صفحات العالم

مقالات تناولت الثورة المصرية ومستقبل الأخوان المسلمين بعد ذلك

سقوط الملحمة السياسية

سامر فرنجيّة

أدّت أحداث الأسبوع الفائت في مصر إلى تعميق التخبّط الأيديولوجي الذي أطلقته الثورات العربية منذ سنتين، وأخذ شكل تحالف «ليبراليي» مصر مع جيشهم ضد حزب آخر من جهة، ومع السلفيين خوفاً من أسلمة الإخوان من جهة أخرى. وحالة الضياع هذه باتت أقوى من قدرة اللاعبين على تطويعها، كما ظهر مع الانقلاب السريع لحركة «تمرّد» على انقلابهم، وإعلانهم أنّ النظام الذي تلى تظاهرات الأسبوع الماضي يرسي أسس «ديكتاتورية جديدة». ويأتي التخبطّ هذا بعد أزمة اليسار وانقساماته حول الثورة السورية، التي جمعت بين قسم منه واليمين المتطرف، وسقوط منظومة الممانعة في شلال من الدم.

يطاول هذا التخبّط أيضاً القدرة الأخلاقية على التمييز، مع تزايد العنف والعنف المضاد، لتصبح اللغة الأخلاقوية، ومفرداتها من تضامن وصولاً إلى استنكار، فارغة من أي معنى. فجلاد الأمس يصبح ضحية اليوم بسرعة لا تسمح حتى بالتنديد أو التضامن. فمن كان يحاول التسلّط على الدولة في الأمس بات ضحية مجزرة مروعة اليوم. ومن كان ضحية نظام دموي في سورية يتحوّل بسرعة جلاداً لضحايا جدد. ومن كان يوزّع البقلاوة في لبنان بات يقابله موزّع أكثر شناعة، عندما غير العنف أهدافه.

حتى الولايات المتحدّة، نقطة ثبات الخطابات العربية، فقدت دورها في مناخ التخبط هذا، فتحولت من قلعة الشر إلى مدقّق أكاديمي ما زال يحدّد ما إذا كان الكيماوي قد استعمل في سورية وما إذا كان يمكن تسمية ما حدث في مصر انقلاباً، على رغم إصرار بعض الثوار المصريين على اعتبار أميركا الداعم الأساس للإخوان، متناسين دعمها الفعلي للمؤسسة التي يختبئون وراءها. وبهذا المعنى، باتت اللغة السياسية التي كانت مهيمنة بمفاهيمها وانقساماتها وصراعاتها خارج الموضوع.

ما أظهرته الثورة المصرية، بخاصة بعد «مجزرة الحرس الجمهوري» والتبريرات المقرفة التي حاول البعض تمريرها من جهة، وتطور المسار السياسي من جهة أخرى، أنّ الخطابات السياسية المتوافرة لفهم الوضع باتت قاصرة، وغير قادرة على الإمساك به. فسقط الأسبوع الماضي شعار «الإسلام هو الحل» على يد الثوار المتظاهرين، ما اعتبر أحد إنجازات الثورات العربية. لكن هذا السقوط جاء بعد سقوط شعارات أخرى، كـ «الجيش هو الحل» أو «الليبرالية هي الحل». وسخرية الثورات أنها أتبعت سقوط الشعار الأول بسقوط من أسقطه، أي شعار «الشعب هو الحل» أو «الجماهير هي الحل». وفي لفتة ذاتية، قد تكون الثورات أسقطت أيضاً نفسها وشعار «الثورة هي الحل».

ما يسقط في مجزرة الخطابات هذه ليس حلاً واحداً لمعضلة لم تتغير أو جواباً محدداً عن سؤال ما زال مطروحاً. فهذا السقوط المتتالي لمرشحين مختلفين وأجوبتهم الحاضرة قد يكون إشارة إلى تحوّل في السؤال الذي أنتج هذه الأجوبة. هذا السؤال، الذي ظهر في منتصف القرن الماضي عن كيفية بناء مجتمعات حديثة تؤمّن الرفاهية والحرية ضمن علاقات دولية عادلة، والذي تمّ تطعيمه بنزعة ثقافوية في أواخر القرن، قد سقط، ومعه أجوبته من الليبرالية إلى عبد الناصر وصولاً إلى الإسلام السياسي والجماهير الثائرة. وهذه الأجوبة ليست بالضرورة خاطئة، بل باتت خارج الموضوع. فليس هناك في السياسة أجوبة صحيحة وأخرى خاطئة، هناك أجوبة فعلية وأخرى خارج الموضوع، هكذا تنتهي الاحتمالات في السياسة.

في وضع كهذا، «كل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده، والتقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء، وكل ما هو مقدّس يدنّس، والناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة». غير أنّ ما ظهر بعد عملية الهرم هذه ليس وضوح الوضع المعيشي، بل وضوح العنف وفراغ الخطاب السياسي الذي يحاول الإمساك به. ربمّا لم يبق شيء صلب، كما توقع ماركس، غير أنّنا فقدنا ضمانات «الوضع المعيشي» لترشيد هذا الدمار، وما بقي دمار بلا أفق وبلا ضمانات.

وبكلام أدّق، فإن ما يهرم اليوم ليس الليبرالية أو الإسلام السياسي أو الثورة، بل أشكالها السياسية الملحمية، وسخرية القدر أنّ سقوط هذا الشكل جاء على يد ما قد يكون أكبر مَثل عن الملحمة، أي الثورة. فبات واضحاً أن التسلسل المرحلي للملحمة من قمع إلى وعي إلى فعل إلى خلاص لن يفعل مفعوله. ليس هناك من خط واضح يصل عذابات الأمس بصراعات الحاضر وخلاص المستقبل. وبهذا المعنى، سقطت الرواية الملحمية التي كانت مسيطرة في بداية الثورات، والتي ربطت عذاب العالم العربي بلحظة الوعي المتمثلة بالتضحية الذاتية لمحمد البوعزيزي، وفعل الجماهير الطاهرة التي فتحت باب الخلاص. ليس هناك من «وضع معيشي» يربط بينهم، مهما حاول البعض نبشه، وليس هناك من ضمانة اسمها «الشعب».

لقد أخذ سقوط الروايات الملحمية شكل مواجهة الهدف مع شروط إمكانيته، أو الخلاص مع ثمنه. فبات شرط الليبرالية سيطرة الجيش، والثورة السورية التدخل الأجنبي، والديموقراطية حكم الإسلاميين، والممانعة مجازر متواصلة. لا مكان للخلاص في ذلك الوضع، والأمر مجرد خيارات ومعها أثمان غالية لا يمكن تجاهلها. ولا مكان لضمانات في رواية كهذه، مهما كانت كلفة هذه الأثمان مرتفعة. وفي وضع كهذا، لن تنفع محاولة إعادة انتاج ملحمة جديدة، تختبئ وراء نظريات مؤامرة أو تأليه للحراك الشعبي، كما أن هذا لا يعني تبني صورة سوداء عن استحالة السياسة في العالم العربي، التي ليست إلاّ ملحمة معكوسة.

عندما انتهت صلاحية بعض الأجوبة في الغرب، بدأت مرحلة ما بعد الحداثة وألاعيبها وسخريتها وتهكّمها. وتمّت اعادة اكتشاف التراجيديا كشكل روائي للسياسة أكثر تمثيلاً للواقع الذي يرفض الانصياع لضروريات الملحمة. قد نكون دخلنا فترة مشابهة على الصعيد الفكري، غير أنّ فترة تحديد الأسئلة الجديدة ستأخد منحى عنفياً، سخريته الدموية الوحيدة في المسافة المتزايدة بين الخطابات وأجساد الضحايا، وتراجيديته أنّ هذا العنف ليس مضموناً بمستقبل أفضل.

في وضع كهذا، بات السؤال الأساس من يقتل أكثر، بوصفه البوصلة الوحيدة في ظل الجيولوجيا المتحركة للثورات.

* كاتب لبناني

الحياة

مراجعة إخوانيّة؟

حازم صاغيّة

شهد عقد العشرينات، حين ولدت «جماعة الإخوان المسلمين»، ظهور نُوى شيوعيّة في مصر ولبنان. لكنّ أحد الفوارق الهائلة والكثيرة بين الطرفين أنّ الشيوعيّين عبّروا عن ولادة قطاع حديث هو الصناعة وطبقتها العاملة ممّا أنتجته العلاقات الاستعماريّة الجديدة. أمّا «الإخوان»، في المقابل، فعبّروا عن صدمة الاحتكاك بالغرب وحاولوا الردّ عليه جملة وتفصيلاً. فلم يكن بلا دلالة أن يرتفع شعار «القرآن دستورنا»، أو أن تكون المدينة التي وُلدوا فيها، أي الاسماعيليّة، هي التي حضنت، وفي آن معاً، المقرّين القياديّين للقوّات العسكريّة البريطانيّة ولحملات التنصير الدينيّة.

وبعد عشرين عاماً، لم تنفصل نشأة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، عن توسّع المؤسّسة العسكريّة والإدارات، على أثر الاستقلال، في سوريّة أوّلاً ثمّ في العراق. وظلّ هذا الارتباط بوجه من وجوه التحديث غريباً عن «الإخوان» الذين تحوّل صدامهم بالمؤسّسة العسكريّة، وصدامها بهم، واحداً من التيّارات العريضة للحياة السياسيّة في المشرق العربيّ الحديث. والحال أنّنا إذا راجعنا قدرة الأنظمة العسكريّة، في مصر وسوريّة والعراق، على التخلّص من عناصر إخوانيّة تمكّنت من التغلغل في الجيوش، أذهلتنا تلك القدرة التي تشي بتعارض مطلق بين الجسدين.

صحيح أنّ «التنظيم – الإرهابيّ – الخاصّ» الذي أنشأه «الإخوان» مطالع الأربعينات، ثمّ الأدبيّات القطبيّة الراديكاليّة التي ظهرت في الستينات، ربطت أبناء حسن البنّا بلون وظيفيّ وأداتيّ من التحديث. غير أنّ ذلك لم يكن البتّة كافياً لتحويل ذاك الجمهور الشعبيّ العريض إلى جمهور يتقاطع مع التحديث، كائناً ما كان تعريف هذا المصطلح الأخير وكائناً ما كان الموقف منه.

وعلى العموم عملت المظلوميّة، التي تصلّبت في العهد الناصريّ، على تعزيز الميل إلى الانسحاب والانكفاء عن عالم «جاهليّ» من صناعة الشياطين الأجانب والمحليّين. أمّا الهجرة الإخوانيّة، المصريّة ثمّ السوريّة، إلى الخليج فعائداتها الماليّة لم تتحوّل قوّة اجتماعيّة فاعلة رغم استثمارها الموسّع في نشر الدعوة. وهذا ما توضحه أيّة مقارنة بين الإخوانيّة العربيّة والإخوانيّة التركيّة، حيث ترافق الصعود السياسيّ للأخيرة مع تبلور بعض الوسائط الاجتماعيّة، كبورجوازيّة الأناضول أو الطفرة التلفزيونيّة التي أتاحها عهد تورغوت أوزال (1989 – 1993). وقد تعلّم إخوانيّو تركيا، وسط هذه التجربة التي حاولت المزج بين الإسلام والليبراليّة، ما لم يتعلّمه إخوانيّو مصر من سياسة وتفهّم لـ «السوق» ولـ «الرأي العامّ» واتّجاهاتهما.

يقال هذا بقصد التنويه بالمسافة الفلكيّة التي ينبغي على «الإخوان» عبورها من أجل أن يتحوّلوا قوّة مؤثّرة في عالم حديث لا يوجد عالم سواه. والحال أنّهم إن لم يتحوّلوا في هذا المنحى، كان ذلك وبالاً، لا عليهم فحسب، بل على مجتمعاتهم كذلك.

لقد سلّطت الثورة السوريّة، في أحد معانيها، الكثير من الضوء على تفاهة القوى الحداثيّة غير الإخوانيّة، وعلى تفاهة حداثيّتها نفسها. وفي المعنى ذاته يمكن القول إنّ الانقلاب المصريّ الأخير، مستفيداً من هزال السنة التي قضاها محمّد مرسي في الرئاسة، سلّط الضوء على معضلة الانقطاع الإخوانيّ عن العالم الحديث والذي لا مهرب من رأب صدوعه.

فمع «إخوان» كهؤلاء، ما من أمل. ومن دون «إخوان»، فيما هم يمثّلون شعبيّاً ما يمثّلون، ما من أمل كذلك.

الحياة

مصر المحروسة

سلام السعدي

بدأت القصة بعد عزل الرئيس المصري محمد مرسي، وما أعقب ذلك من زيادة في عنف التظاهرات المؤيدة له. ليشرع الإعلام المصري في بث أخبار وشهادات تحريضية ضد الأجانب. فكل أعمال العنف والصدام مع الأمن والجيش باتت من صنع الأيدي الشريرة، السورية والفلسطينية هذه المرة، بحيث صنف بعض الإعلام المصري الرسمي و”الثوري” أتباع هاتين الجنسيتين بأنهم “المجاهدون العرب في مصر”. وبما يشبه الأخبار التي يلفقها التلفزيون السوري، نشرت حركة شباب السادس من ابريل أخباراً تفيد باعتراف شبان سوريين بالاعتداء على التظاهرات المناهضة لمرسي مقابل 500 جنيه.

 وكان متوقعاً وفقاً للأجواء المشحونة أن تقوم السلطات المصرية بتشديد إجراءات دخول الأراضي المصرية للأجانب، فكيف بالأحرى حيال السوريين والفلسطينيين؟ وبالفعل وضعت إجراءات دخول جديدة خاصة بهم. وقبل أن تعلن عنها، قامت سلطات مطار القاهرة الدولي يوم الاثنين الفائت، برفض السماح لطائرة الركاب التابعة للخطوط السورية في الرحلة الرقم 203 بالهبوط على الأراضي المصرية، وبالفعل عادت الطائرة المحملة بـ 95 راكباً أدراجها إلى مطار اللاذقية.

مصدر في إحدى شركات الطيران، يؤكد لـ”المدن” أن رسالة تحذير وصلتهم من الخارجية المصرية، تحثهم فيها على عدم نقل سوريين في الرحلات المتوجهة إلى مصر، إلا بعد الحصول على تأشيرات دخول مسبقة وموافقة أمنية من السفارات والقنصليات المصرية العاملة في البلدان التي يأتون منها.

وأوقفت الشركة السورية للطيران الحجوزات إلى مصر. ويشرح مصدر فيها لـ”المدن” أن “حالة من الارتباك سادت العاملين والمسافرين على السواء، وذلك فور سن السلطات المصرية إجراءات دخول جديدة غير واضحة بما فيه الكفاية”. ويضيف المصدر أن “السفارة المصرية في سوريا قد عادت للعمل وستعلن خلال أيام شروطاً محددة للحصول على التأشيرة، وتوضح فيها معنى وكيفية الحصول على ما دعي بالموافقة الأمنية المسبقة، المطلوبة كشرط جديد”.

وعلى الفور، نشطت السوق السوداء، وظهرت مكاتب سمسرة عرضت خدماتها لتأمين تأشيرة دخول إلى مصر للسوريين مقابل 250 دولاراً لكل فرد. إلا أن حالة من الخوف تسيطر على السوريين الراغبين بالتوجه إلى مصر، مع سريان شائعات عن أن السلطات المصرية قد أعادت حتى السوريين الحاصلين على تأشيرة دخول. لكن صحفاً مصرية نقلت عن مصدر أمني في وزارة الداخلية نفيه منع دخول السوريين حاملي التأشيرات والموافقات الأمنية.

كما أوضح المتحدث الرسمي باسم “وزارة الخارجية المصرية” أن القرار الجديد “يتعلق بالظرف الحالي والمؤقت الذي تمر به مصر”، وطالب السوريين الذين يقيمون في مصر أو يرغبون في الإقامة فيها بأن “يراعوا الموقف الأمني الذي تمر به البلاد حالياً، وأن يتفهموا طبيعة هذا الإجراء الذي لا ينتقص من العلاقة التاريخية بين الشعبين المصري والسوري الشقيقين، أو ما تقدمه مصر من تسهيلات للأشقاء السوريين الموجودين في مصر”.

يذكر أن الإجراءات القديمة وبعكس الشائع، كانت تطلب أيضاً تأشيرة دخول من السوريين، غير أن السلطات المصرية، كانت تتغاضى عنها، خصوصاً بعد مغادرة القنصل المصري لسوريا قبل نحو 4 أشهر، واستحالة الحصول على تأشيرات. ما سمح  لكل سوري يطأ أرض مطار القاهرة بالدخول، لترتفع أعداد السوريين في مصر إلى نحو 160 ألفاً.

مع ذلك، يعتبر هذا العدد متواضعاً قياساً على الدول الحدودية مع سوريا التي غصت بمئات آلاف اللاجئين السوريين (لبنان، الأردن، تركيا). لكنه يكتسب أهمية أكبر مقارنة مع البلدان غير الحدودية  كالجزائر التي تستضيف نحو 50 ألف سوري، واليمن 15 ألفاً، والسودان 10 آلاف، ما يشير إلى أن السوريين يفضلون مصر كخيار أول بعد الدول الحدودية، وذلك بسبب انخفاض تكاليف المعيشة، فضلاً عن سياسة “الباب المفتوح” التي اتبعت سابقاٌ قبل أن تقرر السلطات الجديدة إغلاقه، أو إبقائه موارباً.

المدن

game over”… ولكن!

راجح الخوري

يحمل مساعد وزير الخارجية الأميركي وليم بيرنز في زيارة الاستعجال التي بدأها الى القاهرة نصيحة واحدة الى الجيش المصري الذي يدير المرحلة الانتقالية، وهي “لا تدفعوهم للنزول تحت الارض”، بمعنى عدم دفع “الاخوان المسلمين” الى القيام بأعمال تهدد الاستقرار في اكبر بلد عربي!

لكن المسألة لا تتوقف على الجيش المصري الذي كان واضحاً في الاعلان عن ان تدخله إنما كان لمنع انزلاق البلاد الى حرب اهلية، بل على ما يقرره “اجتماع المناحة” في اسطنبول المنعقد برعاية من رجب طيب اردوغان، الذي لم يتوان بعد عشرة ايام على سقوط محمد مرسي عن القول انه “رئيس مصر الشرعي”. هذا الاجتماع يمثل تنظيم “الاخوان” في ٨٠ بلداً واصدر بياناً يدعو الى “اعادة ولاية مرسي لانها ولاية شرعية توجب على المصريين حق السمع والطاعة… في حدود الضوابط التي رسمتها الشرعية”!

ما حصل في مصر زلزال لم يسقط حكم “الاخوان” بل دمر مخطط قيام الشرق الاوسط الجديد بادارة “اخوانية” يكون فيها لواشنطن دور الشريك المضارب، ودائماً بحجة ان “الاخوان” وصلوا الى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ولكأن خروج ٣٣ مليوناً من المصريين لا يمثل اكبر صندوق اقتراع في التاريخ. ثم ان انهيار “الاخوان” في مصر قطع عليهم الخطط للامساك بالسلطة في دول المنطقة كلها، لهذا يقول راشد الغنوشي الذي يواجه الآن حركة “تمرد” في تونس “سنجني ما زرعه اخوان مصر في كل الدول العربية”.

عبد الفتاح السيسي لم يكن يخاطب المصريين عندما اوضح تكراراً كيف سعى الى اقناع مرسي بالذهاب الى انتخابات مبكرة تحول دون الحرب الاهلية بل كان يخاطب واشنطن والغرب، ساعياً الى دحض خطة “الاخوان” التي تتركز على التهويل بأن عدم اعادة مرسي الى السلطة تعني قيام حرب اهلية تهدد المصالح الاميركية والغربية، لكن المشهد في غرفة العمليات الطارئة في واشنطن والتي تضم جون كيري وسوزان رايس وتشاك هيغل وديريك شوليت بات مختلفاً، ولهذا جاءت مهمة بيرنز المستعجلة لوضع خريطة طريق عنوانها: لا لعودة مرسي المستحيلة ولا للفلتان الامني الذي سيدمر مصر على الطريقة الجزائرية عام ١٩٩١، ونعم لايجاد مخرج يقنع “الاخوان” بالعودة الى المشاركة في الشأن العام رغم رفضهم المشاركة في الحكومة الجديدة!

واذا صح ان آن باترسون “السفيرة الاخونجية” كما تسمى الآن في مصر بسبب غموض موقف واشنطن وفجيعتها بسقوط “الاخوان”، كانت قد نصحت مرسي مرتين بأن يقبل بإجراء انتخابات مبكرة فرد: “على جثتي”، ما دفعها الى القول له “game over”، فإن على بيرنز وغرفة العمليات الطارئة في واشنطن التركيز على “مؤتمر المناحة” “الاخواني” الذي يرعاه اردوغان المفجوع بسقوط اوهام عودة السلطنة والباب العالي!

النهار

عندما يشارك السلفيون في مشروع الحداثة!

الياس حرفوش

ظهرت كتابات كثيرة في الأيام الماضية، اثر إسقاط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، تعبر عن الأمل بأن يشكل ذلك فرصة لتصحيح المسار الذي ذهبت إليه التغييرات في الأنظمة التي قامت اثر موجة «الربيع العربي»، والتي فتحت الباب أمام قوى الإسلام السياسي للسيطرة على الحكم، او لعب دور مركزي فيه، في كل من مصر وتونس وليبيا، فضلاً عن بروز دور واضح للتيارات الإسلامية، من «اخوان» وغيرهم في الثورة السورية. وتفاءل البعض بأن يفتح هذا التطور الجديد في الحدث المصري نافذة امام قوى الحداثة والليبرالية، ولإخراج السياسة من عباءة الإرث الديني. ويبني هؤلاء آمالهم على ان الاحتشاد الشعبي ضد حكم «الإخوان»، والذي ضم معظم التيارات التي تمثل الشارع المصري، لم يراعِ المسألة الدينية التي تشكل اساساً في الطرح الإخواني، الذي يتبنى شعار «الإسلام هو الحل»، بل حاسب «الإخوان» على ما اعتبره فشلهم السياسي، بصرف النظر عن دعايتهم الدينية.

هل هناك اسس واقعية تدعم هذه الآمال المتفائلة؟ هل نحن امام انبلاج «عصر نهضة» جديد، من دون ان نعي ذلك؟

يجب القول هنا ان كثيرين انقضوا للتنافس على اقتناص فرصة اسقاط حكم «الإخوان»، واعتبروها انتصاراً لهم ولمشروعهم. ولم يقتصر ذلك على احزاب المعارضة المصرية وقواها الليبرالية التي رأتها مناسبة لإعلان سقوط الإسلام السياسي ونهاية اي دور له في الحياة المصرية. فالتيارات السلفية، وعلى الأخص منها حزب «النور»، وجدتها مناسبة أيضاً لاقتناص هذه الفرصة واعتبار نفسها بديلاً مقبولاً لسقوط «الإخوان» في الفخ الذي نُصب لهم من قبل القوى المعارضة. والغريب هو الخليط الذي ضم كل القوى التي اعتبرت نفسها منتصرة، والذي اجتمع فيه المدني والعسكري، الإسلامي والليبرالي، اضافة الى من يصفون انفسهم بالعلمانيين، في خلطة يصعب تصور تركيبتها السحرية في اي مختبر كيميائي. وكان غريباً بنتيجة هذه الخلطة العجائبية، ان الذين استنتجوا نهاية عهد الإسلام السياسي في مصر، وبزوغ شمس الليبرالية والحكم المدني، القائم على فصل الدين عن الدولة، في مواجهة شعار «الإسلام هو الحل» او «القرآن دستورنا»، الغريب ان هؤلاء فاتهم ملاحظة جلوس السلفيين الى جانبهم في انتصارهم هذا في معركة «الحداثة». كما فاتتهم ربما قراءة المادة الأولى من الإعلان الدستوري الذي اصدره الرئيس الموقت وجاء نصه مطابقاً حرفياً للنص الذي اعترضت عليه قوى المعارضة سابقاً من حيث تضمينه مبادئ الشريعة في الدستور. وكل هذا كي لا نتحدث عن تحالف معارضي حكم «الإخوان» مع العسكر، وهو تحالف يهدد بطبيعته أسس الحكم المدني وشروط قيام الدولة الحديثة.

بين الذين شعروا أيضاً بالانتصار لإسقاط حكم «الإخوان» في مصر كان الرئيس السوري بشار الأسد الذي وجد في ذلك فرصة لإحياء ما سماه «المشروع القومي العربي». ورأى ان «الهوية العربية بدأت تعود الى موقعها الصحيح». ولم يجد الأسد «العروبي» اي حرج في التحالف القائم بين نظامه وبين نظام اكثر تديناً من نظام «الإخوان» او اي نظام ديني آخر، هو نظام «ولاية الفقيه» في ايران، انطلاقاً من أن هذا النظام، كما قال الأسد، لا يميز بين الناس على أساس ديني او طائفي!

هكذا اجتمع مدّعو العروبة وأدعياء العلمانية والحداثة مع القوى السلفية والحكومات الدينية تحت رعاية القوات المسلحة لإنتاج الدولة المدنية في مصر!

اذا كان للقوى الليبرالية المصرية ان تستفيد، كما تقول، من الفرصة التي وفرها اسقاط حكم «الإخوان» من اجل بناء اسس دولة حديثة في مصر، فإن المدخل الى ذلك لا بد ان يكون من خلال قراءة صحيحة للتحالفات التي تقيمها هذه القوى مع جهات هي ابعد ما تكون عن فكرة الليبرالية والحداثة والحكم المدني. وإذا كان صحيحاً ان العامل المصلحي والرغبة في العودة الى الحكم شكلت دافعاً وراء تحالفات القوى الليبرالية في مصر، فإن الدعوة التي تطلقها هذه القوى الى تصديق شعار الحداثة الذي ترفعه يفرض عليها ان تتحرر من كثير من الحلفاء الذين يشكلون عبئاً على مشروع الدولة المدنية، ربما اكثر من «الإخوان» أنفسهم.

الحياة

حلم سلطاني يتبدد

مصطفى زين

لم يكن «الربيع العربي» سوى رافعة لمحاولات الإسلام السياسي الصعود إلى السلطة ببرامج قديمة بعضها يعود إلى عشرينات القرن الماضي، كما في مصر، وبعضها حاول استنساخ تجربة حزب «العدالة والتنمية» التركي الذي وجد الفرصة سانحة لمد نفوذه إلى كل المنطقة، بمباركة أميركية. فقد وجدت واشنطن في الحكم التركي المتحالف مع إسرائيل والعضو في الحلف الأطلسي النموذج المطلوب تعميمه في العالمين العربي والإسلامي، كما أنه أفضل رد على النموذج الإيراني الذي، على رغم دعمه «الإخوان المسلمين» قبل وصولهم إلى السلطة وبعد وصولهم، بقي في نظر الأكثرية نموذجاً لحكم خارج إطار «الشرعية» الإسلامية التاريخية، فضلاً عن تصنيفه أميركياً في محور الشر.

لكن كل الوقائع تشير إلى أن تجربة الإخوان في العالم العربي فشلت، وأن الولايات المتحدة التي أعلنت دعمها لهم في البداية تراجعت، بعدما وجدت أنهم ليسوا مقبولين شعبياً، خصوصاً في مصر، حيث ثقلهم الأساسي، لذا اتخذت موقفاً «حيادياً» من حركة الجيش الذي أطاح حكمهم، وامتنعت عن نعت تحركه بالانقلاب وعن المطالبة بعودة «الرئيس الشرعي»، مكتفية بالدعوة إلى الهدوء. وحذت أوروبا وباقي الدول حذوها، فلم تطالب بعودة مرسي كي لا تقف ضد رغبة عشرات ملايين المصريين الذين نزلوا إلى الميادين مطالبين بتنحيته، ومؤيدين خطوة الجيش.

لم يبق مؤيداً لحكم الإخوان سوى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، هو الوحيد الذي اعتبر تحرك الجيش انقلاباً على الشرعية، وطالب بعودة مرسي إلى السلطة. وأمر حزبه وإعلامه بشن حملة على الحكم الجديد، وشارك في الحملة شخصياً، فأعلن أن نائب الرئيس محمد البرادعي طلب مقابلته لكنه رفض، وسأله: «كيف يمكن ان أتحدث معك وأنت لم تنتخب، وقد عينك قادة الانقلاب؟». لكن تبين في ما بعد أن أردوغان فبرك الرواية كلها، فالبرادعي لم يتصل به ولم يطلب مقابلته.

واقع الأمر أن موقف أردوغان مفهوم، فقد راهن على اختراق الإخوان «ربيع العرب» لدعم موقفه في الداخل وتطبيق حلمه في شرق أوسط جديد مرجعيته اسطنبول باعتبارها عاصمة «الخلافة»، بعدما فشلت الأنظمة العسكرية في المنطقة طوال العقود الماضية.

وموقفه مفهوم أيضاً لأن إسلاميي تركيا عانوا الكثير عندما كان الجيش لهم بالمرصاد، فأجبر زعيمهم نجم الدين أربكان على التخلي عن الحكم عام 1997، فضلاً عن أن الرجل يخشى تكرار تجربة الانقلابات في الثمانينات، ووقوف العسكر في مواجهة التحولات التي بدأها في أنقرة ويسعى إلى تعميمها في باقي العالم الإسلامي. من هنا كان دعمه إخوان العراق ممثلين بـ «الحزب الإسلامي»، ومحاولاته المتكررة قبل تطور الأزمة في سورية إجراء مصالحة بين النظام والإخوان، متعهداً باسمهم المشاركة في إخماد التحرك الشعبي. لهذا الغرض تكررت زيارات وزير خارجيته أحمد داود أوغلو دمشق، وعندما لم يجد آذاناً صاغية في قصر المهاجرين بدأ المطالبة برحيل الأسد، وفتح الحدود أمام المسلحين، وأقام لهم مراكز تدريب وقيادة تشرف عليها استخباراته، وأسس تجمع «المجلس الوطني» الذي انهار بسبب الصراع بين الإخوان والآخرين المدعومين من أكثر من جهة إقليمية ودولية.

بعد التحولات الميدانية في سورية، وفي العراق أيضاً، وبعد إطاحة حكم الإخوان في القاهرة، شعر أردوغان بأن حلمه السلطاني في طريقه إلى التلاشي، فراح يصعّد حملته في الداخل والخارج.

الزلزال السوري في بداية تفاعلاته. ومن المبكر التكهن بحجم ارتداداته في المشرق وفي الإقليم.

الحياة

الإنتفاضة العربية في أبهى تجلياتها: مصر نموذجاً

مسعود ضاهر

شهد عام 2011 تفجر انتفاضات عربية نجحت في إسقاط رؤساء كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وقد هزت ركائز الأنظمة السياسية بقوة في كل من سوريا والبحرين ودول عربية أخرى. بيد أن تحولات سلبية حرفتها عن مسارها الأساسي واستغلتها تيارات إسلامية أصولية فأجرت انتخابات الأمر الواقع التي أوصلت “الإخوان المسلمين” إلى سدة الحكم في مصر، و”حركة النهضة” في تونس.

كانت الجماهير الشعبية آنذاك مهمشة سياسياً بسبب عقود من القمع والإفقار والتجهيل ونشر البطالة على نطاق واسع في صفوف الطبقات الوسطى والشعبية، فتأثرت بشعارات “الإخوان” الشعبوية، وأعطت أغلبية ملحوظة للتيارات الأصولية الإسلامية التي لم تقدم أيّ برامج سياسية، أو رؤية مستقبلية لإدارة شؤون الحكم في مصر وتونس.

شكلت المرحلة الانتقالية لحكم التيارات الإسلامية في كلا البلدين مختبراً حقيقياً لفرز القوى السياسية بين مناصري السلطة “الإخوانية” ومعارضيها. وقادت حركة “تمرد” معركة إسقاط الرئيس مرسي والتحضير لها عبر التواقيع والتظاهرات المليونية الحاشدة. وبدأت حركة تمرد تونسية التحضير لمعركة مقبلة، غايتها قطع الطريق على حكم التيارات الإسلامية فيها.

لعب الجيش المصري دوراً وطنياً رائداً في حماية التحركات الشعبية من بلطجية “الإخوان” الذين لم يؤمنوا يوماً بالديموقراطية الحقيقية، ولم يروا منها سوى أصوات الجماهير المفقرة والمهمشة والملحقة بهم قسرياً، فتذرعوا بديموقراطية شكلية تخفي “ديكتاتورية مقنّعة” وفق توصيف المفكر اللبناني ميشال شيحا، واكتفوا بصناديق الإقتراع دون سواها بديلا من ركائز الديموقراطية السليمة وتجلياتها على مختلف الصعد القانونية، والحقوقية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية وغيرها.

؟؟؟؟؟؟؟؟

لذلك شكّلت الأيام المجيدة التي بدأت في 30 حزيران وقادت إلى وضع الرئيس مرسي ومعه مجموعة من قادة “الإخوان المسلمين” في الإقامة الجبرية، صفحة مضيئة في تاريخ مصر والعرب، واستنفرت شوارع مصر بين مناصرين للرئيس المخلوع، ومؤيدين لتصويب مسار الثورة الشعبية في أكبر دولة عربية. وعندما حاول أنصار مرسي اقتحام مركز الحرس الجمهوري بالقوة المسلحة، سقط من القوات المسلحة ومن “الإخوان” أكثر من خمسين قتيلا ومئات الجرحى. كان الهدف من الإقتحام الدموي تبرير ما سمّوه الإنقلاب العسكري على الشرعية من جهة، وتغييب دور عشرات الملايين من المصريين الذين اندفعوا لإسقاط حكم “الإخوان” بالوسائل السلمية من جهة ثانية، وبالغوا في الترويج لفكرة الإنقلاب على أمل خداع الرأي العام العربي والدولي، وتخويف المصريين من تدخل الجيش مجدداً في السياسة المصرية، ومصادرة الديموقراطية تحت ستار حمايتها.

لكن التحركات الدموية التي خاضها “الإخوان المسلمون” لتشويه صورة الجيش المصري لم تستطع إخفاء ما قامت به الجماعة خلال السنتين الماضيتين من تهميش متعمد لقوى التغيير الديموقراطي بأطيافها الليبيرالية والديموقراطية والعلمانية. ونشرت ألوف الدراسات التي حذّرت من “أخونة” إدارات الدولة، ومنع جميع القوى غير “الإخوانية”، ومنها القوى الإسلامية السلفية، من الحصول على أي مقعد متقدم في إدارة الدولة “الإخوانية” في مصر.

يلاحظ أن القوى الشبابية المنتفضة في مصر تميزت بحس اليقظة الدائمة من “أخونة” الدولة في مصر، وقادت حركات الإحتجاج السياسي والثقافي ضدها من دون توقف. وقدمت أعمال الرئيس مرسي خلال فترة حكمه القصيرة، وتصريحاته الملتبسة من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وقطعه بصورة غير مبررة للعلاقات مع سوريا، مادة خصبة لكثير من الندوات والمؤتمرات الإعلامية والثقافية، فنددت بأعمال مرسي، وطالبت بوقف فوري للإنحدار المتواصل والعمل على منع “الإخوان” من الإستمرار في حكم مصر، وطرحت مواقف جريئة تؤسس لمواجهة مباشرة مع حكم “الإخوان المسلمين” وغيرهم من التيارات الأصولية الإسلامية، لأن بقاءهم في السلطة يعطيهم القدرة على بسط نفوذهم على مؤسسات الدولة، واستقطاب الجماهير المصرية المفقرة بشعارات شعبوية وتقديمات اجتماعية بسيطة.

الحدث التاريخي

هكذا تكثفت التحركات الشبابية والشعبية في ميادين التحرير وطالت مختلف المدن المصرية، فاستقطبت على الفور ردود فعل إيجابية جداً في الشارع المصري أولاً، ولفتت إليها أنظار العالمين العربي والإسلامي. كانت حركة “تمرد” قد مهدت لتحركها الشعبي بجمع تواقيع ملايين المصريين لنزع الشرعية الشعبية عن حكم مرسي، وحددت يوم 30 حزيران 2013 موعداً لخوض معركة جماهيرية طويلة الأمد لإسقاط حكم “الإخوان المسلمين” بالطرق السلمية. وساندتها القيادة العسكرية المصرية، فاعتقلت الرئيس مرسي وعدداً كبيراً من قادة “الإخوان”، فاستعادت الانتفاضة المصرية وهج البدايات الواعدة، وأطلقت مرحلة جديدة من النضال الديموقراطي الرائع والمفتوح على جميع الاحتمالات.

نخلص إلى القول إن ما يجري في مصر اليوم يعتبر حدثاً تاريخياً وفق جميع مقاييس الحدث البارز. ومن المتوقع أن يترك بصمات واضحة على مستقبل النظام الإقليمي العربي بأكمله، وعلى بنية النظام السياسي في أكثر من دولة عربية. ووصفه محللون سياسيون بأنه لم يعد حدثاً مصرياً فحسب بل نموذج جديد من التغيير الديموقراطي بأبعاد إقليمية وعالمية. تلعب وسائل الإعلام والتواصل دوراً بارزاً في متابعة تفاصيل هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، وتساعد تكنولوجيا الإعلام والتواصل في مختلف جوانب الحياة السياسية والثقافية والفنية العربية في المرحلة الراهنة على استخدام التقنيات الحديثة في إنجاح الإنتفاضات الشعبية لتحقيق أهدافها في إدخال تغييرات جذرية على بنى الأنظمة السياسية العربية ومؤسساتها وإداراتها العصرية. ومن المتوقع أن تساهم حركة “تمرد” التي يقودها شباب مصر في إدخال تقنيات ووسائل نضالية جديدة تستفيد منها حركات التمرد الشبابية في أكثر من دولة عربية.

استنبط المناضلون من شباب مصر طرائق جديدة لصناعة حدث تاريخي بارز، أظهر قدرتهم على المشاركة الفاعلة في التأسيس لنظام عربي جديد على أسس ديموقراطية، وإسقاط أنظمة تسلطية تديرها قوى سياسية تريد إعادة المجتمع المصري وباقي المجتمعات العربية قروناً إلى الوراء، واستبصروا مقولات نظرية ذات أبعاد اجتماعية وفلسفية، وعبّروا بدقة عن وعي غير مسبوق في صناعة حدث عربي نموذجي دخل تاريخ العولمة من بابه الواسع نظراً إلى التبدلات السياسية والاقتصادية والثقافية التي ستتولد عنه على المستويين الإقليمي والدولي، ودمج بصورة خلاقة بين الوعي الثقافي النظري والممارسة النضالية على أرض الواقع.

أثبت المناضلون الجدد من شباب العرب تراجع دور الإنقلابات العسكرية التقليدية وما يرافقها من تدخلات إقليمية ودولية تطيل أمد الأزمة المحلية وتحوّلها أزمة إقليمية ودولية، على غرار ما حلّ ببعض الدول العربية المنتفضة التي يشارك فيها أطراف الصراع الداخلي بنوع من التدمير الذاتي المموّل عربيا والمدعوم دولياً. وقد نجحت المعارضة المصرية في التخطيط الجيد، والتدرج في الممارسة العملية وصولاً إلى إسقاط رموز النظام من دون اللجوء إلى العنف، ومنع قوى البلطجية من ممارسة الأعمال السادية المروّعة ضد المدنيين الأبرياء. ذلك المسار يطرح على النخب العربية بتنويعاتها المختلفة، مهمات آنية عاجلة. ومن واجب المناضلين العرب في العمل السياسي أن يعيدوا النظر في الأساليب التقليدية القديمة التي لم تنجح طوال العقود الماضية في إدخال تعديلات تذكر على بنى الأنظمة التسلطية العربية، بل زادتها رسوخاً وحولت الجمهورية منها إلى ملكية أو بالأحرى “جملكية”.

حركة التغيير الجذري في الدول العربية مدعوة اليوم إلى استخلاص الدروس المستفادة من تحركات الشارع المصري التي بدأت تبلور مقولات ثقافية جديدة قابلة للتعميم على امتداد المساحة العربية. وقد نجحت القوى الشبابية في إطلاق مبادرات نضالية نوعية تتطلب إعداد برامج إعلامية من نوع جديد تظهر كيف أن الشعب قادر على استنباط الوسائل الملائمة للتغيير السلمي دونما حاجة إلى انقلابات عسكرية، ودون اللجوء إلى العنف المدمر لطاقات المجتمع من الداخل.

التحديات

ما يجري الآن في مصر، حدث عربي شمولي من نوع جديد، وهو بالتأكيد ليس من صنع قوى خارجية، ولم تستطع وسائل الإعلام الأجنبية أن تؤثر فيه أو أن تحرفه عن مساره النضالي. استطاع شعب مصر، بأطيافه المتنوعة، وخصوصاً الشبابية منها، أن يصوّب مسار الانتفاضة بمساندة فاعلة من الجيش المصري الذي انحاز إلى جانب قوى التغيير الحقيقي التي تصنع تاريخاً جديداً لمصر ولجميع العرب. وهي مكاسب نضالية قابلة للتعميم على المستويين العربي والإسلامي. بيد أن توظيف هذا الحدث عبر وسائل الإعلام يحتاج إلى خبرة عالية في فهم الحدث النوعي، والقدرة على توظيفه نضالياً، ويقدم مادة خصبة عبر وسائل الإعلام الحديثة التي تتابعه بدقة، لكنه يتطلب الكثير من العناية والحرص على عدم تشويهه أو إخراجه من سياقه النضالي، أو السعي إلى توظيفه وفق غايات إعلامية بحتة. ومهما تكن نتائج هذه الأحداث، إلا أنها تختلف نوعياً عن الأحداث التي سبقت انفجار الانتفاضات العربية لعام 2011. فشباب مصر يصنعون اليوم حدثاً جديداً بأبعاد عربية وإسلامية ودولية، وهو بحاجة إلى توثيق معطياته، وتحليل أهدافه، واستخلاص الدروس المستفادة من نتائجه، وفق رؤية نقدية مغايرة لما اعتمد سابقا في وسائل الإعلام العربية والدولية، وإعادة نظر جذرية في تقييم الإنتفاضات العربية، وتقديم أحداث مصر الراهنة كنموذج يحتذى لقدرة القوى المناضلة على تصويب مسار الانتفاضة بعد تعثر بداياتها المرتبكة.

ختاماً، شكلت تنحية الرئيس مرسي في الثالث من تموز 2013 حدثاً بارزاً في تاريخ مصر المعاصر. لكن من السابق لأوانه إظهار تداعياته المرتقبة على صعيد العالم العربي بشكل خاص وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. فما تناقلته وسائل الإعلام العربية والعالمية يؤكد دوراً أساسياً للجيش المصري في هذا الحدث. بيد أن دينامية الشارع المصري تسمح باستخلاص استنتاجات علمية دقيقة وقابلة للتعميم على مستوى العمل الثقافي من جهة، والنضال لإقامة دول عربية عصرية على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة من جهة ثانية. فمجالات الاستفادة من دروس ما يجري في مصر غنية ومتنوعة.

عن الشارع المصري و«الإخوان» و… المسألة الديموقراطية

زياد ماجد *

حمل الحدث المصري، بفصوله المتعاقبة منذ 30 يونيو، الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية والإشكاليات ذات الصلة بالقضية الديموقراطية وبدور المؤسسة العسكرية وبالحالة «الإخوانية» وتجربتها الوجيزة في السلطة في أكبر بلد عربي ومتوسّطي.

النص التالي يقدّم خمس ملاحظات على هذا الحدث وعلى ما رافقه ويرافقه من ملابسات ومفارقات.

الملاحظة الأولى مرتبطة بأبرز التحوّلات التي أحدثتها ثورة يناير 2011 في التعبير السياسي المباشر في مصر، لجهة الاستعداد الجماعي للنزول الدوري إلى الشارع بوصفه مساحة مواطنة وعمل مطلبي وصنع قرار، ولجهة إطلاق الحرّيات العامة وإزالة حواجز الخوف والرقابة. وتبرز في هذا المجال قدرة القوى الشبابية المدينية على المبادرة والتنسيق والدعوة إلى التحرّك بمعزل عن القيادات الحزبية «المحترفة» ومن دون اشتراط التكامل البرنامجي أو الانسجام الفكري لتبرير التلاقي. وفي ذلك ما يظهّر جانباً من جوانب التبدّل في مقاربة العلاقة بالسياسة نتيجة العامل «الجيلي» وقدرة التكيّف والتحرّك السريع للجيل الجديد التي تتيحها الخبرات في «التشبيك» الميداني وفي الإعلام ومواقع التواصل الإلكتروني.

الملاحظة الثانية متعلّقة بنهاية تقدير ساد طويلاً، ومفاده أن القدرة التعبويّة في الشارع المصري (والعربي عامة) مقتصرة على الإسلاميين، وأن لا حضور شعبياً لغيرهم من الاتجاهات السياسية. وقد أظهرت الملايين التي نزلت إلى الشوارع ضد «الإخوان» تهافت هذا التقدير، ولو أن التمييز يبقى ضرورياً بين القوى المنظَّمة، حيث ما زال التفوّق كبيراً لصالح الإسلاميّين، وبين الجمهور العريض غير المنضوي في تشكيلات حزبية، حيث المزاج العام يرفض كل مغالاة سياسية، بما فيها مغالاة تديين السياسة أو تسييس الدين.

الملاحظة الثالثة على العلاقة بما يمكن اعتباره تقييماً سياسياً وإعلامياً واجتماعياً قاسياً للتجربة الإخوانية في حكم مصر، فالإخوان لم يتسّلموا السلطة فعلياً لأكثر من عام واجهوا خلاله أزمات جلّها نتيجة أوضاع عقود أو سنوات سبقت انتخابهم. وواجهوا كذلك انتظارات وآمالاً كبرى بالتغيير الإيجابي، كلاسيكية في المراحل التي تلي الثورات مباشرة، أصيب معظمها بنكسة نتيجة التعثّر السياسي والاقتصادي. ويمكن بالطبع القول إن ما بدا على الإخوان من سلوك استئثاري وغرور، ومن ضعف أداء ومقاربات تبسيطية للمشاكل والتحدّيات، صعّبت تقبّل قطاعات واسعة من الرأي العام، لبطء تبدّل الأمور ولتتابع الأزمات، وهذا بالطبع غذّى المعسكر المعارض أو المعادي لهم ووسّعه.

على أن قضية أخرى تمكن إضافتها إلى قصة تقييم فئات من المصريّين للأداء الإخواني، وهي قضية على صلة بالأبعاد الطبقية وبالأصول الريفية لأكثرية الإخوانيين التي ينظر إليها بعض الجماعات المدينية بريبة تلامس حدود الاحتقار. ولعلّ جوانب أساسية من السخرية التي ووجه بها مرسي ارتبطت بسلوكه الشخصي وبركاكته اللغوية وبـ «تنميط» اجتماعي طاوله وزوجتَه، وطاول أيضاً نخباً إخوانية انتقلت من السجون ومن الخطابة في مساجد قرى وأحياء شعبية إلى نوادي سلطة سبق للمظاهر «الحداثوية» (وأحياناً البورجوازية) أن احتلّتها لعقود، وهذا كلّه قدَّم لعدد من البرامج الترفيهية ومواقع التهكّم مادةً دسمة تخطّت في كثير من الأحيان السياسة وتقييم أداء مرسي ضمنها، وخلقت مناخاً عاماً يرى في الرئيس مصدر مهانة لموقع الرئاسة نفسه.

الملاحظة الرابعة تضعنا في قلب السجال حول ما يسمّى «الفشل الإسلامي في السلطة». وقد تزايدت الكتابات في هذا الاتّجاه، على اعتبار الانتفاضة الشعبية العارمة ضد مرسي والإخوان دليلاً على وصول مشروع الإسلام السياسي إلى حائط مسدود. لكن يفيد في هذا السياق التوقّف عند مسألتين:

الأولى هي اعتبار أن ثمّة مشروعاً فعلياً للإسلام السياسي. والثانية هي المدى الزمني الذي يسمح بإبرام حكم على هكذا مشروع، إن وُجد.

في المسألة الأولى، لا يبدو الكلام على مشروع سياسي مستنداً إلى معطيات دقيقة أو إلى برامج ورؤى اقتصادية تتيحه. فالإخوان -وهم المقصودون هنا- لم يقدّموا مشروعاً اقتصادياً، وليس لهم، ولا لغيرهم، برامج مالية وضريبية مختلفة عن السائد، كما أنهم لم يعرضوا فلسفة للحكم تختلف عن الفلسفة الدستورية (رئاسية أو برلمانية) المعتمدة، ولم يبلوروا سياسة خارجية أو علاقة بالدول والمؤسسات المانحة عميقة الاختلاف عن السياسات القائمة، وجُلُّ ما يحملونه ويحمله غيرهم من الإسلاميين من تمايزات يرتبط ببعض التشريعات الاجتماعية وبالهاجس المركزي عندهم: المرأة، وهذا -في أي حال- نقاش يستحق الاستفاضة، وليست وظيفة هذا النص الخوض فيه. بذلك لا يبدو أن مشروعاً إسلامياً فعلياً نُفّذ (أو هو موجود) ليُتاح الحكم عليه. وحتى لو أن المقصود هو ادّعاء الإسلاميين ملكهم لحلول وبدائل عمّا ساد في الحقبات السابقة منذ الاستقلالات الوطنية، وحتى لو قالوا إنهم في سيرة الأسلاف يجدون زادهم القِيَمي وثقافة حاكميّتهم، فلا يمكن اعتبار وجودهم في السلطة عاماً واحداً كافياً لإطلاق الأحكام بالفشل أو بالنجاح، ولو أن المؤشّرات بأكثرها تميل إلى احتمالات فشلهم في إدارة مصر لأسباب موضوعية وذاتية، كون الأوضاع والظروف معقّدة، وكونهم قوى معارضة متمرّسة وليسوا ذوي خبرات حكم تؤهّلهم لحسن الإدارة السياسية والاقتصادية.

الملاحظة الخامسة متّصلة مباشرة بالقضية الديموقراطية وبالانقلاب الذي نفّذه الجيش وعزل على أثره رئيساً منتخباً واعتقله. ولا ينبغي هنا الهروب من التشخيص ومن اعتماد المصطلحات المناسبة لهذا التشخيص، فالتظاهرات الضخمة التي قامت والحشد الشعبي غير المسبوق في أي من التواريخ المصرية السابقة، ضد حكم مرسي لا تغيّر من كون إجراءات الجيش (بدءاً من توجيه وزير الدفاع الجنرال السيسي إنذاراً إلى مرسي والى جميع القوى السياسية للاتفاق خلال 48 ساعة، مروراً بتحليق الطيران الحربي والمروحيّات وانتشار الدبابات في مفاصل المدن الكبرى، وصولاً إلى اقتحام مقرّ الرئيس وعزله واعتقاله ثم إقفال بعض الوسائل الإعلامية وتوقيف عدد من العاملين فيها ومنع قيادات إخوانية من السفر و «الطلب» إلى القضاء التحرّك ضدها) هي انقلاب عسكري موصوف ولو تذرّع بالتجاوب مع الهبّة الجماهيرية وهلّل له بعض الحشود. على أن ما هو أهمّ من الاستمرار في السجال حول التوصيف، هو المسار الذي ستتّخذه الأمور في المقبل من الأسابيع والأشهر، وموازين القوى التي ستفرض التسويات والمقايضات وحدود الدور الذي ستلعبه المؤسّسة العسكرية في تحديد ذلك وشكل المواجهة المقبلة مع «الإخوان».

في المحصّلة، يمكن القول إن «جمالية» المشهد الشعبي في 30 يونيو ودلالاته التي احتُفي بها لا تكفي لتغطية مشهد آخر شديد التعقيد. مشهد سياسي يحتلّ العسكر جانباً منه، ويحتلّ الإخوان المسلمون الجانب الآخر، وكأنّنا في ذلك نعود إلى تلك المعادلة/ الثنائية الابتزازية التي لطالما استخدمها الاستبداد الحاكم لتبرير ديمومته ومنع التغيير، على أنها هذه المرّة تأتي في ظروف مختلفة تماماً ليس فقط لما يرافقها من حراك شعبي هو من أبرز إنجازات الثورات العربية، بل أيضاً لأنها تأتي بعد انتخابات برلمانية ثم رئاسية حرّة نسبياً هي الأولى في تاريخ مصر، وفاز فيها «الإخوان». وسنجد أنفسنا قريباً أمام سرديّة «مظلومية إخوانية» تستعيد سوابق مصرية وعربية (جزائرية وفلسطينية)، ويمكن إن اشتدّ النزاع معها واستمرّت حالة شيطنتها ونزع الأنسنة عن معتنقيها (بما يبرّر أحياناً العنف والقمع ضدّهم) أن ينحو بعض مكوّناتها نحو المزيد من التطرّف والتشدّد ونبذ العملية السياسية، فيتهدّد استقرار مصر برمّته.

المسار المصري إذاً مسار قد يزداد في المقبل من الأيام تعقيداً، وضمانتا بقاء «الشارع» مؤثّراً وقادراً على التعبئة والضغط والتغيير السلمي هما عدم توسّع الصدام بين الجيش والإخوان، وعدم نسيان أن سيطرة «العسكر» على السياسة لا تقلّ خطورة على الديموقراطية من تجاوز أي حكم منتخب حدودَ التفويض الممنوح له، إنْ باسم الدين أو باسم الدنيا.

* كاتب لبناني

الحياة

مخاض الأفكار في غمرة العواصف

موسى برهومة *

من مفارقات «الزلزال» الذي عصف بمصر، أنه وفّر ذرائع كثيفة و «مقنعة» لكلا الطرفين المنقسميْن عمودياً المؤازر لما حدث والمعارض له، سواء في مصر أو خارجها.

لقد غمر الالتباس المشهدَ، حتى إن المرء لم يعد يحوز يقيناً صافياً يستطيع الركون إليه، وبالتالي تشكيل رأي باتّ وقاطع فيما جرى، إن شاء أن يتحلى بمقدار من الموضوعية والنزاهة.

الذرائعية سيدة الموقف، وهي أقرب إلى مفهوم المفكر الأميركي وليم جيمس الذي يعتبر أن الفكرة الصحيحة هي التي يمكن إثباتها، مقرّاً في الوقت ذاته بأن الحقيقة عرضة للتغيّر، لكنه ينبّه إلى أمر مهم، إذ يشدد على أننا نستطيع أن نجعل الأفكار صحيحة من خلال أفعالنا، وكأنه يحيل إلى مقاصدية من نوع ما.

ولعل المقاصدية أو البراغماتية، تشرح ما جرى في مصر، لكنها لا تستطيع «القبض» على الحقيقة التي لها وجهان يحوزان درجة كافية من النصوع، فأنصار الرئيس «المعزول» محمد مرسي ينظرون إلى ما جرى بصفته انقلاباً «عسكرياً» لا نقاش فيه، دبّرته مؤسسة الجيش، بمعاونة أطراف في الداخل والخارج، للقضاء على حكم «الإخوان المسلمين» الذين وصلوا إلى سدة الرئاسة من خلال انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية «شهد لها القاصي والداني»، على حد تعبير مرسي.

بيْد أن المناوئين للرئيس «المعزول» يمتلكون حجة مقابلة لا تقلّ قوة وإقناعاً عن حجة الفريق الأول، فهم يعتقدون أن «الانقلاب» ليس عسكرياً، وإنما «خلع» تمّ بإرادة شعبية، بعد أن خرج المصريون إلى الشوارع والميادين، ونزعوا ثقتهم بالرئيس، وبالتالي سحبوا الشرعية منه، لأنه في نظرهم لم يكن أهلاً للمسؤولية، ولا جديراً بالثقة، وقاد البلاد بعقلية الحزبي «الإخواني»، وليس بروح القائد العام لجموع المصريين على اختلاف انتماءاتهم وتنوعاتهم.

وبين البينيْن، ثمة من يتساءل على نحو ماكر: ما الذي يمنع، إذا سلّمنا بشرعية «الانقلاب» من أن ينقلب الناس على الرئيس المقبل، فتصبح الحكاية «ألعوبة» بيد الجماهير والحشود، ولا يتحقق الاستقرار؟

وربما يأتي الرد، أن الشرعية الثورية، أشدّ مضاءً من الشرعية الدستورية، فالذين يضعون أوراقهم في الصندوق، سيتعين عليهم مراقبة الأداء، والتحقق من أن أصواتهم لم تذهب عبثاً، وهنا يندلع التجاذب والانشقاق من جديد، لكنّه ليس تجاذباً عفوياً هدفه تزجية الوقت. إنه مخاض الأفكار وهي تبحث عن مستقر لها في غمرة العواصف الهوجاء التي لم تطح أنظمة سياسية وحسب، بل شملت إطاحة مفاهيم، كنا إلى وقت قريب نجزم بأنها راسية رسو الجبال الراسخات!

من الضروري، إذاً، أن تؤسس ثورات الشعوب، لغة مفاهيمية جديدة، وهذه مهمة ثقافية وفكرية ضرورية، حتى لا نقع أسرى حال الاستقطاب القصوى التي تصادر على العقل، وتستهين بالمنطق، وتجرّ المجتمع إلى التخندق ضد بعضه الآخر، ما يشيع أجواء الكراهية، وربما الاحتراب.

حتى إن المؤسسة الدينية لم تسلم من لعبة الاستقطاب هذه، ففي حين بارك الأزهر والكنيسة القبطية ما جرى في مصر، باعتباره «أهون الشرّين»، نجد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي يصدر فتوى تدعو المصريين إلى مناصرة مرسي، معتبراً أن «تدخل الجيش لعزل مرسي يوم الأربعاء ينافي الديموقراطية والدستور».

إن شواش المفاهيم وتبدّلها السريع قمين بالمراقبة والمتابعة، فمن مفارقات «الربيع العربي»، مثلاً، أن يجتمع مناصرو بشّار الأسد وزبانيته وشبيحته من قوميين بائسين ويساريين عاطلين من العمل والجدوى، للوقوف ضد مرسي، وامتداح عزله باعتباره انتصاراً للإرادة الشعبية التي أطاحت «الديكتاتور» الذي أقصى مخالفيه، واستأثر بالسلطة، وسعى إلى «أخونة» الدولة والمجتمع، بينما يغمض هؤلاء عيونهم عن المجازر الوحشية، وحرب الإبادة والتهجير التي يخوضها «الإمام العادل» في دمشق!

فهل بعد هذه الهستيريا، يمكن الفكر العقلاني أن يجد مستقراً له، وينهض المنطق من كساحه؟!

* كاتب وصحافي أردني

الحياة

بيرنز كسياسيّ من العالم الثالث!

راجح الخوري

كان على وليم بيرنز ان يقرأ جيداً وهو في طريقه الى القاهرة مقال مارتن انديك، الذي انتقد فيه بشدة اداء الادارة الاميركية حيال التطورات المصرية، مؤكداً “ان واشنطن اخطأت بعدم الوقوف في وجه محمد مرسي وما ارتكبه من أخطاء”، في إشارة الى سياسة الاستئثار والتسلط التي طبقها “الاخوان المسلمون” في الحكم!

ليس سراً ان واشنطن بدت في العام الماضي كمن ينقل دعمه من فرعون ساقط الى فرعون ناهض، ولهذا لم يكن مستغرباً ان تبدو السفيرة الاميركية آن باترسون المكروهة عند المصريين كناطقة بلسان “الاخوان المسلمين”، وان يبدو الرئيس باراك أوباما وكأنه يذرف الدموع على مرسي، ولهذا لم يكن في وسع بيرنز ان يثبت عملياً في زيارته ما اكده الجنرال مارتن ديمبسي قبل يومين من “ان مصر تبقى حجر الزاوية في سياستنا في الشرق الاوسط”!

ليس المهم ان يكون بيرنز قد التقى عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي وحازم الببلاوي، نافياً تأييد اميركا لمرسي، بل المهم ان يتوقف جيداً أمام اولئك الذين رفضوا ان يلتقوه، والمهم اكثر ان يتذكر لماذا ألغت الرئاسة المصرية المؤتمر الصحافي بعد لقائه مع منصور وكأنه مجرد زائر من العالم الثالث، فالواضح انها أرادت توفير الاحراج وطوفان الاسئلة القاسية المتوقعة عن انهيار الرهان الاميركي على شرق أوسط جديد يديره “الاخوان”!

عندما ترفض لقاءه حركة “تمرد” التي جمعت ٣٣ مليون توقيع لترحيل مرسي وظلت واشنطن تتحدث عن انقلاب عسكري، وكذلك يرفض “الاخوان” الذين يتهمون واشنطن بتدبير الانقلاب، اضافة الى حمدين صباحي وقيادات أخرى من المجتمع المدني، فهذا نتيجة طبيعية متوقعة لتخبط السياسة الاميركية حيال التطورات المصرية، وهو تخبط يمكن ان يلمسه المرء أيضاً في الموقف الاميركي المعيب من المأساة السورية، فليس سراً ان التغاضي عن المذابح المرعبة منذ عامين ونيف هو الذي يجعل من سوريا بؤرة تستجلب الارهابيين والمتشددين على ما يحصل الآن، لتصبح مستنقعاً صومالياً يهدد المنطقة كلها!

يقول مارتن انديك في مقاله: “لقد تكلمنا عندما كان يجب ان نعمل في صمت لإسقاط مبارك، وصمتنا عندما كان من الضروري ان ندين مرسي والاخوان بسبب الاستئثار والتسلط وتشويه الممارسة الديموقراطية”. لكن بيرنز لم يتردد في إقراء النصائح المضحكة الى قادة حركة استعادة روح الثورة عندما قال: “نأمل بالخروج الى حكومة ديموقراطية دون اقصاء لأي حزب او طرف، فاذا كان ممثلو بعض الاحزاب محتجزين وتم اقصاؤهم فكيف يكون الحوار والمشاركة ممكنين؟”.

والمثير ان واشنطن لم تتذكر هذا يوم نكّل حلفاؤها “الاخوان” بكل المعارضين، ولست ادري ما اذا كان السبب هو أنها “لم تستوعب بعد صدمة ازاحة حلفائها الاخوان”، كما قال وزير الخارجية سابقاً محمد العرابي!

النهار

عن الأجنبي “الشماعة” في مصر

محمد فرج

– 1 –

رسّخت “دولة يوليو” منذ قيامها في 1952 أسطورة “الأجنبي العدو”. ربما كان لهذا أسباب موضوعية لها علاقة بوجود عدد غير قليل من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من ذوي أصول أجنبية.

ولعبت الاتجاهات القومية للنظام – التي اقتربت أحيانا من العنصرية – مع هذه الظروف ومع كمّ المؤامرات التي تحدّث عنها إعلام كرّس تحوّل “الأجنبي” إلى جاسوس أو منفذ مؤامرة أو مشارك في مخطط لتخريب الوطن.

ومع تغيّر أهواء النظام، واختلاف رجالاته، تغيّرت شخصية “الأجنبي العدو” ولكن ظلت صفاته ثابتة، وأيضاً استعماله كـ”شماعة” جاهزة يمكن تعليق الكثير من الأشياء عليها. فمع الانفتاح الساداتي، والاهتمام بالسياحة والتدفق الأوروبي على مصر، كان “الأجنبي العدو” يأخذ صورة الفلسطيني أحيانا أو الخليجي أحياناً أخرى، ومع عصر مبارك تحول الأجنبي “الأشقر” إلى مصدر رزق للعاملين في السياحة، فاختفت قليلا نغمة “الأجنبي العدو” ولكن تم استبدالها بتهمة “تشويه سمعة مصر” التي تم استعمالها كثيراً ضد صحافيين أجانب كتبوا عن مساوئ النظام المصري أو الكوارث التي يعيش تحت وطأتها المصريون، ولاحقت المشاريع الفنية ذات الإنتاج المشترك، وتم توجيهها بشكل رئيسي لمنظمات حقوق الإنسان المغضوب عليها من سلطة مبارك.

– 2 –

خلال الأيام الـ18 الأولى للثورة جرى استدعاء رصيد أسطورة “الأجنبي” بقوة، ليصبح كل الأجانب “أعداء”، فمن جنود “حزب الله” المنتشرين على أسطح عمارات ميدان التحرير، كما ردد الإعلام الرسمي حينها، إلى الأجانب الأوروبيين والأميركيين الذين يزرعون الفتنة في الوطن – وكانت هذه النغمة مخصصة للصحافيين الأجانب الذين لعبوا دوراً كبيراً في نقل ما يحدث في مصر للخارج – إلى جانب قوات حماس التي فتحت السجون كما ردد الإعلام الرسمي أيضاً. وساهمت تلك التعبئة في شحن الكثيرين ضد الأجانب الموجودين في مصر. واستمر الإعلام وقت حكم المجلس العسكري في اللعب على هذه النغمة، من الجاسوس الإسرائيلي إلى منظمات المجتمع المدني، مروراً بالطبع بحماس وفلسطينيي غزة.

– 3 –

مع وصول الإخوان إلى حكم مصر خفت استعمال نغمة “الأجانب”. كفّ الإعلام الرسمي عن استعمال “حماس” والفلسطينيين، فتلقف الإعلام الخاص النغمة، وراح يردد كثيراً – عناداً في “الإخوان” – الحديث عن الإرهابيين القادمين من غزة ليشعلوا نار الفتنة في سيناء، والمحروقات المصدرة إلى غزة، وملابس الجيش المزورة المهربة من غزة. وهكذا تم استدعاء “الشماعة” مرة أخرى، وكانت هذه المرة أهل غزة.

– 4 –

مع اضطراب موقف مرسي وارتباكه في مواجهة الأزمات المتتابعة، استعمل نظام “الإخوان” الثورة السورية كي يحقق شيئاً من الشعبية. هكذا فتحت الأراضي المصرية للسوريين النازحين – ويعدّ هذا من أفضل قرارات مرسي – وأعلن عن غلق السفارة السورية. ولكن المسألة كانت استعراضاً إعلامياً أكثر من كونها مساعدة لأشقاء في أزمة. فعلى الرغم من إلغاء التأشيرة للسوريين، ظل القيام بأي عمل يتطلب الحصول على تصريح بالإقامة، وهو ما يتطلب الحصول على تأشيرة، ليلقي بالكثيرين في دائرة مفرغة، إلى جانب مئات الحكايات والحوادث المؤسفة عن عمليات نصب وقع ضحيتها سوريون هاربون.

وتبقى الفضيحة الأكثر خجلاً التي استعمل فيها الإسلاميون أزمة السوريين هي استغلال النساء باسم الزواج، حيث ذكرت أكثر من جهة رسمية وقوع أكثر من 12 حالة زواج من سوريات خلال العام الماضي، وبصداق لا يتعدّى 500 جنيه – أقل من مئة دولار- تحت شعار “ستر الأخوات المسلمات”.

– 5 –

لم ينتبه الإعلام الخاص لكل هذا الكمّ من المآسي التي يعاني منها السوريون في مصر، ولم يهتم إلا بالقدر الذي يسمح بمهاجمة نظام الإخوان. وهكذا تم تسليط الضوء على تصريح المتحدث باسم الرئاسة السابق حول عدم وجود شبهات جنائية تجاه “المجاهدين” المصريين في سوريا، فقط من أجل “التلسين” على علاقة “الإخوان” بتنظيم القاعدة، وبدأت نبرة الإعلام العدائية تجاه السوريين عندما عقد مرسي مؤتمر “نصرة سوريا” من اجل ترميم شرعيته في أيامه الأخيرة.

ومع الاضطرابات الأخيرة، والإعلان عن القبض على عدد من السوريين ضمن مؤيدي مرسي، اندفعت طاقة كراهية وعداء تصل إلى حد العنصرية تجاه السوريين الموجودين في مصر.

وتم استدعاء كل أساطير “الأجنبي العدو” ليتم تركيبها على السوريين، لتصل أحيانا إلى حد التحريض على قتلهم، كما فعل الإعلامي يوسف الحسيني – المحسوب على التيار المدني – في مقدمة برنامجه منذ أيام.

– 6 –

آليات الدولة الإعلامية لم تتغير، وإنما توسعت، وتم تقسيمها ما بين الرسمي والخاص بأنواعه، والنظام – حتى لو تغيّرت وجوهه – ما زال يحتاج إلى “أعداء أجانب” يمكنه توجيه الغضب الشعبي ضدهم، واستعمالهم كشماعات لقصوره وعجزه.

الهجمة الإعلامية على السوريين في مصر لن تؤدي إلى طردهم، ولكنها ستؤدي إلى زيادة قسوة شروط وجودهم. الهجوم على السوريين يظهر بوضوح كيف يختفي مفهوم “الإعلام” في مصر، وكيف تحتل “الدعاية” محلّه. الهجمة على السوريين فاضحة لكمّ هائل من العداء والعنصرية تجاه الآخر. عداء وعنصرية عمل النظام على تخصيبهما طوال الوقت، من أجل استعمالهما في الوقت المناسب، لمصلحته ضد الناس.

(القاهرة)

هل يخطئ الإخوان المسلمون مرَّتين؟

صلاح أبوجوده

تكمن في صميم الأزمة المفتوحة التي تعيشها مصر حاليًّا ثلاث حقائق يمكن أن تؤدّي العوامل الاقتصاديّة والخارجيّة المتداخلة والضاغطة، إلى حرف النظر عن دروها الحاسم في استمرار الأزمة أو تجاوزها.

“على كلّ مسلم أن يعتقد أنّ هذا المنهاج كلّه (منهاج جماعة الإخوان) من الإسلام، وأنّ كلّ نقص منه نقص من الفكرة الإسلاميّة الصحيحة”.

(مؤتمر جماعة الإخوان المسلمين الثالث، 1935)

الحقيقة الأولى هي فصل جماعة الإخوان المسلمين التقليديّ بين الديموقراطيّة بصفتها مجموعة قيم تُلهم طريقة الحياة والسلوك الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فرديًّا وجماعيًّا، وتُحدِّد مكان الدين في المجتمع ودوره في الحقل العامّ، والديموقراطيّة بصفتها آليّة انتخاب.

والحقيقة الثانية هي ميل جماعة الإخوان إلى مصادرة تمثيل الإسلام السياسيّ، وبالتالي نزعتها التلقائيّة إلى الانفراد بالحكم.

أما الحقيقة الثالثة، وهي بمثابة الخطأ الفادح، فتتمثل باخفاق قيادات جماعة الإخوان التي التحقت بالانتفاضة الشعبيّة التي أدّت إلى إسقاط حكم الرئيس مبارك، في فهم طبيعة التغيير الذي حصل في الأوساط النخبويّة القادرة على تعبئة الأوساط الشعبيّة عفويًّا باسم الحريّة والديموقراطيّة والحقوق الفرديّة، بقدر ما يمكن جماعة الإخوان (وخصومهم السلفيّين) تعبئتها عفويًّا أيضًا باسم الدين.

ولعلّ عدم الفهم هذا نتج من عدم قراءة جديّة وموضوعيّة المشهدَ الثوريّ، كما من غياب برامج سياسيّة واضحة تُعبِّر عن روح التغيير الثوريّة. وإذا كان يمكن اعتبار الحقيقتين الأولى والثانية من نتائج التطوّر الطبيعيّ لفكر جماعة الإخوان السياسيّ في ضوء المبادئ التي قامت عليها، فإن تلاقي هاتَين الحقيقتَين مع الحقيقة الثالثة أدّى إلى إنهيار مبكّر لحكم الجماعة.

يعلم قياديّو جماعة الإخوان تمام العلم أنّهم قادرون على الانتصار في أيّ استفتاء شعبيّ أو انتخابات عامّة تجري في جوّ ديموقراطيّ سليم، وخصومهم يعلمون ذلك جيّدًا. فلقد برع الإخوان طوال عقود من الاضطهاد والعزل في مخاطبة مجتمعٍ عصبيّتُه الدينيّة أصلاً قويّة- شأن سائر مجتمعات الدول العربيّة والإسلاميّة-، رابطين بين الظلم اللاحق بهم وإهانة “حقوق الله”، ومعزّزين موقف العداء الشعبيّ لحكمٍ استبداديّ لم يسعَ لبنيان مواطنين ودولة القانون والمؤسّسات، أيضًا شأن سائر الدول العربيّة والإسلاميّة.

لذا، لم يكن غريبًا أن تبدأ جماعة الإخوان، بعد تسلّمها السلطة، بـ”أخونة” الدولة رويدًا رويدًا، متسلّحة بقدرتها على تمرير قراراتها “ديموقراطيًّا”، الأمر الذي أدّى إلى انتفاضة نخبويّة ثانية حشدت جموعَها، ولجأت إلى العسكر لإسقاط الرئيس مرسي. وفي هذا السياق، لا يمكن الاكتفاء بالرأي القائل بأنّ أسباب الانتفاضة المذكورة ينحصر في عدم كفاءة الإخوان بالحكم، وعجزهم عن مواجهة حالة البلد الإداريّة والاقتصاديّة المزرية التي خلَّفها النظام السابق. يعتبر أصحاب هذا الرأي، في الواقع، أنّ الانتفاضة الثانية ألحقت ظلمًا بجماعة الإخوان، وأجهضت التجربة الديموقراطيّة الناشئة. فكان يجب إعطاء الجماعة فرصة لتكتسب خبرة في الحكم وتتجاوز الأوضاع الصعبة الموروثة.

ينطوي هذا الرأي على شيء من الصواب، ولكنّه يبقى نسبيًّا ويهمل الأساس. فعند النظر إلى الأخطاء التي ارتكبها حكم الرئيس مرسي، تتّضح نيّة “أخونة” الدولة، إضافةً، بالطبع، إلى قلّة الدراية بإدارة الشؤون العامّة. فمن تلك الأخطاء: الإعلان الدستوريّ في تشرين الثاني 2012 الذي جعل القرارات الرئاسيّة نهائيّة غير قابلة للطعن، وتكليف جمعيّة تأسيسيّة يهيمن عليها الإخوان صياغة دستور جديد (عمل أُنجز بــ 18 ساعة فقط!) جرى الاستفتاء عليه في العام نفسه (حصل على نسبة 63،8 %)، والسعي المستمرّ للسيطرة على القضاء، والتضييق على الإعلام ونشاط المنظّمات غير الحكوميّة، وعدم الجديّة في دعوة المعارضين إلى الحوار، وتعيين محافظين وموظّفين حكوميّين من الإسلاميّين المتشدّدين، إضافة إلى العجز عن مواجهة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، بالرغم من دعم قطر والولايات المتّحدة الأميركيّة، واتّخاذ موقف بدا مؤيّدًا الدعوةَ إلى الجهاد في سوريا.

لا يمكن جماعة الإخوان في ضوء فكرها السياسيّ التقليديّ السائد إلاّ أن تعمل في سبيل تحقيق دولتها الدينيّة كما تفهمها. فلو أظهر حكم الرئيس مرسي براغماتيّة في التعاطي مع المعارضة، ومهارة في مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة، كان سيؤجّل الأزمة لا أكثر. ذلك أنّ التغيير الثوريّ الذي حصل في الوسط النخبويّ وجلّه من الشبيبة، قد فرض التعدديّة السياسيّة الفعليّة في المجتمع، وأسّس معارضة متنوّعة حرّة وقويّة، وخلق جوًّا عامًّا بات يمقت كلّ استبداد أو أحاديّة في الحكم. لقد انتهى زمن السكينيّة وزمن حكم الحزب الواحد وزمن تأليه القائد، وأتى زمن المجتمع المدنيّ الحيويّ، ولا يمكن العودة بهذا التغيير إلى الوراء.

لا أحد يعلم إلى أين تذهب الأوضاع في مصر الآن. فالقوى الثوريّة لا تجد حاليًّا إلاّ الاستعانة بالعسكر سبيلاً لإبعاد خطر أخونة الدولة. والعسكر الذي كان لوهلة راضيًا عن حكم الإخوان الذي حفظ له امتيازات غير ديموقراطيّة في الدستور الجديد (الموادّ 195-198 التي تنصّ على أن يكون وزير الدفاع ضابطًا في الخدمة، وحقّ المحاكم العسكريّة محاكمة مدنيّين يرتكبون جرائم تلحق الأذى بالقوّات المسلّحة، ومشاركة العسكر في التصويت على الموازنة العسكريّة)، لم يستطع تجاهل روح التغيير الثوريّة، ولا يريد العودة إلى النظام السابق الذي يعلم مسبقًا أنّه لن تكتب له الديمومة. أمّا النظام الانتقاليّ القائم فيبدو منهمكًا في توسيع قاعدة شرعيّته داخليًّا وخارجيًّا.

أمّا داخليًّا فمن طريق مسايرة السلفيّين إلى حدّ تعزيز دور الشريعة الإسلاميّة كما ورد في المادّة الأولى من الإعلان الدستوريّ (جمهورية مصر العربيّة دولة نظامها ديموقراطيّ يقوم على أساس المواطنة والإسلام دين الدولة واللغة العربيّة لغتها الرسميّة ومبادئ الشريعة الإسلامية، التي تشمل أدلّتها الكليّة وقواعدها الأصوليّة والفقهيّة ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة، المصدر الرئيسيّ للتشريع).

وأمّا خارجيًّا فمن طريق إعطاء تطمينات في شأن مستقبل مصر الديموقراطيّ (وإن كان يعلم مسبقًا أنّ انتخابات ديموقراطيّة عامّة لن تجري ما دام بوسع جماعة الإخوان استثمار العصبيّة الدينيّة، وبالتالي تحقيق النتائج التي توصّلوا إليها في الانتخابات السابقة)، فضلاً عن سعيه لتكوين حكومة قادرة على النهوض بالاقتصاد والخدمات العامّة.

وفي المقابل، تبدو جماعة الإخوان قد اختارت طريق المواجهة في الشارع لتعطيل نتائج الانتفاضة الثانية، مع مخاطر الانزلاق في النموذج السلفيّ الجهاديّ التكفيريّ. ولكنّ هذا الاختيار سيؤدّي إلى اعتماد القوى الثوريّة المتزايد على العسكر، وبالتالي استعدادها لتأمين غطاء للممارسات القمعيّة التي بدأت بوادرها بحقّ قيادات الإخوان، أو التعتيم عليها، الأمر الذي سيضعف المسار الديموقراطيّ كثيرًا، ويُدخل البلاد في المجهول.

يمكن نموذج الحكم الإئتلافيّ التونسيّ أن يمثّل مخرجًا للأزمة المصريّة إذا قبلت به الأطراف كافّة، ولا سيّما جماعة الإخوان. فقيادات جماعة الإخوان مطالبة بموقف واقعيّ يُسلِّم بالتغيير الذي أحدثته الروح الثوريّة، وإلاّ فسترتكب خطأ ثانيًا فادحًا بحقّ نفسها وبحقّ دولتها. فلا بدّ من الانفتاح على المشهد الوطنيّ الجديد، لا بصفته أمرًا واقعًا يفرض برغماتيّة معيّنة فحسب، بل حالة تدعو إلى مراجعة نقديّة لفكر الجماعة السياسيّ في ضوء المتطلّبات الديموقراطيّة أيضًا.

ويمكن في هذا السياق أن يستفيد الإخوان من خبرة الكنيسة الكاثوليكيّة في الغرب. فبعد عقود طويلة من رفض الديموقراطيّة الليبراليّة وحقوق الإنسان والحذر منها، تصالحت الكنيسة مع تلك القيم ومن ثمّ تبنّتها، لا لأنّ التطوّرات فرضت واقعًا ما عاد يمكن إلغاؤه، بل لأنّ النقد طال الفكر اللاهوتيّ نفسه الذي لم يمكنه إلاّ أن يقبل بكلّ ما يأتي بالخير والسلام للإنسان ومجتمعه، لأنّ ذلك يتلاقي في نهاية الأمر وجوهر الإيمان.

أستاذ في جامعة القدّيس يوسف

النهار

قطبية «الإخوان – العسكر» ليست قدَراً

بشير هلال

ما زالت الحشود الإخوانية كثيفةً في ميادين مصر، ولا يبدو أنها ستنسحب منها سريعاً، ولن يمنعها من ذلك تشكيلُ الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور حازم الببلاوي، أياً تكن درجة انفتاحها، كما لا يقلل من أهميتها استمرار الحشد المقابل. وفي ذلك دلالات كافية على صعوبة إيجاد تسوية قريبة للنزاع بين جماعة «الإخوان المسلمين» والجيش. فقيادته لا تستطيع التراجع عن التدبير الأساسي لانقلابه، المتمثل بعزل الدكتور محمد مرسي من رئاسة الجمهورية وتعليق الدستور وتعيين رئيس موقت، فيما الأولى لا تستطيع ابتلاع هذا التدبير في أي صيغة تسوية.

إن تراجع الجيش لن يعني النهايةَ الفعلية لقيادته الحالية فحسب، وهو ما يقصده قادة «الإخوان» بحديث بعضهم عن إقالة الفريق السيسي، بل سيعني خصوصاً نهاية ميزان القوى الذي سمح للجيش بحفظ امتيازاته و «استقلاله» حتى الآن، باعتباره حاكم نفسه وناظم نفسه من جهة، وشريكاً في السلطة العمومية من جهة أخرى، رغم ثورةٍ كانت تطالب جوهرياً بإسقاط سلطة مبارك، ليس كشخص وعائلة وبطانة وشبكات نفوذ وفساد فحسب، بل كسلطةٍ جهازُها العضوي عسكريٌّ أمني، يتحكم في الوقت ذاته بأكثر من ربع الاقتصاد المصري. أما جماعة «الإخوان»، فترى أن تراجعها عن إلغاء عزل مرسي وإعادته (ولو لمدة محدودة يتبعها استفتاء أو انتخابات مبكرة)، سيعني نهاية صعودها السياسي ودفعها باتجاه التحول من قوة المعارضة الرئيسية ماضياً ثم قوة الحكم الأولى في «العهد الثوري»، إلى قوة كبيرة بين قوى إسلامية وغير إسلامية كثيرة يزخر بها هذا العهد بلا امتياز الأدوات الدستورية والإدارية والسياسية التي اكتسبتها، وبدأت باستخدامها عبر موقع الرئاسة ومن خلال الإعلان الدستوري المُكمِّل ثم دستور نهاية العام الماضي الذي كسبت الاستفتاء عليه باتفاقٍ ضمني مع الجيش.

وعلى العكس، يبدو الاحتمال الأرجح هو تجدّد وسائل النزاع وتلويناته وتعدّدها، بما يجعله أكثر تعقيداً من الصورة المُبسطة التي بدا عليها عشية الحراك الشعبي المعارض الهائل في 30 حزيران (يونيو)، وهي صورة اجتماع غالبية شعبية ساحقة عابرة للانقسام الكلاسيكي بين إسلاميين وعلمانيين ومدنيين وعسكر، كما للتمايز الأحدث الذي انبثق من إسقاط حكم مبارك بين عسكر وثوريين و «فلول» و «حزب كنبة»، ضد الحزب- «الطائفة».

ما عقَّد هذه الصورة وأضعفها هو بالضبط تدخل الجيش الذي أثلج صدور كثرة من مُستعجلي استخدام قوته لتحويل الواقع الغالبي التعددي الضعيف التجانس، إلى سلطة أمرٍ واقع منتجة لشرعية بديلة. لكنه أعاد الصراع إلى ترسيمته الكلاسيكية التي اعتادها حزب «الإخوان» وحصد فيها شعبيته وبنى تنظيمه بعدما زرع المجتمع بشبكاته وبمظلوميته التاريخية، مضيفاً إليها هذه المرَّة أداة دعوية استثنائية قدّمَتْها إزاحة مرسي وتعليق الدستور، بوصفهما انقلاباً على الشرعية المزدوجة لرئيس دستوري ولجماعة حققت مرابح نسبية متتالية في الصناديق. ولا تلغي وجاهة هذا الادعاء حقيقة أنه لا يأخذ في الاعتبار تطور الاجتهاد القانوني- السياسي حول صلة الشرعية الدستورية الشكلية بالشرعية الشعبية، واشتراط الديموقراطية صناديق الاقتراع كشرط أولي وإنما غير كافٍ بذاته، ولا نقد آليات «التمثيل» الانتخابي، بوصفها -كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير- مُريدَ التوسير ثم ناقدَه، «تسوية بين المبدأين الاوليغارشي والديموقراطي».

قد يكون التعجُّل الذي أبداه الجيش «مبرَّراً» من وجهة نظره، المتمثلة بضرورة الرد الاستباقي على تهديدات «إخوانية»، بينها عزل قادته وتبديلهم وتكثيف محاولات اختراقه، وبمحاصرة أشباح الحرب الأهلية التي قد تؤدي إليها الحشود المتقابلة وزيادة احتمالات العنف «الإخواني». لكن الجيش أضاف بذلك، إلى تجديد «مظلومية- شرعية» الإخوان، مُعطيين سلبيين جديديْن:

الأول، قضْم شروط استمرار حراك شعبي مستقل كان بمعرض البروز كعنصر «ثوري» تجاوزي لمشهدية الاستقطاب الثنائي «الإخواني-العسكري» التاريخية، إلى جانب أطياف المعارضة السياسية الليبرالية والقومية التقليدية والاسلاميْن المعتدل والسلفي. فحركة «تمرد» الـ «مجتمع- مدنية» الشبابية، التي كانت وراء حملة التواقيع المطالِبَة باستقالة مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وواجهةَ التحشيد لتظاهرات 30 يونيو، وجدت نفسها مهمشةً، أولاً بعدم استشارتها و «جبهة الإنقاذ» المعارِضَة في شأن الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الموقت عدلي منصور وحدد فيه جدول العملية السياسية. وثانياً بقلب اقتراحها رأساً على عقب، فبدل انتخابات رئاسية مبكرة أقرَّ الإعلان خريطة طريق للبدء باستفتاء شعبي على التعديلات الدستورية تعقبه الانتخابات التشريعية، فالرئاسية. وثالثاً بتضمين الإعلان مواد خلافيةً مُثبِتةً لمكاسب سابقة للجيش ومحبطة لمدنية الدولة، كاستئناف محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، ما دفع «تمرد» إلى رفضه، معتبرة أنه يرسي أسس «ديكتاتورية جديدة» ويتضمن مواد لإرضاء «السلفيين» وأخرى لـ «الديكتاتورية» وثالثة للجيش.

الثاني، تعليق عملية الانتقال الديموقراطي وإعادة إدخال الدولة كحائزٍ وحيد للعنف الشرعي، في دوامة عنفٍ يتم تقنياً وقانونياً من خارج الشرعية الدستورية، وهو أمرٌ يعني الكثير لبلدٍ عاش ستة عقود تحت وطأة «الانقلاب الدائم». وفي ذلك ليس فقط خطر رسوخ الانقلاب، بل أيضاً -وخصوصاً- خطر دفع الطرف المتضرر أو بعضه إلى ممارسة العنف المسلح.

والحال أن «الإخوان» يواصلون سياسةً عمليةً قوامها اعتبار ما حصل عملية انقلابية حصراً لا صلة لها بفشل سياسات الاستئثار و «أخونة» الدولة، وتغليب الاتجاهات الزجرية واللافاعلية الاقتصادية، ولا بالحراك الشعبي ضد حكمهم، وأن بإمكانهم إلغاء نتائجها باستمرار الحشد في الميادين وإنهاك المؤسسة العسكرية الأمنية وإغراقها ببؤر عنف موضعي إرهابية الطابع، كما في سيناء، او عنف أهلي ديني، أو بانشقاقات داخلية، ما يُعرض مصر لخطر مزدوج في آن: استنقاع حالة النزاع الأهلي وتجذر حالة الانقلاب الذي لا يزال الجيش يدَّعي أنه تم انحيازاً إلى الشعب وبغرضٍ «تحكيمي» موقت. ويزيد التحركُ التضامني لتنظيم «الإخوان» العالمي أرجحيةَ استمرار الاتجاه المتشدد، في حين يميل العالم إلى التطبيع مع نتائج الانقلاب من دون زوائده القمعية ضد أعلام «الإخوان» وقياداتهم.

وبهذا المعنى، يمكن الحركة الشبابية- الشعبية أن تكون أداةَ تظهير لقوى جديدة، وجسراً للتسوية، بمقدار إصرارها على استبعاد تحويل مسار المشهد السياسي إلى صراع ثنائي القطبية بين العسكر و «الإخوان»، فهذه القطبية الثنائية ليست قدَراً.

الحياة

«فاست فود» في السياسة

نهلة الشهال

بالمقدار ذاته من الجدية، قيل إنه «زمن» الإسلام السياسي، ويقال اليوم، بفارق عام أو يكاد، إن الإسلام السـياسي «انـتهى»! هـكذا بلا وجل. وفي الحالتين، تقدّم مبررات متعددة وعلى قدر من القطعية، ويبدو صاحب كل قول في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو أحياناً الشخص نفسه، في غاية الثقة برأيه والحماسة له، بما يوحي حتى بتعصب. وليس الموضوع نفسه سوى واحد من بين كثير سواه، بل ربما كان نموذجاً لكل ما يجري تناوله، بمعنى أن الأمر تحول إلى طريقة حتى لا نقول منهجاً، وأنه طاغ.

قبل هذه المقولة حول حتمية «الإخوان»- سقوطهم، سادت أخرى تتناول قوة «الإخوان»، فقيل في تفسير صعودهم إنهم الأكفأ والأكثر تنظيماً… إلى آخر أفعال التفضيل، ووُصف -بإعجاب أو بتوجس لا فرق- مقدارُ سطوتهم وشعبيتهم، وتجشم بعض الكتاب عناء تعداد المؤسسات الخـيـريـة والخدماتية المتغلغلة في المجتمع الـتي أنـشأتها تنظيمات «الإخوان» في مصر وتونـس والمغرب، حيث بدوا ممسكين بزمام الأمور… ثم خطورة علاقاتهم الإقليمية والدولية، وما يمارسونه في العلن وما يفترض لهم في السر. ومـن المـدهش أن يـبـدو ذلك الهرم الجبار قابلاً للذوبـان كقطـعة ملح، ولا بد أن يكون في التوصيف الأول كثير من الاسـتـعـجال ومجانبة الدقة والتدقـيـق، ووقـوع تـحت تأثيـر الظاهر وما يقال وما يبـدو (من دون أن يكون ما أشير إليه وهماً أو اختراعاً). ومن المتوقع اليوم أن تبدأ في الظهور المقالات التي تتناول هذا «النمر من ورق»، وتستفيض في وصف قلة الكفاءة والتخبط والارتـجال والابتذال الذي ظهر عليه «الإخوان»، بل وتـسخر. وهـي أوصـاف صحـيحة، لكنها ليست أحادية، ولا بد لفهم تأثيرها ودورها من إعادتها إلى صورة أكثر تشابكاً على المستويات كافة.

هو الـ «فاست فود» في الفكر والسياسة والكتابة، بما فيها تلك الأدبية التي راحت تميل دور النشر إلى قبولها، حيث هناك مكونات للوصفة المرغوبة. والحصيلة إنتاج منمّط، متشابه وسريع، لا يُتوقع فيه أن تُظهِر أي وجبة فوارق عن أختها، اللهم إلا في بعض البهارات المصاحبة، حيث تُقترح خيارات، أو يترك مجال لخلطات. والأهم، أن إحدى من وظائف التحليل تُفتقد هنا، أي القدرة على الاستباق والتوقع، ليس تنجيماً وضرباً بالغيب، بل بناء على نظرة (أكاد أن أقول ذائقة) تجبر نفسها على التقاط مجمل المشهد من جهة، وتبحث من جهة أخرى عن الديناميات الفاعلة، مفترضة أصلاً أنها متعددة ومتداخلة بطريقة تفاعلية، وأنها تفتح الموقف على احتمالات وليس على حتمية صمّاء.

إنه تعقيد الواقع في مواجهة ميل ساحق إلى التبسيط، إلى قصْر المعطيات على نظام من المتضادات، لعل الكاريكاتور الأوضح له هو حالة الاستقطاب السائد بين كتلتي 8 آذار و14 آذار في لبنان، حتى أنه بات يكفي ذكر الأرقام («8 و14»، هكذا بتجريد) لتلخيص العالم… وأما أن تُفكك هذه الثنائية القطعية، فيبدو أمراً مزعجاً للجميع، وتعقيداً يتجاوز المزاج العام الذي يميل إلى هندسة الموقف بتبسيط، تفسيراً للانتشار اللامتناهي لحروب داحس والغبراء… في لبنان وسواه، وعلى المستويات كافة، وليـس تلك الـسـياسية منها فحسب. وهو واقع قائم مهما تفاوتت حدة العنف المصاحب له حكماً، وفق المكان والزمان والموضوع.

تترافق هذه الوضعية مع قرين لها، هو الإسهاب في شرح ما يريده أو لا يريده الأميركيون. ويمكن آلاف النصوص والدراسات أن تتناول كيف تغيَّرَ العالم، ومعه الاستعمار، وكيف أن «حوادث» مثل أفغانستان والعراق (مع الاعتذار من عذابات شعبي البلدين التي فاقت كل خيال وما زالت مستمرة)، هما استثناء فاقع، أو شواذ، بناء على تموضعهما في لحظة انهيار الثنائية القطبية وحسم الحرب الباردة، ومصادفتهما لمجموعة قيادية سياسية/ إيديولوجية/ صناعية/ «بزنسية» خاصة جداً في أميركا، ليس مصادفةً نعْتُها بـ «المحافظين الجدد»… عبثاً! فما زال السائد في المتداول عندنا يسعى إلى تفحص ما «أراده» الأميركيون في مصر، الذين دعموا «الإخوان» فصعدوا، ثم تخلوا عنهم فـسـقـطوا. هـكذا! وما زال مـقدمـو برامـج يصادف أن يقابلوني، يطرحـون عليّ سؤالاً موحداً منمّطاً: «مَن يمكنه أن يضرب بقبضته على الطاولة وينهي الموقف في سورية؟»، في إشارة ضمنية إلى «تقاعس» الأميركيين، وإلى شبهة غامضة تقف خلف ذلك. وحين تكون الإجابة «لا أحد!»، وأن التاريخ لا يسير بواسـطة عـصـا سـحرية، ولا بواسطة تفـاهمات وصفقات في الكواليس، من دون إنكار وجودها («هه، ها قد اعترفتِ»!)، حينها يصاب المستجوِب بالإحباط والحزن، فهو -كسائر الناس- يريد مخلِّصاً.

وثمة متلازمة أخرى لتلك الحالة، هي ضرورة الإدهاش: أن يقال شيء «جديد» و «صادم» يعْلق في الأذهان ويتم تداوله بواسطة «تويتر» مثلاً، جملة أو صيغة مناسبة، «مهضومة» أو صاعقة، تظهر شطارة المتحدث وتشهره. وبما أننا في عصر الاستعراض الحي، (الـshow على طريقة برامج الواقع)، والـ «فاسـت فـود»، والتـبسـيط مـعاً، فلا بـد للسـياسـي أولاً من أن يتـقن صنعـته وفـق هذه المتطلبات. وما زال المرء حائراً بين اعتبار الرئيس المصري «حرِّيفاً» لهذه الجهة، بسبب صيغ أطلقها، مثل «عشيرتي» في يومه الأول، أو «وما أدراك ما الستينات» الشهيرتين، وبعدها تلك الجمل الغامضة التي يُفترض أنها كانت موجهة للاستهلاك. حاول ولم يوفَّقْ؟ أم هو طبعه البلدي الأصلي والتلقائي… الذي لم يكن موفقاً كذلك، فلم يؤدِّ إلى المفعول المأمول. وهذه الوضعية تخص العالم بأسره، وليس بلادَنا فحسب، وهي انفجرت منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي اللحظوية، مثل «فايسبوك» و «تويتر» والهواتف الذكية: لا بد من الاختصار والتبسيط والجمل البرّاقة أو الصادمة، ليتناسب المضمون مع تلك الأدوات! هذا واقع، ولا بد لكل تطور تكنولوجي (عبر التاريخ، منذ اختراع النار والعجلة وحتى الطباعة ثم الإنترنت) أن يغيّر العلاقات الاجتماعية وليس الثقافة والمزاج العامين فحسب. وأما المثقف، فمنْ يدرك كل ذلك، يعرفه، ولا يخضع له.

الحياة

تقلبات مصر الغريبة وحدود الربيع العربي

حسن شامي

تشكلت إذاً حكومة مصرية برئاسة الخبير الاقتصادي حازم الببلاوي، وأدت اليمين أمام الرئيس الموقت عدلي منصور.

ومع أنها تضم أكثر من ثلاثين وزيراً يغلب عليهم الطابع التكنوقراطي، فإن قوى المعارضة السابقة والمناهضة لحكم «الإخوان المسلمين» تمثلت بعدد من الوزراء. ويبدو أنها ضمت كذلك وزراء محترفين، تنقلوا في الحكومات الانتقالية منذ خلع حسني مبارك، ومنهم من كان في عهده ومقرباً من نجله جمال، كحال وزير المال. وهناك أربعة وزراء سابقين مثّلوا على الأرجح حصة المؤسسة العسكرية في حكومة «الإخواني» هشام قنديل الملغاة بعد عزل محمد مرسي واحتجازه احترازياً، كما قال وزير الدفاع، النائب الأول لرئيس الحكومة الجديدة عبدالفتاح السيسي للإعلام ولنائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز خلال زيارته مصر قبل بضعة أيام. في الوقت ذاته تحدثت الأنباء عن سقوط سبعة قتلى وعشرات الجرحى في مواجهات بين أنصار مرسي ومعارضيه. بل أشار بعض التقارير إلى محاصرة مئات من أنصار مرسي داخل مسجد التجأوا إليه فيما طالبهم «أهالي الأزبكية» الذين حاصروهم بإخلاء المسجد.

هذا غيض من فيض، وضع مصري ما كان مؤرخ كالجبرتي ليتردد في وصفه بلغة السجع البلاغية بعجائب الآثار في التراجم والأخبار.

والحال أن الوضع الانقلابي الذي تتخبط فيه مصر يبدو غريباً بما يتطلب من أصحاب الوصفات والتحليلات الجاهزة أن يظهروا مقداراً أكبر من التروي، والتخفف من الترسيمات المعهودة وأحكامها القيمية. وقد يخيّل لنا أن غرابة الحال تعود إلى سرعة التقلبات في المواقف والآراء، وإلى مفارقات لم يبخل الربيع المصري بالإفصـاح عنـها. فانـتقـال «الإخـوان» من السـلطـة إلى الـمـعارضــة وتفـصـيل الـشرعـية الدسـتورية على مـقاس المـوقع بسـرعة قيـاسـية لا يضاهيهما سوى السرعة القياسية التي جعلت كثيرين رددوا قبل انتخاب مرسي شعار «يسقط يسقط حكم العسكر»، يرحبون بالانقلاب العسكري على حكم «إخواني» لم يعش أكثر من عام… وذلك على خلفية تظاهرة 30 حزيران (يونيو) المليونية التي أظهرت تدخل العسكر في صورة استجابة لحراك شعبي يرفض سلطة «الإخوان» من دون أن يكون ثورة شعبية.

ومع أن احتمالات انزلاق جزء من بيئة «الإخوان» نحو جذرية عنيفة على الطريقة الجزائرية، غير معدومة وتشغل بال كثيرين، من المستبعد في المدى القريب أن يتخلى الحزب «الإخواني» عن نهجه العريض في مواصلة التموضع على قاعدة اللعبة الشرعية والدستورية التي أوصلته عبر صناديق الاقتراع إلى سلطة لم يُحسِن مرسي وحزبه تدوير زواياها، في ظل غليان شعبي لا تنهيه الانتخابات. لكن أخطاء «الإخوان» ليست جريمة، ناهيك عن أن إطلاق حكم مبرم على تجربة عام واحد، أمر لا يخلو من التسرع والاستخفاف بقاعدة شعبية عريضة يمثلها «الإخوان» وواجهاتهم الاجتماعية والمدنية والخيرية الكثيرة.

صحيح أن ممثلي السلطة الانتقالية الجديدة لا يكفون عن الدعوة إلى مصالحة وطنية واسعة، ويشددون بمزيج من الدهـاء والحس السليم على عدم إقصاء أي طيف من المجتمع المصري. وهذا بالضبط ما يضع «الإخوان» أمام امتحان قاسٍ يكاد أن يكون معضلة يصعب التخلص منها بخسائر قليلة. فالمعروض عليهم عملية تدجين واحتواء تنزع عنهم صـفة الـحـزب الأقـوى والأكثر تنظيماً وتماسكاً في مصر، وإخراجهم بالتالي من موقع قيادة البلد، دولة ومجتمعاً. وكان متوقعاً أن يرفض «الإخوان» مصالحة كهذه وأن يتمسكوا بموقف يدين عملية عزل مرسي باعتبارها انقلابية وغير شرعية وغير دستورية. وقد أعلن قيادي «إخواني»، هو محمد البلتاجي، أمام جموع مؤيدة لمرسي محتشدة في ساحة رابعة العدوية، أن الحديث عن مصالحة هو «أكاذيب» وأنه لم تُعرض على «الإخوان» أي حقيبة وزارية، وهم كانوا سيرفضونها على أي حال. واعتبر البلتاجي أن المصالحة المزعومة هي مع حسني مبارك وحبيب العادلي وأحمد عز، أي رموز السلطة المخلوعة بمقتضى ثورة 25 يناير، وليست مع شعب مصر.

نعلم أن هذا الخطاب تحريضي وتعبوي، يخاطب جمهوراً غاضباً. لكنه يغمز من قناة شبح لا يكف «الإخوان» عن التلويح به للتشديد على أنهم وحدهم القادرون والمؤهلون لفضح ألاعيبه وأشكال تسلله من نوافذ الثورة. إنه شبح الفلول.

والحق أن تركيز «الإخوان» على خطر التفافٍ على الثورة تمثّله فلول النظام البائد، لا يعود فحسب إلى حاجتهم للتذكير بمظلومية تاريخية قابلة للتولد مجدداً، كما يُستَشف من تحركاتهم وتصريحاتهم الأخيرة ضد الانقلاب على مرسي و «الإخوان» عموماً. وهو لا يعود أيضاً إلى حاجتهم للتلويح بفزاعة يستخدمونها لابتزاز المعترضين والمترددين. فهم يعلمون أن صورة «الفلول» في حد ذاتها لا تقول شيئاً مهماً، بل هي أفقر من مقولة موازية عرفناها في العراق في أعقاب الغزو الأميركي – البريطاني، أي اجتثاث «البعث». ذلك أن صورة «الفلول» لا تحيل على قوة ملموسة ومشروع تحمله طبقة أو فئة أو جهاز، بل تحيل، في أقصى تقدير، إلى سلوك مفعم بالمكر والاحتيال ونوازع الوصولية والانتهازية، وهذه كلها من مستوجبات صلات قائمة على المحسوبية والمحاباة والتدافع المتوحش لنيل الحظوة والتقرب من ولي النعم ودائرته الخاصة، باعتبارها مركز نظام سلطاني حديث. وهناك بالطبع مَنْ يتمرنون على هذا السلوك وقد يبرعون فيه إلى حد الاحتراف، أكانوا داخل الحزب الحاكم أم متسلقين إلى مرتبة الحاشية.

لكن ذلك يبقى قبض ريح. لا يعني هذا أن «الفلول» خرافة وأن من المستحيل على مجموعة من المستفيدين السابقين أن تستجمع قواها وتحكّ ظهور بعضها بعضاً لانتزاع مواقع ومنافع في الوضع المستجد. لكن الإصرار على خطرها، في أدبيات «الإخوان» خصوصاً، إنما يؤشر إلى أمر بالغ الأهمية هو أن الثورة باتت، وربما كانت أصلاً، بلا أبواب. وها هنا يتكشف جزء من التباسات الربيع العربي وحدوده.

الشيء الوحيد الذي تفصح عنه تقلبات الحال في مصر هو أن التسونامي الإسلامي قد يكون عمره من عمر أي عاصفة ونازلة من نوازل الطبيعة، وفق ما تنبأ بعضهم. لكن ثقل الأوزان الاجتماعية والأيديولوجية لا يقاس بهذه المقاييس. مصر الخاسرة دائماً لم تخسر قط، كان يقول جاك بيرك.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى