلاف، وإلّا فإنّ الداعمين لوجوده قد حكموا عليه بالفشل، ومسّوا بسيادة سورية المستقبل.
كما لن يكون وضع إستراتيجيةٍ عسكريّة موحّدة ممكنا طالما لم يقتنع كبار العسكريّين الذين انشقوا عن الجيش السوريّ أنّ عليهم الالتحاق بالكتائب المسلحة والعمل على التنسيق بينها، وأنّه لا قيمة فعليّة لوجودهم خارج سورية. ولا بد أن يساهم الائتلاف في عملية إقناعهم وتنظيمهم كقيادة ميدانيّة تنسّق فيما بين كتائب الثورة.
إضافة إلى الدور الذي يمكن أن يضطلع به على صعيد القوى المسلحة، فإنّ الداخل السوريّ يتوقع من هذا الائتلاف أن يكون له دورٌ أساسيّ على الصعيد الإغاثيّ، فقد فرضت المواجهات العسكريّة اليوميّة على مدار أكثر من عامٍ أعباءً كبيرةً على المواطن السوريّ في متطلبات حياته اليوميّة، وأوجدت أزمةً إنسانيّةً شاملةً ومتعددة الأوجه، تتفاقم باستدامة المواجهات العسكريّة وتوسّع رقعتها وحدّتها.
ويجب أن يحتل وضع إستراتيجيّةٍ إغاثيّةٍ شاملةٍ تلبي احتياجات المتضررين في سوريّة وتنفيذها أولوية جدول أعمال الائتلاف. وهنالك حاجةٌ إلى مجموعةٍ من الإجراءات العملية، بدءًا بتأسيس جهازٍ إغاثيٍّ ممتدٍ في المناطق المختلفة في سورية، ووصولًا إلى تشكيل جسمٍ ينسّق أعمال الإغاثة بين جميع الهيئات الموجودة أصلًا على الأرض، ويستطيع أن يزوّدها بما تحتاج إليه، أي أن يصبح الائتلاف المظلة الأساسيّة لتنسيق الجهد الإغاثيّ.
يعدّ تشكيل الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة نقطة تحوّلٍ إيجابيةً في مسار الثورة، كونها تحدّ من حالة التشتت والانقسام في صفوف المعارضة السوريّة. ويمكن أن تكون بدايةً لبلورة بديلٍ شرعيٍّ عن النظام الحاكم، يؤسس لخطابٍ سياسيٍّ عقلانيٍّ، وخطة واقعية للانتقال الديمقراطي، تضمن وحدة الشعب السوريّ، وتحقق طموحاته وتطلعاته. وقد وجد الائتلاف استجابةً معنويّةً مرحبةً في الشارع السوريّ الثائر.
يبقى أنّ صيغة نشأة هذا الائتلاف تتضمن عناصرَ قد تؤدّي إلى تكرار تجارب الماضي في إضافة هيئةٍ جديدةٍ من دون محتوى أو أثر. فعلى الائتلاف تجاوز عقلية المحاصصة وآلياتها ومنطق التوازنات بين الكتل المكوِّنة له وتسبيق ارتباطاتها الإقليميّة والدوليّة على حساب البرنامج الوطني للثورة السوريّة. أي أنّ الائتلاف الوطنيّ الذي نشأ كمحصّلة للتوافقات، يجب أن يتحوّل إلى إطارٍ مؤسسيٍّ يتجاوز الرُّؤى الضيقة والمصالح السياسيّة لعناصره. إنّ الضمان الوحيد لنجاح الائتلاف هو نجاحه على مستوى الداخل، وفي تحديد إستراتيجية إسقاط النظام، وسبل إدارة المجتمع السوريّ والاهتمام بشؤونه في ظلّ الثورة، ووضع خطةٍ انتقالية لما بعد الثورة. ويتطلب هذا إنشاءَ جهازٍ متفرغٍ مؤلفٍ من خيرة الكفاءات الوطنيّة السوريّة في الداخل والخارج، فمن دون جهاز تنفيذيٍّ وطنيٍّ تابعٍ لقيادةٍ سياسيّةٍ يقوم بالعمل الإعلاميّ والسياسيّ والإغاثيّ، ويشكّل حلقة وصلٍ مع الميدان، سوف يقتصر دور القيادة على عقد الاجتماعات التي لا تُنفَّذ قراراتها.