صفحات العالم

مقالات تناولت محاولة النظام السوري تفجير الاوضاع في لبنان

سماحة 2/ حازم الأمين

في قضية تفجيرَي طرابلس، يبدو أننا أمام ما يمكن أن نسميه “سماحة 2”.

فالخليّة التي كشفها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي مرتبطة مباشرة بالمخابرات السورية، مع فارق يتمثل في أن سماحة ألقي القبض عليه قبل أن يُنفِّذ، فيما تمكنت خلية طرابلس من التنفيذ وكانت النتائج دموية.

ويبدو أن الأدلة دامغة واعترافات المدعو يوسف د. تمت أمام قاضي التحقيق، ولم تقتصر على ضباط الفرع.

المطالبة بحل الحزب العربي الديموقراطي قد تبدو غير واقعية، ذاك أن ما تسرّب من التحقيق يؤشر الى علاقة المنفذين مباشرة بضباط سوريين، في حين يقتضي قرار حل الحزب أدلة على تورط القيادة في إعطاء الأمر، وهو ما لم يرشح حتى الآن. لكن الكشف عن خلية تفجيرات طرابلس تطرح تساؤلين، الأول سياسي والثاني تقني:

سياسياً، يحمل الكشف عن الخلية تساؤلاً عن مستقبل العلاقة الرسمية بين لبنان الرسمي والنظام في سورية. فها هي الخلية الإرهابية الثانية التي يتم الكشف عنها في لبنان، والمرتبطة مباشرة بضباط يشكّلون أعمدة هذا النظام. خليتان، الأولى ضُبطت بحوزتها متفجرات كانت في طريقها الى إحداث فتنة كبرى فيما لو نجحت بالتنفيذ، وخلية ثانية نفذت وقتلت عشرات اللبنانيين.

كيف يمكن أن تستقيم علاقة بين دولة وحكومة، وبين نظام في دولة مجاورة أقدم على ما أقدم عليه، وثمة اعترافات وأدلة، ولاحقاً ستكون هناك أحكام قضائية بحق أركان منه؟

والتساؤل السياسي أيضاً يمتد ليشمل العلاقات الأهلية اللبنانية، ذاك أن ثمة قوى سياسية محلية متمسكة بالعلاقة مع نظام قام بما قام به. ماذا عن العلاقة بين أهل القتلى اللبنانيين، وبين مواطنيهم الذين تُمثلهم قوى سياسية مرتبطة على نحو عضوي بالنظام في سورية. فأحزاب “8 آذار” لها مقار في طرابلس، وفي المدينة ثمة فعاليات لم تحسم علاقتها بالنظام في سورية. ماذا عن القوميين السوريين في المدينة، وماذا عن مستقبل زعامة آل كرامي؟ الرئيس نجيب ميقاتي نفسه، هل سيقول قولاً واضحاً في إدانة النظام الذي استهدف مسجداً قرب منزله في طرابلس وقتل طرابلسيين؟ أم أنه سيدين التفجيرات التي تحصل في المنطقة عموماً ومنها تفجيرات طرابلس؟

على المستوى التقني، يبدو الكشف عن الخلية إنجازاً جديداً لفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وهو إنجاز سيساعد الفرع، من دون شك، على الصمود في وجه الحملات التي تستهدفه. لكن السؤال التقني الذي لا يمتّ الى السياسة بصلة، وهو راود لبنانيين كثراً في أعقاب الكشف عن خلية التفجير في طرابلس، هو أن نوعاً محدداً من العمليات التفجيرية تم الكشف عنه حتى الآن. إذا نحّينا جانباً جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي أخذت مساراً تحقيقياً دولياً مختلفاً، لم يتم الكشف حتى الآن عن عملية اغتيال واحدة من نحو 12 عملية جرت في السنوات السبع الأخيرة.

لسنا هنا في مجال تقييم بوليسي للوقائع، إنما في مجال التساؤل، ولا سيما أن الكشف عن هوية الجهة المخططة والمنفذة يملك قوة ردعية تحدّ، من دون شك، من تصميم المنفذ.

موقع لبنان ناو

القطر الشقيق/ حسام عيتاني

رغم الكشف للمرة الثانية خلال عام عن أعمال ارهابية خطط لها ونفذها أنصار النظام السوري في لبنان، تقف السلطة الرسمية عاجزة عن توجيه اللوم إلى “القطر الشقيق” الذي يبدو عازماً على تصعيد التوتر الأمني في لبنان.

مذكرات التوقيف التي أصدرها القضاء اللبناني بحق 7 من المتهمين بالضلوع في الانفجارين اللذين استهدفا مسجدي “السلام” و”التقوى” في طرابلس في الثالث والعشرين من آب (أغسطس) الماضي، تضاف إلى إحالة الوزير السابق ميشال سماحة إلى المحاكمة بعد الانتهاء من التحقيق معه في فضيحة حمله لعبوات ناسفة من أحد مقرات المخابرات السورية في دمشق والتخطيط لتفجيرها في عدد من المواقع شمال لبنان. وتتشارك الأعمال هذه كلها في الرغبة في افتعال فتنة سنية -شيعية، وإسلامية – مسيحية (في مشروع سماحة).

استدعى القضاء اللبناني في كانون الأول (ديسمبر) الماضي أحد أبرز مسؤولي أجهزة المخابرات السورية علي المملوك الذي أمر سماحة بتنفيذ التفجيرات إلى التحقيق وشمله في القرار الاتهامي، كما استدعى مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان للاستماع إليها كشاهدة. امتنع الاثنان عن المجيء، طبعاً. ومن بين المتهمين في تفجيري طرابلس اللذين سقط فيهما 51 قتيلاً ومئات الجرحى ضابط سوري ومساعد له.

تبدو هذه الاستدعاءات كإجراءات قانونية سليمة تصب في أداء أجهزة الدولة لمهماتها. لكن الجميع يعلم أن قائد فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي كشف مخطط سماحة – المملوك دفع حياته ثمناً لعمله في انفجار كبير قبل عام تماماً. ولا تخفى التهديدات التي وجهت إلى القوى الأمنية اللبنانية بعد اعتقالها أحد المطلوبين في تفجيري طرابلس.

لكن المسألة تقع على مستوى آخر. فإلى جانب التهاني التي يوجهها المسؤولون الرسميون إلى الضباط الذين يتولون كشف هذه المخططات واعتقال منفذيها، تلتزم الدولة اللبنانية صمتاً مطبقاً حيال الفاعل والمحرض الحقيقي على ارتكاب هذه الجرائم. فلا يجري استدعاء سفير النظام السوري في بيروت للاحتجاج على ما ترتكبه مخابرات دولته ولا يطلب لبنان من المؤسسات العربية أو الدولية الضغط على بشار الأسد للامتناع عن العبث بأمن لبنان. ولا أي إجراء من هذا القبيل.

ويعلم كل متابع للشأن السياسي أن النظام السوري يتحمل مسؤولية سلسلة لا نهاية لها من الاغتيالات والتفجيرات، ناهيك عن الجرائم والمجازر الجماعية التي ارتبكتها قوات الاسد في لبنان منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وشملت لبنانيين وفلسطينيين ومعارضين سوريين وغيرهم.

الصمت الرسمي اللبناني البليغ هذا يشير إلى عمق اختلال العلاقة بين نظامي الحكم في البلدين، من جهة. وإلى عجز السلطة اللبنانية عن تبني موقف موحد حيال ما يعتبر أمراً سيادياً صريحاً، من جهة ثانية. وإذا كانت المقارنة لا تستقيم بين البلدين أصلاً لناحية الحجم والوزن والنفوذ والقوة العسكرية، ما يفسر اضطرار الدولة اللبنانية إلى اللجوء إلى الصمت حيال ما كان يمارسه النظام السوري في لبنان خشية التعرض لعواقب غضبه، فإن الأسباب ذاتها ساهمت في رفع حدة الانقسام الداخلي اللبناني وتشجيعه واعتباره واحداً من الاستثمارات الاستراتيجية لنظام الأسد في لبنان.

فرفض أية إدانة للنظام السوري غالباً ما تصدر من داخل التركيبة السياسية ومن مؤسسات الدولة اللبنانية قبل ان تأتي من دمشق. مجموعة من الأسباب تساهم في تفسير الظاهرة هذه. منها الخوف من انتقام الاجهزة السورية، ومنها ترابط مصالح الكثير من السياسيين مع رموز النظام السوري على الصعد الاقتصادية والمالية، خصوصا بعدما عملت دمشق على ترسيخ نفوذها من خلال دفع موالين لها إلى الصفوف الأمامية للحياة السياسية، عبر انتخابات كانت تضع أجهزة المخابرات نتائجها قبل إجرائها، على ما هو معروف.

المهم اليوم أن النظام السوري، وبعد كل ما جرى، لم يغير استراتيجيته في الإخضاع والترهيب. وهو يمارسها بأسلوبه المعهود: مباشرة من خلال السيارات المفخخة وغير مباشرة عبر التهويل الذي يطلقه أنصاره المحليون.

بقاء الأسد على خططه يقابله بقاء اللبنانيين على انقساماتهم وصراعاتهم. فتغذي الثانية الأولى. بداهة أن الصورة الثابتة هذه تغيب عنها الدينامية السياسية والميدانية الضخمة التي أطلقتها الثورة السورية، والترجيحات بازدياد شراسة وعنف النظام السوري في لبنان ترمي إلى وقف هذه الدينامية وإحباطها، ببث المزيد من الرعب في لبنان وتهديد الأقليات بالوحش الاصولي وشد عصب الموالين وحشدهم في معركة الدفاع عن النظام، أخذاً في الاعتبار ارتباط هذه الأحداث بالوضع في سوريا (تفجيرا طرابلس وقعا بعد قصف غوطتي دمشق بغاز السارين وانطلاق الدعوات إلى إنزال العقاب بالنظام).

موقع 24

لبنان وسورية: «توأمة» قسرية/ حسان حيدر

كشفت التحقيقات الجارية في تفجيرين داميين تعرضت لهما أخيراً مدينة طرابلس في شمال لبنان ما يعرفه سائر اللبنانيين من ان أجهزة الاستخبارات السورية لا تزال لها يد طولى في هذا البلد وأنصار وعملاء ينفذون رغباتها حتى لو كانت توصل الى الفتنة. فالعمالة بالنسبة الى هؤلاء خيار طائفي وسياسي قبل ان تكون عملاً مأجوراً.

ويرى معظم اللبنانيين عن حق ان وضع بلدهم مرتبط الى درجة التماهي الخانق بالاوضاع في سورية، وان معاناتهم من طبائع الحكم في دمشق لم تبدأ مع دخول الجيش السوري الى لبنان في منتصف السبعينات ولم تنته مع خروجه منه قبل سنوات، بعد عقود من الهيمنة والاشراف المباشر على شؤونهم الكبيرة والصغيرة، بما في ذلك حربهم الاهلية التي أدارها النظام السوري بنجاح طيلة خمسة عشر عاماً وتقاطعت فيها مصالحه مع مصالح الاميركيين والاسرائيليين.

وهم مقتنعون بأنه إذا اقترب الاسد من خسارة الحرب ضد شعبه فسينتقم من لبنان، وإذا ربح سينتقم من لبنان، وإذا ظل وضعه معلقاً دفع لبنان الثمن من استقراره، وإذا دُفع الى الرحيل تحمل لبنان عبء تمسكه بالحكم، وإذا مال نحو الاستمرار سدد لبنان فاتورة التسوية الدولية لبقائه.

ويشعر اللبنانيون اليوم أكثر من سواهم من جيران سورية، بالأزمة الانسانية المستفحلة في هذا البلد، ويعانون من تبعاتها على كل صعيد. لكن ما يقلقهم هو الخلفية السياسية التي تحكم وصول هؤلاء بأعداد ضخمة رغم شكوى الدولة اللبنانية، في تقييم غير مسيّس، من عدم قدرة مؤسساتها على تلبية حاجات رعايتهم. ذلك ان الحكم ومعظم المعارضة في سورية، على السواء، ينطلقان من فرضية ان لبنان «لنا» و «يخصنا» و «لا بأس ان تحمل وزر حربنا الاهلية» لان هذا «واجبه»، فلا يفعلان ما يمكن ان يخفف الدفق البشري الذي يفوق طاقته، ولا يسلمان بحقه في اتخاذ أي اجراءات للحد من فيضان النزوح مثلما فعلت تركيا والاردن حفاظاً على مصالحهما.

وبالنسبة الى اللبنانيين فإن تغيير النظام في دمشق لا يعني بالضرورة اعفاءهم من فائض «الأخوة» الذي قد يغرقهم هذه المرة في محاسبات تجد تبريرها في تدخل «حزب الله» الفج في اقتتالهم.

كأنه مقدر للجار الصغير ان يظل معرضاً للمد والجزر السوريين من دون أي حساب لاستقلاله وسيادته اللذين لم يتحققا فعلاً منذ اعلانهما قولاً قبل سبعين عاماً. ويزيد من عبثية هذا الوضع، ان اللبنانيين بطوائفهم واحزابهم ومناطقهم وعائلاتهم منقسمون في كل شأن، وخصوصاً في شأن العلاقات مع سورية، ما يحول دون اتفاقهم ولو على البديهيات الوطنية المعترف بها في أي دولة، ويفتح الباب واسعاً امام تدخلات الخارج واستنساباته، من دون أي احتمال لخلاص قريب.

انها «توأمة» قسرية لم تنفع معها حدود معترف بها دولياً ولا قوانين ولا معاهدات، وستظل سارية الى ان تتغلب فكرة حياد لبنان عند اللبنانيين أولاً قبل ان «يقتنع» بها السوريون لاحقاً، وطالما ان هناك بين مسؤولي هذين البلدين ومواطنيهم من لا يزال يعتبر استقلال لبنان «إرثاً استعمارياً» ومن يؤمن بشعار «سورية أولاً» ويعمل بهديه.

الحياة

هل يرى جنبلاط صورة صفقة في الأفق فقرّر استباقها بموقف وموقع؟/ اميل خوري

إذا كانت الولايات المتحدة الاميركية تجيد ممارسة السياسة البراغماتية والتعامل مع الواقع والتخلي حتى عن اصدقائها وحلفائها خدمة لمصالحها، فان النائب وليد جنبلاط يجيد أيضاً ممارسة سياسة “التقية” وتغيير حلفائه وتحالفاته تبعاً للظروف والمصالح. ومن يقرأ مواقف جنبلاط المتقلبة يرى أنه فقد ثقته بصدقية السياسة الاميركية منذ أن بسطت نفوذها في الشرق الأوسط ورأى بأم العين كيف ترمي بأصدقائها وحلفائها في الهاوية خدمة لمصالحها ولا تتردد في التفاهم حتى مع خصومها لهذه الغاية عندما تفشل في تنفيذ مخططاتها. فكما تخلت عن أصدقائها في لبنان توصلاً الى وقف الحروب فيه بعدما عجزت هي عن وقفها وفرضت عليهم القبول بوصاية سورية عليه دامت 30 عاماً، وفرضت أيضاً على القيادات المسيحية وتحديداً المارونية حضور لقاءات الطائف والقبول بالتنازل عن بعض الصلاحيات المهمة لرئيس الجمهورية لمجلس الوزراء مجتمعاً معززة بذلك الدور السني، فلا شيء يمنع الولايات المتحدة الاميركية من أن تتخلى عن اصدقائها في المعارضة السورية وتفرض عليهم حضور مؤتمر جنيف بدون شروط مسبقة وجعلهم يقبلون بتسوية يتم الاتفاق عليها مع روسيا وايران، وقد يقوم بموجبها حكم جديد في سوريا بديل من حكم الرئيس الاسد ترتاح اليه هاتان الدولتان ولا يشكل خطراً على مصالح اميركا ولا على أمن اسرائيل، ولا يكون للاسلاميين الأصوليين على اختلاف تنظيماتهم اي دور فيه وهو ما تلتقي عليه اميركا وروسيا.

هذه الصورة التي تبدو للنائب جنبلاط وهو يتابع التطورات واتجاه الرياح تجعله يتخذ المواقف التي تجنب طائفته خصوصاً ولبنان عموماً اخطارها، وهو من أجل ذلك يفضل ان يكون قصبة تميل مع الريح ولا تنكسر على ان يكون سنديانة تكسّر الريح اغصانها…

ولا يستبعد النائب جنبلاط بحكم السياسة الاميركية البراغماتية، قيام حكم في سوريا تختاره روسيا وايران كما اقيم في لبنان حكم تختاره سوريا في ظل وصايتها عليه وان يكون ثمن تخلي “حزب الله” عن سلاحه حصة كبرى له في الحكم كما كان ثمن تخلي الميليشيات المسيحية عن سلاحها انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية وبعده شقيقه الشيخ أمين اذ لا يمكن أخذ شيء ممن لا يملك شيئاً.

واذا كان الانتداب الفرنسي اعطى رؤساء الجمهورية الموارنة صلاحيات واسعة، جعلت السياسة في لبنان توصف بـ”المارونية السياسية” واعطت الوصاية السورية على لبنان الطائفة السنية مزيدا من الصلاحيات بحيث راح البعض يصفها بـ”السنية السياسية” فقد يكون جاء الآن دور الطائفة الشيعية لتمارس دور “الشيعية السياسية” في ظل النفوذ الايراني الذي قد يمتد الى أكثر من دولة في المنطقة والذي قد يكون له دور مهم في تحقيق السلام الشامل الذي عجزت عن تحقيقه الانظمة السنية.

ولا يرى النائب جنبلاط، بحسب من يقرأ تصرفاته، ما يثير الاستغراب في سلوك الولايات المتحدة الاميركية حيال اصدقائها وحلفائها، اذ انها لا تتوانى عن رميهم في الهاوية، اذا قضت مصالحها بذلك، وفي المنطقة أكثر من دليل على ذلك. ولا ينسى جنبلاط انه عندما وقعت احداث 7 أيار غاب المسؤولون الاميركيون عن السمع تهرباً من اعطاء اي تعليق عليها، وكأنهم يريدون ان تذهب المعارضة والموالاة الى الدوحة للموافقة على ما يقرره الكبار فيهما وهو ما حصل وهي أحداث جعلته يعيد النظر في تموضعه، وغاب المسؤولون الأميركيون عن السمع عندما اسقطت سوريا حكومة الرئيس سعد الحريري في الوقت الذي كان يدخل فيه الى البيت الابيض لمقابلة الرئيس اوباما، وسكتوا عن انتقال الاكثرية من 14 آذار الى 8 آذار تحت عراضة القمصان السود لتتألف حكومة اللون الواحد برئاسة نجيب ميقاتي. وقد اضطر النائب جنبلاط الى تغيير موقعه وموقفه كل مرة بسبب السياسة الاميركية الغامضة او المتقلبة التي جعلت من يتعاطى معها لا يعرف من تتخلى عنه او تبيعه بأرخص الاثمان.

واذا كان جنبلاط قد غير موقفه وموقعه بعد احداث 7 أيار وبعد عراضة القمصان السود، فلا عجب ان يغير موقعه وموقفه أيضاً بحديثه الصحافي الأخير عندما يترآى له ان الولايات المتحدة الاميركية هي في صدد عقد صفقة مع روسيا لتقاسم النفوذ في المنطقة وعقد صفقة مع ايران قد تضع سوريا تحت نفوذها وربما لبنان اذا كان ذلك يؤدي الى تحييده عن صراعات المحاور وعندها لا يعود يهم لمن يكون الحكم فيه، هل يكون لـ8 أو 14 آذار، ولو لكليهما، هذا اذا بقي وجود لهما بعد عقد مثل هذه الصفقات التي لا بد أن تخلط الاوراق وتقلب التحالفات بحيث يصبح اعداء الأمس اصدقاء اليوم واصدقاء الأمس اعداء اليوم… فهل يصح ما يتصوره جنبلاط ويتخوف منه فيحجز لنفسه منذ الآن الموقع المناسب.

النهار

قراءتان لبنانيتان لتطورات الصراع في المنطقة: «14 آذار» لا ترى حسماً و «8 آذار» تسعى إلى استثمارها/ وليد شقير

مرة أخرى، غرق الفرقاء اللبنانيون في دوامة قراءة التطورات الخارجية وانعكاساتها على الساحة الداخلية، كل وفق تحالفاته الإقليمية. بعضهم يكيّفها وفق توجهاته، وبعضهم الآخر يرى ملاءمة توجهاته مع الرياح الخارجية والتحسب لتحولات ستحصل، والبعض الثالث يرى أن من المبكر الحسم في شأن مسار هذه التحولات إذا كان هناك من يسعى الى الإفادة منها.

فربطاً بالاتفاق الأميركي – الروسي على التخلص من السلاح الكيماوي السوري، والسعي الى عقد مؤتمر «جنيف – 2» من أجل الحل السياسي في سورية، وبخطوات الانفتاح الأميركي – الإيراني بدءاً بالتفاوض على الملف النووي، تعددت هذه القراءات والأبرز فيها قراءة كل من فريقي الصراع كالآتي:

1 – ان اطرافاً لبنانيين أصيبوا بخيبة أمل من أن واشنطن وموسكو توصلتا الى التسوية حول الكيماوي، لم تشمل مصير نظام الرئيس بشار الأسد، ومن أن هذه التسوية تطيل عمر الأخير وتمدد فترة معاناة الشعب السوري ومعاناة لبنان جراء استمرار تدخل «حزب الله» في الميدان السوري، لإعانة النظام على استعادة مناطق من المعارضة، مع ما يعنيه هذا من تجميده الحلول لمأزق الفراغ الحكومي، لأنه يعيش حال انتعاش من الانفتاح الأميركي على طهران بحيث تترك الحلول في لبنان للمساومات بين الأخيرة وبين واشنطن وبينها وبين القوى الإقليمية الأخرى ومنها دول الخليج.

دوامة التدخلات

إلا أن أصحاب هذه القراءة من قوى 14 آذار يعتبرون ان ما يحضّر له من تسويات بين الكبار لا يعني ترجيح كفة بقاء النظام السوري، بل إن مسار التخلص من الأسلحة الكيماوية أدخل النظام في دوامة التدخلات الخارجية التي لا بد من أن تنتهي الى التغيير في سورية، لكن الأمر سيأخذ وقتاً، وفي الانتظار على قوى 14 آذار الثبات على مواقفها وعدم تقديم التنازلات التي تتيح التسليم لنفوذ إيران والنظام السوري أن يستمر على الشكل الحاصل منذ إسقاط «حزب الله» حكومة الرئيس سعد الحريري بداية عام 2011، في انتظار اتضاح ما يدور من تفاوض خارجي.

بموازاة قراءة هذا الفريق كان واضحاً انزعاج الدول الخليجية الحليفة لفريق 14 آذار من إقدام إدارة الرئيس باراك أوباما على تسوية الكيماوي من دون التنسيق معها، ومن دون التوافق مع روسيا على مصير النظام، فالاتفاق بين الدولتين الكبريين تناول الكيماوي ولم يأتِ على ذكر من استخدمه، فيما الانفتاح على طهران سيركز على ملفها النووي، وخفض العقوبات، مع شكوك بألا يتناول التفاوض نفوذها الإقليمي في عدد من دول المنطقة، وتزداد تحفظات هذه الدول وشكوكها بمآل الانفتاح على طهران، مع الخشية من إشراك طهران في مؤتمر «جنيف – 2» من أجل الحل في سورية، فيما تعتقد أن طهران هي المشكلة، إن في سورية أم في عدد من الدول، من العراق الى البحرين ودول خليجية أخرى فاليمن ولبنان.

أوان لم يحن

والترجمة العملية لهذه القراءة عند هذا الفريق هي في رفض القبول برجحان كفة خصومه على الساحة اللبنانية، لأن أوان الصفقة المتكاملة لم يحن بعد ولأن التفاوض سيأخذ وقتاً طويلاً، سيبدي فيه حلفاء إيران والنظام السوري تشدداً في الإمساك بأوراقهم ومن ضمنها في لبنان، ما يقتضي من فريق 14 آذار ألا يقبل بالصيغة المطروحة للخروج من الفراغ الحكومي، أي صيغة 9+9+6 التي تعطي الحلفاء اللبنانيين للمحور الإيراني – السوري الثلث المعطّل في الحكومة. وقد أبلغ قادة «تيار المستقبل» في هذا السياق فريق رئيس «جبهة النضال الوطني» النيابية وليد جنبلاط الذي أعلن تأييده هذه الصيغة، رفضه الكامل لها واتجاهه الى الانسحاب من أي حكومة تفرض الثلث المعطل. كما أبلغ الموقف نفسه الى الرئيس المكلف تمام سلام. وفي وقت يعتبر اتجاه في قوى 14 آذار أن قيام حكومة ولو بصيغة 9-9-6 أفضل من استمرار حكومة تصريف الأعمال والفراغ الذي قد يمتد الى الرئاسة الأولى، فإن الفريق الداعي الى التشدد في وجه «حزب الله» يرى أنه حتى لو قبلت 14 آذار بهذه الصيغة، فإن عرقلة تأليف الحكومة ستستمر عبر الشروط في شأن الحقائب والأسماء، لأن سياسة الحزب إبقاء الوضع اللبناني معلقاً الى حين التفاوض الإيراني – الخليجي، فيكون أي تنازل مجانياً. هذا فضلاً عن ان استمرار الصراع الميداني في سورية سيشمل مزيداً من التورط لـ «حزب الله» في المعارك فيها، والتي قد تشهد تصعيداً أكثر، لا سيما في المناطق المحاذية للحدود السورية – اللبنانية… وقد تشمل مناطق لبنانية على الحدود، فتكون الحكومة بشروط الفريق الآخر تغطية لهذه المشاركة.

2 – ان التطورات في نظر القراءة الثانية أدت الى تثبيت الأسد في الرئاسة، وليس مجرد إطالة عمره فيها. ويقول أصحاب هذه القراءة ولا سيما منهم «حزب الله» إن الاتفاق على الكيماوي شمل حلاً يتم في ظل النظام الحالي، لأن التوافق بين موسكو وواشنطن كان ثمنه تولي الأولى إدارة شؤون سورية وتسليم الثانية بذلك، في ظل سياستها الانكفائية في المنطقة بعد سلسلة هزائمها فيها.

وهذا ينعكس في لبنان باحتفاظ «حزب الله» وحلفاء النظام بمكاسبهم التي حققوها في السلطة السياسية وتكريسها، لأن الظرف المناسب لذلك أقله في انتظار مرحلة التفاوض الجدي على الوضع الإقليمي وتوزيع النفوذ، مع ما يقتضيه ذلك من استمرار دور الحزب الميداني في سورية وما يتطلبه هذا الدور من حماية سياسية وأمنية له على الصعيد اللبناني، في تركيبة السلطة السياسية، ما يعني الإصرار على حد أدنى هو الحصول على الثلث المعطّل في الحكومة الجديدة. ويتوازى ذلك مع إبقاء الحزب على حملته على دول الخليج والمملكة العربية السعودية كما تدل على ذلك أدبياته وإعلامه.

وتعتقد قوى 8 آذار أن خيارها الوقوف الى جانب النظام ومع إيران حقق لها انتصاراً على المحور الإقليمي الخليجي – التركي، وأن بعض هذا المحور أخذ يتكيّف مع بقاء الأسد في السلطة، ومع النفوذ الإيراني في عدد من الدول ويهيئ لمعاودة صلاته مع النظام السوري، وأن التقارب الإيراني – الأميركي ناجم عن تنازل الولايات المتحدة الأميركية ورغبتها في استعادة العلاقة مع إيران. وهذا انعكس تغييراً لمصلحة قبول دول الغرب بحضور إيران مؤتمر «جنيف – 2» لتكون شريكاً في الحل السياسي المزمع إرساء أسسه مع مفهوم جديد لـ «جنيف – 1»، يقضي بأن تتشكل الحكومة الانتقالية الكاملة الصلاحية من مناصري الأسد ومن نسبة معينة من معارضيه، مع أرجحية له فيها.

وفي رأي هذا الفريق ان الرياح الإقليمية تغيرت باتفاق الكيماوي، وستتغير أكثر إذا حصل الاتفاق على النووي بين إيران والغرب بحيث يكون لطهران الثقل الأكبر في المعادلة الإقليمية والأزمات القائمة في عدد من الدول. وعبّر عن ذلك السفير الإيراني غضنفر ركن أبادي خلال زيارته رئيس كتلة «المستقبل» النيابية فؤاد السنيورة اللافتة الاثنين الماضي حيث أكد «اننا لم نتنازل عن شيء في العلاقة مع الأميركيين، بل هم الذين ركضوا نحونا يريدون الاجتماع بنا، ونحن رفضنا حصول اجتماع في نيويورك (الشهر الماضي)، لأننا لا نبحث عن الصورة من دون أن يكون هناك شيء في المضمون».

ويؤكد السفير الإيراني أن الأميركيين أصروا على حصول الاتصال الهاتفي بين الرئيس باراك أوباما وبين الرئيس حسن روحاني فلاحقوه على طريق المطار ليطلبوا محادثته. «لكننا فرضنا شروطنا لأي تقارب، وهي الاحتفاظ بحق تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة والإصرار على استمرار برنامجنا النووي السلمي، ولن نتراجع عنها».

وتشير مصادر اطلعت على فحوى الاجتماع ان السفير أبادي، الذي تجنب الحديث مع السنيورة عن الأزمة السورية أكد استعداد بلاده للتعاون في المنطقة وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية فضلاً عن لبنان «خصوصاً أننا حاولنا تقديم مساعدة في كل المجالات، مثل الكهرباء والغاز حيث أوصلنا الأنابيب الى الحدود مع سورية، لكن لم يحصل تجاوب». إلا أن أبادي لم يتناول موضوع المساعدة في الحلول السياسية للأزمات، حيث دعاه السنيورة الى اتباع سياسة حسن الجوار مع الدول العربية للتخفيف من الاحتقان الحاصل مع إيران كدولة مهمة في الإقليم…

قراءتان متعارضتان

في الخلاصة، ان القراءتين للوضع الإقليمي متعارضتان وإن كانتا تشملان تقاطعاً في بعض أوجههما، إلا أن كلاً منهما يقود الى مواقف متباعدة على الساحة اللبنانية، فالفريق الأول يرى أن مفاعيل التحولات الدولية – الإقليمية لم تتضح بعد لأن هذه التحولات ما زالت في بدايتها، ولا بد من انتظار انعكاسات التنازلات المتبادلة التي من المبكر البناء عليها في الساحة اللبنانية. والفريق الآخر يرى انه حقق تقدماً لمصلحته ومصلحة حلفائه لا بد من ترجمته في موازين القوى الداخلية. ولبنان ما زال معلقاً بين هاتين القراءتين.

ولا يبدو ان الفريق الوسطي، الذي يستند الى قراءة تدعو الى الإفادة من مرحلة التقارب الدولي – الإقليمي، من أجل تثبيت حد أدنى من الاستقرار، قادر على أن يفرض صيغاً وسطية للخروج من مأزق الفراغ الحكومي والشلل في المؤسسات.

الحياة

إيران والنظام السوري نحو مقاربة “الانفتاح” فهل تتمدّد العدوى إلى لبنان “الساحة”؟/ روزانا بومنصف

أيا تكن الاسباب التي دفعت بايران الى ابداء الاستعداد للانفتاح وتقديم المبادرات حول ملفها النووي من اجل ايجاد حل جدي له، وهي كثيرة ويردها كثر الى عدم امكان تحمل ايران المزيد من انهيار اقتصادها تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الدولية عليها، فان هذه الخطوات التي اقدمت عليها اتت بعد تغيير جوهري على مستوى الرئاسة الاولى والادارة العملانية على نحو يشي بان الادارة السابقة او المقاربة السابقة العدائية والاستفزازية لم تكن فاعلة.

وثمة من لاحظ بالتوازي ايضا على صعيد الملف السوري المنطق الجديد الذي يسعى الرئيس السوري الى تسويقه منذ بعض الوقت من خلال تظهير تسليمه الاسلحة الكيميائية الى المجتمع الدولي على انها انتصار له وليست خسارة او تراجعا. ومع ان قلة باتت تتنبه الى خطاب الرئيس السوري او تولي مضمون الاحاديث الصحافية التي اكثر منها في الآونة الاخيرة اهمية في مؤشر كما يقول هؤلاء الى عدم اعطاء الخارج اي اهمية لمواقف النظام او المنطق الذي يسوقه باعتبار ان الزمن تجاوزه، فان هذه القلة لفتها قول الرئيس السوري في حديث اخير: “ان امن سوريا واستقرارها تحميهما السياسة اكثر من الترسانة العسكرية وان التوازن الدولي هو الضمانة الامثل” في تبرير لتخليه بسرعة وطوعا عن الاسلحة الكيميائية التي جمعها للتوازن مع اسرائيل. يمكن المهتمين فتح ملف التغيير في موقف النظام السوري على قاعدة التناقض بين هذا المنطق ومنطق “المقاومة” “الذي عيّر الدول العربية في وقت ما بعدم تبنيه ويعتبر انه هو مركز الثقل فيه في المنطقة معا الى جانب ايران و”حزب الله” في لبنان”. الا ان مثار الانتباه في هذه النقطة بالنسبة الى مصادر سياسية لبنانية هو ما سعى افرقاء لبنانيون كثر الى اعتماده وتبنيه من اجل الدفاع عن لبنان في مراحل عدة من تاريخه الحديث والذي رمى الى تعميم منطق ان لبنان تحميه سياسته وتوازنه وليس الترسانات العسكرية خصوصا في مراحل استخدامه ساحة اقليمية بديلة في الصراع مع اسرائيل وتسليح افرقاء من دون افرقاء آخرين. وكانت تهم التخوين تتصاعد من النظام السوري مباشرة كما من حلفائه لهذا المنطق “الانعزالي” في رأيهم ما دام لا يجعل لبنان ساحة او معبرا للدول الاقليمية لمواجهة اسرائيل بالواسطة وعبر اللبنانيين واحيانا عبر الفلسطينيين من لبنان ايضا. ولذلك فان السؤال البديهي الذي يثار في هذا الاطار هو اذا كانت السياسة تحمي سوريا واستقرارها فماذا عن لبنان وابقائه ساحة بديلة كما كان دوما ولماذا تعمد ايران الى تغيير كل اسلوبها وتعتمد الحوار والمفاوضات الديبلوماسية لحل نزاعاتها في حين يبقى الحل العسكري استراتيجية معتمدة للبنان؟ وتاليا هل منطق “المقاومة” والتوازن الرادع يجب ان يستمر في ان يسري على لبنان وحده ومن لبنان او عبره في مقابل هذه التغييرات الايرانية والسورية ام يجب ان يسري عليه ايضا منطق “الحماية السياسية” والديبلوماسية ؟

البعض يعتقد ان منطق تحييد لبنان اكان سمي “اعلان بعبدا” او سوى ذلك يجب ان يجد سندا داعما له في المقاربتين الايرانية والسورية باعتبارهما المؤثرتين على عدم تحييد لبنان وابقائه ساحة وحيدة. فكما ان السياسة العدائية السابقة لهذا المحور كانت تحاول ان تشمل لبنان قسرا في اطارها فينبغي ان تشمله المقاربة السياسية الجديدة على رغم ان مصادر سياسية عدة تستعيد مواقف لمسؤولين ايرانيين عن “المقاومة” تهدف الى بقاء القديم على قدمه وعدم شموله بالتغيير تماما على غرار ما كانت تنعم سوريا بالسلم في الجولان وفي كل سوريا في الوقت الذي كانت تشعل او تدعم اشعال الجبهة مع اسرائيل من الجنوب اللبناني. في حين تعتقد مصادر سياسية اخرى انه من المبكر الجزم في هذا الاتجاه باعتبار ان التعاطي مع “حزب الله” كان في جزء كبير منه جزءا من التعاطي مع ايران ايضا والضغوط المتبادلة بين الجانبين الغربي والايراني كان يحصل عبر واقع الحزب في لبنان، لذا فانه من المثير للاهتمام رؤية اي تحولات ستطرأ على هذا الواقع تبعا للتطورات التي يقال انها ايجابية ومشجعة في ملف التفاوض الغربي مع ايران ومع تحول “امن سوريا واستقرارها” الى الحماية السياسية بدلا من الحماية العسكرية.

النهار

كلُّ لبنان مخيّم سوري/ جهاد الزين

فيما تنهش الذئابُ الداخلية والإقليميّة والدولية من كل نوع جسدَ الخارطة السورية ومجتمعَها، تواصل الديموغرافيا السورية فيضانَها البائس بأغنيائها ومتوسّطيها وفقرائها، بمدنيّيها وريفيّيها، على نفسِها وعلى كلّ المنطقة المحيطة وعبرها بأشكال مختلفة إلى العالم.

حراكٌ كارثيٌّ كاملٌ من العنف والتدمير والنهب يتعرّض له بلدٌ بشكلٍ قلّ نظيرُه، على الأقل في وعي تجاربنا العربية والمسلمة منذ الحرب الأهلية اليمنية في الستّينات. لقد فاق المذبحُ السوريُّ كلَّ عنفٍ سبقه في الخمسين سنةً الأخيرة في العالم العربي. وحتى قياسا بأعتى حالة – وهي حالة الإبادة القصوى التي شهدها الصومال- فإن فارق الغنى الاجتماعي والعمراني والثقافي المخزون في بلد كسوريا يجعل حالتها الراهنة المتمادية أرهبَ بكثيرٍ من الحالة الصومالية حتى لو كان الأخضر الابراهيمي الواعي عميقا لمعنى تدمير سوريا يستخدم تحذيرَ الخطرِ من “الصوملة” في سوريا الذي يَقصُد به خطرَ التلاشي الكامل للدولة.

أخبرني مؤخّراً مسؤولٌ غربيٌّ في مؤسّسة إغاثة للنازحين السوريين تعمل انطلاقاً من تركيا في مخيماتٍ داخل الأراضي السورية ولكن قريبة جدا من الحدود الدولية أن منظمّته طلبت من كوادرها الأجنبية عدم تمضية العطلات في محافظة “هاتاي” (لواء اسكندرون) في مناطق ذات كثافة علوية منعاً لتعرّض هذه الكوادر لأي توتّرات يمكن أن تحصل في هذه المناطق بسبب الاحتقان الطائفي المتولّد عن النزوح. هذا غيض من فيض الحساسيّات المتولّدة عن الأزمة السورية. لكن في هذا الفيضان الديموغرافي الأمني والسياسي والاقتصادي السوري على المنطقة المحيطة يحتلّ التأثير على الوضع اللبناني الخطورة الأكبر بدون أدنى شك. جميع الدول المجاورة لسوريا هي دول طَرَفيّة بالنسبة لسوريا إلا لبنان: نحن دولة في قلب سوريا لا على أطرافها. وذلك بمعنيين عمليّين متداخليْن نشهد تفاقمَهما كلّ يوم:

المعنى الأول هو الجغرافي البشري والمعنى الثاني هو السياسي أي دخول المجتمع اللبناني في قلب الحرب الأهلية السورية. لا تُشْبهنا في ذلك، أي في المعنى الثاني لا الأول، سوى الحالة العراقية سُنةً وشيعة.

شهد لبنان والمنطقة عام 1948 النكبة الفلسطينيّة. آثارها كانت كبيرة على مستوى المنطقة. كيانٌ مثل الأردن أعادت تلك النكبة تأسيسه ديموغرافياً لا فقط ما أصبح عليه حجمُ المكوّن الفلسطيني على الضفّة الشرقيّة منه بل في ضمّ منطقة فلسطينيّة أساسية آهلة على غربه إلى قلب الدولة الأردنية وهي الضفة الغربية بما نَقَلَ الأردن من إمارةٍ إلى مملكة شهدت حربا أهلية سريعة عام 1970. ويستمر هذا التأثير البنيوي حتى بعد تخلّي الملك حسين عن الضفة الغربية والاعتراف بكونها جزءاً من الكيان السياسي الفلسطيني الذي لا يزال يناضل للتحوّل إلى دولة مستقلّة، ولا يزال يحمل معه احتمالات الخطر على الكيان الأردني الذي تديره مؤسّسة ملكيّةٌ قويّة.

تَوزّع الاستقبالُ اللبناني للاجئين الفلسطينيّين عام 1948 بشكلٍ أساسي على مخيماتٍ معظمها على مداخلِ أو مخارجِ المدن الكبيرة. وبلغ الوجودُ الفلسطينيُّ في أعلى تراكماتِه السكّانيّةِ نصفَ مليون. بينما في الفيضان السوري الحالي لا وجود عمليا لفكرة “المخيّم” – حتى لو وُجِدتْ تجمّعاتُ خِيَمٍ محدودة – لأسباب يتداخل فيها مزيج من الفضائل والنذالات اللبنانية معا. لكن الحصيلة هي أن لبنان أصبح كلّه مخيّماً للنازحين السوريّين. إنه “مخيّم بمنازل كثيرة” ولكنه مخيّم واحدٌ من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. مخيّمٌ يضم كل أطياف وطبقات المجتمع السوري “السابق”.

أظن أنه لم يعد هناك – ولم يكن أصلاً – مجالٌ لرسم نمط آخر للاستقبال اللبناني للنازحين السوريين. هناك ما يتجاوز في هذه الصورةِ – صورةِ لبنانَ بكاملِهِ كمخيّمٍ واحد- مجرّدَ الضعفِ الفضائحيِّ التقليدي للدولة اللبنانيّة والقوّةِ الفضائحيّةِ الأعلى لنمطَيْ الانخراط الحربْ أهلوي داخل سوريا للقوى المذهبيّة المسيطرة عند السُنّة والشيعة اللبنانيّين… هناك الوشائجُ العميقة المتواصلة التي تجعل كُراتِ المأساةِ السوريّةِ تتدحرج نحونا إلى “بيئاتها الحاضنة”، وهي ليست طائفيةً فقط بل اجتماعية وطبقية وثقافية أيضا، كما تتدحرج الكراتُ الملوّنة، كلٌ نحو الحُفر التي تحمل اللون نفسه في بعض الألعاب الإلكترونيّة.

سبق أن كتبتُ مرارا أن تأثير الأزمة السورية على الكيان اللبناني هو أعمق من تأثير النكبة الفلسطينية ولا زلنا في أوّل الطريق. طريقٌ تكتب قواهُ الطائفيّة، وتحديدا السنّية والشيعية، ما أسميناه سابقا “نهاية لبنان الكبير” وينشأ بالمقابل “المخيم السوري الكبير على كل لبنان”. كأن هذه “السَّوْرنة النزوحية” البائسة هي، لا اللبننة الهشّة، شكل وحدتنا – انقسامنا القلقيْن الجديديْن. فالمسيحّة اللبنانية بقيادة الكنيسة المارونية وبقرار فاتيكاني أصبحت أيضا مسيحيّةً سياسيّةً مشرقيّةَ وليس فقط الشيعيّة والسُنّيّة السياسيّتين الملتحقتين بمحوريهما الخارجيّين.

كل هذه الأسطر السابقة أعلاه، لها “ترجمة” أخرى: كم ظهر في العمق أننا، نحن اللبنانيّين، جميعاً سوريّون، بأغلبيّتنا السنّية وبأقليّاتِنا الشيعيّة والمسيحيّة والدرزية.

النهار

أينعت… لكن قطافها لم يحن بعد/ عبدالله إسكندر

وصلت الدولة ومؤسساتها في لبنان الى حال من التفكك والتعطيل والاهتراء لا سابق لها حتى في أحلك أيام الاقتتالات الداخلية. وليس الوضع الحكومي الحالي سوى رأس جبل الجليد، رغم ما هو عليه من سوريالية.

ثمة ميل غالب الى القاء مسؤولية هذه الحال على جميع اللبنانيين الذين لم يتمكنوا بعد من التفاهم على كيفية تعايشهم وحكم بلدهم. وكأن ما يشهده بلد الارز مجرد خلافات سياسية على حصص في السلطة والحكومة، يمكن تجاوزها بمجرد الوصول الى اتفاق على التقاسم.

لكن الوضع الراهن في لبنان تجاوز المرحلة التي يمكن فيها التقاسم. وتعتبر ازمة تشكيل الحكومة ابلغ تعبير عن هذه الحال. فرئيس الجمهورية (أي المسيحيين عموماً) ورئيس الحكومة المكلف (أي السنّة عموما) يسعيان الى صيغة ثلاثية يتساوى فيها المسيحيون والسنّة والشيعة (8+8+8). لكن «حزب الله» يريد ان تكون له القدرة الدستورية على التعطيل داخل الحكومة، عبر مطالبته بأن يستحوذ على الثلث زائد واحد في الحكومة. اي انه يعلن عزمه على ابقاء القرار في يديه، خصوصاً لجهة تعطيل العمل الحكومي الذي لا يرضيه ويبقي هيمنته على قرار الدولة اللبنانية.

قد يكون ذلك صحيحاً، خصوصاً ان استحقاقات تنتظر الحكومة اللبنانية، مثل تمويل المحكمة الدولية الخاصة التي تتهم عناصر في الحزب باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، ومثل الملفات المرتبطة بالتنقيب عن النفط، ومثل التزام النأي بالنفس عن الصراع في سورية. بالتأكيد، ان «حزب الله» معني بهذه الملفات ويرغب في البت فيها بما يتناسب مع المصالح التي يمثلها، وتالياً لهيمنته على القرار الحكومي اهمية كبيرة بالنسبة اليه. لكن في الواقع يتجاوز سلوك الحزب في لبنان هذه النظرة المصلحية الآنية الى ما هو ابعد من ذلك، الى جعل كل مفاصل المؤسسات اللبنانية في يديه. فهو يحتكر القرار في المؤسسات والاجهزة التي باتت تابعة له، ويسعى الى تعطيلها في المؤسسات والاجهزة التي لا تزال تعاند سيطرته، ومنها الحكومة والمديرية العامة لقوى الامن الداخلي وفرع المعلومات فيها، وذلك لاسباب ليست بعيدة عن حال الفرز المذهبي.

ولم يكن ممكناً ان يوصل «حزب الله» الوضع اللبناني الى هذه الحال لولا عمله الدؤوب والمتأني والمتعدد الاتجاهات من اجل تفكيك المؤسسات واعادة تركيبها وفقاً لرؤيته. لقد عمل الحزب، بدعم ايراني – سوري، من اجل خلق الفراغ في الدولة اللبنانية ومؤسساتها، على ان يكون قادراً على ملئه في الوقت المناسب. وهذا ما حصل على امتداد السنوات الطويلة منذ اعلان قيام الحزب، عبر الاقتطاع التدريجي من الدولة وسيادتها ومسؤولياتها وتجييره الى الحزب وأجهزته، وذلك على كل المستويات وليس العسكري فحسب. وفي كل مرة يسجل فيها الحزب «انتصاراً»، كان يقضم مزيداً من الدولة وسيادتها.

لقد بات الوضع اللبناني مهترئاً وهشاً الى حد انه قد يسقط في أي لحظة على نحو لا قيام بعده. وهذا ما يعبّر عنه، حالياً، بالمخاوف من الفراغ الدستوري اذا لم يتم تشكيل حكومة جديدة، وفي ظل حكومة تسيير اعمال. لكن مثل هذا الفراغ مطلوب من «حزب الله»، لانه وحده بين القوى السياسية قادر على ملئه، بعدما عمل طويلاً على خلقه.

لكن لماذا لا يتقدم الحزب حالياً ويأخذ السلطة التي باتت ناضجة بالنسبة اليه؟ الارجح ان الامر يتجاوز التهيب ازاء وضع اليد على لبنان الى الحسابات الاقليمية والدولية الايرانية. خصوصا ان طهران منغمسة مجدداً مع الغرب في لعبة ديبلوماسية تتعلق بملفها النووي وبملف التسوية في سورية. وما دامت ايران غير مضطرة للحسم سريعاً في هذه الملفات، او ما دامت التسويات غير واضحة المعالم، يبقى الوضع اللبناني ورقة مساومة، ومن الافضل ان تبقي المسؤولية الصورية لادارته خارج هيمنتها المباشرة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى