صفحات العالم

مقالات تناولت نتائج الانتخابات النيابية في تونس

 

 

المسؤوليّة الكبرى لعلمانيّي تونس/ حازم صاغية

نجحت الثورة التونسيّة حتّى الآن في أن تنجو بنفسها من ثلاثة احتمالات بالغة الرداءة: احتمال التفسّخ الأهليّ والمصادرة الإقليميّة ممّا عرفته الثورات السوريّة والليبيّة واليمنيّة، واحتمال الاعتذار المصريّ عن الثورة والرجوع المتقهقر بقيادة العسكر إلى ما قبلها، واحتمال المضيّ في الثورة راديكاليّاً ويعقوبيّاً، كائنة ما كانت الأكلاف وكائناً ما كان حجم المعترضين والمعارضين.

فالباجي قائد السبسي لن يكون، في أغلب الظنّ، عبدالفتّاح السيسي. لكنّ راشد الغنّوشي لن يكون بدوره فلاديمير لينين أو آية الله الخمينيّ، قانعاً لنفسه بأن يكون ألكسندر كيرنسكي أو شهبور بختيار.

وهذا الموقع يعني مبدئيّاً الاستمرار بالثورة، إنّما ببطء، والحفاظ على الدولة بعد تشذيبها من تمادي السلطة وأجهزتها.

والنجاة المثلثّة الأضلاع هذه تنبثق من تركيبة تونسيّة مزاجها معتدل في آخر المطاف، أسهم في اعتداله افتقار إلى بضعة عناصر وامتلاك لعناصر أخرى: أمّا الافتقار فإلى أدوات التفسّخ ممثّلةً بالطوائف المحتقنة، وإلى طموحات الجيش وهو صغير ومقصيّ تقليديّاً عن السياسة، وإلى المكابرة والعناد الإسلامويّين اللذين تعلّم حزب «النهضة» أن يتجنّبهما. وأمّا الامتلاك فمادّته تلك المقدّمات البورقيبيّة التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، في ما خصّ القوانين والمرأة والتعليم والطبقة الوسطى والإقبال على الثقافة الأوروبيّة.

لكنّ هذا الموقع حسّاس لأنّه تحديداً يتاخم الاحتمالات التي تجنّبها ونجا منها. فما سلف لا يلغي وجود التفتّت والولاءات الجهويّة في تونس، وكانت الانتخابات النيابيّة الأخيرة قد سجّلت تنافس 1300 قائمة حزبيّة وفرديّة على 217 مقعداً فحسب، فيما أتاح قانون الانتخاب النسبيّ تظهير هذا المعطى. وقد يكون من الأسباب الباعثة على التطرّف أنّ تحريك عجلة الاقتصاد قد يستدعي إجراءات تقشّف تطلبها الأطراف الدائنة أو المانحة. وهذا في الوضع الاقتصاديّ الراهن طلب صعب. ثمّ إنّ الجوار مع ليبيا، لا سيّما في ظلّ نزوح أعداد ليبيّة ضخمة إلى تونس، مصدر محتمل آخر لتوتّر الوضع التونسيّ. وإلى الخلفيّة التي تشكّلها ظاهرة الهجرة الجهاديّة الكثيفة للشبّان التونسيّين إلى سوريّة والعراق، يصعب التغافل عن حدّة الاستقطاب الإقليميّ الراهن. وتونس، كما نعلم، مشمولة به، مثلها مثل سواها من بلدان المنطقة.

وعناوين كهذه تلحّ على مسؤوليّة «نداء تونس»، الموصوفة بالعلمانيّة، بحيث تمضي بالبطء الذي درجت عليه حتّى الآن في عمليّة التحوّل، مهجوسةً بتوسيع مساحات التوافق مع معارضيها، لا سيّما منهم «النهضة»، وعازفةً عن توسيع مكاسب التفويض الشعبيّ الذي حظيت به.

وفي وسع المعجبين بالتجربة والثقافة السياسيّة الفرنسيّتين من قادة «النداء» أن يقلّدوا فرنسا في إدارتها لذاك الانتصاف المديد بين «شعب اليمين» و «شعب اليسار». فإذا أمكن ذلك، وكُتب للتقدّم البطيء والمتواضع أن يُقلع، ارتسم علمانيّو تونس بوصفهم أصحاب نموذج لم يقدّمه الإسلاميّون ولا قدّمه «العلمانيّون» في الجوار العربيّ.

وقد يقال، وهذا صحيح، إنّ عقد التسويات بين طرف زمنيّ، مصدر الشرعيّة عنده إرادة الشعب، وآخر دينيّ، مصدرها عنده إرادة الله، أصعب من عقدها بين طرفين زمنيّين. لكنْ ما العمل، وهذا هو الواقع، واقعنا؟

الحياة

 

 

 

تونس: العلمانيون لنا… والجهاديون لسورية/ بيسان الشيخ

تستحق التجربة التونسية التوقف عندها لأكثر من سبب، ليس آخرها فوز العلمانيين بالانتخابات فوزاً كاسحاً. فهي البلد الذي أطلق شرارة ثورات «الربيع العربي» بأقل عنف ممكن وأعلى نسبة نجاح ممكنة أيضاً. لذا، اعتبر البعض أنها جنت على غيرها من بلدان المنطقة، إذ بثت الأمل بإمكانية التغيير السلمي، وأنه يكفي للشعوب أن تطلب الحرية ليستجيب القدر، فإذا بها حروب أهلية تندلع ولا سبيل واضحاً بعد، لإخماد نيرانها. ومن ليبيا إلى سورية مروراً باليمن ومصر، سرى ذلك الشعور العارم بقدرة الشارع على تطويع السلطة، إلى أن جاء التراكم السياسي والعسكري وتجربة كل بلد مع نظامه ليثبت صعوبة، إن لم يكن استحالة، تطبيق تلك المعادلة.

والواقع أن تونس «الملهمة» هي استنثاء عربي وشمال أفريقي لا يمكن مجاراته لألف سبب وسبب. فهي أجرت بالأمس الانتخابات الثانية بعد الثورة، وأعادت صوغ الدستور، وسمحت بحكم «ترويكا»، وكانت قبلها أوصلت الإسلاميين إلى السلطة، ثم عادت وتظاهرت ضدهم، وجعلت إعلامها سلطة رقابية فعلية على السياسيين بحيث كان يمكن مطالعة نقد قاس وساخر أحياناً للشخصيات العامة، وأداء الأحزاب، مع طرح وجهات نظر بديلة وغير ذلك الكثير مما لم نشهده حتى في مصر.

وإلى هذا كله، بقي المجتمع المدني التونسي نابضاً ومتأهباً لأي خطأ، وبقيت المرأة حاضرة في الحيز العام، متربصة بأي محاولة للانتقاص من حقوقها ومكتسباتها، وهو ما فشلت حركة «النهضة» في ذروة نفوذها من المساس به.

ولا شك في أن تونس اليوم تدعو إلى التفاؤل مرة أخرى، ليس لأنها أزاحت الإسلام السياسي عن الحكم وأعادت العلمانيين واليساريين، بل لأنها جعلت صناديق الاقتراع وسيلتها لذلك، ولأنها أثبتت أنها قادرة على احتواء خياراتها السابقة وإعادة تصويبها عبر المداورة في السلطة وليس بالعنف أو الانقلابات العسكرية. وهنا تحديداً يكمن الاستثناء التونسي والقيمة المضافة لهذه التجربة على سواها.

لكن تونس هذه نفسها التي منحتنا جرعات غير مسبوقة من التفاؤل منذ 4 سنوات وحتى اليوم، حقنتنا بانتخاباتها الأخيرة بجرعة مخدر لن يلبث أن يزول مفعولها. فالتونسيون الذين اختاروا لأنفسهم حكماً ليبرالياً، رافضين حكم «الإسلام السياسي» المتمثل بحركة «النهضة»، هم أول «المجاهدين» في صفوف تنظيمي «داعش» و «النصرة» في سورية. ووفق آخر الأرقام الصادرة في هذا السياق، تبين أن «التوانسة» يحتلون المرتبة الأولى بين المقاتلين الأجانب بتعداد «رسمي» يبلغ 3 آلاف، مقابل 3 ملايين ناخب شاركوا أخيراً في العملية الديموقراطية.

ذلك ليس تفصيلاً لا يستحق التمعن فيه. فهؤلاء ليسوا فرنسيين أو بريطانيين من أجيال المهاجرين الناشئة، ممن يسهل اتخاذ إجراءات بحقهم كإغلاق الحدود، أو سحب جنسيات أو تغيير سياسات الهجرة. إنهم لا يقلون تونسية عن مجايليهم الذين انتخبوا الشيوعيين والسبسيين ولعلهم أكثر التصاقاً منهم بأزمات بلدهم وقعره حيث البطالة والفقر والتهميش والجهوية. وصحيح أن هؤلاء «خرجوا إلى الجهاد» عبر مطار تونس الدولي، وربما بغض طرف أو تواطؤ رسمي إما لدعمهم من الأحزاب الإسلامية أو للتخلص منهم من العلمانيين، لكنهم في نهاية الأمر يشكلون تحدياً محلياً سيتوجب على السلطة الجديدة قبل غيرها، مواجهته. فالراجح أن من لا يقتل في سورية، سيعود إلى تونس بخبرات قتالية عالية وذهنية متشبعة بالفكر المتطرف. حينذاك، لن يتوجه إلى صناديق الاقتراع أو يقبل بعملية سياسية تشارك فيها حركة «النهضة» بكل براغماتية.

لذا، وقبل أن تغمرنا السكرة بفوز العلمانيين واليساريين في تونس، وهي سكرة مشروعة على كل حال، لا بد من البحث في هؤلاء الذين طرحتهم علينا هذه البطن الولادة. فلنبدأ بالإجابة عن أسئلة ملحة تبدأ بـ «لماذا ذهبوا؟» قبل أن نسأل كيف سيعودون. فالسجون قد تتسع لأضعافهم لكنها لن تمنع ذلك البستان من تثمير غيرهم.

وربما تكون مفيدةً أيضاً إعادة النظر جذرياً في تاريخ العلاقة مع حركات الإسلام السياسي من تونس إلى مصر وسورية وغيرها، والبحث في مقاربات العلمانيين لها طوال العقود الماضية. فإذا كانت تونس استثنائية فعلاً في نجاحاتها، فإنها تتساوى مع غيرها في نقطة الفشل تلك. فليس صدفة أن تنتج تلك البيئات على اختلاف أنظمتها شباناً راغبين بالذهاب إلى أبعد مما تقدمه أحزابهم الإسلامية المحلية.

الحياة

 

 

 

 

تجربة تونس: إنتصار لـ «الربيع العربي» وبلدانه كلها!/ محمد مشموشي

تصلح تجربة تونس في أقل من أربعة أعوام لأن تكون دافعاً قوياً الى إعادة قراءة، أو استئناف قراءة، أسباب ومجريات ومحصلة ما سمّي «الربيع العربي» الذي بدأ في تونس نفسها في كانون الأول (ديسمبر) 2010. فقد أعلنت نتائج الانتخابات النيابية التونسية الأخيرة، وهي الثانية منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي، بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذا «الربيع» حقيقي من ناحية، ولا يزال قادراً على الإزهار من ناحية ثانية، على رغم كل ما لحق به من هزائم خلال الفترة الماضية… إن في تونس ذاتها، أو قبل ذلك وبعده في غيرها من البلدان العربية.

وكانت هزائم هذا «الربيع» عديدة ومتنوعة: سرقة الثورة بالكامل، كما حدث في مصر من قبل جماعة «الاخوان المسلمين»، لولا أن انتفض الشعب مرة ثانية وثالثة لتتحرك بعدها القوات المسلحة فتتسلم الأمور وتضع حداً لما بات يهدد بإدخال البلد في حرب أهلية. إنكار قيام الثورة أصلاً، كما كانت الحال في ليبيا الى حين مصرع معمر القذافي، أو في سورية كما يفعل نظام بشارالأسد حتى الآن، فضلاً عن تهجير حوالى ربع السكان وسقوط أكثر من 250 ألف قتيل. تهافت ما يسمّى الأحزاب والقوى المدنية التي كان يفترض أن تحمي الثورة وتتولى نقلها من مرحلة الرفض الى مرحلة البناء، كما في مصر وسورية وليبيا واليمن فضلاً عن العراق. بروز ما يسمّى «الاسلام السياسي» بأبشع أشكاله وصوره، من «الاخوان المسلمين» الى تنظيم «داعش» الى «جبهة النصرة»، واعتماده الارهاب والتفجير والتكفير والذبح أسلوباً للوصول الى السلطة أو للاحتفاظ بها، كما في مصر وسورية والعراق وليبيا واليمن. وبعد ذلك كله، دخول بلدان هذا «الربيع» جميعها، وان بنسب متفاوتة، في دوامة من الحروب الطائفية والمذهبية والقبلية جعلت البعض يترحم على أنظمة الحكم السابقة.

وبسببها، ارتفعت عقيرة الأنظمة التي ما زالت تقتل شعوبها بمختلف أنواع الأسلحة (سورية)، أو فلول ما سقط منها (مصر واليمن وليبيا)، بما اعتبرته انتصارا لها على كل من صفق لـ»الربيع العربي» في أي بلد من بلدانه: «تريدون استقرار الأمس أو فوضى اليوم»؟، أو «هل هو الاستبداد أم هي الديموقراطية ما يناسب مجتمعاتكم»؟… وصولاً الى أن العرب والديموقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان!

لكن ما كشفته تجربة تونس، في هذه السياقات كلها، يختلف عن ذلك على طول الخط:

أولاً، مع الاعتراف بخصوصية كل بلد من بلدان «الربيع العربي»، ليست تونس إلا واحدة من الدول العربية، إن بإسلام مجتمعها وتقاليده أو بمستوى التعليم والتنمية والحداثة بين مواطنيه، على رغم كل ما يميزها عن محيطها القريب أو البعيد.

ولذلك، يمكن القول ان نجاح التجربة فيها نجاح لـ»الربيع العربي» كله، ولو أنه لا يزال يتعثر ويعاني من الانتكاسات والتراجعات في معظم بلدانه. المسألة مسألة وقت ليس إلا، وهو ما بدا أن تونس سبقت الآخرين فيه لأسباب ليس صعباً العثور عليها: الإرث الحداثي والليبرالي الذي تركه فيها نظام رئيس الاستقلال فيها، الحبيب بورقيبة، لا سيما على مستوى حقوق المرأة ودورها ودور الشباب. عقلانية الاسلام السياسي ممثلاً بـ»حركة النهضة» ورئيسها راشد الغنوشي بازاء «الاخوان المسلمين» في مصر وليبيا والسودان واليمن وغيرها. \

إدراك الأحزاب والقوى العلمانية والليبرالية والمدنية والاسلامية معاً بأن صندوق الاقتراع لا يعني القبول بـ»تداول السلطة» فقط بل «الاعتراف بالآخر» واحترام مواطنيته والمساواة معه أيضا. وأخيراً، مشاهدة المآل الذي انتهى اليه «الاخوان» نتيجة اصرارهم على التفرد بالحكم في مصر من ناحية، وإيغال الاستبداد في سورية والعراق في أعمال القتل دفاعاً عن ديمومته وبقائه في السلطة من ناحية أخرى.

ثانياً، الاستفادة من دروس تونس نفسها (على عكس غيرها من بلدان «الربيع العربي») في الأعوام الأربعة الماضية: ملاحقة الارهابيين الذين اغتالوا عضوين بارزين في المعارضة العلمانية (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) بجدية اعترف بها حتى خصوم الحكومة وحركة «النهضة». منع التدخلات الخارجية، العربية وغير العربية، في شؤون تونس الداخلية. تخلي «النهضة» عن رئاسة الحكومة عندما أدركت أن التمسك بها سيؤدي إلى خسارة الحكم كله. تشذيب سلطة «الترويكا» التي اتفق عليها بين الأحزاب الكبرى عندما تبين أن استبعاد الأحزاب الصغيرة لن يكون في صالح الاستقرار في البلاد. تعديل الدستور، ثم تعديل التعديل، لكي تكون غالبية القوى موافقة عليه وملتزمة به. وبعد ذلك كله، وضع قانون انتخابي على أساس النظام النسبي بما يفسح في المجال أمام الجميع ليتمثلوا في مجلس النواب.

بعد هذه الدروس فقط، فضلاً عن الرغبة بالانتفاع بها، أمكن لتونس أن تخطو الخطوة التي صفق لها التونسيون كما العرب والعالم الخارجي، باجراء الانتخابات النيابية أولاً، ثم بمسارعة «النهضة» التي خسرت فيها الى تهنئة حزب «نداء تونس» بالفوز، ثم بإعلان رئيس الحزب الفائز الباجي قايد السبسي أنه لن يحكم البلاد إلا بالاشتراك مع الأحزاب الأخرى.

ثالثاً، بقاء الشعب التونسي بقواه الحية ونسائه وشبابه ونقاباته العمالية والمهنية (توسطت أكثر من مرة لحل الخلافات في الحكومة وبين الأحزاب) على يقظته ازاء المطالب التي رفعتها الثورة منذ إحراق محمد البوعزيزي نفسه أمام عربة الخضار في كانون الأول 2010، وحتى في الشارع عند اللزوم، بما جعل الأحزاب والقوى والتيارات السياسية، على تنوعها، تقف عاجزة عن مواصـلة الخلاف حتــى لو أرادت ذلك.

وليس من قببل المبالغة اعتبار أن حركة الشعب التونسي هذه هي التي صاغت الدستور ثم عدلته ثم عدلت التعديل في النهاية، وهي التي أسقطت حكومة «النهضة» كما سنّت قانون الانتخاب… تماماً كما أنها هي التي رفعت حزب «نداء تونس»، بدلاً من «النهضة»، الى المرتبة الأولى في خلال الانتخابات التي جرت قبل أيام.

أليس في قدرة بلدان «الربيع العربي» الأخرى، لو أن خناجر الأنظمة وسيوف التدخلات الخارجية رفعت عنها، أن تفعل ما فعلته تونس حماية لثورات أبنائها على استبداد العقود الأربعة الماضية، ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية؟

الحياة

 

 

 

 

قراءة أولية في التجربتين المصرية والتونسية/ ماجد كيالي

بدأ «الربيع العربي» من تونس، لكن ميادين مصر هي التي حرّضت عليه، وجعلته بمثابة واقع، بالنسبة للعديد من مجتمعات البلدان العربية. بيد أن ما يثير الاهتمام، أيضاً، في مقاربة هاتين التجربتين التحولات المتشابهة والمآلات المتفارقة بينهما. ففي هذين البلدين صعد تيار الإسلام السياسي إلى سدة السلطة، بواسطة صناديق الاقتراع، لكن التجربة الديموقراطية في مصر لم تكتمل، إذ جرى عزل «الإخوان» عن الحكم بواسطة الجيش، مع الأخذ في الاعتبار التحركات الشعبية التي رافقت ذلك أو غطت عليه، في حين أن هذه التجربة اكتملت وصولاً للانتخابات، التي أفضت إلى تراجع مكانة حركة النهضة من المركز الأول الى المركز الثاني. ثمة ثلاثة أطراف لعبت أدواراً أساسية في تطور التجربة وافتراق مساراتها، في كل من البلدين المعنيين، التيارات الإسلامية، والتيارات العلمانية، والجيش. فمنذ البداية بدا واضحاً أن إدراكات كل طرف من هذه الأطراف لذاته، وللآخرين، في كل بلد يختلف عنه في البلد الآخر، تبعاً للثقافة والتجربة التاريخية وطبيعة المجتمع.

وفي الواقع فقد توافّرت في تونس مجموعة من العوامل التي مكّنت من الاستمرار بالتجربة، بطريقة طبيعية، وصولاً إلى تحقيق انتقال السلطة، بحسب التقاليد الديموقراطية. هكذا، عندما استشعرت حركة النهضة بأن الظروف في البلد لا تساعد على الاستمرار بالتفرد بالحكم، حتى مع وجود غالبية في المجلس التأسيسي، تنازلت عن السلطة (2013)، وأبدت مرونة عالية في صوغ الدستور، في حين أن تيار «الإخوان»، إبان وجوده في الحكم في مصر، فعل غير ذلك. فهو بعد ان وعد بعدم تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية، وعدم السيطرة على الغالبية في مجلس النواب، فعل عكس ذلك في هذين الأمرين، بل ذهب بعيداً في التخلي عن حلفائه، وفي صوغ دستور مختلف عليه، ما فاقم المشكلة بينه وبين التيارات الأخرى، العلمانية والليبرالية واليسارية والقومية.

وللإنصاف، ففي حين توافّرت لحركة النهضة بيئة من القوى العلمانية واليسارية والليبرالية والقومية، التي لا تنحو نحو الاقصاء والتهميش، فإن حركة الإخوان المسلمين، في مصر، لم تتوافر لها مثل هذه البيئة، إذ أن معظم التيارات تلك أبدت ميلاً لإنهاء حكم الإخوان بأي شكل، ولو بواسطة الجيش. وفي الحالين، أيضاً، كان سلوك الجيش مختلفاً، ففي حين ظل في الحالة التونسية على الحياد، وخارج السياسة، فإنه في مصر فعل غير ذلك، إلى حد انه قدم مرشحاً للرئاسة.

أيضاً، يلفت الانتباه في المقاربة بين تجربتي مصر وتونس أننا إزاء مجتمعات متجانسة، بالقياس لمجتمعات المشرق العربي الفسيفسائية، لا سيما العراق وسورية، ما يعني أن انحسار مكانة تيار الإسلام السياسي، وضمنه انحسار مكانة الإخوان المسلمين، تم بواسطة ما يصطلح عليه بـ»جمهور السنّة»، وليس بواسطة جمهور آخر. ولعل ذلك يفصح عن حقيقة مفادها أن جمهور «السنّة» لا يعرّف ذاته بالطائفة، ولا بالمذهب، وأنه لا يمكن لتيار اسلامي ما احتكار تفسير الدين، او الوصاية عليه، ما يفنّد، أيضاً، وجهات النظر المتسرعة، والساذجة، التي تبالغ في حديثها تطويب المجتمعات العربية «السنّية» لتيارات الإسلام السياسي بكل أنواعها. وأيضاً، فإن ذلك يفنّد الحديث عن وصم هذه المجتمعات باعتبارها حاضنة للتيارات الإسلامية المتطرفة والتكفيرية. فإذا كانت شعبية تيار الاخوان المسلمين في مصر أو تونس، وهو تيار شعبي ووسطي، تراوح بين 20 و25 في المئة في المجتمع، في وسط جمهور «سنّي»، فإن هذا يؤشر على أن الوضع أصعب، بالنسبة له، في المجتمعات التي تضم تكوينات مختلفة، كما يؤشر على ضعف شرعية الجماعات المتطرفة والتكفيرية في هذه المجتمعات، التي تستمد قوتها، في أغلب الأحوال، من معطيات ومداخلات وتسهيلات خارجية.

وإذا كانت التجربة في مصر وتونس فندت الفكرة عن وصاية الجماعات الإسلامية على جمهور «السنّة»، فإن التجربة التونسية فنّدت الفكرة عن استثناء التيار الإسلامي من النضح والتطور والتكيف مع الواقع والعصر والعالم. وفي الواقع فقد كان لحركة النهضة دور كبير في إنجاح العملية الديموقراطية وصوغ دستور ينص على دولة مدنية ديموقراطية تكفل حرية العقيدة والضمير وتصون حريات المواطنين (بالمناسبة فهذا الدستور يتقاطع مع وثيقة العهد والميثاق التي أصدرتها جماعة الاخوان في سورية في 2012). أي أن حركة النهضة الإسلامية قطعت شوطاً كبيراً في التحول نحو الديموقراطية والحداثة السياسية، في حين أن ثمة تيارات علمانية، قومية ويسارية وليبرالية وعلمانية لم تقطع بعد هذا الطريق، في عديد البلدان العربية، بمعنى أن فكرة النضح السياسي والتطور ومصالحة الواقع والعصر والعالم ضرورة لمختلف القوى، وليس للتيار الإسلامي وحده.

وإلى الاختلاف في طبيعة القوى الفاعلة، أي التيارات الإسلامية والعلمانية والجيش، ثمة دور لمنظومة الدولة في الحالين. ففي حين أن التراث البورقيبي لعب دوراً كبيراً في صوغ ثقافة مدنية راسخة، ومجتمع مدني، في تونس، بفضل منظومة قوانين الأحوال المدنية التي فرضها، وبواقع تمييزه بين المجالين الديني والمدني، وبحكم عدم تلاعبه بالمسألة الدينية، أو توظيفه الدين في خدمة السلطة، بمعنى أن المرحلة «الليبرالية» هنا عضدت وحصّنت المرحلة الديموقراطية. في المقابل فالدولة المصرية ظلت منذ عهد عبدالناصر إلى مبارك، مروراً بالسادات، توظف الدين في خدمة سياساتها.

ولنلاحظ أنه على رغم أن مصر أعطت حيزاً واسعاً للثقافة والفنون (والجامعات)، إلى درجة انها هيمنت على صناعة السينما والغناء في العالم العربي، فذلك كله لم يؤثر، مثلاً، في تغيير النظرة إلى المرأة، أو في تعزيز مكانتها في المجتمع، بالقدر الذي رسخته منظومة القوانين المدنية البورقيبية.

على أية حال فإن التجربة التونسية تفيد أنه لا يمكن إدارة أي بلد وفق سياسات الاقصاء والتهميش من أي تيار لتيار آخر، وأن الدستور والاحتكام للعملية الديموقراطية هما أساس العلاقة بين مختلف التيارات، وأساس التداول السياسي، وهذا ما ينبغي تعلمه والتعود عليه، من قبل كل التيارات الإسلامية والعلمانية، بتنويعاتها.

الحياة

 

 

 

 

سؤال الثورة في تونس بعد الانتخابات/ بشير عمري

بقدر ما كانت نتائج الانتخابات التشريعية في تونس صادمة لبعضهم، وسارّة لآخرين، بقدر ما أججت أسئلة كثيرة، كانت مطمورة الصوت في خضم خطابات التيارات والأطراف ولعل أبرز الأسئلة، كيف تأتى للـ”بنعليين”، وإن حملوا عملة الثورة، كما ألح على الاشتراط والتأكيد زعيم حركة النهضة التاريخي، عبد الفتاح مورو، العودة إلى قيادة مجتمع، يفترض أنه ثار وقدم دماء في سبيل تقويضهم من المسرح السياسي التونسي؟

تنبغي الإشارة، في البدء، إلى أن السلطة التي تأتت بعد “الثورة” والممثلة في الترويكا، دفعت فاتورة غالية بشأن التموقع في المشهد السياسي “الما بعد” ثوري، إذا ما نظرنا من زاوية الامتياز الانتخابي الصرف، وهذا عبر تصديها لعملية الترتيب “الثوري” للمجتمع، في ظل حالة الفوضى الطبيعية التي تعقب مثل هكذا حدث، فمهمتها، بحكم الظرف، كانت إعادة بناء الدولة، مؤسسياً وتشريعياً، رسم خارطة طريق تأتى عنها المشهد والنتائج الانتخابية الأخيرة. لهذا، يمكن اعتبار نجاح الانتخابات بمثابة نجاح يُحسب للسلطة التي ورثت المجتمع الثوري في تونس، بعد هروب بن علي، واختباء “البنعلية” في دهاليز المال والنفوذ السياسي في البلاد.

فما هو معلوم من طبيعة التغيير الثوري وضروراته في التاريخ أن أي حركة شعبية، أو نخبوية، تقدم على تغيير جذري، يحمل صفة الثورة، أن تلجأ إلى ما يمكن نعته بالتكسير الثوري، الذي يهيئ الأرضية لعملية البناء الجديد، أي تحطيم الأسس، الآليات والركائز التي استند إليها الاستبداد السابق، في بسط وتوطيد حكمه، وعدم الاكتفاء بتعطيل مفعول تلك الأسس والآليات وحركيتها، وهو ما حدث في تونس، وفي مصر أيضاً بدرجة أكثر، ولعل ما حال دون بلوغ هذا المستوى من الإجراء الثوري هو لاانتمائية البادرة الثورية، أي أنها لم تكن لنخبة أو توجه جماعة ذات نسق فكري ومؤسسي واحد، وهو ما ساعد الفلول المعلنين والمندسين على مباشرة عملية الاسترداد.

هكذا، إذن، لم يتم تبديد أسباب انبعاث الاستبداد عبر إفناء بذور نباته، إنما تمت تنحيته جانباً وغض الطرف عنه، وتحويل الأضواء عنه، عبر إعلام ثقيل خدمه بسحب الأضواء منه، أكثر من أن يقال إنه أضر به، لأنه كان في أمس الحاجة، في مثل تلك الظروف المتسمة بالغضب الشعبي العارم، لأن ينزاح من اهتمامات الإعلام، ليظل الغضب مشتعلاً، ويطال السلطة الجديدة، وهو ما حصل في تونس ومصر بشكل كبير وفاضح.

ثمة، أيضاً، تغييب غير مفهوم للآلية القضائية في عملية التظهير الثوري، بفتح الملفات المتعلقة بجرائم النظام السابقة على الصعد الإنسانية والمالية والسياسية، فلا شيء حدث بحجم التغيير الذي حصل، وهو ما يقوي من فرضية لاثورية الحركة التغييرية، أو لنقل الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظامين مفسدين مجرمين في تونس ومصر. فقد أعطى عدم التعامل بحزم، قضائياً، مع الارث السابق، الجرأة لبعض رموز الفساد السابق لأن يعودوا ليتصدروا المشهد المعارض، ومن خلفهم خزائن الفرعونية السابقة جاهزة، لدعمهم بشتى مصادر القوى، لإعادة الحياة للنظامين اللذين يفترض أن ينعتا بالبائدين، في حين اتضح أنهم بادئون مجددا في العودة وبقوة، لاقتياد الشعوب مجددا.

قد يعترض أحدهم بالسؤال: من قال إن القوى السياسية الجديدة نسخة عن النظام السابق؟ هو تساؤل يجد له مساحة من الشرعية، طالما أن القطيعة الفظيعة بين المرحلتين كانت ذات بعد إقليمي، وليس فقط محلي تونسي، وكذلك لأن منظومة الحكم أعيدت صياغتها بحرصٍ كثير على عدم إنتاج ما يشبه النظام السابق، لكن بقاء البنى التحتية للنظام السابق، والقادرة، من دون أدنى ريب، على ترويض الفعال السياسي، الجديد منه والمتجدد، أي الذي اندرج في عهد “الثورة”، ووجد له موطئ قدم في العهد الجديد، من حيث لا يمكنه ذلك، مثلما أسلفنا قوله، تداعياً لشروط النجاح التي تتطلبها التجربة الثورية.

الملاحظ، أيضاً، في الخطاب الإعلامي المتعاطي مع النتائج الانتخابية الأخيرة، بحسن أو سوء نية، هو محاولة تأكيد فرضية الاقتراع الأيديولوجي للمواطن التونسي، وهذا بالتركيز على قول انهزام الإسلاميين وانتصار اللائكيين، بما يفيد تبني الشعب التونسي المشروع العلماني، وهذا نهج خاطئ في الرصد السياسي للعملية الانتخابية، فإذا ما حاولنا حصر القرار الشعبي، انتخابياً أو ثورياً في البعد الشعبي، فأولى الإرادات الإيديولوجية التي سنكون مجبرين على تأكيدها هي أن تونسيين، بخروجهم على بن علي العلماني، وإطاحته، يكونون قد أعادوا العلمانية! وهذا غير صحيح، فالخروج والانتفاضة الشعبية الكبرى التي أزاحت بن علي عن الحكم كانت سعياً خلف استعادة كرامة شعب، واسترجاع سيادته من القبضة الديكتاتورية، مهما كانت خلفياتها، والمطالبة بحقه في الرفع من مستوى العيش، واليوم وبحكم ما قدّره المواطن التونسي من عدم توفيق الترويكا، أو السلطة التي ورثت التحول، وعملت جاهدة على استيعاب رداته، انتخب لصالح المعارضة التي لا أحد يضمن نجاحها، أو يستبق الأمور بالحكم بالفشل عليها، في العمل على تنمية المجتمع. من هنا، يظل حتمياً الاشارة إلى خطأ القراءة الأيديولوجية لبعض وسائل الإعلام لإفرازات العملية الانتخابية في تونس.

بقيت إشارة، أو إشادة بالأحرى، بالتجاوب المميز للسلطة في تونس مع نتائج الانتخابات وعدم لجوئها إلى التزوير، والأكثر من ذلك قبولها العودة إلى فضاء المعارضة، من دون مكابرة، وهو سلوك متحضر ينبغي أن يكرس، ويُرقى إلى منزلة التقليد الدائم، مع الحرص الشديد على أن يبقى الحذر محيطاً، وبشكل دائم ومستمر، بالعملية السياسية في تونس، لأن المال لبس حلة الترغيب، وحل، بالتالي، محل الترهيب الذي كانت تمارسه السلطة الاستبدادية السابقة، وهذا ما أردنا به القول، آنفاً بخطر الانبعاث الاستبدادي المحدق بالعهد السياسي الجديد لتونس التغيير.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى