مقالات تناولت فوز خالد خليفة بجائزة نجيب محفوظ
“سكاكين” خالد خليفة تفوز بجائزة محفوظ/ هدى عيد
أعلنت أمس الجامعة الأميركية في القاهرة فوز الروائي السوري خالد خليفة بجائزة نجيب محفوظ عن روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (دار العين ودار الآداب). والجائزة تمنح سنوياً في الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر)، يوم ولادة الروائي الحائز نوبل للآداب. واحتُفل مساء أمس بتقديم الجائزة بحضور وزير الثقافة المصري محمد صابر عرب ولجنة التحكيم وجمع من أهل الأدب والثقافة والإعلام. إلا أن الروائي خليفة لم يتمكن من السفر إلى القاهرة لتسلم الجائزة جراء عدم حصوله على تأشيرة دخول إلى مصر، فتسلم الجائزة نيابة عنه الكاتب والصحافي سيد محمود وقرأ الكلمة التي كتبها للمناسبة. وكانت لجنة تحكيم الجائزة تألفت هذا العام من النقاد: تحية عبد الناصر، شيرين أبو النجا، منى طلبة، حسين حمودة والزميل عبده وازن. هنا قراءة في الرواية الفائزة.
ينجح خالد خليفة في روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» في أن يظهّر مشهدية بانوراميّة للمجتمع الحَلبيّ السّوري خلال أربعين سنة انصرمت… وفي أن يكشف أحوال الخوف والتفكك والهشاشة التي عاشها طوال تلك السنوات. وبلغة سلسة منسابة، ومتهكّمة في كثير من الأحيان، تتدفق بقوة الذاكرة المشحونة بالتّفاصيل المؤلمة التي عاينها مجتمعه، فيقول خليفة كلَّ المَسكوت عنه، العار- كما يسميّه- ومشتقاته في الحياة السورية، من خلال سيرة أسرة مفككة متشظية الأحلام والمصائر، وعبرَ شخصيات منكسرة لم تختر البتة مصائرها.
يُسندُ الروائي إلى أصغر أبناء الأسرة دور الراوي العليم بالأحداث، وخلجات النفوس، الشاهد الصامت… المولود في الأسبوع الذي تم فيه انقلاب الحزب على السلطة في ترميزٍ واضح لنهوض القول السّردي الموازي فنيّاً للواقع المعيش: «راقبتُ ضعفي ينمو، ويجعل مني كائناً صامتاً خائفاً من دون أمل… ينمو لديّ شعور بلذة الهزيمة». ترى هل الرّاوي يحكي، أم مدينة بأكملها؟
تتشابكُ العلاقات الإنسانية في الرواية، ويتداخل فيها الفــيزيــزلــــوجـي بـالـثّقــافـــي، النّفسي بالجسدي في صراع محتدم، فسوسن وخالها نزار شخصيتان تجمعان ضديةً في التكوين وفي السلوك. يبدو نزار ذكراً صاحب شخصية غنية بالأنوثة وبالذكورة معاً، تتشابكان في داخله كبُعد دلالي واضح للعمق الإنسانيّ الحقيقي على هذه الثّنائية، وكأنما هذا التعقيد المكثّف لشخصيته مرآة موازية للمجتمع المحيط به وغير المستوي، يواجهه نزار بهذه الازدواجية المستمرة حتى نهاية الرواية. شخصية تتمتع بالعمق الإنساني الحقيقي، لكنها مرذولة من مجتمعها. موسيقيٌّ مرهف يحتضن ضعفَ كلّ أفراد الأسرة وتساقطهم واحداً تلو الآخر: الأمّ المتهاوية، رشيد المتردّد المستعيض عن الموسيقى بالتطرف الديني، سوسن الضائعة التي يدفع صديقَه ميشيل للزواج بها لتحصل على أب لصبيّها/ الحلم الأخير… كما تفترض: «إن كان ذكراً سيهزم وجودُه قوة الذكورة لمصلحة الأنوثة… الأنوثة التي تهزم كلّ قوة العالم».
في المقابل تبرز سوسن شخصية قوية، تغزو المجتمع في بداية صباها بعد أن أصبحت واحدة من المظليات اللواتي تمَّ تطويعهنَّ في صفوف الحزب، يعمدن إلى التسلط وأذية الأخريات اللواتي لم يعلن انتماءهن إليه، يتولد لديهن شعورٌ بسيادة موهومة: «كلّ شيء يوحي لها بأنّها سيدة الزمن المقبل، بحماسة شدّت شعور فتيات معارضات، كتبت التقارير بزميلاتها حين يهمسن بأية كلمة عن الحزب والمظليين والقائد…». تناقضٌ مأزقيّ يصطرعُ في داخلها: تسترجلُ بتصرفاتها مع بنات جنسها، لكنها ضعيفة أمام منذر تبرز له وللآخرين مفاتنها، تمارس الجنس معه حتى النشوة المميتة، غير سويّة تنهزم بعد ذلك حين يتكشف الواقع المدمر لأحلامها وأوهامها. حبيبها منذر ضابط سابق مستقيل يعمل لمصلحة واحد من النافذين السوريين المستفيدين من الثورة، انتقل إلى الخليج بسبب من سيرته المشبوهة، ليتحوّل بين يديه إلى مجرد خادم. وهو يسعى إلى جعلها خادمة وعاهرة يرذلها عندما يتواجه مع سقوطه الدراماتيكي ليبحث بعدها عن زوجة ينتقيها من ماضيه، جميلة، باردة وغبية، تصبر على انشغاله عنها بالدينيّ (الملجأ الأخير)، فتنكسر سوسن الأنثى المتنمرة، تماماً كما ينكسر زمن السرد في الرواية ليولد حالات التفكّك القصوى التي تحياها الشخصية هذه، وسائر شخوص المسرود الفني.
تتلازم منظومة العنف في الرواية ومنظومةَ الحياة اليومية التي تتداعى بسرعة مذهلة، سلطة الديكتاتور تتعالى بهرمية لا تُطال، وإنسانية الطبقات المسحوقة تهوي إلى حضيض الواقع: «خرج الحزبيون مستعيدين سيرةً عمرها أكثر من ثلاثين عاماً، نشروا الذل في كلّ مكان من البلاد، أطباء ومحامون وصحافيون وتجار ونوّاب وطلاب جامعات ومدارس يجري إجبارهم جميعاً على الرقص في دبكات وسط مكبرات صوت رديئة».
وعلاوة على لعبة التضاد والعنف تنهض شخصية الوالدة/ الزوجة كمحور للبنية السردية لهذه الرواية متجاوزة كونها أنثى هجرها رجلها الذي سافر إلى أميركا مع ألينا التي تكبره ثلاثين سنة، ولكونها معلمة راقية ربت أجيالاً بمنطقها وبعلمها الصافي، لتمثل مدينة مجروحة بأكملها رفض وعيها الواقع، فانكفأت على ذاتها، وغرقت في هلوساتها مستمرئةً سقوطها في أحلامها، وانسلاخها عن الظرف المزري المحيط، لتستجدي بعد ذلك موتا بطيئاً انتظره الجميع، علّ السكون العميق يسود، فتنتهي عندها الأسئلة المربكة التي سكنت عقول بعض المنتبهين إلى إنسانيتهم المذبوحة.
عبر فصول خمسة متتابعة بمشهديتها الصامتة/ الصاخبة، يكتب خليفة روايته هذه لتنهض شاهداً فنياً سردياً على أربعين سنة من حكم استباحَ إنسانية المجتمع وروحه، وهو يطرحُ عبرَها إشكالية الحياة حينما تتحول إلى مجرد غلطة معلّقة لا يُتقن الفرد خلاصاً منها، ولا فِكاكاً من إسارها: «كان رشيد يريد سؤالَ أمي الغائبة لماذا ولدَتنا؟ كان يريدُ تأنيبَها على فِعلةٍ حمقاءَ لم تدفع ثمنها».
جائزة نجيب محفوظ إلى «سكاكين» خالد خليفة/ محمد شعير
ذهبت، أمس، جائزة نجيب محفوظ للرواية التي يمنحها قسم النشر بالجامعة الأميركية إلى الروائي السوري خالد خليفة الذي لم يتمكن من استلام الجائزة لتعذر حصوله على تأشيرة دخول من السفارة المصرية، وهي المرة الأولى فى تاريخ الجائزة التى لا يتمكن فيها روائي من تسلم جائزته بنفسه. «لا سكاكين في مطابخ هذة المدينة» رواية خليفة التي حصلت على الجائزة اعتبرتها رئيسة لجنة التحكيم الناقدة تحية عبد الناصر «تجسيد سيرة عائلة تحارب الاستبداد»، بينما أتت شهادات أعضاء اللجنة متنوعة في وصف مفاصل الرواية،، فأشار الشاعر عبده وازن إلى «ملامح التراجيديا الإغريقية والعار الشخصي والعام في الرواية»، معتبرا أنها «رواية الجماعة والأجيال مثلما هي رواية الأفراد الذين يواجهون مصائرهم مواجهة قدرية». واعتبرت منى طلبة أن خليفة يقدم لنا في روايته «بسكين الفنان المثّال منحوتات روائية بديعة لأشلاء أسرة عربية أدماها العنف السياسي وفتت كرامتها الإنسانية إربا حتى وإن بقي منها ما بقي من أبدان حية معطوبة». واعتبرها حسين حمودة: «رواية كبيرة عن قهر الجسد والروح. في عالمها قسمات وملامح لمشهد كبير: عن عائلة بشخصياتها المتعددة، وعن مدينة حلب، بقلبها وحوافها، وحقول الخس التي تتراجع، وأجواء الكابوس الجماعي في فترة مرجعية بعينها، والملاحقة، والرغبات الموؤودة». بينما رأت شيرين أبوالنجا الرواية نصا تبدو فيه مدينة حلب: «قلب النص وهي تقاوم العسكرة بشتى الوسائل الممكنة، لكن انحسار حقول الخس وترييف المدينة – مجاز التدهور- دفع كل شخص في الأسرة إلى محاولة إيجاد منفذ للحياة».
وفي كلمته الموجزة البليغة التي القاها نيابة عنه الصحافي سيد محمود. قال صاحب «لا سكاكين في مطابخ هذة المدينة»: «لأول مرة تقف الكتابة وجهاً لوجه مع ذاتها، لتجيب عن سؤال خطير: ماذا تفعل الكتابة حين يصبح الموت فاحشاً إلى هذه الدرجة؟ لأول مرة أتساءل مصدوماً عن جدوى الكتابة، وأعترف بأن أوهامي قد انتهت حين اكتشفت اننا أشخاص ضعفاء إلى درجة كبيرة، غير قادرين على مساعدة طفل نازح في المخيمات وإعادته إلى دفء منزله، أو جثة رجل قتله قناص لمروره الخاطئ في المكان الخاطئ في ذلك الوقت الخاطئ، لكنها في الوقت نفسه، أزالت عن عيني غشاوة كنت لا أجرؤ على الاعتراف بها من قبل».
المعروف أن قيمة الجائزة 1000 دولار، فضلا عن ترجمة النص إلى اللغة الإنجليزية.
قُبلة نجيب محفوظ على جبين حلب/ أحمد ندا
“رواية سوريا المعاصرة التي تسرد الخوف والتطرّف والاستبداد بوجوههم المألوفة. يقدم لنا خالد خليفة، الفنان المثال، منحوتات روائية بديعة لأشلاء أسرة عربية أدماها العنف السياسي وفتت كرامتها”.. هكذا أوردت لجنة تحكيم “جائزة نجيب محفوظ” في حيثيات فوز الروائي السوري خالد خليفة، الجائزة التي يمنحها قسم النشر في الجامعة الأمريكية منذ العام 1996 في 11 كانون الأول/ديسمبر الموافق لعيد ميلاد الأديب “النوبلي”، وتُترجم العمل الفائز إلى الإنكليزية.
الاحتفالية التي أقيمت في القاعة الشرقية بالجامعة الأميركية، مساء أمس، غاب عنها نجمها الفائز. يكتب خليفة على صفحته في “فايسبوك” كلمته: “رغم كل أحزاني وأحزان السوريين روايتي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” تتشرف بقلادة جائزة نجيب محفوظ 2013. شرف كبير لي الفوز بجائزة معلّمنا نجيب محفوظ. شكراً للجنة التحكيم والجامعة الأميركية في القاهرة، شكراً لكل أصدقائي المصريين على محبتهم الغامرة، خصوصاً صديقي العزيز الصحافي والشاعر سيّد محمود وصديقتي العزيزة وناشرتي فاطمة البودي، محبتكم الغامرة جعلت غيابي أقل قسوة. القاهرة ستعود لأهلها وعشاقها وأنا واحد من هؤلاء العشاق”.
في حديث إلى “المدن”، قال خليفة بعد كثرة التساؤلات حول عدم قدرته على المجيء وهل هو “مُنع” أم أنه إجراء تعسّفي من الحكومة المصرية، قال: “تأخرت الفيزا المصرية إلى أن وصلتني اليوم، منعتني البيروقراطية العربية من التواجد مع أصدقائي”، وعبّر عن سعادته بالفوز بجائزة تحمل اسم “معلّم كبير”، لها خصوصيتها على حدّ تعبيره.
لعل السنوات الخمس الأخيرة هي الأزهى فنياً في مسيرة خالد خليفة، بعد وصوله إلى القائمة القصيرة لجائزة “البوكر” العربية عن روايته “مديح الكراهية” 2006، ثم اختيارها ضمن قائمة من قوائم “the muse list” كواحدة من أكثر 100 رواية مُلهمة، جنباً إلى جنب مع ثلاثية نجيب محفوظ، و”باب الشمس” للكاتب اللبناني إلياس خوري، ولا “أحد ينام في الإسكندرية” للكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد. اليوم تحصد روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” أولى جوائزها..
ثلاثة أجيال من التراجيديا على خلفية حكم حزب “البعث”، يقدّمها خليفة في روايته، في مدينته الأثيرة حلب، حيث التشوّهات السياسية مع ضراوة التغيرات في البنية الاجتماعية. أسرة خليفة الحلبية كان من الممكن أن تكون سيرتها عابرة لولا الألم الكامن في شخصياتها، النظام ليس دموياً في إبادته للآلاف فحسب، بل في تسميم الأرواح بكل هذا الحذر..
يلتقط خليفة حلب ويختصرها في بيت واحد، ويلتقط معها عنف الاستلاب؛ العنف المجاني الذي لم يتوان نظام الأسد عن تقديمه على مدار عقود ثلاثة.. شخصيات الرواية تفقد إنسانيتها مع التفاصيل اليومية، تحولاتها ليست درامية أو حادة بل هي في عجينة اليوم الملتبس: “لم تستطع رؤية القسوة التي تحدّث عنها أبي مراراً قبل مغادرته مع إيلينا الأميركية، إلاّ حين أصبحت امرأة مهجورة تعيش مع أولادها حياة موازية مع الحزب الذي صادر ما تبقى من حريات، أوقف تراخيص الصحف ومنع صدورها، عطّل البرلمان وفرض دستوراً جديداً يمنح الرئيس المُفدّى صلاحيات مُطلقة، الذي قام فوراً بعد انقلابه باعتقال رفاقه ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ليموتوا في السجون بعد سنوات طويلة، احتفظ الحزب بحق قيادة البلاد التي بدأت تتكيّف مع قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية، الرئيس.. الذي استأثر لنفسه بكل المناصب الحساسة، من رئاسة الجمهورية إلى قيادة الحزب الحاكم وقيادة الجيش، وحق تعيين قضاة المحكمة الدستورية وتسمية رئيس الحكومة وحل البرلمان..”.
عنوان الرواية الآتي من سؤال ساخر مرير، معبّر عن شعرية وجع مكتوم، لم يتحوّل إلى صراخ ميلودرامي: “لم تسمعه وهو يرجوها البقاء بعيداً عن الحارة التي أصبحت في الآونة الأخيرة حديث الصحف المحلية لكثرة الجرائم، آخرها خبر نشر في صفحة داخلية عن رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة ثمّ انتحر بسكين المطبخ، صارخاً في جيرانه الذين يراقبون ببرود: أنّ الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة؟”.
أحزان خالد خليفة المبثوثة في روايته، وفي كلمته بمناسبة الجائزة لم تمنعه من الفرح، وكأن الجائزة جاءت قُبلة من نجيب محفوظ، في يوم ميلاده، على جبين حلب.