صفحات العالم

مقالات تناولت حرق “داعش” للطيار الأردني الكساسبة

 

 

مَن أحرق معاذ الكساسبة؟/ حازم الامين

لا، ليس القتل حرقاً جديداً علينا، و «داعش» إذ فعله، إنما لم يأت بجديد. الذهول هو الجديد، وهو أمر يُبشر بأننا بدأنا نتحسس ما نحن فيه. في معظم حروبنا الأهلية شهدنا عمليات إحراق جثث. في العراق تبادلت الميليشيات الطائفية المتقاتلة حرق جثث قتلاها. في كردستان العراق تُقدم نساء كثيرات على الانتحار عبر إحراق أنفسهن تفادياً للعار، وتقول جمعيات نسائية هناك أن هؤلاء النسوة يُدفعن من جانب ذكور العشيرة إلى هذه الفعلة، وبعضهن يُحرقن وتُثبت الوقائع بصفتها انتحارات.

وفي الماضي القريب (سبعينات القرن الفائت) لاحظ باحثون أن الانتحار حرقاً هو خيار المنتحرات، واعتبر انتحاراً بدائياً غيرياً وهو نادر وتشهده الأرياف والبيئات غير المدينية. أما إحراق الغير فينطوي على رغبة تطهيرية، يُطهر خلالها الحارق نفسه من شعور بالعار والخذلان.

لطالما ارتبط فعل الحرق في وعي الحارق برغبة في انتهاك ما هو أكثر من جوهر سياسي في جسد المحروق. القتل هنا أكثر من سياسي، وأكثر من انتقامي. هو رغبة في انتهاك أكثر من إنسانية الإنسان. انتهاك جوهره ومعناه. ولطالما أيضاً لاحت امرأة وراء فعل الحرق، ذاك أن المرأة في وعي الحارق هي ما يجب أن يُنتقم له أو منه. وفي هذه الحال يستحيل الحرق فعلاً نفسياً، ويستحيل أيضاً استجابة هذيانية لشعور بأننا نحرق في ضحيتنا عارنا. نفنيه ولا نُبقي على أثر منه.

والحال أن الاستغراق في تفسير فعلة «داعش» حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة بغير ذلك قد يبدو منطقياً، إلا أنه يوقعنا بفخ التفسير «المنطقي» لهذه الجماعة. ماذا أرادت من وراء تصوير فعلتها؟ هذا السؤال الذي طُرح ملايين المرات في الأيام القليلة الفائتة، لا يجيب عن سؤال أهم، هو: لماذا أحرقته ولم تذبحه على ما دأبت على فعله بغيره من أسراها طوال السنة المنصرمة؟

يجب أن لا نبتعد كثيراً في تفسير الفعلة، فلدينا عدة التفسير البدهية. ثمة امرأة وراء هذه الفعلة. ساجدة الريشاوي. وقبل أن يتبادر إلى ذهن أحد أن ذلك يعني أن لهذه المرأة السجينة دوراً وإرادة في قرار إحراق الطيار الكساسبة، يجب المسارعة إلى القول أن ساجدة كقضية وارتدادها كسجينة بصفتها عاراً على عشيرتها وعائلتها، هي ما يجب أن تدور شبهات التفسير حوله.

فالريشاوي أُرسلت في مهمة مع زوجها الذي «عقدت عليه» قبل أيام من تنفيذها المهمة. هو فجّر نفسه وهي «لم تنجح»، ويقول الباحثون في الانتحار أن معظم محاولات الانتحار الفاشلة يُقدم عليها أشخاص لا يرغبون في الانتحار. ويُعزّز هذا الاعتقاد في حالة ساجدة أنها امرأة، وغالباً ما لا يرتبط انتحار المرأة بفعل قتل الغير. لكن، يبقى ذلك من باب التوقع والاستشراف طبعاً.

لكن الأكيد أن عائلة ساجدة المباشرة، هي من أرسلها لكي تقتل نفسها وتقتل آخرين. هي من عائلة «قاعدية زرقاوية» شقيقها كان أمير الأنبار في «القاعدة»، وأشقاؤها الآخرون ناشطين في التنظيم. وتملك الريشاوي سيرة شخصية مضطربة تجعل من قرار عائلتها التخلص منها أمراً محموداً في الوعي العشائري، لا سيما أن موتها سيُستثمر في فعل «جهادي».

لا شك في أن فشل الريشاوي بتفجير نفسها خلف مرارة وبعض العار في وجدانات أشقائها أبناء الفرع «القاعدي» في عشيرة أبو ريشة الأنبارية. لقد فشلت شقيقتهم في المهمة التي أرسلوها من أجلها. لا بل إن الزرقاوي الذي استعجل نعيها «شهيدة» قبل أن يعرف بهربها من الفندق بعد أن فجّر شريكها و «زوجها» نفسه، أصيب أيضاً بخيبة. فكيف لأمير التنظيم الذي يشغل العالم أن ينعى «شهيدة» لم تبلغ الشهادة.

العار مضاعف هنا. أُرسلت الشقيقة لكي تموت ولكي تدفن معها قصص اضطرابها النفسي، ولكي تكون «شهيدة»، ولم تُقدم على الموت. لا بل إنها تحولت سجينة في قبضة رجال المخابرات الأردنية، وهم رجال. أي عار هذا؟ من رأى وجه ساجدة في المحكمة أثناء محاكمتها في عمان عاين مقداراً كبيراً من هذه الصور. لا شك في أن أشقاءها كانوا يتقافزون في وعيها وفي نظراتها أثناء المحاكمة. الصمت والعبارات القليلة غير الحاسمة التي نطقتها في قاعة المحكمة توحي بأن مأساة وقعت خلف مأساتها الخاصة المتمثلة في عدم ضغطها على صاعق التفجير. خوف مما يجري خارج قاعة المحكمة، هناك في الصحراء الممتدة من الرطبة إلى الرمادي.

أحرق الكساسبة بمقدار كبير من الرغبة الانتقامية، وهي رغبة لا يُمكن فصلها عن وعي عشائري باجتثاث العار وبمحوه، ومن غير المستبعد أن تكون وراء فعل الإحراق أيضاً رغبة في قتل ساجدة. قتل عقابي أيضاً، فالأشقاء الذين فجعوا بامتناع شقيقتهم عن الموت، وبقبولها أن تبقى حية في أيدي رجال غرباء، يرونهم «رجال عشائر أخرى»، من المنطقي أن يُرتبوا مشهد حرق الكساسبة. وقائع كثيرة تُساعد على هذا الاعتقاد. «داعش» أطلق على ساجدة في بداية المفاوضات على مصير الكساسبة اسم «أم المسلمين»، وهذا على سبيل تسمين الطريدة، وهو فاجأ العالم بإحراق من كان سيعيد إليه «أمه»، أيضاً بهدف التعجيل بقرار إعدام هذه الأم غير الحقيقية. فالقتل غير «الأوديبي» للأم يؤشر إلى أن ساجدة لم تكن يوماً «أماً»، إنما كانت مجرد شقيقة مضطربة أُرسلت للموت ولم تُقدم عليه.

المسرح الذي أعد لعملية إحراق الكساسبة وتقنيات التصوير المتقدمة تبقى مسألة أكسسوارات. الدافع للفعلة يتقدم في أهميته على وقائع تظهيرها. «داعش» في هذه اللحظة هو الفرع «الزرقاوي» من عشيرة الريشاوي، ولهذه ثأر قديم مع الأردن. المملكة كان لها دور في قتل الزرقاوي، والأخير هو «أب» العائلة وأب «داعش». ليس «حزب البعث» الذي في وجدان «داعش» هو من فعلها على ما حاول «سلفيون جهاديون» قوله في محاولة لنسبة همجية الفعلة إلى غير «شرعيي داعش»، وليس البعد «الهوليودي» الذي دأب التنظيم على تظهيره من خلال أفلام أعدها وبثها عبر «يوتيوب»، هو من فعلها أيضاً. ربما تكون قد أوكلت لهؤلاء مهمة ترتيب المسرح. فالإحراق فعلة تتصل بثأر غير جماعي، يتولى فيها الحارق غسل عار يُغلف النفس المريضة أصلاً، ويسعى من خلاله إلى اجتثاث أثره عبر «إفناء» جثة ضحيته، وهذا الطقس لا يكتمل من دون رماد.

الحياة

 

 

 

 

“شفاء الصدور” ؟ كلّنا يتبع هذا المنطق!/ نهلة الشهال

لولا الطريقة التي اختارها «داعش» للإعلان عن إعدام الطيار الأردني، لما أثار الحدث هذا الانفعال والضجيج كلّه. الحرق أولاً، وتنفيذه بطريقة ممسرحة ثانياً، بدءاً من اختيار وضع الرجل في قفص، والحبل الطويل الذي أشعل بتؤدة، وانتهاء بالجرّافة الموكلة بالطمر (وهي كلها تقع ضمن الاستعراض)، وجودة الفيلم على المستويات كافة ثالثاً، المنفّذ بتقنية عالية واحترافية قيل عنها إنها عالمية، تصويراً ومؤثرات صوتية وتركيباً للوثائق وخطاباً مُحاجاً وإخراجاً.. لو قَتل «داعش» الكساسبة بالرصاص، أو حتى بالذبح كما فعل قبل أيام باليابانيين، وقبلهما بالكثير سواهما، لبدا الأمر «عادياً».

ويبدو أن الطيار الأردني أُعدم قبل شهر من بثّ الشريط، وأن هناك سيناريو محكماً وُضع للعملية، ما يفسّر العناية في يوم التنفيذ بتفاصيل المشهد، ومنها الأدوات التي يخطَّط لاستخدامها، و»التايم تابل» أو التوقيت الصارم لكل خطوة (كما في أي «سكريبت»، حيث يجري تحديد أصغر تفصيل) ليخرج «العمل» متقناً. ثم بُذِل الوقت الكافي على إخراج الفيلم النهائي الذي تجاوزت مدته 22 دقيقة، وحُمِّل الرسالة التي يريد التنظيم إيصالها. وهذه، لو تجاوزنا المضمون السياسي المكرر في كل مناسبة وبطرق مختلفة، تركّزت على السيطرة.

السيطرة مفهوم معقّد، وهو يتضمّن التطلّع الى الهيمنة والسطوة والتحكّم، كما يفترض البرهان على الفعالية، وإلا أصبحت الأفعال التي تقصد أو تدّعي امتلاكه كاريكاتورية، وأخيراً فهو ملتزم بوظيفية كل إجراء بعيداً عن التخبّط. وإيصال مفهوم السيطرة لا يتم بالخطاب فحسب، أي بإعلان تبنّيه و»قوله»، بل بتكرار تنفيذه بنجاح، وأيضاً بالإيحاء به بوسائل متعددة تخاطب الشعور والخيال بمقدار العقل. وذلك يخصّ أصغر التفاصيل. إذ لا يمكن عدم الانتباه مثلاً إلى ثياب المقاتلين الموحدة والجديدة والنظيفة، ولا إلى التعبير الجسدي (الذكوري بقوة) وهو مقصود، حيث أطوال هؤلاء المقاتلين وأحجامهم موحّدة هي الأخرى، وقفتهم (في صف واحد وبأرجل متباعدة)، وانضباط حركتهم وهدوئها، وطريقة حملهم لسلاحهم، ودور من مُيِّز من بينهم بلون ردائه ومهماته الخ.. وهذا كله يناقض بشكل صارخ مشاهد الخراب الذي يخيم على مدن المنطقة ونواحيها، حتى خارج لحظات الحرب. هذا كله يوضع بمقابل جموع الناس الرثة، المهرولة بعشوائية، بسبب ومن دونه، الضائعة، ذات الملامح المنهكة والمنهارة من الجوع والقمع وفقدان الأمل، علاوة على القصف والتفجيرات. لعلّه في زمن الصورة، يتعرف هنا الشاب الى ما يشتهي أن يكون عليه. وهذا ينطبق ليس فحسب على من يَقتلون وقتهم في حارات العشوائيات الكثيرة التي تلفّ مدننا حتى صارت هي الأصل، بل وحتى على من يوجد في الجامعات التي فقدت في الطريق معناها، لأنها صارت تخرِّج موعودين بالبطالة، وصار شكل التعليم فيها ومضمونه «تقريبيين».. بينما يصبح جلّ منى السلطات القائمة هو الإمساك بالحكم، ويغيب المشروع العام الجامع والمحفز. تدمَّر سوريا بوحشية وإمعان على رؤوس أبنائها، ويعم العراق بؤس مرعب وتسيّب وفساد، ويُُحكم في مصر على الناشط الشاب أحمد دومة بالمؤبد لأنه تظاهر، زائداً ثلاث سنوات نكاية فورية واعتباطية لأنه صفّق للحكم فأغاظ القاضي. وهكذا..

قد يكون الرفاه والنجاح الفردي تحوّلا في الغرب الحديث الى محفزات كافية (حتى الأمس القريب، قبل أن تنفجر الأزمة الشاملة في 2008 وتذكِّر بأزمة 1929 الواقعة بين حربين عالميتين). ولكن ماذا عنّا؟ ما الذي يمكن أن يستقطب الشباب (والشابات!) ويحفزهم ويصوغ خيالهم عما يريدون أن يكون عليه عيشهم وبلادهم؟ يقيناً، ثمة رابط قوي بين الرغبة الجامحة في الهجرة إلى الغرب التي تنتاب منذ سنوات الشباب في طول المنطقة وعرضها، وهي مشروع هرب/خلاص فردي دونه أهوال، وبين «هجرة» ممكنة يقترحها عليهم «داعش». والتنظيم إياه يقولها أصلاً بصراحة.

ثم هل يمكن لمنطقة تتوسّطها بكل مهانة إسرائيل، وتستبيحها وتذلها الجيوش الغربية (واحتلال العراق يجب أن يُنظر إليه كزلزال)، وتقصفها باستمرار الطائرات والصواريخ العابرة للقارات (حتى قبل الإعلان الرسمي عن الطور الراهن من «الحرب على الإرهاب»)، إلاّ أن تنتج داعشاً الذي عنون شريطه الأخير عن إعدام الطيار الكساسبة بـ»شفاء الصدور»، والذي يلبس أسراه اللون البرتقالي، كما كانت حال الأسرى في معتقل غوانتانامو الأميركي؟ وهل يُعقَل على سبيل المثال، أو كان يُتَصوَّر أن يمر مرور الكرام إعلان الحكومة المصرية نيّتها عقد اتفاقية لشراء الغاز من إسرائيل «حلاً لمشكلة تشغيل محطات توليد الكهرباء وللنقص في توزيع غاز الاستهلاك المنزلي»، وأنها استقبلت لهذا الغرض وفداً إسرائيلياً منذ أيام، بينما هي تُجرِّف رفح وتحكم إقفال قطاع غزة على سكانه. يكفي للجواب رصد سياق التغييرات في تنظيم واتجاه «أبناء بيت المقدس» الذي تحوَّل إلى منظمة إرهابية صافية تقتل أبناء الجيش المصري، وكل من يخالفها في سيناء وخارجها!

ثم أنه من المدهش أن تحمل الصحف الأردنية، غداة إعدام الكساسبة، عنوانَي «الثأر والانتقام»، وأن يتلخّص الخطاب الذي ساد بهاتين المفردتين (بما فيه ذاك الرسمي، والآخر الشعبي الذي عبّرت عنه المظاهرات، علاوة على الأداء الإعلامي)، وكأن فظاعات داعش بدأت مع هذا الحدث، ولكن والأهم، وكأن المقاتَلة تدور بين عشيرتين تتبادلان الثأر والانتقام، وهو منطق عقيم وبلا قعر. كما من المستغرب تماماً أن تجري الطمأنة إلى «فعالية» هذا التوعّد باستحضار انتقام الاستخبارات الأردنية من عملية تفجير الفنادق في عمان عام 2005، التي حفّزتها على الإيقاع بالزرقاوي بعد مرور أقل من سبعة أشهر عليها. فهل هي تحتاج إلى مثل هذه المحفّزات؟ وما تعريف المعركة ضد الإرهاب إذاً؟ لا بد من أن ضرورات احتواء غضب الناس وحزنهم على الطيار، وصدمتهم من المشهد المريع، قد دفعت إلى التهديد بالثأر والانتقام، ولكن الأمر يكشف قلة الحيلة وقصر ذات اليد حيال الظاهرة، وقدراً من التخبّط… وحتى من الشبهة.

وهل يخرج عن هذا الإطار/ المنطق، السحق والمحق اللذان هدّد بهما إمام الأزهر. وهو تَقصَّد استحضار صورة لا تقل عنفاً وإثارة للصدمة عما فعله داعش، متوعداً إياه بـ «القتل والحرق والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل»… بينما يدور على مواقع التواصل الاجتماعي جدل محتدِم حول المسوغات والمسوغات المضادة!

يا لهول ما نحن فيه.

الحياة

 

 

 

خيارات واشنطن بعد حرق الكساسبة: مسلم أحرق مسلماً/ حسن منيمنة

هل هو الثبات أم الجمود الذي يسيطر على أقوال الرئيس الأميركي وأفعاله إزاء تنظيم الدولة؟ قد يختزل هذا السؤال طبيعة السجال السياسي الذي تشهده العاصمة الأميركية واشنطن والذي احتدم في أعقاب إقدام تنظيم الدولة على الانحدار بأدائه أخلاقياً وإنسانياً إلى مستويات دنيا غير مسبوقة، مع اغتياله حرقاً للطيار الأردني الأسير لديه، وتصويره للجريمة ونشر الشريط تشفياً في أوساط مؤيديه.

والحديث في واشنطن لا يدور طبعاً حول المسؤولية الأميركية غير المباشرة وإن الجزئية عن هذا الفعل الشنيع، سواء من جهة التخلف عن اعتراض تنظيم الدولة في مراحل نشوئه الأولى، على رغم تحذيرات أصوات عدة من أن التأخير في معالجة هذه الظاهرة سوف يؤدي إلى تفاقمها، ولا من حيث الزج غير الواضح العواقب للقوات المسلحة التابعة لدول المنطقة في معركة مع تنظيم الدولة قد لا يثابر عليها الطرف الأميركي بالشكل الذي تتوقعه حكومات المنطقة، بل هو حول حصيلة الأشهر الماضية في مواجهة هذا التنظيم من منظور سياسي أميركي داخلي.

فالأرقام الواردة في هذا الشأن تشير إلى آلاف الطلعات والضربات الجوية التي أنزلت بالتنظيم خسائر هامة في العداد والعتاد، وإلى خطوات تضييقية بما في ذلك قصف المواقع الحيوية، أفقدته عائدات كثيرة، بالإضافة إلى نجاحات ميدانية حققتها القوات الأرضية المتآلفة مع التحالف في أكثر من موقع أدت إلى اندحار للتنظيم في بعض المواقع وتسليمه باستحالة التوسع في أخرى. وهذه النتائج الإيجابية ولكن المحدودة تنسجم مع تنبيه الرئيس الأميركي للجمهور بأن المعركة سوف تستغرق أعواماً طويلة، وهي لذلك قائمة على معادلة يكررها الرئيس وكأنها لازمة حول «إنهاك التنظيم ثم في نهاية المطاف إنزال الهزيمة به». أي أنه لا يجوز توقع النتائج الفورية.

ولكن، مع انحسار الغضب حول ما دفع الرئيس إلى المبادرة بالتدخل أساساً، أي ذبح الصحافيين الأميركيين، فإن هذه النتائج المبهمة تلقى الاعتراض من أكثر من جانب. فخصوم الرئيس أوباما الجمهوريون يشككون بالجدوى ويشيرون إلى أن الوصف الإيجابي للنتائج يطمس وقائع مناقضة هي أن التنظيم يستمر في التعبئة، داخل مناطق سيطرته وخارجها، وذلك بمستوى يقارب خسائره البشرية، في حين أن التدخل قد أتاح له عملياً حسم الحرب الأهلية الجهادية لمصلحته في أكثر من موقع، وهي الحرب التي كانت تستهلك العديد من طاقاته. ويلجأ هؤلاء الخصوم إلى التقييمات الصادرة أو المسربة من الجهات العسكرية والتي تفيد بأن الحملة المضادة للتنظيم لن تنجح ما لم ترسل الولايات المتحدة قوة تدخل برية، وهو ما قد تعهد الرئيس الأميركي ألا يقوم به. فالاعتراض هنا هو أن الرئيس لا يقوم بما يكفي ليكون الاستثمار الأميركي له ما يبرره، والمطالبة تتراوح من التلميح إلى التصريح بضرورة إيفاد القوات البرية.

ولكن في المقابل، فإنه ثمة أوساط واسعة في الولايات المتحدة، تشمل القاعدة الشعبية الرئيسية لأوباما من التقدميين المعنيين وحسب بالشؤون الداخلية، وتضم كذلك شرائح واسعة من المحافظين القدماء المطالبين بالانكفاء عن أية مغامرة خارجية، ترى خلاف الطرح التدخلي، وتعتبر بأنه على الولايات المتحدة ألا تتورط مجدداً بمعارك هي في غنىً عنها، وتطالب بالتالي المباشرة بتقليص المشاركة الأميركية في النشاط المعادي لتنظيم الدولة بدلاً من توسيعه.

وإذا كان الفعل القبيح لإحراق الطيار الأردني قد استحصل على إجماع بالاشمئزاز والتنديد، فإنه بالنسبة لكل من الطرفين قد أكّد المؤكّد، إذ من كان يرى وجوب التدخل اعتبره نموذجاً من المخاطر التي قد تطاول الولايات المتحدة في حال لم توفد القوات البرية، ومن كان يدعو إلى الانكفاء أصبح يشدد في دعوته على ضرورة تجنيب الولايات المتحدة هذه الاستعراضات الدموية. ولكن في حين ارتفعت وتيرة المطالبات المتضادة، فإن الإحراق على شناعته لم يبدل التفضيل المهيمن لدى عموم الأميركيين بالانكفاء.

ولا شك أن هوية الضحية هي العامل الأساسي لغياب التعبئة. فالمقتول عربي مسلم، والقاتل كذلك، بل ثمة اهتمام عرضي بوجهة نظر الأزهر، كصوت إسلامي نافذ من المفترض أن يكون معتدلاً، والتي دعت إلى تطبيق حد الحرابة وتقطيع وصلب للبغاة من تنظيم الدولة. والاهتمام هنا للتبرؤ من أية دعوة للتعاضد المبني على القيم. وإذا كان لا بد للجزاء أن يكون من جنس الفعل، فإن غالب الثقافة الأميركية، على رغم تغاضيها عن فظائع ترتكبها قواتها المسلحة بحجة غياب التعمد، ترى بأن الفاعل والمفعول خارج إطار القيم المشتركة وبالتالي خارج إطار التعاطف والدعم. والمسألة من وجهة نظر تسطيحية داخلية هي بين العرب المسلمين ولا داعٍ لرفع مستوى التورط الأميركي.

النتيجة بالتالي هي أن الجريمة الجديدة لا تأتي بإلزام جديد للرئيس أوباما، لا بل تعفيه من بعض الالتزام وإن جاهر بالمزيد من التأييد لحلفائه في المنطقة. وفي حين أقحم ذبح الصحافيين الأميركيين أوباما في حرب غير محسوبة، فإن حرق الطيار الأردني يتيح له هامشاً أوسع من القرار، على رغم أن الرئيس وفق كل المعطيات لا يسعى إلى أي تبديل في منهجية أمنية لاعتراض الدولة الإسلامية، تقتصر على قدر من الاحتواء، وإن زعمت السعي إلى القضاء على هذا التنظيم، من دون دفع الولايات المتحدة إلى معركة شاملة يرى معظم الأميركيين أنها لا تعنيهم.

هو الثبات إذن وليس الجمود في موقف الرئيس، غير أنه الثبات على رغبة لا يجري التعبير عنها إلا بالتدليس بعدم الانجرار إلى هذا المعترك لاعتبارات ذاتية بغضّ النظر عن الثمن الإنساني. وإذا كانت ثمة مطالبة من المبدئيين القلائل بمراجعة للتقصير في الإقدام على ما كان من شأنه منع تنظيم الدولة من البروز، من خلال سياسة مسؤولة للولايات المتحدة إزاء كل من سورية والعراق في المرحلة الماضية، فإن مسؤولية المراجعة المقبلة، بعد العامين المرتقبين من التسويف، سوف تقع على رئيس جديد. وكما نبّه الرئيس أوباما الجمهور، إنها معركة طويلة، وإن غاب في تنبيهه توضيح دور التنصل والامتناع في إطالتها.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى