صفحات العالم

مقالات عن مفاوضات جنيف


«جنيف».. هل تصبح بوابة لحرب إقليمية يريدها الروس والأسد؟!

صالح القلاب

لم يكشف النقاب عن كل أوراق واتفاقيات مؤتمر جنيف الأخير الذي تمثلت فيه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى تركيا وثلاث دول عربية هي قطر والكويت والعراق وغُيَّبت عنه إيران، ويقال إن المبعوث العربي والدولي كوفي أنان أعد صيغة بديلة في حال فشلت خطته لانتقال السلطة في سوريا، تقترح تشكيل مجلس عسكري، على غرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، يدير الأمور في مرحلة انتقالية تجري خلالها انتخابات تشريعية ورئاسية لإخراج البلاد من هذا المأزق الذي إن استمر فإنه سيأخذها إلى المزيد من العنف والحرب الأهلية الطائفية والتمزق.

وإذا كان صحيحا أن أنان قد أعد مثل هذه الصيغة البديلة في حال فشل الاتفاق المعلن الذي أسفر عنه مؤتمر جنيف الأخير وهو قد وُلد فاشلا في كل الأحوال – فإن المؤكد أن الأمور ذاهبة إلى حرب إقليمية قد تتحول إلى حرب دولية، فالرئيس السوري الذي أعلن رفضه لأي حلول من الخارج لا يمكن أن يقبل بالانسحاب والخروج من الحكم واللجوء هو وعائلته إلى دولة تقبل به وببعض أقاربه لحساب مجلس عسكري، على غرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، على رأسه ضابط علوي كبير لطمأنة الطائفة العلوية ولتشجيع ضباط هذه الطائفة على التخلي عن بشار الأسد ووضع حد لربط مصير طائفتهم بمصيره.

والمشكلة هنا أن بشار الأسد لا يمكن، كما هو واضح، أن يقبل بإخراج سوريا من هذه الأزمة الطاحنة من خلال قبوله بالتخلي عن السلطة حتى لحساب مجلس عسكري على رأسه ضابط علوي كبير من غير الملوثة أيديهم بدماء أبناء الشعب السوري ومن الذين لهم مكانة بين زملائهم من كبار ضباط القوات المسلحة والذين يحظون بسمعة جيدة لدى الدول العربية وغير العربية المعنية بهذه المشكلة السورية.

وحسب بعض المعلومات المتداولة في الأوساط الضيقة لمتابعين للشأن السوري من الداخل، فإن المشكلة الثانية التي تواجه أي صيغة لحل الأزمة السورية على أساس الانتقال السلمي للسلطة أن بشار الأسد، ورغم كل هذا الذي يحصل ورغم أنه بات ينام في كل ليلة على أصوات الانفجارات التي تهز سكون دمشق، لديه قناعة بأنه في وضعية التفوق ميدانيا وسياسيا وأنه مع الوقت والمزيد من الوقت قادر على حسم الأمور عسكريا لمصلحته وقادر على إلحاق الهزيمة بالجيش السوري الحر وجعل مصير هذه الانتفاضة كمصير انتفاضة «حماه» في عام 1982 التي قمعها والده بالحديد والنار وبسقوط أكثر من أربعين ألف قتيل فضمن لنفسه هدوءا استمر منذ ذلك الحين وحتى منتصف مارس (آذار) من العام الماضي 2011.

والمؤكد أن الرئيس السوري يستمد هذه الثقة وهذه القناعة بأنه قادر على الصمود وعلى الانتصار في النهاية، ليس من مجريات الأمور في الميدان وعلى الأرض، حيث باتت السيطرة لـ«الجيش الحر» على أكثر من خمسين في المائة من البلاد، وإنما من الحَقْنِ المعنوي الذي تقوم به إيران ومن التطمينات التي دأبت روسيا على إغراقه بها وحيث سيكتشف ذات يوم قريب أن حسابات الإيرانيين والروس ومعهم الصين أيضا هي غير حسابات الشعب السوري وغير حسابات المنطقة، ولعل ما يجب أن يتذكره بشار الأسد كيف أن إرادة الشعب الإيراني قد أسقطت شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كان محميا بسطوة «السافاك» وبجيوش جرارة كانت معدة لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وكيف أن إرادة شعوب المنظومة السوفياتية قد أسقطت نظام حزب بائس كحزب البعث هو الحزب الشيوعي، الذي كان عدد أعضائه يزيد على اثني عشر مليون، لم يسقط أي واحد منهم «شهيدا» دفاعا عن حزبه.. «حزب العمال والفلاحين»!!

لو أن بشار الأسد، الذي يعتبر نفسه ويعتبره المحيطون به منظرا كبيرا واستراتيجيا لم يجُد الزمان بمثله، يراجع أحداث التاريخ البعيدة والقريبة لوجد أن الثوب المستعار «لا يقي لا من قرٍ ولا من حرّ» ولَتيقَّن من أن الدعم الإيراني والروسي والصيني أيضا، وللأسف، لن يجنبه المصير المحتوم طالما يعتمد على هذا الدعم الخارجي لمواجهة غضبة شعب من المفترض أنه شعبه وأن إرادته فوق كل شيء حتى بما في ذلك رغبة التشبث بالسلطة والتمسك بحكم بات يغوص في الدماء والركام، ليس حتى الرُّكب وفقط بل حتى الأعناق.

في كل الأحوال، إنه غير متوقع أن يستجيب بشار الأسد لا لما جاء في مقررات مؤتمر جنيف العلنية ولا لما جاء في خطة كوفي أنان السرية البديلة التي تقترح انقلابا عسكريا «أبيض» يتم بموجبه انتقال الحكم إلى مجلس عسكري على غرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، فهذا الرجل لديه استعداد أن يذهب بسوريا إلى التقسيم والانقسام وأن يقتل نصف الشعب السوري من أجل أن يبقى في سدة الحكم الذي يحلم بإيصاله إلى ابنه «حافظ الصغير»، وهنا فإن الواضح من خلال متابعة مجريات الأمور في الفترة الأخيرة أن الروس، وبالطبع معهم إيران، غدوا جادين في خيار افتعال حرب إقليمية، ليس لديهم أي ممانعة أن تصبح حربا دولية، لإنقاذ الرئيس السوري من مصير غدا واضحا ومحتوما، ولإظهاره حتى بعد سقوطه كبطل قومي واجه العدوان الخارجي والإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية.

وحقيقة أن مسألة مثل هذه الحرب الإقليمية «الإنقاذية» كانت واردة لدى بشار الأسد ولدى الروس والإيرانيين منذ اللحظة الأولى، وكانت الفكرة أن يتم افتعال مواجهة محدودة مع إسرائيل ليظهر الرئيس السوري على أنه يواجه عدوانا خارجيا وأن المعارضين الداخليين هم مجرد عملاء للصهيونية والدولة الإسرائيلية المعتدية وأنه يُسْتهْدفُ على هذا النحو ومن الداخل والخارج، لأنه «يشكل شوكة في حلق الإمبريالية الأميركية ولأنه ممانع ومقاوم ويرفض إملاءات أميركا والقوى الخارجية»!! لكن هذا التوجه ارتطم بالمخاوف من الإسرائيليين إن هم استُدرجوا للحرب فإنهم لن يكتفوا بمناوشات استعراضية وأنهم قد يحتلون دمشق نفسها ويسقطون النظام نفسه.

لكن مع تطورات الأحداث ومع وصول قبضة الشعب السوري إلى عنق بشار الأسد، تجدد خيار افتعال حرب إقليمية لا مانع من أن تتطور إلى حرب دولية ليظهر، إن هو سقط وأُسقط، كبطل قومي وكضحية لعدوان خارجي ومؤامرة داخلية، وهنا فإن حادثة إسقاط الطائرة التركية تأتي في هذا الإطار، وإن نهر الأسلحة الروسية المستمر في التدفق بغزارة غايته هي هذه الغاية، وكذلك فإن التحرش المستمر بالأردن هو استكمال لاستدراج مثل هذه الحرب التي قد تندلع في أي لحظة في ظل هذه الأوضاع المتوترة رغم استبعادها من قبل الكثيرين.

لقد ثبت أن الروس هم الذين كانوا وراء إسقاط الطائرة التركية، وكان الهدف أن يكون هناك رد سريع من قبل الأتراك ومن قبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستدراج هؤلاء إلى مواجهة هي في حقيقة الأمر لا تزال واردة وفي أي لحظة، والواضح أن روسيا وإيران اللتين لهما مصالح كثيرة في إغراق المنطقة في حرب جديدة مصرتان على الاستعجال في نشوب مثل هذه الحرب، وبخاصة أن كل المؤشرات وكل الوقائع على الأرض باتت تدل على أن سقوط بشار الأسد غدا مؤكدا وأنه لا إمكانية لإنقاذه إلا بإشعال المنطقة كلها ليظهر كبطل قومي وليعطي سقوطه طابع المؤامرة الخارجية.

الشرق الأوسط

جنيف… مؤامرة جديدة!

صالح القلاب

غير متوقع أن يُنفَّذ، من الاتفاق الذي تم التوصل إليه في جنيف يوم السبت الماضي، بندٌ واحد، فأطراف مجموعة العمل الدولية المتعلقة بالأزمة السورية، التي تضم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى تركيا وثلاث دول عربية، هي قطر والكويت والعراق، لم تستطع التوصل إلى قرار حاسم لوضع خطة كوفي أنان ذات البنود الستة المعروفة موضع التنفيذ، فانتهت الأمور إلى صيغة عامة غير قابلة للتطبيق تعطي فرصة جديدة للرئيس السوري بشار الأسد لمواصلة هذه الحرب المدمرة القذرة التي يشنها على شعبه.

لا ضرورة لتناول ما تم الاتفاق عليه بنداً بنداً، فالمحصلة تُظهر أن كل هذا الحراك الدولي، والعياذ بالله من كلمة “حراك” التي أصبحت ممجوجة وتبعث على الغثيان، يجسد ذلك المثل العربي القائل: “تمخض الجبل فولد فأراً” بل إن ما تمخض عنه اجتماع جنيف يدل على كمْ أن الوضع الدولي قد غدا بدوره “مهركلاً”، وأن آلية عمل مجلس الأمن باتت بحاجة إلى إصلاح سريع، وإلا فإن الفوضى العارمة ستعمّ الكرة الأرضية والحروب الأهلية ستشمل العالم كله.

حتى لا يقال إن هناك استهدافاً لروسيا، التي وياللعجب أصبحت محط أنظار “فلول” الشيوعية العالمية مع أنها جاءت على أنقاض الحزب الشيوعي الذي بقي حاكماً أكثر من سبعين عاماً وفشل فشلاً ذريعاً، وعلى أنقاض الاتحاد السوفياتي “العظيم”!، فإنه يجب بالضرورة تحميل الولايات المتحدة مسؤولية شَلِّ مجلس الأمن الدولي وتحطيم سمعته وتشويه صورته، لأنها بقيت من خلال استخدامها لحق “الفيتو” تحمي الاحتلال الإسرائيلي وتحمي العربدة الإسرائيلية، ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط بل في الشرق الأوسط كله.

ولذلك وبسبب آلية حق النقض “الفيتو” التي “بهدلتها” الولايات المتحدة، فإن مجلس الأمن الدولي بقي يتخذ موقفاً عاجزاً إزاء ما بقي يجري في سورية من مذابح ودمار وخراب بسبب “فيتو” الرفيق سيرغي لافروف، وبسبب النزعة الستالينية للرفيق فلاديمير بوتين، ولكن بنسخة رأسمالية استبدادية قذرة لا تكترث بدماء الشعوب، وكل ما يهمها هو التزاحم على مكانة تتساوى مع مكانة أميركا في المعادلة الدولية.

لقد كان على الذين يهمهم انتشال سورية مما هي فيه، من الذين حضروا اجتماع جنيف، الذي خرج بصيغة مهما حاول كوفي أنان تجميلها والدفاع عنها فإنها لا يمكن إلا أن تكون لإعطاء بشار الأسد مهلة جديدة لمواصلة ذبح شعبه، لقد كان على هؤلاء ألا يقبلوا أن يكونوا شهود زورٍ على جريمة تُرتَكب في وضح النهار، وكان عليهم أن ينسحبوا من هذه المهزلة… ولتذهب “خطة” المبعوث العربي الدولي إلى الجحيم… وليحصل ما سيحصل مادام الذبح، في هذا البلد الذي ابتلي بنظام لم يبقَ له أي شبيه في الكرة الأرضية كلها، استمرَّ يتخذ مساراً تصعيدياً بعد كل جولة من جولات المبادرات العربية والدولية السيئة الصيت والسمعة.

الجريدة

الثلاثاء

النظام السوري بعد اتفاق جنيف: مَن يُمسك بالأرض؟

بعد مهمة كوفي أنان وخطة البنود الستة، أتى اتفاق جنيف محطة ثانية لمخاض لا ينتهي للأزمة السورية. ومع أن الاتفاق بدا مكمّلاً لخطة أنان ومحاولة إجرائية لتحقيق ما أخفق سابقاً، التقيا على المعضلة الدائمة على وفرة تناقض التفسيرات: توأمة الرئيس السوري والتسوية

نقولا ناصيف

أتاح اتفاق جنيف الذي وضعته مجموعة العمل الدولية حول سوريا، السبت، فرصة مزدوجة أمام المجتمع الدولي والرئيس بشّار الأسد من أجل دفع الأزمة السورية نحو حلّ محتمل. وكشأن اتفاقات دولية مماثلة يشوب أفرقاءها تناقض المواقف فينعكس في مضمونها الملتبس، عبّر اتفاق جنيف قبل أن يجفّ حبر الإعلان عنه عن تعارض في تفسير بنوده، وأخصّها آلية المرحلة الانتقالية في سوريا بالدعوة إلى حكومة تضم النظام والمعارضة معاً.

لم يكرّس التفسير المتباين الخلافات التي اتسمت بها مناقشات مجموعة العمل الدولية فحسب، بل أكد استمراره في المرحلة التالية للاتفاق، عند وضعه موضع التنفيذ، وصلبه الفعلي موقع الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية: يُرافقها أم يخرج منها؟ كذلك الأمر بالنسبة إلى مسار المرحلة الانتقالية: كيف يخرج الأسد؟ ثم قبل ذلك وذاك: هل سيخرج فعلاً؟

إلى الآن، اثنان على الأقل سوى النظام ورئيسه يقولان ما يقوله الأسد. كلاهما فاعل. أحدهما هو موسكو حاملة عصا الفيتو في مجلس الأمن. والآخر هو أنان صاحب المبادرة والدور والخطة واقتراح المرحلة الانتقالية تطبيقاً للبنود الستة. يقولان، خلافاً للأميركيين والأوروبيين والعرب المناوئين للنظام، إن رحيل الأسد شأن سوري داخلي. كذلك يعبّر عنه اتفاق جنيف في سرده المرحلة الانتقالية.

مع ذلك، في خضم الترحيب بما أفضى إليه اجتماع مجموعة العمل الدولية، لم يكن مفارقة عابرة التصعيد العسكري الذي سبق اجتماع السبت وتلاه، في محاولة للتأثير على نتائجه.

ليست المرة الأولى أيضاً التي يُرخي فيها هذا التصعيد بظلاله على تحرّك دولي أو إقليمي حيال الأزمة السورية. في مطلع شباط، استبق التصعيد العسكري في ريف دمشق اجتماع مجلس الأمن وإخفاقه في التصويت على مشروع قرار ضد نظام الأسد، قبل أن يتوجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دمشق ويقدّم جرعة دعم قوية لحكم الأسد، أياماً قليلة قبل طلب الجامعة العربية تدخّل مجلس الأمن. ثم كان اقتحام حيّ بابا عمرو وتصفية المعارضة المسلحة فيه وانتقال الحسم الأمني إلى مدينة إدلب، مطلع آذار، تمهيداً لاجتماع لافروف باللجنة الوزارية العربية في القاهرة، وقد تبنّت خطته ببنودها الخمسة.

في كل مرة بدت الأزمة السورية عند مفترق ديبلوماسي كبير يختلط فيه التدخّل الخارجي بالتدهور الداخلي، يعكس العمل العسكري توازن القوى بغية الإخلال به. على نحو كهذا، رافق ارتفاع وتيرة التصعيد العسكري والأمني اجتماع مجموعة العمل الدولية حول سوريا.

واستناداً إلى معلومات مصدرها مسؤولون سوريون، واكب النظام التحرّك الدولي الأخير، وهو مطمئن إلى الناظم الروسي لأعمال مجموعة العمل، عبر تعزيز هجماته على معارضيه المسلحين انطلاقاً من اعتقاد تمسّك به منذ الأشهر الأولى للاضطرابات في سوريا، وخصوصاً بعد انتقال النزاع بينه وبين المعارضة من التظاهرات إلى الاشتباك المسلح إلى ولوج حرب أهلية، وهو أن مَن يُمسك بالأرض يكون الأقدر على التفاوض.

اتخذ هذا الهدف مزيداً من العوامل المساعدة بعد انكفاء المراقبين الدوليين وتوقفهم عن متابعة مهمتهم في 16 حزيران، على أثر تصاعد عمليات العنف عليهم من طرفي النزاع. مكّن ذلك النظام من السيطرة على دوما في ريف دمشق، وكان موقعاً محصّناً للمسلحين، وإحدى أبرز نقاط ضعف نظام الأسد. ثم كانت خطوة ثانية بدأت قبل يومين من انعقاد اجتماع جنيف، هي بدء مفاوضات غير معلنة بين النظام ووجهاء المدن الرئيسية في ريف حمص من أجل إنهاء القتال.

أولى جولات التفاوض حصلت الخميس المنصرم بين وفد مثّل هؤلاء وضم أئمّة المساجد من أجل وقف قصف المدن تلك وتدميرها وإعلان عودتها إلى كنف النظام الذي مثله في المفاوضات مسؤول أمني رفيع. إلا أن الأخير اشترط تزامن بدء التفاوض مع إعلان أئمة المساجد، من منابرهم، موقفاً علنياً يخاطبون به الرأي العام الحمصي في المدينة وريفها بضرورة وقف عمليات العنف والقتل والتدمير، في منطقة كانت قد شهدت في الأشهر الأخيرة تزايداً غير مسبوق في التصفيات المذهبية بين السنّة والعلويين. اليوم التالي عكست خطب الجمعة هذا التحوّل. ساهم في دفع المفاوضات نحو الأمام إقرار مجلس الشعب في جلسة عقدها الأسبوع الماضي قانوناً عدّ إرهابياً مَن يؤوي إرهابيين وأخضعه لأصول الملاحقة والمحاكمة والعقوبات نفسها. وهو بذلك أصرّ على تسليم المسلحين أنفسهم.

وتشير المعلومات نفسها إلى الآتي:

1 ــ لا يجهل النظام، ولا يكتم خصوصاً، أن عمر الأزمة السياسية والدموية في آن طويل، وقد يستغرق أكثر ممّا يُعتقد. لكن المسؤولين الأمنيين يُبرزون انطباعات واثقة من اجتياز النظام الامتحان الأقسى، وهو البقاء، ومن ثمّ ملاحقة أعدائه ومحاسبتهم.

2 ــ يقول المسؤولون الأمنيون إنهم تعلّموا الكثير من الأخطاء التي رافقت تعاطي الجيش والاستخبارات العسكرية مع أحداث الأشهر المنصرمة من الأزمة، فوضعت النظام والجيش وجهاً لوجه مع المراقبين الدوليين. يقولون أيضاً إنهم باتوا أكثر إلماماً بمناورات أعدائهم في المعارضة المسلحة التي اكتسبت من تجارب استخبارات عربية وغربية تتعاون معهم وتمدّهم بالتسلّح ومصادر التمويل، خبرات جديدة في المواجهة العسكرية.

أدرك الجيش أن موافقته من حين إلى آخر على هدنة، بناءً على طلب المراقبين الدوليين لتسهيل دخولهم مدناً وقرى واستطلاع أوضاعها، كانت تفضي إلى مزيد من تسليح المعارضة وتعديل خطط انتشارها وتحرّكها بين المدن والبلدات، مستفيدة من كمّ هائل من المعلومات كانت تصل إليها، ومن تسيّب الحدود وخصوصاً مع لبنان، تمهيداً للذهاب إلى جولة جديدة. بعض أخطائه أن المعارضة المسلحة تصرّفت بشطارة أتاحت لها، بعد كل هجوم على آلية للجيش أو إعطابها، إبلاغ فريق المراقبين الدوليين بردّ فعل الجيش. يُدوّن المراقبون ردّ الفعل، لا الفعل نفسه.

3 ــ بعد استعادته أجزاءً مهمة من ريف دمشق وسيطرته شبه الكاملة عليه، واعتقاده أن المفاوضات ستعيد معظم ريف حمص، وأخصّه مدنه الرئيسية إلى الكنف، وجزمه بأن المدينة تقع تحت سيطرته، لا يخفي النظام حرية الحركة التي لا يزال المعارضون المسلحون يمتلكونها، وتمكّنهم من تنفيذ هجمات على مقارّ الجيش وقطعه في الليل، ويسيطرون في معظم الأحيان على قرى صغيرة في الأرياف تجعل الجيش يهمل إرسال قوات كبيرة إلى هناك لمواجهتها، ومن ثم تشتيت هذه القوات في أماكن لا تشكلّ خطراً على النظام.

4 ــ لم يعد في وسع المعارضة المسلحة المضي في أحد ثلاثة رهانات تداولتها طويلاً في اجتماعاتها المتلاحقة منذ الأشهر الأولى للأزمة، ومعظمها عقد في إسطنبول، وتوقعت منها حينذاك إطاحة الأسد: انقلاب الجيش عليه على غرار الحالتين الليبية واليمنية، أو وقوفه على الحياد على غرار الحالة المصرية، أو انقلاب محيط الأسد عليه.

لم ينجح أي من خيارات أولى أشهر الأزمة، قبل أن تقرّر المعارضة الذهاب إلى نزاع مسلح أملت في أن يؤدي تفاقمه إلى أحد احتمالين: حياد الجيش، أو تعرّضه لشرخ وانقسام كبير يُحتّم انهيار النظام. أخفق هذا التوقع أيضاً.

الأخبار

الثلاثاء

أصدقاء سوريا جزء من المشكلة؟

طارق الحميد

في مقاله يوم السبت الماضي في هذه الصحيفة، كتب المعارض السوري السيد فايز سارة مقالا بعنوان «التدخلات الخارجية في سوريا» تحدث فيه عمن يدعمون النظام، ومن يدعمون الثورة السورية، وكان ملخص مقاله أن النظام هو من استفاد من تلك التدخلات الخارجية، وليس الثورة.

وقد يكون المقال المشار إليه أعلاه مستفزا، وخصوصا عندما قال السيد سارة في مقاله إن: «مواقف الكتلة المؤيدة للحراك الشعبي من القوى الدولية والإقليمية، أقل تجانسا وضعيفة ومترددة، وتغلب عليها المواقف الإعلامية والدعائية والمتناقضة في بعض الأحيان، وهي لم تقدم مساعدة جدية وملموسة». وبالطبع، فإن السيد سارة كان يقارن بين من يدعمون الثورة، ومن يدعمون النظام، حيث نجد أن إيران وروسيا تدعمان النظام الأسدي فعليا بالأسلحة والأموال، والمواقف السياسية، بينما ليس للمتعاطفين مع الثورة السورية مواقف ملموسة، ومؤثرة بشكل كبير. والحقيقة أن ما ورد في مقال السيد سارة مهم جدا، ويتطلب كثيرا من النقاش، وما يدفع لقول ذلك، مثلا، هو عندما تشاهد إحدى حلقات الحوار السياسي التلفزيوني المهمة جدا للإعلامي الأميركي الشهير تشارلي روز التي استضاف فيها مؤخرا كلا من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ووزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر، حيث كانت المفاجأة في تلك المقابلة قول السيد بيكر، وهو صديق كثير من الدول المتعاطفة مع الثورة السورية، بأنه يجب ألا تتورط أميركا في تسليح المعارضة السورية، وأنه قد يكون من المفيد أن يتم الدعوة لانتخابات مبكرة في سوريا، ويشارك فيها الأسد، وتحت رقابة دولية صارمة لا تقبل التزوير، وفي حال فاز الأسد فليكن، وإن خسر يخرج من الحكم، ويأت رئيس جديد!

تبسيط مرعب بالطبع، فماذا عن قرابة 14 ألف قتيل على يد الطاغية الأسد؟ وماذا عن القوانين الدولية؟ والمخيف أن السيدة كلينتون تقول إن مشكلة توحيد المعارضة السورية ما زالت قائمة، ونقول «مخيف» لأننا نعرف كيف وحدت أميركا، وحلفاؤها، المعارضة العراقية ضد صدام وفي لندن، وكيف وحدت فرنسا وغيرها، وبعضهم عرب، المعارضة الليبية ضد القذافي، ونتذكر كيف استقبلت فرنسا أحمد شاه مسعود ذات يوم استقبال الفاتحين في باريس! ومن هنا، فإن ما قاله السيد سارة مهم ويتطلب التأمل، لأن الواضح هو أن المتعاطفين مع المعارضة السورية، عربا وغربيين، لم يقوموا حتى بإقناع حلفائهم القدامى، وأصدقائهم المؤثرين في دوائر صنع القرار الأميركية، مثلا، بأهمية رحيل الأسد اليوم، ورفع المعاناة عن السوريين، وتجنيب المنطقة كلها لخطر داهم، وإلا فكيف نجد سياسيا بحجم جيمس بيكر، صديق الخليج، يرى أن التدخل في سوريا يجب ألا يكون بدعم الثوار، وإنما بالدعوة لانتخابات مبكرة، رغم كل أكاذيب نظام الأسد المعروفة؟ وكيف نسمع السيدة كلينتون، وإلى الآن، تتحدث عن توحيد المعارضة السورية؟

بالتأكيد أن هناك خطأ ما، وإذا كان من أحد يلام فهو المتعاطفون مع الثورة السورية، لأن هناك خطأ في طريقة تعاملهم مع طاغية دمشق، وأبرز خطأ هو غياب القيادة، وتحمل المسؤولية بشكل واضح، علما أن خطر بقاء الأسد، أو انهيار الأوضاع في سوريا، سيطال الجميع دون استثناء.

الشرق الأوسط

فشل اجتماع جنيف .. الآن ماذا؟

طارق الحميد

لا يمكن تخطئة من يقول إن اجتماع جنيف الخاص بسوريا قد فشل، ورغم كل ما صدر عنه، خصوصا أن صياغة البيان كانت فضفاضة لحد أن كل طرف قام بتفسيره حسب رؤيته، سواء الأميركيون، أو الروس، أو السيد كوفي أنان، ولذا فإن السؤال الآن هو: وماذا بعد جنيف؟

الإجابة البسيطة هي أن لا حل سياسيا بالأفق، فأي حلول خارج مظلة مجلس الأمن لن تكون لها قيمة إلا إذا كانت تحالفا دوليا خارجيا يفرض وقائع على الأرض، مثل التدخل العسكري، أو فرض مناطق حظر جوي، ومناطق عازلة، أما عدا عن ذلك فمن الصعب تخيل أي حلول سياسية الآن، لكن هذا لا يعني أنه نهاية المطاف، بل إنه يؤكد أن الحل في سوريا كان ولا يزال بيد السوريين الثوار أنفسهم، ومن خلال ما يقع على الأرض. فلولا صمود الثوار السوريين لما كان هناك اجتماع جنيف، ولما تم التوافق على ما تم التوافق عليه في جنيف، وبموافقة جميع الأطراف ومنهم روسيا، وهو اتفاق الحكومة الانتقالية الذي قلنا إنه غير قابل للتنفيذ، لكنه يظهر أن مساحة المناورة بالنسبة لموسكو باتت ضيقة.

ومن هنا فإن المهم والأهم هو ما يحدث على الأرض بسوريا، فذلك الذي يحدث التغيير داخل دمشق، وبالمجتمع الدولي، فالنظام الأسدي اليوم أقرب للانهيار من أي وقت مضى، والثورة بأقوى مراحلها. وعليه؛ فإن جنيف ليست نهاية المطاف بل هي بداية نهاية الأسد إذا ما استمر السوريون بالصمود، واستمر تسليح «الجيش الحر»، وتزويده بكل المعدات التي تضمن له التحرك، والتصدي لقوات الطاغية، وهذا ما يجب التركيز عليه اليوم، وأكثر من التركيز على الحل السياسي الذي لن يأتي من دون وقائع تفرضه على الأرض، وهذا ما يدركه المجتمع الدولي، وهذا ما حرك القوى الدولية مؤخرا، حتى وإن كان حراكها غير مقنع، أو كاف.

ما يحدث على الأرض بسوريا هو ما سيلجم روسيا وإيران، وليس المواقف الدولية، وذلك لسبب بسيط وهو أن موسكو وطهران تقومان اليوم بمهمة شبه انتحارية وهي مهمة إطالة عمر طاغية دمشق؛ فإيران تعتبر مؤتمر جنيف فاشلا لأنه أبعد الدول «ذات النفوذ» في سوريا بحسب تعبير المسؤول الإيراني، مما يعني أن إيران تريد الإبقاء على الأسد، أو فرض أتباع لها بعد سقوط الأسد في سوريا على غرار حزب الله في لبنان، أو المالكي وغيره بالعراق، وهذا أمر لا يجب السماح به إطلاقا، فمن شأن ذلك إبقاء سوريا ضعيفة ومقسمة إلى أمد طويل.

وعليه؛ فإن مؤتمر جنيف ليس بنهاية المطاف، ولا هو بالخسارة بالنسبة للثورة والثوار السوريين، بل هو دليل على أن ما يفعلونه على الأرض هو ما يصنع الفارق، ولذا فلا بد من الاستمرار بدعم الثوار السوريين بالسلاح، واعتبار أن مؤتمر جنيف لم يكن، وذلك ليس لتأجيج الصراع في سوريا، وإنما لكي لا يفلت مجرم دمشق الملطخة يداه بالدماء السورية، ولكي لا تجد إيران موطئ قدم في سوريا.

الشرق الأوسط

«جنيف» اعتراف بنهاية الأسد

 عبد الرحمن الراشد

ظاهريا، الروس لم يتراجعوا عن تأييدهم للنظام في سوريا، ونظام الأسد نفسه لم يتراجع عن الحل العسكري. السبب خوفهم من أن الإعلان بقبول أي حل سياسي فيه تصريح بإقصاء بشار الأسد سيسبب انهيارا سريعا للنظام. سيسقط في نهار واحد. فجاء مؤتمر جنيف حول سوريا اعترافا بنهاية الأسد دون الإعلان عن ذلك، بعد.

أفكار مؤتمر جنيف، ومحاولة إحياء خطة المندوب الأممي، كوفي أنان، بنقاطها الست، لم يعد لها قيمة اليوم، لأن الثوار لن يوقفوا تقدمهم، ولا يملك النظام غير الحل العسكري. في جنيف اعتراف بنهاية النظام السوري حيث اضطر الروس إلى القبول بفكرة البحث عن حل بديل. سيكون حلا مؤقتا، مثل حكومة مشتركة، حتى يستطيع الأسد إخراج أثاثه من قصره إلى مكان آخر. والفكرة في أصلها قديمة طرحتها في نهاية العام الماضي إيران وروسيا من أجل تقسيم المعارضة، بالدعوة لإشراك المعارضة في الحكم مع الأسد، ويبقى هو عليهم رئيسا. الآن يريدون حكومة مشتركة فيها شيء من قيادة الأسد أو رجاله، وكل هذا فقط لشراء الوقت حتى يتدبر أمره.

ويجب أن نتذكر منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة أن الوضع على الأرض يتغير ضدهم، قوات النظام تفقد بشكل مستمر قبضتها على معظم أنحاء البلاد. كانت تحاصر الثوار في حمص في يناير (كانون الثاني)، واليوم الثوار يهاجمونها في العاصمة دمشق، وينتقل من صفوف الجيش النظامي آلاف من المجندين والمختصين ويلتحقون بجيش الثوار.

أما لماذا يرفض حلفاء الأسد، تحديدا إيران وروسيا، القبول علانية بحل من دون بشار الأسد؟ السبب أن أي إعلان من جانبهم بالموافقة على مشروع يقول صراحة بإخراجه، سيتسبب فورا في سقوط النظام. الإعلان عن إقصاء الأسد، بأي صيغة تقال، سيخلق ذعرا في صفوف دولته. لهذا سيقبلون بحل يقصي الأسد دون الإعلان عن تنحيته إلا بعد ترتيبات مع الثوار والدول المتحالفة معهم؛ أمر ربما بات متأخرا.

من جانب حلفاء الثورة أيضا، لا بد أن نقول إن عندهم رغبة بعدم الاندفاع نحو المجهول إذا وُجد حل من دون الأسد، يحافظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها ومنع أي حرب أهلية. وهذا يعني أنهم مستعدون لمساندة حل حقيقي، والأهم أن يكون حلا عمليا، لا يتضمن فقط إخراج بشار الأسد، بل كل رجاله وقياداته من النظام، وتسليم السلطة للمعارضة بشروط تحافظ على كيان الدولة، مع خطة حكم مرحلي بإشراف دولي تمنع الانتقام وإشاعة الفوضى.

المشكلة كانت موسكو، الآن المشكلة الأسد نفسه الذي سيفشل هذا الحل. أعتقد أنه يعرف، منذ مطلع العام الحالي، أنه خسر المعركة، لهذا يريد خلق حالة حرب أهلية لأنها تحقق له شيئا من السلطة في مكان ما من سوريا. هو يظن أن الحرب الأهلية ستفقده حكم سوريا، الذي فقده أصلا، لكنها ستمنحه الحكم في المناطق العلوية والمتحالفة معها، عندما يهرب من دمشق، وقد ينتهي بتأسيس دويلة هناك بحماية دولية. يراهن على أن الحرب الأهلية ستضطر العلويين لدعمه، أما الحل على الطريقة اليمنية، أي أن يسلم السلطة سلميا، كما يريد الروس الآن، فسينتهي به منفيا في كوخ ما على البحر الأسود تحت حراسة روسية.

الشرق الأوسط

الثلاثاء

الثلاثاء

المسافة البعيدة بين سوريا وجنيف

سليمان تقي الدين

خرج مؤتمر جنيف بتفاهم روسي أميركي على دعم مهمة كوفي أنان في سوريا ومحورها وقف العنف وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة تدير المرحلة الانتقالية بدستور جديد وانتخابات حرة.

وزيرة الخارجية الأميركية فسّرت الأمر مقدمة لإخراج الرئيس السوري من المعادلة. وزير الخارجية الروسي نفى أن يكون تنحي الرئيس من ضمن الشروط لتنفيذ القرار. هذا الغموض يمكن لطرفي النزاع أن يأخذ كل منهما الجانب الإيجابي من الموقف ويحتفظ بالاعتراض على الجانب الآخر. حكومة شراكة ووحدة وطنية كانت منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة المخرج الفعلي لولا أن النظام أنكر طبيعة الأزمة واختار الطريق الإلغائي للطرف الآخر سياسياً وعسكرياً. قَبِلَ ويقبل الآن المبادرات الدولية ويراهن على التوازن الدولي الكابح لاحتمالات التدخل العسكري الخارجي. لكن في ظل هذا التوازن وهذه الحماية توغل في نشر العنف الشامل وصاعد من أدواته ووتيرته بذريعة هذا التدخل الخارجي ودعم المعارضة المسلحة.

لم يكن مفهوماً لماذا اتخذ ما اتخذ من خطوات «إصلاحية» ولمصلحة من، ولماذا انحصرت تلك الخطوات في إزالة لافتة حزب البعث عن السلطة بينما لم تمس مواقع السلطة والقرار التي كانت موضع شكوى الناس؟ هو يؤكد أن الغرب وحلفاءه لا يريدون الديموقراطية لذا يُعطيهم من كيسهم تلك الشكليات بينما يفاوض بالنار والقتال الشرس دفاعاً عن السلطة لا عن النظام. ربما كانت فعلاً هذه المناورة المحسوبة تنبع من الثقة المفرطة بأن ما يريده الغرب هو أن تغيّر الأنظمة جلدها ورموزها فقط، وقد شاع ذلك لدى جميع الحكّام العرب ولدى كل الذين فوجئوا بالفاعل الجديد في مسرح المنطقة، وهو حركة شعوبها.

اختلفت الظروف من بلد إلى آخر، لكن الغرب والحكّام تصرفوا بوحي من هذه المساومة المفترضة التي عطّلتها تضحيات الشعوب وصمودها وتصميمها. هناك إرادة للتغيير وتصميم عليه حاصرت كل محاولات الاحتواء التي لا زالت قائمة بما في ذلك أزمة سوريا. هنا تحولت الأزمة إلى صراع إقليمي ودولي، لكن إرادة جزء مهم من الشعب السوري تخطّت احتمالات التسويات بسبب حجم التضحيات وعدم وجود ضمانات فعلية لتسوية وطنية مشرّفة. يكاد المشهد برغم حجم القتل والدمار يؤكد صعوبة إيجاد لغة مشتركة أو تفاوض جدي مؤداه التعايش بين سلطة النظام وسلطة المعارضة. فمهما قيل في طبيعة المعارضة وعناصر ضعفها أو في انغماسها بالسلاح والعنف فليس هناك من وسائل عملية تنفيذية ضامنة لمصالحة، كما يفترض الموقف الروسي.

انزلقت سوريا إلى شكل من الحرب الأهلية فتحت أحشاء البلد الذي كان قبل نصف قرن عرضة لتجاذبات ومداخلات الجوار عبر حدوده الواسعة والعلاقات التاريخية الاجتماعية بين مكوّناته والدول المجاورة. ولهذه الأسباب تبدو سياسة نصف قرن من القبضة الحديدية في سوريا ومن اضطراب دول الجوار قد انتهت، حين صارت الأزمة تتعلق بالوحدة الوطنية واحتمالات تغيير الخارطة الديموغرافية وربما الجغرافية حتى في أداء جميع القوى الفاعلة. قد لا يكون التقسيم أولوية على نحو ما كانت الأمور كذلك في لبنان والعراق، لكنه يصبح خطة احتياطية تشجّع عليها القوى الدولية لتأكيد نفوذها. وطالما ليس هناك من قوة دولية فعلية ضامنة لوقف العنف وفك الاشتباك على الأرض، فالمسافة تبقى بعيدة بين الواقع السوري المفتوح على المزيد من العنف وبين التفاهمات الغامضة والجزئية في جنيف.

السفير

مهلة جنيف الدموية

ساطع نور الدين

أي نص سياسي هو نتاج تسوية بين طرفين مختلفين، وظيفته ان يعبر عن موازين قوى جديدة على الارض، وان يعكس رغبة مشتركة في انهاء الصراع والجلوس الى طاولة مفاوضات. وثيقة مؤتمر جنيف ليست استثناء لهذه القاعدة، لكن غموض فقراتها والتباس مفرداتها يزيدان من صعوبة إدراجها في اي سياق سياسي محدد، يقود الى هدف سياسي معين.

الوثيقة لا تأتي نتيجة ضغوط سورية، مصدرها تعب النظام او ضجر المعارضة. فكلاهما ما زال يؤمن بانه قادر على الانتصار في معركته وفرض شروطه، وان اختلفت درجات الحماسة والثقة بذلك النصر بينهما. وهما لذلك يعتبران الان على الاقل ان التسوية مستحيلة، او غير واردة في المرحلة الراهنة. هذا هو القاسم المشترك الوحيد بينهما، الذي لا يمكن ترجمته الى اي نص سياسي وبأي لغة كانت.

لعل المشاركين في مؤتمر جنيف تعمدوا ذكر مهلة عام لتنفيذ وثيقتهم، وكأنهم بذلك يمارسون الضغط غير المباشر على النظام والمعارضة في آن معا، من خلال إبلاغهما ان المجتمع الدولي بلغ اقصى ما يمكنه من اجل العثور على حل يوقف المذابح وينهي الأزمة.. التي لم تعد تحتمل التسويات والحلول الوسط، ولن تشهد بالتأكيد التزاما بمهلة الأشهر الـ١٢ المقبلة من اجل حسم الصراع، لا من قبل النظام ولا طبعا من قبل معارضيه.

وعلى هامش تلك الفرصة الزمنية الجديدة التي حددها مؤتمر جنيف لاستمرار الصراع، ستستمر عملية القياس الدقيقة للتحولات التدريجية البطيئة في المواقف الاميركية والأوروبية والروسية والتركية، التي لم تنطلق في الاصل من تجربة الحرب الباردة حسبما رأى بعض الحالمين، ولم تعكس حتى الان تناقضات جذرية بين واشنطن وموسكو وحلفائهما، لا حول التدخل العسكري الدولي غير المطروح، ولا حول الحل السياسي الذي بات الجميع يدرك أفقه النهائي.

ولعل ابرز واهم تحول سياسي يمكن تسجيله في مؤتمر جنيف ووثيقته، ان الروس قطعوا مسافة جديدة نحو الانضمام الى التشكيك الغربي بشرعية النظام السوري وصفته التمثيلية وبمصداقية الانتخابات التي أجراها والحكومات والمجالس المحلية التي شكلها في خلال الأشهر الـ١٦ الماضية. وهذا هو جوهر الوثيقة التي تدعو، بالإجماع الدولي الاول من نوعه، الى اعادة تشكيل هيكلية الدولة السورية ومؤسساتها.. وهو أقوى من كل ما قيل عن ان موسكو وافقت على ذلك النص بعد ان حصلت على تنازل غربي يقضي بشطب فكرة تنحي الرئيس بشار الاسد، التي لم تكن واردة في الصياغة اصلا.

باختصار، الوثيقة هي إشارة الانطلاق لطور جديد من الأزمة السورية اكثر دموية من اي وقت مضى، وأخطر من ان يحتمل الانتظار عاما اضافيا.

السفير

السبت

كلام جنيف تمحوه باريس

    سميح صعب

بين مجموعة العمل حول سوريا في جنيف ومؤتمر “اصدقاء الشعب السوري” في باريس مسافة تساوي المسافة السياسية بين واشنطن وموسكو وصراع بين مفهومين مختلفين لحل الازمة السورية. فالغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً ماضيان في خيار تسليم السلطات في الشرق الاوسط الى الاسلام السياسي في نقيض لسياسة معتمدة منذ 60 عاماً كانت قائمة على دعم انظمة الحكم التي نشأت عقب مرحلة الاستعمار سواء العسكرية منها ام شبه العسكرية.

 لم تمض ايام على صدور بيان جنيف في حضور روسيا والصين حتى أتى بيان باريس لمجموعة “اصدقاء الشعب السوري” ليقول بوضوح ما التبس في بيان جنيف ألا وهو ان المطلوب تغيير النظام في سوريا وليس تأليف حكومة تجمع النظام والمعارضة. وذهبت هيلاري كلينتون ابعد حين دعت الى تدفيع موسكو وبيجينغ ثمن عدم انضمامهما الى الغرب والعرب في العمل على تغيير النظام في سوريا. وهذه لغة جديدة تستعيد لغة الحرب الباردة.

في المقابل، رسمت روسيا رؤيتها للحل في سوريا واعلنت صراحة انها لن تدخل في لعبة تغيير الانظمة في الشرق الاوسط، خصوصا ان موسكو تخوفت منذ بداية ما يسمى بـ”الربيع العربي” من وصول الاسلام السياسي الى الحكم في دول الشرق الاوسط مع ما يعني ذلك من احتمال نشوء انظمة دينية متطرفة تتسبب بصراع طويل بين السنة والشيعة فضلاً عن المصير المجهول الذي ينتظر الاقليات وفي مقدمها المسيحيون. ناهيك بما يمكن ان تحمله الانظمة الاسلامية الناشئة في المنطقة من دفع للحركات الاسلامية المتشددة في جمهوريات آسيا الوسطى وحتى داخل روسيا.

من هنا لم يكن وقوف موسكو ضد تغيير النظام بالقوة في سوريا مبنياً على قراءة سياسية متسرعة تراعي المصالح القريبة المدى او مبنياً على فائدة المصالح المادية التي ترى انه يمكن تعويض ما يمكن ان تخسره موسكو من سوق السلاح السوري، وانما الثابت ان موقف الكرملين استند الى قراءة استراتيجية تجاوزت المنطق الاميركي البراغماتي حيال تطورات الشرق الاوسط.

ولئن انطلق المنطقان الاميركي والروسي من مفهومين متناقضين، ليس من السهل التوصل الى قواسم مشتركة حيال الازمة السورية. وربما مصدر الدهشة الاميركية ان واشنطن لم تكن تتوقع ان يتمسك الروس بمعارضتهم تغيير النظام في سوريا الى حد يمكن ان يعرّض العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لخطر جدّي للمرة الاولى منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1991.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى