مقالات تناولت مهمة الابراهيمي
الأسد والإبراهيمي و«المنطقة المحظورة»
غسان شربل
خرج الأخضر الإبراهيمي غير مرتاح من لقائه الثالث مع بشار الأسد. اللقاء الثاني كان أفضل. ولا غرابة في الأمر. السباحة في العموميات تعفي الطرفين من كشف ما يريدان تركه إلى اللحظة المناسبة. هذه المرة اقترب الأخضر مما تعتبره دمشق «المنطقة المحظورة». لقاءات المبعوث الدولي والعربي مع الحلقة المقربة من الرئيس رسخت قناعته بصعوبة مهمته. اللقاء الرابع يبدو بالغ الصعوبة، أو متعذراً.
في الفندق في دمشق، راح الإبراهيمي يقرأ في موقف الرئيس السوري. يعتقد الأسد أن مجلس الأمن لا يزال مقفلاً أمام أي محاولة لاستصدار قرار يغطي عملية خارجية لاقتلاع نظامه. لا شيء يوحي ان روسيا تستعد لتغيير موقفها. الأمر نفسه بالنسبة إلى الصين. ايران قصة أخرى، فهي تعترف أن سقوط النظام السوري يعني سقوط دورها في الإقليم. يعني فشل الهجوم الذي شنته وكلفها عشرات الأعوام وبلايين الدولارات. يعني انتقال المعركة لتقليص حضورها في العراق ولبنان. ثم إن إدارة باراك اوباما ليست في وارد القيام بتدخل عسكري في سورية. وإذا كان النزيف السوري يصيب المدنيين هناك، فإنه يصيب أيضاً النظام وحلفائه. تستطيع الانتظار تحت قبعة الإبراهيمي. تصرف الأسد في اللقاء الثالث مستنداً أيضاً إلى استمرار تماسك الوحدات الأساسية الضاربة في الجيش السوري. وخير دليل انتقال بعض الوحدات إلى الهجوم حول دمشق وتحقيقها بعض التقدم.
لم يتصرَّف الأسد تصرُّفَ من يبحث عمن يساعده على الخروج من المأزق. حين لامس الإبراهيمي موضوع «المرحلة الانتقالية» و «الحكومة الكاملة الصلاحيات» استناداً إلى إعلان جنيف، وألمح إلى «تغيير حقيقي»، كان رد الأسد واضحاً، بل قاطعاً. شرعية الرئيس جاءت من الانتخابات ولا تتغير إلا بانتخابات. المشكلة ليست في دمشق، بل في الاعتداء الذي تتعرض له سورية، وأول الحل «أن توقف الدول الراعية للإرهابيين مساعداتها لهم».
في موسكو لم يسمع الإبراهيمي ما يتيح له الحديث عن «اختراق» او «تقدم ملموس». قال لافروف إن موسكو لا تعتبر من مهمتها أن تدعو الأسد إلى التنحي، وإنها لا تعتقد أنه سيتجاوب إن فعلت، وإن هذا الجو ملموس أيضاً لدى المحيطين بالأسد. لكن لافروف أكد أن بلاده لم تتراجع عن إعلان جنيف. وأنها مهتمة بمصير البلد لا مصير الشخص. وأنها تعارض بشدة انهيار الدولة السورية ومؤسساتها ولا تريد قيام «ليبيا جديدة»، خصوصاً أن معلوماتها تؤكد تصاعد دور الجهاديين داخل المعارضة السورية. لكن لافروف أكد للإبراهيمي أن بلاده متمسكة بإعلان جنيف على رغم تباين التفسيرات.
تصاعَدَ تبادل الرسائل. قال الإبراهيمي إن الخيار في سورية هو بين الحل السلمي والجحيم، وحذّر من الصوملة. ورسم الأسد في خطابه برنامجاً للحل تحت سقف حكومته لا في ظل «حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة». دخل الإبراهيمي مجدداً المنطقة المحظورة ونقل عن السوريين «اعتقادهم» أن حكم أسرة الأسد طال أكثر مما ينبغي، فاتهمه الإعلام السوري الرسمي بالانحياز.
في لقاء جنيف لم يتبلور تصور مشترك. بدت أميركا مرتبكة وهي تبلور أركان الولاية الثانية لأوباما. تمسك الجانب الأميركي بتنحية الأسد، لكنه بدا مهتماً بعدم انهيار بنية الدولة السورية، ولم يظهر واثقاً من هوية البديل. تحدث الجانبان الأميركي والروسي عن مخاطر الحل العسكري وكُلْفته الباهظة، وكررا تأييدهما إعلان جنيف. عبَّر كل من الطرفين عن قلقه من تصاعد التطرف. أكد الجانب الروسي ثقته بالإبراهيمي. تحدث عن تأييده التحرك من أجل مرحلة انتقالية وكأنه يدعو إلى إبقاء مسألة تنحي الأسد جانباً. بدت مواقف الطرفين غير ناضجة لتحقيق اختراق، لكنها سمحت بتعويم مهمة الإبراهيمي على رغم دخوله «المنطقة المحظورة».
لم يتوقف تبادل الرسائل. بعد جنيف تلقى الإبراهيمي رسالة جديدة، وهذه المرة عبر صحيفة «الوطن» السورية. قالت الصحيفة إن الإبراهيمي «تجرأ» وطرح مسألة الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وإن الأسد أجابه: «لست القبطان الذي يهرب من السفينة عندما يشعر أنها بدأت تهتز» وأنهى الاجتماع. هل نفهم من ذلك أن ميزان القوى لا يسمح بحل، بل بالمزيد من الاقتتال لمحاولة تغييره أو فرض وقائع جديدة؟ هل نفهم أن اللقاء الرابع بين الأسد والإبراهيمي بات مستحيلاً، وان دمشق ستحاول كسب الوقت بالمطالبة بـ «وسيط غير منحاز»؟ وكم سيُقتل من السوريين بانتظار «نضوج» الظروف الداخلية والإقليمية والدولية؟
أعان الله السوريين المبدَّدين داخل بلادهم واللاجئين خارجها.
الحياة
الإبرهيمي نهاية وساطة أم وسيط؟
راجح الخوري
اذا كان الاخضر الابرهيمي قد أصبح كما يقول النظام السوري بعد ستة اشهر على مهمته اليائسة: “مجرد سائح يحمل ملامح معمّر هرم، ووسيط مزيف يقوم بمهمة فاشلة، وطرف وليس وسيطاً بات في كل الاحوال خارج الحل السوري”، فلا ندري ما الجدوى من صمت هذا الديبلوماسي الجزائري المخضرم، الذي يعض على جروحه منذ ستة اشهر فلا يستقيل من “المهمة المستحيلة” كما وصفها منذ البداية؟
ولا ندري ما الجدوى من تقديمه تقريراً في 29 من الجاري الى الامم المتحدة ومن ورائها طبعاً اميركا وروسيا، اللتان تعاملتا معه منذ ايلول الماضي على انه مجرد ممسحة يستعملانها لإخفاء عجزهما او بالأحرى تآمرهما على سوريا والسوريين؟
ما يفرضه المنطق على الابرهيمي هو تقديم استقالة غاضبة ومعللة، لا تتوقف عند كشف انخراط النظام في حمّامات الدم التي أودت حتى الآن بأكثر من ستين الف قتيل، في وقت يستمر دك المنازل بالقنابل الروسية تلقيها مقاتلات الرفيق سيرغي لافروف المبتسم حتى آخر قطرة دم في سوريا، بل تكشف ايضاً سخافة جامعة نبيل العربي العاجزة إلا عن استطلاع اوضاع اللاجئين السوريين بعد الصراخ اللبناني اخيراً، كما تكشف تفاهة مجلس الامن وقد تركته واشنطن رهينة “الفيتو” الروسي الذي يخفي في الواقع نوعاً من انخراط البلدين الوقح في رقص “التانغو” على قبور السوريين!
يجب الا ينهي الابرهيمي حياته الديبلوماسية بالصمت عن الحقائق التي افشلت مهمته، فهو لم يفشل بل كان اكثر جرأة وصراحة من سلفه كوفي انان الذي توارى مع نقاطه الست من دون ان يقول كلمة، في حين وضع الابرهيمي نقاطاً على حروف مهمة وكثيرة تتصل بعمق الازمة السورية، وذلك عندما “تجرأ” وطرح مسألة الانتقال السياسي وفاتح الاسد بموضوع ترشحه للإنتخابات وهو ما اعتبره النظام “وقاحة” فأنهى اللقاء معه كما أعلن النظام، الذي يريد تحميله مسؤولية الفشل لأنه يرفض بالمطلق الانتقال السياسي، معتمداً على الدعم الروسي والايراني والصيني وعلى التغاضي الاميركي وعلى التقصير العربي الفاضح.
يجب الا ينتهي الابرهيمي كما انتهى انان، شبح واختفى من دون ان يقول شيئاً، وخصوصاً ان الاسد اطلق رصاصة الرحمة على مهمته قبل ان يصل الى دمشق في رحلته الثالثة عندما تركه ينتظر ثمانية ايام في القاهرة ليحدد له موعداً ثم اكثر من ساعة في البهو ليطل عليه، فما كاد يطرح موضوع الانتقال السياسي والانتخابات حتى وقف الاسد منهياً المقابلة والوساطة ايضاً!
ولكن هل من العدل والمنطق ان تنتهي حياة الابرهيمي الديبلوماسية مع انتهاء تلك المقابلة التعيسة؟ واذا كان “حكم اسرة لمدة 40 عاماً اطول مما يجب” كما قال، فلقد صمت هو اكثر مما يجب!
النهار
الأسد ينهي فعلياً مهمة الأخضر الإبراهيمي
ربى كبّارة
أنهى النظام الأسدي فعلياً مهمة المبعوث الأممي ـ العربي، باعتباره الأخضر الإبراهيمي وسيطاً مزيفا يقوم بمهمة فاشلة” و”وسيطا بات في كل الاحوال خارج الحل السوري”، كما طرحه بشار الاسد في خطابه الاخير، رغم استمرار الاجماع الدولي والعربي اللفظي على دعم مهمة الابراهيمي في التوصل الى حلّ للازمة السورية المستمرة منذ اكثر من 22 شهراً حصدت خلالها عشرات آلاف الضحايا.
وقد ظهر الاسد في الخطاب الذي ألقاه في السادس من الجاري من على مسرح دار الاوبرا في دمشق خارج أي علاقة فعلية بواقع بلاده، في مرحلة شديدة التعقيد تتمحور خصوصا حول نفوذ حليفه الايراني مع كل ما يتعرض له مؤيدو طهران في المنطقة: من نوري المالكي الذي يواجه انتفاضة داخلية الى “حزب الله” الذي يتعرض سلاحه لمواجهة سياسية الى النظام السوري الذي يواجه انتفاضة شعبية.
فأولويات الحلّ الذي طرحه، وأبرزها اقفاله الباب على أي مبادرة سياسية تتضمن تنحيه، سدّ الاسد الأفق أمام جهود الابراهيمي خصوصا ان المبادرة التي يسعى المبعوث الدولي الى إنضاجها ترتكزعلى مساع للتوصل الى تفاهم اميركي- روسي على الحل بمعزل عن العامل الايراني.
اضافة الى انه بنبرته وهدوئه المصطنع اراد رفع معنويات ما تبقى من فريقه عبر الكلام الذي اطلقه قبيل دخول الثورة عامها الثالث ليؤكد صموده رغم فشله في القضاء عليها ونجاحها في السيطرة على مناطق شاسعة رغم الفارق الكبير في الامكانات، وان عبر عمليات كرّ وفرّ بين الطرفين.
فما إن تمسك الابراهيمي بعد لقائه الاخير مع الاسد بطرح قيام حكومة انتقالية تمسك بكامل الصلاحيات، حتى تناوبت صحف النظام على مهاجمته واتهامه بالتبعية للغرب وبالتواطؤ على النظام وسط توقعات متقاطعة بأن مهمته انتهت. فهو لم يعد وسيطا بين الاميركيين والروس في صراعهما على شكل الحل النهائي، اذ تخشى الولايات المتحدة تكرار تجربة دعم المجاهدين في افغانستان، وروسيا تريد الوصول الى صفقة متكاملة تعوضهم خسارة الأسد.
ومن المتوقع ان يتضح هذا المآل عند تقديم الابراهيمي احاطته امام مجلس الامن في 29 الجاري ليلحق بسابقه كوفي انان. ويترافق ذلك مع مطالبة الامين العام للجامعة العربية نبيل العربي بقوة حفظ سلام تحت البند السابع واعلانه ان المحادثات الاميركية الروسية مع الابراهيمي هدفها “اعداد قرار يصدر عن مجلس الامن” والتي حدت بصحف النظام الى اعتباره “اجيرا” عند الدوحة والرياض.
وفي حال انتهاء مهمة الابراهيمي يزداد مآل الامور في سوريا غموضا مع استحالتين: التسوية السلمية التي ستكون قد سقطت، والحسم العسكري الممنوع اذا ما بقي المجتمع الدولي على تخاذله في مساندة الثوار فعليا عبر مدّهم باسلحة نوعية وتامين منطقة حظر جوي لذرائع مختلفة من التلطي امام الرفض الروسي الى الخوف من وصول الاسلحة الى “الارهابيين” الذين يبالغ الاسد بتظهيرهم في اطار مساعيه لاسترضاء الغرب في مرحلة لاحقة.
لكن التدخل العسكري الفرنسي في مالي الافريقية يفتح الباب امام احتمالات مستجدة. فإرهاب نظام الاسد، الذي يقصف بوحشية غير مسبوقة ويرتكب مجازر فظيعة، يتساوى مع ارهاب الاصوليين الذين لم تتردد فرنسا في مواجهتهم تلبية لطلب السلطات المحلية وبضوء اخضر ضمني من مجلس الامن وبرضى دول الجوار من الجزائر الى المغرب وحتى برضى المعارضة الفرنسية. فتأخر المجتمع الدولي في دعم حقيقي للثوار ادى الى تصدر الجهاديين الواجهة في مقابل المعارضة المتنوعة التي يحتاج ذراعها العسكري “الجيش السوري الحر” الى مساندة فعلية حتى يتمكن “الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” من تشكيل حكومة انتقالية تضم الاقليات جميعها بما يطمئن السوريين الخائفين من مرحلة ما بعد الاسد كما يطمئن الخارج المرتعب من البعبع الاصولي السني.
وتبقى الخشية من ان يبعد ما تشهده مالي أي احتمال بتدخل عسكري خارجي في سوريا بما يؤكد ازدواجية المعايير الدولية.
فالتدخل الغربي السريع في مالي، حيث لفرنسا جالية كبيرة ومصالح اقتصادية واسعة، وغض الطرف عما يجري منذ اكثر من عامين في سوريا وادى الى وقوع اكثر من 60 الف ضحية والى ملايين المهجرين والنازحين والى مئات آلاف المعتقلين يندرج بوضوح في اطار المعايير المزدوجة.
وللامم المتحدة والغرب بمجمله سوابق في هذا المجال لن نستذكر منها سوى الاحتلال الاميركي للعراق الذي موهته الولايات المتحدة بتحالف شبه وهمي متذرعة بتوفر اسلحة دمار شامل بين ايدي الرئيس الراحل صدام حسين، وهو ما تبين لاحقا كذبه. وستدفع ازدواجية المعايير خصوصا بما يتعلق باسرائيل كل الشعوب العربية والاسلامية الى استحضار عشرات القرارات الاممية التي صدرت بحق الدولة العبرية ان بسبب احتلالاتها او بسبب مجازرها سواء ضد الفلسطينيين او اللبنانيين، فيما الولايات المتحدة والغرب كما الامم المتحدة تتجاهل الامر ولا تدينه فعليا.
المستقبل
سوريا وروسيا والأخضر الذي لم يستو بعد!
فيليب سكاف
من شعب نازح بمئات الآلاف إلى لبنان، يفرّ من “سوخوي” أخويّة ومن تفجيرات جهاديّة إلهيّة، واحد أعرفه جيداً. يقرفص على الرصيف منتظراً يوم عمل لحفنة من الدولارات يبعث بها الى بلاد البعث. تساهم كتفاه في بناء أبراج بيروت، بينما قريته تطبق على نفسها طابقاً بعد طابق.
بالنسبة إلى “أبو أحمد”، الجيش السوري الباسل والجيش السوري الحرّ صارا وجهين لعملة واحدة: الدمار، ودم السوريين الذي يسيل، متلوّياً بين جثث ملقاة على دروب الهروب، تعبرها عائلات باكيات، مخلّفة وراءها رجالاً ملتحين إنْ من إلهام دينيّ… أو من فقدان الشَفر والماء والصابون.
يقرأ أبو أحمد في الصحيفة “الربيع العربي تحوّل إلى ربيع غربي”. ميدانياً، ثلاثة أقانيم ثابتة في نظام واحد: المخابرات، الجيش وبيت الأسد… ولا مساومة. وفي المقابل، مرتزقة وجنسيّات جهاديّات متعددة… ولا حسم. ويبقى الجدال حول شرق أوسط كبير من قطيع واحد كبير، أو من قطعان صغيرة في بلدان صغيرة داخل إمبراطورية كبيرة، بدءاً ربما بـ”والي السوريين” الذي عيّنته تركيا قبل أيام.
أبو أحمد يقرأ لي أخبار ربيع العرب المنصوصة بلغة الكذب، وهو يعرف أن القوميّة الإسلامية التي جرفت القومية العربية قد تستبدل الديكتاتوريات العسكرية المقيتة بديكتاتوريات تكفيرية شبه أبدية… وأن الحسم الستراتيجي كيفما أتى، آتٍ على أنقاض عائلته، وقريته وبلاده. لأن كلاًّ من الفريقين المتقاتلين يحاول ضرب المرض الذي يُجسّده الآخر، والنتيجة أن العنف سيقضي على المريض.
في هذه الأثناء، الابرهيمي الأخضر لم يستوِ بعد! ولا أمل لأبي أحمد بحلٍّ بعد. وواهم القائل إنّ الحلّ ليس بيد سوريا بل بيد روسيا التي يكفي أن تلوّح بسوطها – وبصوتها – ليستجيب الأسد… لأنّ قصة روسيا مع سوريا تتعدّى تطابق الأحرف والموقف، لتشبه قصّة ذلك الذي فتحت زوجته الباب فاجتاح الصقيع والريح البيت. وبدل أن يأمرها بإغلاقه، كما ترجّاه أولاده المرتجفون برداً، راح يبحث عن تبريرات واهية لفضائل تركه مفتوحاً، قائلاً لهم إن عصفوراً تائهاً قد يدخل البيت، وكاذباً من قال إن “الدفّا عفا”. وما مأخذكم على أوكسيجين إكسترا؟ بينما الحقيقة أنه لا يمون على زوجته قط، وإنْ طلب فلن تستجيب! هكذا قصّة روسيا مع تنحّي الأسد.
إذ يمرّ بنا لاجئ فلسطيني، ينظر إليّ أبو أحمد دامعاً، فهو قرأ أيضاً كيف ضاعت فلسطين بين عبّاس وحماس، ويخاف أن يمضي حياته في لبنان، غرفة الإنتظار الدائم.
النهار
الأخضر الإبراهيمي ..وسوريا ما بعد الأسد
خيرالله خيرالله
مخطئ من يعتقد انه كان على الاخضر الابراهيمي، منذ البداية، اتخاذ موقف واضح من نظام بشّار الاسد. ما لا يمكن تجاهله أن الاخضر الابراهيمي وسيط قبل اي ّ شيء آخر. ولأنّه يعرف ذلك جيّدا، سعى، في تعاطيه مع الرئيس السوري، الى التمسّك بالصبر الى حدّ يفوق قدرة أيّ مخلوق ينتمي الى طينة البشر على تحمّله.
بدا الاخضر في سياق مهمته السورية وكأنّه رفع شعار: صابر حتى يعجز الصبر عن الصبر. ولا شكّ أنّ الكلام الاخير الصادر عن مبعوث الامين العام للامم المتحدة والامين العام لجامعة الدول العربية يدلّ على أنّ الرجل يتصرّف كوسيط حقيقي انحيازه الوحيد لمستقبل الشعب السوري والمحافظة على ما بقي من الدولة السورية. فما الذي يضمن انقاذ سوريا غير رحيل النظام الحالي والانتقال بالبلد الى مرحلة جديدة يستعيد فيها وضعه الطبيعي؟
يبدو أنّه توصل الى هذه الخلاصة في ضوء تجربته الاخيرة مع النظام السوري، هو الذي سبق له التفاوض في الماضي مع شخصين يتمتعان بكل صفات الديكتاتور هما صدّام حسين وحافظ الاسد ووجد ان الرجلين مثلا اصعب تحديين واجههما في حياته الديبلوماسية التي يزيد عمرها على نصف قرن.
كان طبيعيا صدور تصريحات وبيانات عن النظام السوري تهاجم الاخضر. ربّما كانت العبارة الاهمّ التي خرج بها المبعوث الدولي- العربي هي أنّ النظام لم يقطع الجسور معه على الرغم من اتهامه بـ”الانحياز الى المتآمرين على سوريا”. وهذا يعني أنّه سيكون قادرا على متابعة مهمّته بغض النظر عمّا اذا كانت هناك فرص نجاح من نوع ما متوافرة لها.
حافظ الديبلوماسي الجزائري على هدوئه ورفض السقوط في فخ نصبه له النظام الذي كان يريد منه سحب وساطته. في الواقع، كان النظام السوري يفضّل عدم حضور الوسيط الدولي- العربي الى دمشق اواخر الشهر الماضي للاجتماع بالرئيس السوري.
في كلّ الاحوال حقق الاخضر اختراقا في غاية الاهمّية. يتمثّل هذا الاختراق في كشف النظام السوري على حقيقته. كشف بكلّ بساطة ان بشّار الاسد يرفض التعاطي مع الواقع ومع ما يدور حقيقة في سوريا. لا يزال يخلط بين النظام وسوريا، علما أنّ النظام الذي ورثه عن والده لا يمتلك شرعية من ايّ نوع كان نظرا الى أنّه نظام قائم على اجهزة امنية وضعت في خدمة عائلة معيّنة تعتبر سوريا مزرعة لا اكثر.
يبدو واضحا أن هدف النظام اقناع العالم بأنّ نهايته تعني نهاية سوريا. وهذا ما يرفضه كلّ من يمتلك حدا ادنى من المنطق والشعور الوطني من المحيط الى الخليج، بمن في ذلك الاخضر الابراهيمي…
أذا اخذنا في الاعتبار الحالة المرضية التي يعاني منها النظام السوري، يمكن القول إنّ الاخضر الابراهيمي، باصراره على متابعة مهمّته، أنما يتلو يوميا فعل ايمان بسوريا وامكان انقاذها. كلّ ما فعله الى الآن هو محاولته الذهاب الى النهاية في اقناع بشّار بأن هناك شيئا اسمه “سوريا ما بعد الاسد” وأن بلدا مهما مثل سوريا ليس مرتبطا بمصير عائلة تعتبر ان السوريين عبيدا لديها. نعم، هناك “سوريا ما بعد الاسد”، اي هناك حياة اخرى لسوريا بعد رحيل بشّار الاسد. ربما كان ذلك التحدي الاهمّ الذي يواجه المبعوث الدولي- العربي.
كان الاسد الابن يفضّل عدم مجيء الاخضر الى دمشق عن طريق بيروت. كان يعرف أنّ مجرد قدومه عبر مطار العاصمة اللبنانية، اي مطار رفيق الحريري، سيفرض عليه الاعتراف بأنّ نظامه لم يعد قائما. إنه يرفض أن يطرح على نفسه السؤال البديهي الآتي: كيف يمكن لنظام أن تقوم له قيامة بعد فقدانه السيطرة على مطار العاصمة وكلّ المطارات المهمة الاخرى في مختلف انحاء البلد؟ ولذلك، لجأ الرئيس السوري الى كلّ ما يستطيع من اجل تأجيل زيارة الاخضر، خصوصا بعدما تبيّن أنه سيسلك طريق بيروت- دمشق.
فشل اوّلا في اعادة فتح مطار دمشق على الرغم من تبرّع عدد لا بأس به من ضباط الحرس الجمهوري في انجاز هذه المهمّة. ورضخ اخيرا للامر الواقع بعد ضغوط روسية مورست عليه من منطلق أن ليس من مصلحته تدمير كل الجسور مع المجتمع الدولي وأنّ تصرفا من هذا النوع سيضعف موقف موسكو على غير صعيد.
كانت زيارة الايراهيمي الاخيرة لدمشق بمثابة فضيحة للنظام السوري. كان تصرّف الاسد الابن تأكيدا لأنّ النظام لا يعرف سوى ممارسة لعبة الهروب الى امام بدل التعاطي مع موازين القوى على حقيقتها ومع ما يدور فعلا على الارض.هل كان كافيا أن يتصرّف الرئيس السوري مع المبعوث الدولي- العربي وكأنّ لا شيء يحدث في سوريا كي يقتنع الاخير بأن الشعب السوري الثائر مجموعة من “الارهابيين”؟
لم يعد مهمّا نجاح وساطة الاخضر او فشلها. ما حققه الى الآن، عن طريق الديبلوماسية الهادئة والتكتم الذي اثار كثيرين، مهمّ جدا بكلّ المقاييس. استطاع الرجل نقل الازمة السورية الى مرحلة جديدة. تختصر هذه المرحلة، التي لا تزال موسكو تعترض عليها، بأنّ لا مفرّ من مرحلة انتقالية من دون الاسد الابن وآل الاسد. هل يكون في استطاعته الابقاء على سوريا موحدة في حال اتيح له متابعة مهمّته التي لم يوجد في البداية، وحتى في يومنا هذا، كثيرون يعلقون عليها ايّ أمل؟
من الواضح أنّ الاخضر الابراهيمي، الذي يحب سوريا والسوريين ويرفض المزج بين سوريا والنظام، يمتلك من المعطيات بما يجعله يتابع مهمته. يبدو أن فكرة سوريا ما بعد الاسد تستأهل العمل من اجلها، او اقلّه بعض الجهود الديبلوماسية.
المستقبل
لقاء جنيف: خطاب الأسد كأنه لم يكن
والجنائية الدولية تلغي أي دور مستقبلي له
روزانا بومنصف
في اللقاء الجديد الذي عقده في جنيف نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف ونظيره الاميركي وليام بيرنز مع الموفد العربي الدولي الى سوريا الاخضر الابرهيمي، اعادت الخارجية الروسية تأكيد دعمها امرين اساسيين احدهما هو اتفاق جنيف بين مجموعة العمل من اجل سوريا الذي تم التوصل اليه في 30 حزيران من العام الماضي وما تضمنه من مرحلة انتقالية ضرورية للعملية السلمية في سوريا، والآخر هو دعم الابرهيمي في مساعيه من اجل التوصل الى حل للازمة السورية. وبدا الموقف الروسي لافتا ومهما في مغازيه وفقا لمصادر ديبلوماسية متابعة، رغم استمرار الخلافات الاميركية الروسية على الموضوع السوري، وتحديدا على مصير الرئيس السوري بشار الاسد. واهمية هذا الموقف في انه شكل ردا مباشرا على موقف الرئيس السوري بعد اطلاقه ما سماه مبادرة في خطاب السادس من الشهر الجاري، والذي رفض خلاله المرحلة الانتقالية وفق ما جاء في اتفاق جنيف. كما انه اعاد تثبيت الدعم للابرهيمي بالتزامن مع حملات قادتها الصحف السورية على الموفد العربي الدولي الذي كان كشف قبيل توجهه الى لقاء جنيف الجمعة المنصرم في 11 الجاري ان المرحلة الانتقالية لا تتضمن دورا للاسد، وانه لن يكون جزءا منها. وفي حين يبقى الموقف الروسي ملتبسا في شأن تفسير المرحلة الانتقالية واي دور للاسد فيها، فان اللافت بالتزامن مع اعادة وزارة الخارجية الروسية تأكيد دعمها للابرهيمي ودوره، تشديد الاخير على مواقفه الاخيرة المعلنة، ومن جنيف بالذات على اثر اللقاء الذي جمعه ببوغدانوف وبيرنز بضرورة “تأليف حكومة انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة”، مفسرا للاعلام انها تعني “كل صلاحيات الدولة”، الامر الذي يترك المجال واسعا امام تساؤلات محورها هل ان الابرهيمي يؤكد وصفه للمرحلة الانتقالية وتأليف حكومة بصلاحيات كاملة قبل لقاء جنيف كما بعده من دون تأييد من روسيا لهذا الوصف. وتاليا كيف يمكن ان تعيد تأكيد دعمها للابرهيمي في حال عدم توافقها معه علما ان مواقف الابرهيمي كانت صريحة بقوله انه اتفق مع الروس والاميركيين على ان العملية الانتقالية تعني تولي حكومة انتقالية كل صلاحيات الدولة؟
ومع ان لقاء جنيف الاخير لم ينته الى نتائج جديدة وفقا لما اعلن الابرهيمي من عدم اتفاق الطرفين الروسي والاميركي وان الحل للازمة السورية ليس في متناول اليد، فان رمزية التمسك الدولي باتفاق جنيف قبل اكثر من ستة اشهر اظهر الخطاب الاخير للرئيس السوري كأنه لم يكن او انه لم يحصل ولم يتم الاخذ بما قاله او بما حدده بمواصفات للحل الذي يراه. وهذا الامر في ذاته لا يعد مكسبا للرئيس السوري بل على النقيض رغم استمرار الخلاف على مصيره على رغم بروز ردود دولية قوية عليه من حيث رمزيتها ودلالاتها. اذ انه في مقابل محاولته تحديد شروط تعيد التفاوض على دوره في سوريا المستقبلية، فان توقيع 52 دولة عريضة تطالب مجلس الامن باحالة ملف الجرائم التي ارتكبت وترتكب في سوريا الى المحكمة الجنائية الدولية تعتبره المصادر المعنية وبصرف النظر عن قابلية مجلس الامن او عدم قابليته للبحث في هذا الموضوع راهنا ردا مباشرا وضغطا اضافيا على النظام السوري.
وفي مقابل رفضه المبادرات لتنحيه سلميا واتاحة المجال امام مرحلة انتقالية سلمية تزداد المطالبات الغربية بمحاسبته وصولا الى محاكمته. ففي هذا العامل الاخير مجموعة امور من بينها ان المسؤولية الاساسية عن الجرائم تحملها الدول الغربية المعنية – خصوصا سويسرا التي تولت اعلان العريضة الى مجلس الامن – الى الرئيس السوري ومحيطه المباشر، مما يعني طلب احالته مع هؤلاء الى المحكمة الجنائية الدولية وان لم تحدد العريضة ذلك صراحة.
يضاف الى ذلك ان الدول الغربية التي رفضت التهديد بمحاسبة الرئيس السوري حتى اليوم تاركة المجال امامه للتفاوض على خروجه السليم والآمن قد تجد نفسها مضطرة رغم مراعاتها روسيا في هذا الاطار، وعدم رغبتها في الوصول في سوريا الى مصير معمر القذافي في ليبيا الذي يعتقد انه لجأ الى تصعيد اخير نتيجة اقفال السبل امامه واحالته على المحكمة الجنائية الدولية، الى التلويح بهذا الخيار متى نفدت منها السبل للضغط على الاسد. بمعنى ان هذه الدول تضغط على الاقل ان لم يكن في اتجاه احالة الاسد على المحكمة الجنائية الدولية في ضوء دراسات وآراء تقول بعدم توافر الحظوظ لهذه الامكانية لكون سوريا غير موقعة على اتفاقية المحكمة، ففي اتجاه توجيه رسالة الى الاسد ان المجتمع الدولي لن يكون على استعداد للتعامل مع اي حل يبقيه في السلطة وفق ما جاء في مبادرته للحل، باعتباره مسؤولا وفقا لهذه الدول عن جرائم كثيرة في سوريا.
عود الى البدء اذاً، اي ما قبل خطاب الرئيس السوري، اقله على الصعيد الدولي مع توقع صعوبات في امكان الرئيس السوري التعامل مع هذه المعطيات التي اعادت تحديد موقف المجتمع الدولي من الازمة او مع الابرهيمي بناء على المواقف الاخيرة التي اطلقها الموفد الدولي، مما يعني تعقد الازمة اكثر فاكثر.
النهار
الإبراهيمي الذي تجرأ على الأسد
طارق الحميد
ها نحن أمام حفلة مستمرة من الشتائم والاتهامات تكال ضد السيد الأخضر الإبراهيمي من قبل إعلام بشار الأسد، ولثالث يوم على التوالي، والسبب، بحسب الصحف الأسدية، أن الإبراهيمي تجرأ على الأسد في الاجتماع الأخير حين سأله عن مسألة الترشح في الانتخابات السورية القادمة في عام 2014.
الصحف الأسدية وصفت الإبراهيمي بـ«السائح المعمر»، ذي اليدين المصفرتين من أي إنجاز، وكل ذلك لأن الإبراهيمي تجرأ وسأل الأسد في اجتماعه الأخير عن «مسألة الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو السؤال الأهم بالنسبة للإبراهيمي وللدول التي تقف خلفه»، بحسب صحيفة «الوطن» الأسدية التي قالت إن رد الأسد كان «أن آخر ما يهمه المناصب، لكن أول شيء يهمه هو رغبة الشعب ومصلحة البلد»، وإن الأسد أضاف قائلا: «لست قبطان السفينة التي عندما يشعر بأنها بدأت تهتز يهرب منها». وعلى أثر ذلك أنهى الأسد الاجتماع الثنائي، بحسب الصحيفة الأسدية التي قالت أيضا إن «الرجل بات مكشوفا لدى الرئيس الأسد وتصرفاته متوقعة»، وإن السيد الإبراهيمي قد «كذب خلال زيارته إلى موسكو» بعد دمشق، وفي اجتماع جنيف الأميركي – الروسي مع الإبراهيمي، «مما استدعى ردا روسيا صارما وقاسيا»!
والحقيقة أننا لم نسمع ردا روسيا صارما وقاسيا، بل إنه رغم تصريحات وزير الخارجية الروسي الأخيرة عن استحالة رحيل الأسد، فإنها تصريحات تفاوضية بين واشنطن وموسكو أكثر من كونها دعما للأسد.. فلافروف يتحدث عن صعوبة التنفيذ، أي إخراج الأسد، ويرد على تفسير واشنطن لاتفاق جنيف الذي لا ينص على رحيل الأسد، ولا بقائه. والحقيقة أن تفسير اتفاق جنيف يعني أن لا مكان للأسد، وهذا ما قاله أيضا وزير خارجية فرنسا، ليس اليوم وإنما لحظة التوقيع على اتفاق جنيف.
وعليه، فنحن الآن أمام سؤال مكرر، وقد طرحناه الأسبوع الماضي، وهو: هل يصار إلى استبدال السيد الإبراهيمي، وهذا أمر لن يقبل به أحد، ويعني أننا أمام محاولة جديدة لتضييع الوقت في سوريا، أم أننا أمام مفاوضات روسية – أميركية شاقة على مستقبل سوريا؟ فالجميع، عربيا ودوليا، لا يزال يدعم السيد الإبراهيمي، حتى أن وزير الخارجية الروسي، والذي يقول الإعلام الأسدي إنه لقّن الإبراهيمي درسا صارما قاسيا، كان قد وصف خطاب الأسد الأخير، ومبادرته التي قدمها، بالقول: «نعم، مما لا شك فيه أن هذه المبادرات لا تذهب بعيدا، وهي لا تبدو جدية بنظر البعض»! ولذا، فإن الهجوم الأسدي على الإبراهيمي الآن ما هو إلا رسالة للدوائر المقربة من الأسد نفسه بأن ما يحدث ليس موقفا روسيا، وأن موسكو لا تبيع وتشتري برأس الأسد، وإنما هذه هي خطة الإبراهيمي نفسه الذي وصفته الصحافة الأسدية بالعمالة لأطراف خارجية.
ملخص القول، إن الهجوم الأسدي على الإبراهيمي يوحي بأننا أمام مفاوضات روسية – أميركية شاقة على سوريا، ومستقبلها، وهذا ما وتّر الإعلام الأسدي بشكل واضح.
الشرق الأوسط
الإبراهيمي إلى مجلس الأمن: الحل أو التنحي
جورج سمعان
طال صبر الأخضر الإبراهيمي أكثر مما طال انتظار الحل. ناله من الانتقاد ما نال لتأخره في إطلاق المبادرة الموعودة. انتظر طويلاً وهو يحاول إقناع من يجب إقناعهم بما كشفه أخيراً صراحة وأثار عليه حفيظة النظام في دمشق بعد الحملات التي لم تتوقف عليه من أطراف كثيرة في صفوف المعارضة. المهم ألا يطول صبره على «الدعم» الذي يلقاه من واشنطن وموسكو وكرره قبل يومين وليم بيرنز وغينادي بوغدانوف في جنيف. فما لم يترجم هذا «الدعم» تأييداً لرؤيته أو خطته لوقف العنف وبناء المرحلة الانتقالية tستتعرض مهمته للتآكل، وتتحول مجرد غطاء للعجز أو التقاعس الدولي عن وقف جنون الحرب وفرض التسوية. فهل هذا ما يريده أم إنه سيطلب التنحي عندما يتقدم إلى مجلس الأمن قريباً… إلا إذا حصلت معجزة ما وتوافق الكبار على قرار ملزم لطرفي الصراع؟
لا يحتاج المبعوث الدولي – العربي إلى شرح ما بات يعرفه الأميركيون والروس وجميع اللاعبين الآخرين. وهو أن جلوس طرفي الصراع إلى طاولة الحوار من باب المستحيلات. فلا يجرؤ طرف سياسي واحد في معارضة الداخل والخارج على خوض مثل هذه التجربة مع النظام. ولا يمكن أن يقبل بدور للرئيس وأركانه في المرحلة الانتقالية. والنظام يرفض أصلاً الاعتراف بوجود المعارضة، مسبغاً عليها شتى النعوت والأوصاف. لكن الإبراهيمي الذي عبر صراحة عن وجوب قيام حكومة بصلاحيات كاملة ليس مقتنعاً بأن الحسم العسكري هو الحل، حتى وإن كانت الجماعات المسلحة على الأرض تحرز تقدماً. وليس وحده من يدرك أن نظام الرئيس بشار الأسد جزء من الأزمة أو هو أساسها، ولا يعقل تالياً أن يكون طرفاً في الحل.
اللاعبون الدوليون تلطوا حتى الآن وراء المبادرات السياسية والمبعوثين الأمميين والعرب لإخفاء عجزهم عن وقف آلة القتل المستمرة منذ 22 شهراً، أو لترددهم في الانخراط في صراع يعون تماماً أن ثمة لاعبين إقليميين آخرين ناشطين، وأن نتيجته ستحدد ميزان القوى الجديد ليس في سورية فحسب بل في المنطقة كلها. وهذا على الأقل ما عبرت وتعبر عنه مخاوفهم. وأولها تهديد الاستقرار الهش في بعض دول الجوار من تركيا إلى الأردن ومن لبنان إلى العراق، وتداعيات ذلك على دول الخليج… وحدود إسرائيل الشمالية أيضاً. وثانيها القلق على مآل الأسلحة الكيماوية، لئلا نتحدث عن مخزون من اليورانيوم إذا صدقت تقارير إعلامية غربية. وثالثها احتمال وقوع سورية في أيدي الجماعات الإسلامية المتشددة وما يطرح ذلك من تحديات لمصير الأقليات الدينية والعرقية في سورية ومستقبل دورها ووجودها. وهو الهاجس الكبير الذي تعبر عنه الولايات المتحدة وروسيا ودول أوروبية وعربية كثيرة.
هذا الهاجس بات سمة مشتركة أيضاً لا تغيب عن مواقف جميع اللاعبين الخارجيين وأطراف الصراع الداخلي. ولا مبالغة في القول إن التأخير في فرض حل يوقف القتال لا يعزز ثقل «جبهة النصرة» فحسب بل كثير من الجماعات المتشددة. ولعل الصور والتقارير الواردة من مطار تفتناز خير تعبير عن حجم عن هذه القوى، بخلاف ما يحاول بعضهم التقليل من أثرها وفاعليتها. وهي ليست طارئة. فعندما قابل وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول الرئيس الأسد، غداة الغزو العراقي حمل إليه جملة من المطالب المعروفة. وكانت دمشق تقيم على جزع وخوف كبـــيرين من وصول القوات الأميركية إلى حدودها. ولم يقفل الرئيس السوري باب البحث في هذه المطالب. بل عمد إلى إقفال أبواب ما سمته دمشق «المكاتب الإعلامية» لحركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي». في تلك الزيارة سأل الوزير الأميركي الرئيس السوري لماذا سهلت وتسهل حكومته انتقال مجموعات كبيرة من «المجاهدين» من شمال سورية إلى العراق لقتال القوات الأميركية. كان جواب الأسد يومها أن هذه المجموعات تشكل تحدياً ومخاوف لقواته وأجهزة أمنه، وليس المطلوب منه أن يقف في وجه انتقالها إلى «الشقيق الشرقي»، وما على القوات الأميركية سوى أن تتولى أمر قتال هؤلاء وتصفيتهم!
ولا حاجة بالطبع إلى التذكير بما قامت به أجهزة الأمن السورية لاحقاً من تنظيم انتقال معظم «المجاهدين» من المغرب العربي وشبه الجزيرة والمنطقة كلها إلى العراق لمقاتلة الأميركيين وتأجيج الحرب المذهبية هناك. حتى أن نوري المالكي نفسه شكا دمشق إلى مجلس الأمن وطالب بمحكمة خاصة للجرائم التي يرتكبها «الجهاديون» بدعم من سورية. واليوم يراقب السفير الأميركي روبرت فورد، المكلف متابعة الأزمة السورية، بلا شك تحول الشمال السوري قاعدة لهذه المجموعات المتشددة. ولا يحتاج إلى درس في طريقة عملها وتحركها. خبر ذلك في حرب الجزائر في التسعينات وكان سفيراً لبلاده هناك. وخبر ذلك في العراق حيث كان عنصراً فاعلاً في الماكينة الأميركية التي قاتلت «القاعدة» العقد الماضي في بلاد الرافدين.
لهذا لا يستعجل الأميركيون التدخل في سورية. بل لا يرغبون في ذلك. أوكلوا الأمر إلى بريطانيا، وإلى المبعوث الدولي – العربي. وحتى الدوائر المعنية في الخارجية البريطانية التي تتشاور يومياً مع نظيرتها الأميركية، لا تبدي استعداداً للقيام بأي مغامرة. بخلاف الحماسة التي يبديها أحياناً رئيس الوزراء ديفيد كامرون أو وزير خارجيته. في أي حال لا يبدو أن أحداً في واشنطن أو أي عاصمة أوروبية يملك الجرأة على اتخاذ قرار بالتدخل، سيكون مكلفاً عسكرياً واقتصادياً، وهم يلملمون شتات عسكرهم من أفغانستان وغيرها. ألا يكفي عجزهم عن إنقاذ بعض الدول الأوروبية التي تعاني أوضاعاً اقتصادية هشّة تنذر بقلاقل ومشاكل اجتماعية تجد لها انعكاساً على القارة كلها ومستقبل اتحادها؟
في ظل غياب أي تحرك فاعل لوقف الحرب في سورية، لا يتوقع أحد من اللاعبين الدوليين والإقليميين، فضـــلاً عن المتصارعين في الداخل، أن تنتهي الأزمة بــغالب أو مغلوب. فالمدقق في الأسئلة الأميــــركية عن «اليوم التالي» لسقوط الأسد يجدها مطابقــــة تماماً للأسئلة الروسية. ولا تجد الدولتان جواباً سوى بإلقاء الكرة في ملعب المعارضة. كأن المطلوب أن تخوض جماعات المعارضة المسلحة صراعاً جانبياً مبكراً مع «جماعة النصرة» والجهـــاديين الذين يساهمون في قتال النظام. وهو صــــراع بدأت بوادره تصفيات متبادلة بين «النصرة» والفــــرق المحسوبة على «الإخوان». فهل يعقل ألا تــــدرك الدول الكبرى أن العزوف عن التدخل الفاعل يزيد في تعقيد الأزمة السورية ويعزز دور هذه الجماعات؟ إلا إذا كان المطلوب أن تفتح لها الساحات السورية للتناحر كما كانت الحال في العراق الذي تحول بعد الغزو الأميركي قبلة لـ «القاعدة» وشقيقاتها!
حتى إيران التي لا تتوانى عن دعم نظام الأسد بكل ما يحتاج إليه، تلمس ضعف هذا النظام. وتحتاط لاحتمال هزيمته في النهاية. وإلا ما معنى أن تتمسك باقتراح الرئيس محمد مرسي تولي المجموعة الرباعية (مصر وتركيا والسعودية وإيران) تسوية الأزمة، وهي تعرف رفض «الأطراف» الثلاثة بقاء الأسد؟ صحيح أنها تدرك حجم التحديات والمتاعب التي تسببها لها الأزمة في سورية واحتمال خسارة موقعها في هذا البلد، واهتزاز مواقعها في كل من العراق ولبنان أيضاً، بعدما أقفلت في وجهها ساحة البحرين وخرجت القضية الفلسطينية من تحت عباءتها. ولكن، قد لا تصح المبالغة في توقع خسارتها الكاملة لهذه المواقع أو المراهنة على ذلك، إذا انتهت الحرب بتحويل سورية إلى صومال أو أفغانستان، على ما يحذر الإبراهيمي.
وإذا قيض للمعارضة أن تدحر النظام في دمشق وحلب، فإنه سيجد ملاذاً في الساحل الغربي. وإذا لم تتوافر الظروف الإقليمية والدولية لتقسيم سورية، فسيظل الأسد يحتفظ بـ «الشرعية» ما لم يبدل أصحاب «الفيتو» مواقفهم. فيما تغرق فرق المعارضة في التناحر على السلطة. وقد بدأت بوادر الصراع الدموي بين بعض مجموعاتها. فضلاً عن القتال الذي سيندلع بين هذه المجموعات وأهل الشريط الساحلي العلوي إلى ما شاء الله. هذا من دون الإشارة إلى عبء إدارة مدن ودساكر تحولت أنقاضاً، وإلى اقتصاد يحتاج إلى بلايين الدولارات لينهض من الحضيض. فهل سيكون في طاقة هؤلاء المتناحرين الانشغال بقضايا إقليمية من مثل المساهمة في خنق «حزب الله» أو نصرة أهل السنّة في العراق؟ إلا إذا كان قدر اللبنانيين والعراقيين أن يغامروا مرة أخرى في خوض حروب أهلية جديدة!
وتركيا التي وقفت باكراً مع المعارضة تخشى على استقرار مناطقها الجنوبية في ظل الحدود المفتوحة أمام اللاجئين والمقاتلين الذين يثيرون حفيظة طائفة كبيرة في أنطاكيا. فيما عودة نشاط المجموعات الكردية يضاعف قلقها ومخاوفها، مثلما يثيرها الحديث عن «دويلة علوية» أو تقسيم سورية والعراق وما قد ينتهي إليه الوضع من قيام دولة كردية. وإذا كانت الأزمة وضعتها في مواجهة صريحة مع طهران وبغداد، فإنها تحاول هي الأخرى الحد من خسائرها وتعويض ما تخسر بعلاقات مميزة مع كردستان والسعي إلى تسوية مع حزب العمال الكردي. ولا حاجة إلى التذكير بمخاوف الأردن مما يجري اليوم في سورية ومن التغييرات المحتملة أيضاً!
في ظل هذه المعطيات هل يواصل الإبراهيمي تقديم غطاء لعجز جميع المتصارعين في سورية وعلى سورية، أم إن خسائر كل هؤلاء لم تتساوَ بعد أو لم تبلغ حدودها القصوى بتهديد مصالحهم المباشرة؟ وماذا عن سورية، هل بقي فيها شيء لم تخسره؟
الحياة