مقالات تناولت الموقف الاميركي من المسألة السورية
بين صدقية أميركا وأفولها/ حسن منيمنة
لا يستحق تنصت أجهزة الاستخبارات الأميركية على السياسيين والمواطنين في عموم العالم العربي المقدار ذاته من الاهتمام والاستهجان في الأوساط الإعلامية الدولية. فالعالم العربي موضع ريبة وحذر من الولايات المتحدة، بما يبرر لدى جمهور واسع في المجتمعات الغربية كل رصد له، وإن تجاوز المعايير المتوقعة. أما كشف استهداف الحلفاء المقربين بعمليات التنصت الواسعة، فيأتي ليشكل تقويضاً آخر لصدقية أميركية عانت في السنوات الأخيرة طعنات متتالية. وإذا كان لا بد لحكومة الرئيس باراك أوباما من أن توازن بين أولوياتها الأمنية وصورتها داخلياً وخارجياً، فإن سوء إدارة سياسات متعددة استنزف كثيراً من صدقيتها، ونقل التشكيك في دورها من الاتهام بالتخبط الخطابي إلى التخوف من ضياع الدفة، بما يفقد الولايات المتحدة الصفة المرجعية، كحليف يمكن الوثوق به أو كضامن لسلوك دولي منضبط في أطر الحقوق الإنسانية والقيم العالمية.
قد يصح القول في نهج أوباما في الأعوام الخمسة الماضية أنه أبعد الحلفاء من دون أن يقرّب الأعداء. طبعاً ربما هناك مَنْ يعترض مشيراً إلى التقارب المفترض بين واشنطن وطهران، بما يفيد بأن سياسة أوباما حققت الإنجاز، وإن لم يكن يروق لبعض الحلفاء. إلا أن موضوع التواصل مع إيران لا يزال مبكراً، بل إن متابعة توجهات أوباما في الأعوام الماضية تفيد بأن الانخراط في التواصل المفترض قد لا يهدف إلى تحقيق تقارب فعلي بمقدار ما يسعى إلى تنفيس الاحتقان وإدارة الأزمة إلى موعد غير محدّد. على أي حال، هذا التقارب الاسمي يأتي بثمن باهظ هو تبديد ما تبقى من اقتناع لدى أكثر من طرف في الشرق الأوسط وخارجه بإمكانية الاعتماد على الاستمرارية في سياسات الولايات المتحدة.
ودول الخليج تجد نفسها أمام مفصل مهم في تصورها البعيد المدى لأمنها وديمومة رخائها. فكلام أوباما عن التركيز على ما هو خارج المنطقة، والتخلي عن الدور المعتاد لأميركا بالمبادرة في معالجة ملفاتها، مقروناً باقتناع العديد من الأوساط الأميركية بالاقتراب الوشيك من الاستقلالية في الطاقة، بل المقدرة في أمد ليس بعيداً على تصدير الطاقة للحلفاء في شرق آسيا، بما ينفي الحاجة إلى تولي مسؤولية رئيسية في ضمان أمن الخليج، يجعل من ضرورة تشكيل تصورات جديدة، وتحالفات جديدة، تحفظ التوازن الذي قد يتعرض للاختلال، أمراً مطروحاً.
والمسألة هنا ليست التخوف مما قد يتمناه بعضهم في محور الممانعة المفترض بين السر والعلن، من اصطفاف إيراني- أميركي من المحال أن يحصل، بل من غياب للولايات المتحدة عن تحقيق التوازنات حتى ضمن صفوف الحلفاء، ما يتسبب به ذلك من استهلاك للطاقات، وما يؤدي إليه غياب القوة العظمى ذات الحجم غير القابل للمكافأة، من بروز محاور قريبة من التكافؤ في المنطقة وخارجها، وما قد يجرّه ذلك من أزمات ومواجهات استنزافية. ودول الخليج تسعى بالفعل إلى النظر في التعويض عن التلكؤ الأميركي بالسعي إلى تطوير علاقاتها على كل الصعد الاقتصادية والأمنية مع أوروبا، المتضرر الآخر من الانطوائية المتصاعدة للسياسة الأميركية. إلا أن الوزن والحضور الأميركيَّين في المنطقة يبقيان غير قابلين للاستبدال في المســـتــقبل المنــــظور، فلا بد للجهد أن يبقى منصباً إذاً على الحد من الانكماش الأميركي.
وإذا كانت محاولات استنهاض السياسة الأميركية تصطدم بعقبة الانعطافات المتتالية لأوباما، لا سيما حول كل من سورية وإيران، فمن الأجدى التمييز بين السياسة الحالية لواشنطن وبين الموقع الأميركي في السياسة والاقتصاد والأمن في العقود المقبلة على مستوى العالم ككل. فلا شك في أن أوباما يبدو مثابراً على اختيار السبيل الأقل وطأة لحكومته، وإن كان في اختياره هذا، وفق معارضيه، تفريط بالمصالح الأميركية. ولا شك كذلك في أن سياساته بمجموعها أنهكت صدقية الولايات المتحدة لدى العديد من الحلفاء، لكن مجموع هذه السياسات لا يبدل واقع أن القوة العظمى الأولى بل الوحيدة في العالم، اقتصادياً وعسكرياً، تبقى أميركا، إذ لا تزال باقتصادها تتجاوز أقرب منافساتها، أي الصين، بثلاثة أضعاف، وبإنفاقها العسكري تفوق سائر العالم مجتمعاً. وإذا كانت التوقعات تفيد بأن الصين مع منتصف هذا القرن، والهند مع آخره، قد تتقدمان على الولايات المتحدة في حجم اقتصادها نتيجة التعداد السكاني، مع افتراض استمرار الظروف المواتية، فإن ذلك لا ينقض استمرار أميركا في المقدمة من حيث التأثير.
في كل الأحوال، المسافة شاسعة بين هذا التصور الذي يبقي الولايات المتحدة في موضع طليعي في أسوأ تقدير، وبين تكرار الحديث عن أفولها، وبنائه على سياسة أميركية قائمة كما يبدو على التخلي عن المواقع. فأوباما إذ يوطد هذا التخلي نمطاً في سياسته، يعتمد على النزعة الانعزالية التي غذّاها في المجتمع الأميركي عدم اتضاح جدوى الحروب في العراق وأفغانستان، والنفور من خارجٍ يبدو معادياً وغير مفهوم، وسط أجواء اقتصادية ضبابية، وفي سياق خطاب مظلومية أميركية. ولكن في مقابل الإفراط في رد الفعل بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ والتي يتهم بها بعضهم الرئيس السابق جورج دبليو بوش، إذ أدت إلى حربين، يرى خصوم أوباما أنه يمارس التفريط بالمصلحة الأميركية من خلال الانسحابات المتسرّعة، والتي بددت ما كان يمكن للعراق أن يكونه، وهي في صدد تبديد الرصيد الذي جمع في أفغانستان.
وبصرف النظر عن تقويم نتائجه، فإن تراجع أميركا اليوم ليس انخفاضاً في مقدرتها بل تخفيض في الدور الأميركي يقدم عليه أوباما، سواء كان ذلك وفق مؤيديه لاعتباراته المبدئية من حيث تفضيل عدم الانفراد في القرارات وميله إلى الأساليب السلمية في حل النزاعات، أو كما يؤكد خصومه، لتفريطه المتكرر بالحلفاء والوعود، وممارسته حروباً شتّى، إنما بعلنية أقل.
الحياة
اللااستراتيجية الاميركية/ سعد محيو
آخر ما يمكن أن يوصف به تقرير سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي، وفريقها حول “إعادة النظر في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط”، بأنه استراتيجية أميركية جديدة.
فكل ما جاء في التقرير، الذي نشرت نيويورك تايمز محاوره الرئيسية، كان أساساً غطاء تنظيرياً لممارسة عملية كانت ادارة أوباما تنفذها منذ أشهر ، وتستند إلى منطلق يتيم: “النأي بالنفس” عن معظم قضايا الشرق الأوسط، وتقليص الالتزامات الأميركية في المنطقة، وتحويل التركيز الأميركي من حوض البحر المتوسط إلى حوض المحيط الهاديء.
إنه (التقرير)، بكلمات أخرى، “استراتيجية لاإستراتيجية” وإضفاء الطابع الرسمي على الانكفاء أو الانحسار الأميركي في الشرق الأوسط، بهدف تحويله إلى كتاب مفتوح برسم جميع القوى الإقليمية والدولية التي تتساءل عما إذا كانت سياسة الانكفاء هذه أوبامية خاصة أم أميركية عامة.
وعلى أي حال، رايس نفسها لم تحاول إخفاء أو تمويه هذه الحقيقة، ولا أوباما نفسه في خطابه الشهر الماضي أمام الأمم المتحدة. فهما شددا على أن الأولويات الأميركية الجديدة هي التوصل إلى تسوية دبلوماسية للملف النووي الإيراني، وحل المسألة الفلسطينية- الإسرائيلية، ورفض استخدام القوة العسكرية إلا لمنع عرقلة تدفق النفط، ومكافحة الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل.
أما قضايا الحرية، التي تبناها أوباما في اسطنبول والقاهرة معلناً بأن أميركا “ستدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأسواق الحرة بكل امكانتها الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية”، فقد حلت مكانها الآن النزعة الواقعية والبراغماتية و”رفض أن يبتلع الشرق الأوسط كل أجندة السياسة الخارجية الأميركية”، على حد تعبير رايس التي أضافت: “هناك الآن عالم كامل (في آسيا)، ونحن لدينا مصالح وفرص في ذلك العالم الكامل”.
بعض المحللين شبّه هذه النقلة من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى (وبينهما الداخل الأميركي الذي يريد أوباما “إعادة بناء الأمة الأميركية” فيه)، بتلك التي قام بها الرئيس نيكسون في الستينيات، حين أغلق ملف الحروب الأميركية في الهند الصينية ويمم وجهه نحو الصين ليبرم معها “صفقة العصر” آنذاك. وبالمثل، يقوم أوباما الآن باستكمال إغلاق ملف الحروب في الشرق الأوسط، ويتجه نحو إيران وروسية لإبرام “صفقة كبرى” مماثلة لصفقة الصين.
بيد أن هذا التشبيه، وعلى رغم أنه صحيح في ما يتعلق بالنقلات، إلا أنه قد لايكون دقيقاً قي ما يتعلق بالمحصلات، لسببين رئيسين:
الأول أنه في الهند الصينية، كان في وسع الولايات المتحدة أن تحمل عصاها على كتفها وترحل، لأنه بعد سقوط سايغون لم يعد لها أي حليف في تلك المنطقة. أما في الشرق الأوسط، فحلفاء أميركا، من تركيا وإسرائيل إلى مصر والسعودية والأردن والمغرب، يمثلون قدراً كبيراً من المصالح والأمن القومي الأميركي. وبالتالي، إذا ما حاولت واشنطن إبرام صفقات منفردة مع إيران وروسيا والصين، فهؤلاء الحلفاء قادرون على زعزعة الإدارة في الداخل الأميركي نفسه كما في الساحة الدولية.
والثاني، أن طبيعة التغيرات الكبرى في دول المنطقة، من صعود الإسلام الجهادي وبروز قوة “الشارع السياسي” العربي و”تمرد” حلفاء أميركا عليها، إلى دخول الدول الكبرى كروسيا والصين والهند إلى العرين الشرق أوسطي بكل ما يمتلكه من موارد الطاقة والمواقع الجيو- استراتيجية و”صدام الحضارات”، سيجعل من أي “تقهقر عشوائي أميركي في الشرق الأوسط نذيراً بتقهقر زعامتها في كل أنحاء العالم، بما في ذلك شرق آسيا نفسها.
بالطبع، تستطيع إدارة أوباما أن تتجنب كل هذه الألغام، إذا مانجحت في جعل تقوقعها مدخلاً إلى إقامة نظام أمني إقليمي جديد في الشرق الأوسط على غرار النظام الإقليمي الأوروبي. لكن هل هذا ممكن أو وارد؟
ربما. لكن هذا يتطلب تركيزاً أميركياً ضخماً وكلياً على إيجاد حلول شاملة لأزمات المنطقة. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: لكي ينجح الانحسار يجب أن تنغمس إدارة أوباما في الشرق الاوسط أكثر. وهذا ما لايبدو أنها فهمته حتى الآن. وحتى لو فهمت، فلن يسعفها لا الوقت (سنتان ونصف السنة على ماتبقى من ولاية أوباما) ولا الحلفاء المرعوبون من تقلباتها، ولا المفاجآت الكبرى في المنطقة، من تحقيق رغباتها التقوقعية.
المدن
أوباما محاصراً/ هشام ملحم
الاتحاد الاوروبي غاضب، والمانيا بالتحديد حانقة. البرازيل والمكسيك مستاءتان. العراق وافغانستان خائفان. تركيا مرتبكة. السعودية ومصر ودولة الامارات العربية المتحدة محبطة. ثوار سوريا يشعرون بالخذلان. بعض دول شرق آسيا تشكو من قلة الاهتمام بها. كل هذه المشاعر تسببت بها او ساهمت في إيجادها ادارة الرئيس أوباما.
مع نهاية السنة الاولى من ولايته الثانية يجد اوباما ان سياسته الخارجية قد أوجدت جوقة دولية من الاصوات النقدية القوية التي تقرأ من نوتة موسيقية واحدة ويتناوب على ادارتها أكثر من مايسترو واحد. ان يوجد في أوباما بينه وبين جميع القارات تقريبا باستثناء القطبين الشمالي والجنوبي حال اغتراب، فهذا تطور قل نظيره. ان يغضب حلفاء مثل المانيا وفرنسا واسبانيا حاربوا جنبا الى جنب مع الجنود الاميركيين في افغانستان والعراق وضد “القاعدة”، وان يهدد العلاقات الاطلسية، وهو الذي هلل له الاوروبيون حتى قبل انتخابه لمجرد انه أوحى انه كان نقيضا لجورج بوش، فهذا ايضا تطور غير معهود.
ان تتجسس الدول بعضها على بعض، فهذا أمر طبيعي بما في ذلك بين الحلفاء والاصدقاء. وحتى لهذه الممارسات نوع من الضوابط والقواعد. (شكاوى فرنسا مثلا من التجسس الاميركي فوق أراضيها تدعو الى السخرية، لان التجسس الفرنسي الصناعي والعسكري في اميركا قديم وموثق)، لكن التنصت على المكالمات الشخصية لزعماء يفترض انهم حلفاء مثل المستشارة انغيلا ميركل، وكأنها ارهابية مشتبه فيها، فهذا يعتبر انتهاكا غير مسبوق، ناهيك بأنه غير مبرر.
العلاقات الاوروبية-الاميركية تعرضت لخضة يمكن ان تكون لها مضاعفات سياسية واستخبارية واقتصادية وحتى قانونية. القضاء في المانيا واسبانيا قد يتحرك ضد واشنطن، ويمكن ان تهدد هذه الفضيحة اتفاق الشركة التجارية والاستثمارية عبر الاطلسي التي تتفاوض واشنطن والاتحاد الاوروبي في شأنها. اوروبا قد تلجأ الى اجراءات عقابية ضد شركات الانترنت الاميركية، الى احتمال عرقلة التعاون في مجال مكافحة الارهاب.
العلاقات المتوترة بين واشنطن وكل من القاهرة والرياض وابو ظبي، اضافة الى التوتر مع اسرائيل وحتى مع تركيا، بسبب الخلافات بين هذه الدول وواشنطن على افضل طريقة لاحتواء البرنامج النووي الايراني . الفتور وحتى التوتر بين الرياض وواشنطن (حول ايران وسوريا ومصر) هو الاسوأ منذ قرار حظر النفط العربي عن أسواق اميركا قبل 40 سنة. حكومات الشرق الاوسط وشعوبه يجب ان تدرك الآن ان اهتمام أوباما السياسي والعاطفي بقضايا المنطقة انحسر الى درجة انه يرى مشاكلها عاصية على الحل. الاسلوب القيادي لاوباما وتصرفه كأستاذ جامعي أكثر منه زعيما حاسما يرأس دولة لا يمكن الاستغناء عنها، ساهما في تغريب الولايات المتحدة عن العالم.
النهار