صفحات العالم

سوريا على مفترق طرق


علي جرادات

ما أن تتراجع السياسة حتى تتقدم الحرب لمعالجة الصراعات، أياً كان طابعها، والعكس صحيح، ما يفسر أن يتمخض تمسك النظام السوري بخياره الأمني لإخماد حراك شعبي بدأ سلمياً ومحدود النطاق وإصلاحي المطالب، عن اتساع رقعته وارتفاع سقفه السياسي حدَّ المطالبة بإسقاط النظام، وتحوله إلى انتفاضة شعبية شملت أكثرية المدن السورية وأريافها، بينما ظلت كبرى المدن، ودمشق وحلب تحديداً، هادئة عملياً، وربما كان الحساب الخاطئ لهذا الهدوء بين حسابات خاطئة أخرى شجعت النظام على زج الجيش بقمع شعبه، وتحويل خياره الأمني إلى خيار عسكري، ناسياً أو متناسياً أنه بهذا إنما يقامر بمصير سوريا ويعرّضها لمخاطر لا تحمد عقباها، سواء لجهة تعريض وحدة الجيش وتماسكه للتصدع عاجلاً أم آجلاً، أو لجهة تبرير وجهة نظر أطراف معارضة سعت منذ البداية إلى عسكرة الانتفاضة، وشرَّعت المطالبة بالتدخل الخارجي، أو لجهة إضعاف وجهة نظر أطراف معارضة تمسكت بسلمية الانتفاضة ورفضت تدويلها، أو لجهة تسليح تدخلات خارجية معلنة تقودها الولايات المتحدة بذريعة إضافية تستخدمها لتسريع تحويل الصراع الداخلي في سوريا إلى صراع عليها أحد أهم أهدافه تعزيز تفوق الكيان الصهيوني على ما عداه من دول المنطقة، وفي مقدمتها سوريا التي ما زالت في حالة مواجهة معه، أو لجهة تعميق أزمة شرعية النظام وعدم قدرته على مواصلة الحكم بشرعية “المقاومة” و”الممانعة” فقط، خاصة بعد اتضاح أن انفجار انتفاضة شعبه كان بفعل تناقضات داخلية اعتملت لعقود، وليس بفعل مؤامرة خارجية فقط، وأن ما بعد اندلاعها غير ما قبله، وأن دمقرطة الحكم والتداول السلمي للسلطة وإشاعة الحريات باتت شروطاً لا بد منها لتعزيز شرعية “المقاومة” و”الممانعة” وتقويتها وتحصينها، بل، ونقلها من عالم الشعارات والاستخدام إلى عالم الممارسة الفعلية الجادة .

بهذا، وعليه، كان طبيعياً حدَّ البداهة أن يتفاقم الصراع الداخلي في سوريا، وأن يصبح ذريعة لتدخلات خارجية معادية قائمة ولا شك فيها، وأن يدخل طوراً نوعياً يختلط الحابل بالنابل فيه، وأن تتضاءل حدَّ التلاشي فرصة أن يكون صوت الشعب الحر هو القول الفصل في حسمه، وأن يعلو صوت المعارضة الداعية للعسكرة والتدخل الخارجي، وأن يختنق صوت المعارضة الوطنية الديمقراطية الرافضة لهذه العسكرة وهذا التدخل . وهذا ما حصل فعلاً بانتقال القتال إلى أحياء دمشق وحلب والمعابر الحدودية، وتطوره حدَّ اغتيال بعض كبار القادة العسكريين والأمنيين للنظام، عدا تصفية مسؤول التصنيع الصاروخي وعائلته، لتتبدد بذلك عملياً آخر الآمال، (الضئيلة أصلاً)، في إيجاد مخرج سياسي للصراع، حيث صار تصعيد الخيار العسكري بين قوتين مسلحتين سيد الموقف . وهذه نتيجة طبيعية ل16 شهراً من اللعبة الدموية للنظام وبعض أطراف المعارضة كطرفين داخليين تصارعا بتحالفاتهما الخارجية على السلطة، وأسهما في الواقع، بمعزل عن حجم مسؤولية كل منهما، في الفصل بين القضايا الوطنية والديمقراطية، وإن تراءى في الظاهر، أنهما على طرفي نقيض، إذ بينما أوغل النظام، بفعل بنيته الأمنية وحساباته الخاطئة، في خياره الأمني حدَّ تحويله إلى خيار عسكري، فإن بعض أطراف المعارضة لم تتورع، بفعل بنيتها السلطوية وحساباتها الفئوية الضيقة، عن عسكرة الانتفاضة والمطالبة منذ البداية بتدخل القوى الخارجية إياها التي دمرت العراق ثم ليبيا .

بهذا التطور النوعي تكون سوريا النظام والدولة والجيش والدور والنسيج الوطني والمجتمعي والمكانة الإقليمية، قد دخلت، ومعها الدول المجاورة، حالة نوعية ومعقدة من التصعيد العسكري والأمني، يخطئ كل من يظن بقصر أمده، أو بعدم انفتاحه على كل الاحتمالات، لعل أخطرها:

1- احتمال تمخُّضِ هذا التصعيد عن حرب إقليمية تطال المنطقة بكاملها، إذ ثمة معنى لحدوث هذا التصعيد العسكري بعد إقدام النظام على إجراء مناورات عسكرية بالذخيرة الحية شملت أنواع الأسلحة كافة، وبعد إقدامه على إسقاط طائرة تركية، بما ينطوي على رسالة، مفادها أن خيار “شيمشون”، أي إشعال المنطقة بكاملها ما زال خياراً وارداً ويمكن اللجوء إليه .

2- احتمال تمخض هذا التصعيد عن تحويل سوريا، على غرار العراق، إلى دولة فاشلة، وربما مقسمة إلى دويلات متصارعة، إذ ثمة معنى لحدوث هذا التصعيد بعد وصول الولايات المتحدة وحلفائها إلى قناعة بتعذر استصدار قرار من مجلس الأمن ضد النظام تحت الفصل السابع بموافقة روسيا والصين على غرار ما حصل في ليبيا، وإلا ما معنى تعقيب المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن على استخدام روسيا والصين للفيتو ضد مشروع القرار الغربي، بالقول: آن أوان العمل ضد النظام السوري خارج مجلس الأمن، وما معنى بدء الولايات المتحدة و”إسرائيل” برفع فزاعة مخاطر ترسانة الأسلحة الكيماوية والصاروخية السورية، والتحذير من انتقالها إلى حزب الله أو غيره من القوى المناهضة ل”إسرائيل” التي بدأ قادتها بالتهديد الرسمي والعلني بالتدخل عسكرياً في حال حصول أمر من هذا القبيل، وما معنى دعوة فرنسا للمعارضة السورية تشكيل حكومة انتقالية لإدارة سوريا بعد إسقاط النظام، ما قاد إلى تعميق الخلاف بين أطراف هذه المعارضة؟

هذان احتمالان واقعيان ينبئ بتمخض تصعيد الصراع في سوريا وعليها عنهما توجهين سياسيين، يتمثل الأول في إصرار النظام على أن حسماً لهذا التصعيد لمصلحته هو قاب قوسين أو أدنى من التحقيق، وفي هذا بلا شك تهوين لما وصلت إليه الأمور من تعقيدات، أما الثاني، فيتمثل في إصرار بعض أطراف المعارضة على تصوير أن الحسم لمصلحته صار على مرمى حجر، وفي هذا تهويل، هو، وإن تراءى مناقضاً لتهوين النظام، إلا أنه يتلاقى معه، ذلك أن التهوين والتهويل هنا يشيان بأن طرفيْ المواجهة الداخلية بتحالفاتهما الخارجية، ماضيان في خيار الحسم العسكري حتى النهاية، وبأن أياً منهما لن يتوقف عن القتال قبل استنفاد كل ما بجعبته من عوامل قوة لا يتردد في استخدام أكثر أشكالها بشاعة، ما يعني أن سوريا صارت فعلاً على مفترق طرق .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى