مقالات لكتاب عرب تناولت الازمة في أوكرانيا وسورية
مأزق الأمم المتحدة والغرب في أوكرانيا يتردّد بانعكاساته على مقاربة الحرب السوريّة/ روزانا بومنصف
كشف استمرار الازمة في اوكرانيا مع تحديات جديدة تدفع بها روسيا من أجل التأثير في الانتخابات المرتقبة في كييف في 20 أيار المقبل ان من خلال التشجيع على الانفصال او دفع اوروبا والولايات المتحدة الى القبول بفدرلة اوكرانيا واستعادة روسيا تأثيرها على مناطق تستطيع من خلالها تأمين الكهرباء والغاز لشبه جزيرة القرم التي ضمتها اليها أخيراً، مأزقاً كبيرا في اتجاهين على الأقل: احدهما مأزق الامم المتحدة ومجلس الامن تحديداً الذي لا يشكل شلله وعجزه موضوعاً جديداً لكنه غدا مشلولاً اكثر فأكثر مع تورط احدى الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في المجلس في اعمال تهدد سيادة دولة جارة هي اوكرانيا. والآخر مأزق الولايات المتحدة والدول الاوروبية المرتبكة في اسلوب التعاطي مع روسيا ان لجهة العقوبات او الاجراءات التي يجب ان تتخذ لردع طموحات روسيا من جهة وعدم القدرة لأسباب متعددة ومختلفة من جهة أخرى على مساعدة اوكرانيا في الصمود في وجه المحاولات الروسية التهديدية على نحو يخيّب تطلعات الاوكرانيين الذين ثاروا على السلطات الاوكرانية الموالية لروسيا واطاحوها نتيجة لرغبة في ان تكون اوكرانيا أقرب الى الاتحاد الاوروبي منها الى روسيا. وهذا المأزق بوجهيه عرفته المنطقة ولا سيما ما غدت سوريا تواجهه من حرب اهلية مدمّرة ان لجهة عجز مجلس الامن عن التقرير واتخاذ موقف موحد من سوريا لوقف النزف الذي سجل سقوط ما يزيد عن 150 الف ضحية حتى الآن نتيجة للفيتو الروسي الذي حمى النظام خلال الاعوام الثلاثة الماضية من عمر الازمة او لجهة عدم وجود مصالح مباشرة للغرب في التدخل لاعتبارات عدة من أجل انهاء الوضع وتعايشه مع استنزاف طويل، وسرى منذ بداية الازمة في سوريا الكلام على ان سوريا ليست ليبيا مثلاً. لكن اوكرانيا بما تمثله من تحد للولايات المتحدة والغرب اشد وطأة في تقويم هذا المأزق نظراً الى انها في قلب اوروبا ومن مصالحها الحيوية المباشرة خصوصاً ان اوروبا تتحدث منذ أسابيع عن الحشود العسكرية الروسية المتزايدة على الحدود مع اوكرانيا فيما روسيا تنفي على رغم تأكيد الاقمار الاصطناعية صوراً لما يقارب 40 ألف جندي روسي على هذه الحدود.
وتثير مصادر سياسية في بيروت هذه المعطيات المعقدة بالنسبة الى اوكرانيا من أجل الاشارة الى التطورات الاخيرة في سوريا واستخدام اسلحة كيميائية او سامة مجدداً ضد المواطنين السوريين وفق ما اتفق كل من النظام والمعارضة على تأكيده لكن في ظل اتهامات متبادلة عن المسؤول عن ذلك وفي ظلّ اخلال النظام بالايفاء بالتزامه تسليم اسلحته الكيميائية قبل 24 نيسان الجاري. واذ تحدثت معلومات عن اتجاه الولايات المتحدة وبريطانيا الى التحقيق في صحة استخدام اسلحة سامة ومطالبة موسكو بالتحقيق كما قالت في هجوم كيميائي على بلدة كفرزيتا، فان ثمة مجالا وفق ما يلمس المراقبون لانشغال دولي لا يسمح بايلاء اهمية تذكر الى تطورات مأسوية تستمر في سوريا على رغم المواقف المعلنة واحتمال استغلال النظام ذلك من أجل محاولة حسم بأسلحة قد لا تكون ممنوعة لكنها سامة ولا تقل اذى عن الاسلحة الكيميائية. فيما ان “التلاعب” بمواعيد تسليم هذه الاسلحة لا يثير رد فعل كبيراً على رغم ثقة واشنطن ان النظام يماطل عن قصد تحت ذرائع مختلفة، وتوقع كثر ان يعمد الى ذلك منذ الاتفاق في الصيف الماضي على تسليم اسلحته الى ما بعد حزيران المقبل وذلك من أجل ضمان التسليم بضرورة بقائه في السلطة باعتبار انه وحده من يملك مفتاح هذه الاسلحة ومكانها وانتزاع اعتراف بذلك، على رغم ان هذه المماطلة شكلت ولا تزال عائقاً أمام تسليح الغرب المعارضة السورية ايضا ما دامت الاسلحة الكيميائية لم تخرج من سوريا نهائياً. ومع ان وزير الخارجية الاميركي جون كيري قال قبل اسبوع أمام لجنة الشؤون الدولية في الكونغرس ان الاسلحة الكيميائية السورية لا تزال تشكل تحدياً بالنسبة الى بلاده لجهة المماطلة في تسليمها. فانه أشار في المقابل الى ان اتصالاته مع نظيره الروسي سيرغي لافروف مطمئنة لجهة ضغط الروس على الاسد من أجل التزام تعهداته وان روسيا لا تزال متعاونة في الموضوع السوري. الأمر الذي يفيد بتسليم الولايات المتحدة لروسيا في هذا الاطار ولا نية لديها لأي رد فعل مختلف ازاء ذلك ويستشهد المسؤولون الايرانيون بانكفاء الولايات المتحدة بناء على موقف كيري.
ويعتقد بعض المطلعين ان ازمة اوكرانيا دفعت في مرحلة اولى الى الابتعاد عن الموضوع السوري اذ انتقل الاهتمام الغربي في شكل اساسي الى مكان آخر خصوصاً ان ثمة يأساً من تطور مرتقب في مواقف الدول المعنية على الأقل ليس قبل انتهاء التفاوض على الملف النووي الايراني. والمواقف التي يعبر عنها مسؤولون ايرانيون وحدها تلقي الضوء على التحولات السورية فتوحي باستعداد لدى ايران للمساومة او التفاوض على سوريا ومصير النظام قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية السورية فيما النظام يعلن انه حقق تقدماً ملموساً. لكن الكباش الدولي المتزايد حول اوكرانيا والعجز الاميركي والاوروبي عن مواجهة اندفاع روسيا الى فدرلة اوكرانيا او منع انتخاباتها يخشى ان يترك انعكاساته على أسلوب حلّ الازمة السورية في مرحلة لاحقة وفقدان الثقة كلياً بقدرة الغرب على عدم التضحية بمصالح الشعب السوري.
النهار
من دمشق إلى كييف … المعركة واحدة/ الياس حرفوش
إذا كان فلاديمير بوتين قد ألقى بكل ثقل روسيا، العسكري والديبلوماسي والاستخباري، لهزيمة الثورة السورية والحفاظ على بشار الأسد حاكماً على دمشق، البعيدة آلاف الكيلومترات عن بلاده، فكيف كان يُنتظر منه أن يتسامح مع الثورة في أوكرانيا، المقيمة على الحدود الروسية، والتي رفع ثوارها مطلب إقامة نظام ديموقراطي، يحاكي الأنظمة الغربية ويسمح للمواطن بقول كلمته ضد فساد الحاكم، ويرسي أسساً صحيحة لدولة القانون، أي ما يناقض النظام الذي يعيد بوتين إليه الحياة، بعد أن انتفض ضده الروس قبل أكثر من عقدين من الزمن؟
اعتبر بوتين، في مواجهة الاحتجاجات التي بدأت في «ميدان» كييف في الخريف الماضي، أن هناك مؤامرة غربية ضد الاتحاد الروسي. ووظّف أجهزة الإعلام الروسية، التي تحولت إلى أبواق، لتكرار معزوفة الخطر الذي زعم أنه يهدد الناطقين بالروسية في الأقاليم الأوكرانية الشرقية على يد من وصفتهم هذه الأجهزة بـ «النازيين». ومثلما يقاتل بشار الأسد ضد «المؤامرة» التي يزعم أن الغرب دبرها ضد النظام «الممانع» وضد الطائفة العلوية، هكذا يواجه بوتين اليوم المطالبين بالاستقلال والتحرر من الوصاية الروسية في أوكرانيا، ويتهمهم بأنهم عملاء للاستخبارات الأميركية، ولا هدف لهم سوى القضاء على الأقليات العرقية التي تعارضهم.
ابتلع بوتين منطقة القرم بحجة حماية الناطقين بالروسية فيها. كان الاستفتاء مخالفاًَ للدستور الأوكراني، ولالتزامات موسكو نفسها (أيام بوريس يلتسين) بضمان سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. ارتفعت أصوات في الغرب احتجاجاً وتم اتخاذ مجموعة من العقوبات، وتحولت مجموعة الثماني إلى مجموعة السبع. ولكن بوتين لم يهتم ولم يوقف تهديداته ضد ما بقي من أوكرانيا. ولماذا يهتم، وهو يعرف أن في البيت الأبيض رئيساً ضعيفاً لا يجرؤ على مواجهة أحد، كما أن جيران روسيا في القارة الأوروبية يعانون أزمة اقتصادية مستعصية تجعلهم أكثر احتياجاً إلى التعامل مع روسيا مما هي بحاجة إليهم.
معركة الحصول على الحرية التي انتكست في سورية، والتي أصبحت مهددة بانتكاسة في أوكرانيا، هي معركة تحتاج إلى من ينصرها. وخصوصاً إذا كان الخصوم مستعدين لكل الارتكابات ولاستخدام كل أدوات القمع في سبيل إسكات الأصوات التي تطالب بفتح النوافذ على هواء الحرية.
راهن السوريون ومثلهم الأوكرانيون على الشعارات الغربية التي تزعم دعم المطالبين بالحرية حيثما ارتفعت أصواتهم. على لسان باراك أوباما سمعنا أكثر من مرة تهديدات للأسد بالرحيل، ومواعيد محددة لسقوط النظام. وفي ساحات كييف شاهدنا جون كيري وغيره من الوزراء الغربيين يشدّون على أيدي المتظاهرين ويعدونهم بنصر قريب. لكن فلاديمير بوتين كان يهزأ في قرارة نفسه، لأنه كان يدرك المدى الذي تصل إليه الوعود الغربية.
سوف تكون لهذا الفشل الغربي في حماية قيم الحرية انعكاساته على أكثر من دولة في العالم. فأمام هذه الانتصارات التي يحققها «الشبيحة» في أكثر من مكان، سواء بأقنعة أو من دون أقنعة، تتراجع هذه القيم ويتراجع حماس المدافعين عنها، لأنهم لا يجدون من ينصرهم.
ليس هذا فقط، بل إن السكوت على أنظمة القمع هو الذي ينجب التنظيمات المتطرفة والإرهابية التي تستغل العجز الغربي لتنفيذ مشاريعها. وكما انتهى التردد الغربي في دعم التيارات المعتدلة في الثورة السورية إلى نمو «النصرة» و «داعش»، هكذا ليس مستبعداً أن ينتهي الفشل الغربي في حماية الأوكرانيين إلى نشوء تنظيمات يمينية متطرفة (ونازية أيضاً) للرد على التدخل الروسي المتفاقم في شؤون بلادهم.
هكذا يكون بوتين قد حقق عملياً ما يحذر منه اليوم. فبينما يتهم ثوار أوكرانيا زوراً بأنهم عنصريون ونازيون، سوف تؤدي سياسته الفاشية إلى إحياء هذه النزعات التي قضت عليها الديموقراطيات الغربية قبل سبعين عاماً.
ومثله يفعل بشار الأسد الذي لا تؤدي أساليبه القمعية ضد الثورة سوى إلى استقطاب كل موجات الطائفية والتطرف والإرهاب إلى المدن السورية، بحجة الدفاع عن السوريين الذين فشل الغرب في حمايتهم.
الحياة
تفكيك روسيا/ حسان حيدر
بالتزامن مع أزمة أوكرانيا، طالب نواب في البرلمان الروسي النيابة العامة بفتح تحقيق جنائي تمهيداً لمحاكمة المسؤولين عن سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكيكه وانقلاب بعض اجزائه السابقة ضد موسكو، وقالوا إن رؤساء جمهوريات روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا خالفوا نتيجة استفتاء عام أجري في 1991 وطالبت فيه غالبية المواطنين السوفيات بالحفاظ على الاتحاد، لكن فات هؤلاء النواب ان «مأساتهم» قد تتكرر وأنهم قد يواجهون قريباً خطر التفكك ذاته الذي سيطاول هذه المرة روسيا نفسها.
قد يبدو هذا الكلام غير منطقي في الوقت الذي تحقق فيه موسكو «انتصارات» في أوكرانيا حيث ضمت القرم في الجنوب وتوشك على التدخل في الشرق بذريعة حماية الأقلية الناطقة بالروسية او لمنع وقوع «حرب أهلية» تواصل الحديث عنها، وأيضاً في سورية حيث نجحت في الحفاظ على نظام بشار الأسد ومدّته بعناصر الصمود العسكرية والاقتصادية وشكلت حاجزاً حال حتى الآن دون تدخل دولي لردعه.
لكنّ روسيا التي تتحدى العالم كله تقريباً بخوضها هاتين المغامرتين اللتين لن تقوى على مواصلة ادارتهما بنجاح لوقت طويل لأسباب متعددة، تنتقل بسرعة نحو «السوفياتية»، ما يعني انها ستواجه قريباً الحصار نفسه الذي واجهه سلفها الأكبر، والمصير نفسه الذي آل اليه المعسكر الاشتراكي السابق، ذلك ان المشكلة ليست في قرار اتخذه بعض قادة الاتحاد السوفياتي السابقين، بل في النظام الشمولي نفسه الذي فشل في التكيف مع متطلبات شعوبه، وخصوصاً في الحرية والديموقراطية، والذي تستعيد القيادة الروسية الحالية بعض خطابه وأساليب عمله.
فأجواء «الحرب الباردة» التي انهكت السوفيات تحيط مجدداً بروسيا حيث تتنامى النزعة القومية التي يشجعها بوتين بعدما وصف ضم القرم بأنه «استعادة» لحق تاريخي. وفي المقابل عاد خبراء الشؤون الروسية الى الضوء في مقر الحلف الاطلسي في بروكسيل حيث رفعت خرائط شرق أوروبا، ودعا الامين العام للحلف اندرس فوغ راسموسن موسكو الى التوقف عن «محاولة العودة بالزمن الى الوراء».
وثمة من يقول إن موسكو تدخلت في أوكرانيا عملاً بمفهوم «الحرب الباردة»، بعدما فوجئت بخسارة الورقة الإيرانية التي استخدمتها خلال العقد الماضي، نتيجة بدء المفاوضات بين الغرب وطهران، فسعت الى تعويضها. ويعني ذلك أنها قد تقدم على مغامرات جديدة، مثلما توحي بذلك تحركات في منطقة ترانسنيستريا المولدافية الموالية لروسيا والقريبة من الحدود مع أوكرانيا.
لكن نتائج عودة «الحرب الباردة» التي يتنصل الجميع من المسؤولية عن إحيائها، لن تكون حتماً في مصلحة موسكو، فقد بدأت اوروبا التي تستمد أكثر من ثلث حاجتها من الغاز من روسيا البحث عن بدائل لن تتأخر كثيراً، واتخذ الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة إجراءات عقابية قد لا تكون مؤلمة كثيراً حتى الآن لكنها قابلة للتوسع تدريجاً وقد توقع روسيا في عزلة شبه كاملة اذا واصلت زعزعة الاستقرار في شرق أوروبا.
إن مصائر الدول لا تقاس بالأشهر ولا السنوات، فمعركة إسقاط العملاق السوفياتي السابق استغرقت 70 عاماً استخدم الغرب خلالها كل آلته الاعلامية والاقتصادية والاستخباراتية والتقنية، وانتهت بإعلان إفلاس قائد المعسكر الاشتراكي ثم القبول بتقسيمه دولاً متعددة. اما روسيا الحالية فلا تمتلك امكانات الصمود طويلاً، ذلك ان موازنة الحلف الأطلسي وحده تفوق موازنتها بإثني عشر ضعفاً، فكيف إذا قرر الغرب مجتمعاً ان يعاقبها بقسوة، وهو احتمال وارد جداً.
الحياة
السيد والتّابع… بين البحرين/ زهير قصيباتي
قد يقارن بعضهم بين نعي موسكو أمس الدولة الموحّدة في أوكرانيا، ونعي صدام حسين دولة الكويت ذات السيادة، بعدما غزاها جيشه عام 1990، فسجّل سابقة احتلال دولة عربية لدولة أخرى عربية، وسعيه إلى محوها عن الخريطة. ذاك الاحتلال بات من التاريخ، وشتان بين مغامرات الرئيس العراقي السابق وجموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يقضم أوكرانيا بالتقسيط، بعدما عزف ببراعة على أوتارٍ امبراطورية، مشهّراً بـ «نفاق الغرب».
والحال أن الكرملين يفرض بالقوة والحرب النفسية والضغوط الاقتصادية تفكيك أوكرانيا، عقاباً لها على «تمرّدها» ومحاولتها التخلص من دور الجُرم في الفلك الروسي. ودور موسكو في «تطهير» الحديقة الخلفية التي اخترقها الأميركيون والأوروبيون، لا يطرح احتمالات واقعية لقلق من اندلاع حرب مع الغرب، لذلك يكرر الروس تحذيرات من أن أوكرانيا دخلت نفق الحرب الأهلية. هي إذاً مرحلة جديدة بعدما طُويت مرحلة ضم القرم، وسجل الكرملين نجاحاً في الفصل بين مسألتي ضم شبه الجزيرة، والدعوة إلى نظام فيديرالي في ما تبقى من أوكرانيا لحماية «حقوق» الناطقين بالروسية.
وإذا كانت أزمة تجديد الحرب الباردة بما يوائم طموحات بوتين، الذي يظن أنه اقتنص اللحظة الحاسمة للثأر من «إذلال» غربي للروس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قد كرّست حشر أوروبا وأميركا في عجز مجلس الأمن، وإظهار الحلف الأطلسي واهناً مكتفياً بدور المراقب، فالأزمة ذاتها أتاحت لحليف الروس النظام السوري اقتناص الفرصة لتنشيط حرب إبادة. معها ايضاً يتفرّج الغرب ويندّد.
ومن البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط، مشروع حرب أهلية بعد انتفاضة الكرملين لحماية حقوق روس، وحرب إبادة لسحق كل من يطالب بحقوق في سورية. والسؤال هو: هل يثير بوتين مجدداً ارتياب النظام في دمشق بصفقة خطوطها بين البحرين، فيما استعراض كل الحلفاء «إنجازاتهم» في سورية وحربها يستفزّه؟
بين البحرين الأسود والأبيض، «حرب باردة» ساخنة تفكك أوكرانيا، وحرب إبادة طاحنة حصدت «ربع مليون شهيد» وفق تقدير أحد رموز النظام السوري، والذي تجاوز تقديرات الأمم المتحدة والمعارضين المسلحين في جبهات القتال.
لا وجه للمقارنة عملياً بين ظروف الأزمة الأوكرانية، وتحوّلات الثورة السورية، باستثناء ما يعتبره الكرملين نجدة لحلفائه في مواجهة «النفاق» الغربي، والتعطّش الأصولي للدم في الشرق. وهكذا تصبح الإبادة بالبراميل المتفجّرة ضريبة حتمية للخلاص من «كتائب التكفيريين والإرهابيين».
لكن جديد الحرب في سورية هو تسريع النظام اندفاعه عسكرياً لاستعادة مدن كبرى بعد سقوط القلمون، في مسعى للرد أولاً على «استفزازات» الحلفاء:
– الروس الذين شكّكوا ضمناً في شرعية أي انتخابات رئاسة ستضمن عملياً بقاء الرئيس بشار الأسد، لكنها «لن تكون شاملة».
– الإيرانيون و «حزب الله» الذين حرصوا على تظهير عدسة دورهم في «صمود» النظام السوري، أكثر من ثلاث سنوات، تارة دفاعاً عن المراقد وأخرى لصدّ أفواج التكفيريين، وثالثة حمايةً لحدود لبنان.
والنظام الذي لم يعد بإمكانه الاطمئنان إلى حسابات الحلفاء، وقد أظهروه عاجزاً عن حماية نفسه، لا بد أن تنتابه عوارض الخوف من طعنة خفية… فعدوى الفيديرالية إذا فرضتها روسيا على ضفاف البحر الأسود، واستنسخها الغرب على ضفاف المتوسط، لا بد أن تصبّ في قناة تفكيك سورية، وقبول ضمان موسكو الحماية لكيان علوي ذي منفذ على البحر.
وقد يكون من عوارض الرد على احتمالات الطعنة، هروب النظام السوري إلى أمام، بافتعال إشكالات مع دولٍ في الجوار، لذلك بدا للوهلة الأولى أمس أنه اخترق الحدود الأردنية، ليعيد خلط الأوراق، ويفرض حقائق جديدة على حلفائه، أقلها قدرته على توريطهم بهز «ثوابت» الحرب. لكنَّ التأكيد الأردني لضلوع مهربي سلاح استخدموا آليات، لا يحتمل اللُّبس. وعمان حرصت مرات على إعلان نأيها عن أتون الصراع في البلد المنكوب، واحتواء حوادث اختراقٍ من نوع آخر (تهريب متفجرات وسلاح من سورية إلى الأردن).
بين أوكرانيا وسورية، «الأخ الأكبر» هو دور لبوتين الطامح إلى نظام عالمي مختلف، يكون فيه سيّداً لا تابعاً للغرب ولقواعد الأمن الأطلسية، وشراكات مبهرة.
أما الطريق إلى «العالم الجديد» فمسألة أخرى، أبعد بكثير من أنابيب الغاز وشبكات الطاقة… أكلافها ما زالت مجهولة، كأثمان «التمرد» على «الأخ الأكبر» و «رعايته».
الحياة
أوجه الشبه بين الأزمتين السورية والأوكرانية تبرز الازدواجية الروسية والتغاضي الأميركي/ روزانا بومنصف
في حوار مع المواطنين الروس يوم الخميس في 17 نيسان الجاري ندّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ” جرائم يرتكبها من استولوا على السلطة في كييف آخرها، كما قال، استخدام الدبابات والطائرات الحربية ضد المدنيين العزل”. واضاف ان من استولوا على السلطة في كييف يسيرون الى الهاوية ويجرون اوكرانيا الى الهاوية “علماً ان السلطات في كييف كانت تحاول ان تردع الحركة الانفصالية التي كان يحاول ان يقوم بها مواطنون موالون لروسيا في شرق اوكرانيا. ولعل كثراً كانوا يرغبون لو سمعوا هذا الكلام من بوتين لدى انطلاق الثورة في سوريا علماً انها لم تبدأ مسلحة ولاشهر طويلة، لكن موقف الرئيس الروسي ازاء اوكرانيا يشي أقله في الظاهر بمعايير مزدوجة فاضحة مقارنة مع تجاهل ما يستمر في القيام به النظام في سوريا من قصف للمدن والشعب السوري.
وأوجه الشبه بدت متزايدة في الأيام الأخيرة بين أوكرانيا وسوريا بحيث لم تعد تقتصر على واقع وجود روسيا كطرف في الازمتين حيث تحمي النظام في سوريا في مجلس الامن وتمده بمقومات البقاء بالاعتدة والسلاح فيما عمدت الى ضمّ شبه جزيرة القرم رداً على اطاحة الاوكرانيين الرئيس الاوكراني الموالي لروسيا وبدت مشجعة لحركات انفصالية للضغط في اتجاه قبول مقترحها بفدرلة اوكرانيا تحت طائل التسبب او الدفع في اتجاه حرب اهلية يسهل وقوعها في ظل المعطيات القائمة فحسب. بل ان اوجه الشبه تثبتت من خلال اعلان وزير الدفاع الاميركي شاك هاغل ارسال مساعدات عسكرية غير السلاح الى الجيش الاوكراني على نحو يعيد الى الاذهان المساعدات التي بدأت الولايات المتحدة ارسالها الى المعارضة السورية في ظلّ معارضة من الكونغرس من أجل ارسال مساعدات أكثر فاعلية كما الحال بالنسبة الى ردّ فعل مماثل أبداه شيوخ في الكونغرس الاميركي لجهة الدفع في اتجاه دعم اكبر للسلطات الاوكرانية في وجه المحاولات الروسية. كما ان وجهاً آخر تمثل في الاجتماع الذي عقد الخميس في جنيف من أجل محاولة تهدئة التوتر في اوكرانيا بين وزيري الخارجية الروسي والاميركي الى جانب الاتحاد الاوروبي ووزير خارجية اوكرانيا علماً ان مؤتمر جنيف 2 الأخير حول سوريا ضمّ مجموعة أكبر من الدول وأدى الى الفشل لعدم ممارسة روسيا الضغط الكافي على النظام من أجل التجاوب مع انشاء مرحلة انتقالية. وليس واضحاً اذا كان الرئيس الاميركي باراك اوباما أخذ درساً من السلبية الروسية او من الازدواجية الروسية في موضوع سوريا على صعيد المواقف المعلنة والأخرى المبطنة حين شكك بعد اجتماع جنيف حول ازمة اوكرانيا بما اعتبر اختراقاً لحل الازمة. اذ أبدى حذره ازاء التطبيق المحتمل بعدما حمل روسيا مسؤولية دعمها المتمردين الانفصاليين معرباً عن أمله في ان يرى تطبيقاً على الارض “لكن لا اعتقد نظراً الى التجارب السابقة”. وهو ما اثار تساؤلات ومخاوف عن هشاشة اتفاق جنيف الذي ذكر بدوره بهشاشة التوافق في بيان جنيف 1 حول سوريا في حزيران 2012 .
ما يبدو مختلفاً بين ازمة اوكرانيا وحرب سوريا أقله من الجانب المتعلق بالدور الروسي نظراً الى وجود اختلافات متعددة لا مجال للدخول فيها هي في سعي موسكو الى تعطيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في اوكرانيا في 25 أيار المقبل في مقابل سعيها الى دعم حصول الانتخابات في سوريا من أجل تأمين استمرارية الرئيس بشار الاسد في السلطة حتى اشعار آخر. وثمة جانب شبه أيضاً في هشاشة اتفاق جنيف حول اوكرانيا الذي يمكن ان يخضع لتفسيرات مختلفة من جانب كل طرف كما حصل بالنسبة الى بيان جنيف 1 حول سوريا ما اعطى مجالاً للانفصاليين في شرق اوكرانيا للقول انهم ليسوا معنيين بالاتفاق علماً ان رد الفعل الاولي على ما حصل في جنيف ان الاتفاق الذي فاجأ المهتمين بالازمة الاوكرانية يعتبرون ان روسيا قد تكون حاولت ان تتجنب المزيد من العقوبات الغربية من جانب الولايات المتحدة واوروبا والتي تستهدف اقتصادها الهش، الا ان المخاطر التي تتهدّد اوكرانيا من جانب روسيا لم تنته خصوصاً في ضوء المواقف الأخيرة لبوتين والمهددة باستعادة اجزاء ومناطق عدة من اوكرانيا.
لكن ثمة من يتطلع الى الاتفاق في جنيف من زاوية اذا كانت روسيا ستكون مستعدة لالتزام الاتفاق وافساح المجال أمام السلطات الاوكرانية من اجل تنفيس الاحتقانات والذهاب الى الانتخابات المقبلة فيها من دون عرقلتها او الضغط من أجل الفدرلة التي لم ترفضها السلطات الانتقالية الاوكرانية كلياً، وتحديداً ما اذا كانت المواقف الاميركية والاوروبية التي هددت مجددا بتوسيع هامش العقوبات قد ساهمت في اقناع روسيا بالتعاون في الدرجة الاولى. ذلك انه بناء على المعطيات الآنفة يمكن التطلع الى اعادة رأب الصدع مع روسيا أولاً ومن ثم التطلع الى التفاهم لاحقاً وبالتوازي على ملفات أخرى نظراً الى الانعكاسات المحتملة لماهية ما يحصل على صعيد الازمة الاوكرانية على الحرب في سوريا ومآل او افق الاتفاق حولها. لكن ذلك لن يكون متاحا للاستثمار او التوظيف في حال تبين ذلك ممكناً قبل موعد الانتخابات في سوريا في حال كان هناك من يأمل او يتطلع الى انعكاسات سريعة .
النهار
“روسيا الجديدة”/ محمد ابرهيم
في رده على أسئلة الجمهور استعمل الرئيس الروسي تعبيرين جديدين: الأول هو “روسيا الجديدة”، لوصف المناطق الجنوبية والشرقية من أوكرانيا، والثاني هو أنه لا يعرف السبب الذي كان وراء ضم هذه المناطق إلى أوكرانيا عام 1920. وميّز بوتين في إجاباته بين شبه جزيرة القرم و”روسيا الجديدة”، معتبرا أن انتماء الأولى لروسيا محسوم بينما الثانية إشكالية من ناحية أنها خليط متساو تقريبا من الأوكرانيين والروس. وذلك في إشارة إلى أن مستقبل “روسيا الجديدة” يعتمد في جزء كبير منه على سلوك كييف وداعميها.
لم يتردد الرئيس الروسي، الفخور بجذوره الاستخبارية في العهد السوفياتي، في الاستناد إلى الفتوحات الإمبراطورية الروسية باعتبارها أساسا لشرعية مطالبته بالمناطق الأوكرانية المتنازع عليها، لكنه في المقابلة نفسها عاد إلى تبرير سلوكه الهجومي بنزعة الحلف الأطلسي إلى التوسع شرقا، معتبرا أن المسار الذي كانت ترسمه الولايات المتحدة لأوكرانيا كان سيوصل الحلف الأطلسي إلى ميناء سيفاستوبول، قاعدة الأسطول الروسي في البحر الأسود.
هذا المزيج من الهجوم والدفاع يزيد في حيرة القيادة الأميركية للأزمة الأوكرانية، بين اعتبار أن المخطط الروسي للتدخل العسكري مقرر سلفا، وما يجري هو تطبيقه على مراحل بعد تأمين المناخ الملائم لكل خطوة، أو اعتبار أن روسيا ترسم خطواتها تجريبيا بناء على ضعف ردود الفعل الأميركية- الأوروبية على خطواتها. وفي هذا الإطار تأتي المفاجأة الغربية بهدوء بوتين وثباته في المعركة التي يخوضها في مقابل التردد المعلن داخل الإدارة الأميركية، والتردد داخل التنسيق الأميركي-الأوروبي لبناء جبهة مواجهة لـ”التوسع الروسي”.
وهذا التفاوت في طريقة خوض الطرفين للمعركة يعود في جزء كبير منه إلى انكشاف كل الخطوات الغربية الممكنة ضد روسيا، والتي يمكن حسابها سلفا. وهي في حدّها الأقصى إقتصادية، ومحدودة ضمن هذا المجال أيضا بالمصالح الأوروبية. ويعود ايضا إلى غموض الخطوات الروسية التي تستند إلى مزيج من الضغوط الإقتصادية والعسكرية المفتوحة. لكن في إجابات بوتين نفسها ما يشير إلى المبالغات في التقديرات الغربية، غير الرسمية، لنيات الرئيس الروسي، والتي وصلت إلى حد تشبيهها بالسلوك النازي تجاه تشيكوسلوفاكيا عشية الحرب العالمية الثانية. فقد أقام بوتين موازنة بين تدخل أميركا في الشرق الأوسط وتدخله في أوكرانيا، وقدم عرضا واضحا يقوم على تحييد أوكرانيا “أطلسيا” ووضع تركيبتها الداخلية، عمليا تحت وصاية مشتركة. ما يعني أن بوتين ما زال يعتبر أن روسيا تتعرض لهجوم وأن “الدفاع” عن “المحيط القريب” لروسيا ليس أكثر من رفع للحاجز القومي في وجه التسلل الليبرالي.
النهار
واشنطن تدخل مرحلة ما بعد بعد الحرب الباردة/ حسن منيمنة
لا تتوقع الأوساط السياسية في العاصمة الأميركية أن تنفضّ الأزمة التي ابتدأت في أوكرانيا في القريب العاجل، بل تنظر بقلق متعاظم إلى تدافع في التطورات تجاوز لتوّه سياق الأزمة القابلة للمعالجة الفورية، ليقحم العالم في واقع جديد يختلف اختلافاً موضوعياً عن الأساس الذي انبنت عليه السياسة الخارجية الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة. فالمسألة اليوم لم تعد العودة إلى ما كان، فهو ليس واقعياً، بل السعي إلى ضبط التطورات بما لا يفاقم خطورة المرحلة الجديدة.
وإذا كانت الحرب الباردة قد انتظمت على أساس تعارض جوهري في المصالح بين الطرفين الرأسمالي والاشتراكي، يمنعه من الانزلاق نحو المواجهة المباشرة إدراك كل من الجانبين أن ثمن هذه المواجهة باهظ جداً، بل يصل إلى الدمار المتبادل المؤكد، فإن مرحلة ما بعد الحرب الباردة كانت قائمة على اطمئنان لدى الجانب الغربي الى أنه تحققت لروسيا قناعة بأن علاقاتها بالغرب، الاقتصادية كما السياسية، أكثر قيمة وأهم من أية رغبة لديها في استعادة ما فقدته من نفوذ أو أراضٍ كانت خاضعة لسلطة الاتحاد السوفياتي. وانطلاقاً من هذا الاطمئنان، جرت «مكافأة» روسيا، وتبدل تصنيفها من الخصم إلى الشريك في المنظومة الاقتصادية العالمية، وجرى غضّ النظر عمّا كان يصدر في موسكو بين الحين والآخر من مواقف خطابية عدائية الطابع، على أساس أنها حاجة سياسية شعبوية لن تتجاوز الإطار الكلامي.
والرؤية البعيدة المدى من واشنطن للترتيب السياسي والاقتصادي والأمني في القارة الأوروبية هو السعي إلى تحقيق مقومات ثلاثة. فالمطلوب أوروبا حرة، أوروبا موحدة، أوروبا في سلام. والحرية، وفق هذه الرؤية هي في آن واحد حرية المواطن من استبداد الحكومات، وحرية الدول من طغيان القوى الخارجية، أما الوحدة، فليست حصراً في إطار الاتحاد الأوروبي، بل كذلك على أساس هيكليات تكاملية لا تستثني الــــدول الـــخارجة عن الاتحاد، بما في ذلك روسيــا. والســــلام، وفق هذه الرؤية يصبح النتيجة الطبيعية للحرية والوحدة والحاضنة الضامنة لهما.
وفي حين أن روسيا، اقتصادياً على الأقل، بدت سائرة باتجاه الانخراط في هذه الرؤية، فإن ثمة عوارض مثيرة للتساؤل استمرت في الظهور، أهمها طبعاً جنوح موسكو للعودة إلى السلطوية داخلياً، وللاقتصار في أكثر من ملف حول التمثيل السياسي السليم وحقوق الإنسان على الشكليات والإجراءات الاسمية، ومنها أيضاً الدعم الروسي المستمر، بل الحماية الروسية للحكم في بيلاروس، آخر نظام استبدادي في أوروبا. وكذلك طرح موسكو مقولة الاتحاد الأوراسي (الأوروبي – الآسيوي) كبديل لاستقطاب بعض الدول الطامحة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك في صيغة تكاد أن تعيد ابتكار الاتحاد السوفياتي بعينه. ومنها كذلك منع الحكومة الروسية المنظمات الدولية غير الحكومية من النشاط داخل أراضيها أو التواصل الفعّال مع نظيراتها الروسية.
إلا أن قلة قليلة من متابعي الشأن الروسي رأت في هذه العوارض إرهاصات لعودة إلى منطق مواجهة، بل كان الرأي السائد أنها مجرد مخلفات من العهد السابق في طريقها إلى التبدد، وإن بمقدار من التذبذب. وفيما لم تخفِ الأوساط المقربة من الرئيس أوباما حقيقة أن العلاقة الشخصية بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير پوتين يعتريها الفتور، فإن الحكومة الأميركية بدت مصرّة على قراءة متفائلة للمعطيات الواردة من روسيا، بل في أكثر من ملف، لا سيما إيران وسورية والإرهاب، حيث جرى التعامل مع المواقف الروسية على أنها خصومة بناءة، على اعتبار أنها تتعارض مرحلياً مع السياسات الأميركية، ولكنها تلتقي معها في الخواتم المرجوة.
ويبدو أن القراءات المتفائلة وطدت رغبة في إنكار الوقائع، أو حتى الاعتذار للتجاوزات لدى بعضهم. ففي حين كانت المواقف الرسمية الأميركية تشجب التهديدات الضمنية الصادرة من موسكو بعد إطاحة الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، ففي واشنطن من كان «يتفهم» عرض العضلات الذي يقدم عليه بوتين، لحفظ ماء الوجه بعد خسارته أوكرانيا، أحد أهم مداميك رؤيته الأوراسية التي يقيم عليها «قيصريته». إلا أن حدود هذا التفهم، بل اليقظة من سبات إنكار تبدل الوقائع، جاء مع أحداث القرم والجسارة الروسية في ضمّها.
فإذا كان ثمة ما يعنيه هذا الضم فهو أن الاطمئنان الأساس لارتداع القوة الروسية انطلاقاً من تغليب أهمية العلاقة مع الغرب قد سقط، وسقطت معه الهيكلية الكاملة للتصور الأميركي للأمن والاستقرار في أوروبا. فالعالم، من وجهة نظر أميركية دخل مرحلة جديدة انتهت معها المسلمات المعتبرة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
والموضوع هنا ليس العودة إلى توازن رعب. فروسيا، وإن كانت في موقع التلويح بقبضتها في جوارها القريب، لا قدرة لديها على الإطلاق لموازنة القوة الأميركية. إلا أن هذه القوة، انطلاقاً من اعتبارات المرحلة الماضية، انكفأت طوعاً عن التموقع الكفيل بحماية هذا الجوار. فالولايات المتحدة تجد نفسها اليوم ملزمة بإعادة تكوين صيغة جديدة لطمأنة الحلفاء وضبط الخصوم. وواقع الحال اليوم أن هذه الصيغة غير متوافرة، ولا بد من البحث عن أكثر أشكالها نفعاً، مع ما يستغرق ذلك من الجهد والتكلفة، بالإضافة إلى الوقت الذي يتوقع أن تستغله روسيا للإمعان في تحسين مواقعها على الأرض، قبل أن تقوم الهيكلية الرادعة.
ليست هذه أخباراً سارة لحكومة أميركية كانت تجهد لأن تنسحب من دور شرطي العالم. غير أن المقاربة المتاحة لا تقتصر على الجانب الأمني. فروسيا التي كانت قد كوفئت لإيجابيتها، تعاقب اليوم لسلبيتها، وقد تمّ بالفعل إخراجها من مجموعة الدول الثماني مع إلغاء اللقاء الذي كان مزمعاً عقده في بلدة سوتشي الأولمبية الروسية. وفيما لا تجوز المبالغة التهويلية بحجم الأخطار المحتملة، فإن أوساط صياغة القرار في واشنطن منشغلة لتوّها بما لم يكن في الحسبان قبل أشهر قليلة: رؤية جديدة لمرحلة ما بعد بعد الحرب الباردة.
الحياة
مصالح روسيّة جيوستراتيجيّة في أوكرانيا/ خيري حمدان
“أينما توجّهت أوكرانيا، سنلتقي في مكان ما”… فلاديمير بوتين
يَعتبرُ الروسُ كييف، عاصمة أوكرانيا، “أمَّ المدن الروسية”، ومركزاً للحضارة الأرثوذكسية الشرقية. وأوكرانيا تعدُّ كذلك الدولة الثانية، بعد روسيا، من حيث الأهميّة الاستراتيجيّة للاتحاد السوفياتي الغابر. وهناك جذور حضارية وتاريخية واقتصادية وثقافية وعرقية ودينية عميقة، تربط روسيا بأوكرانيا ذات الـ46 مليون مواطن.
وعلى الرغم من تمكّن أوكرانيا من تحديد هويتها الوطنية، في القرن التاسع عشر، إلا أن الطابع الديموغرافي بقي، بشكلٍ أساسيّ، خليطاً من الشعبين الروسي والأوكراني، وتمكّنت أوكرانيا، ضمن الاتحاد السوفياتي، من تبوّء المرتبة الثانية، من حيث الإنتاج والصناعة، بعد روسيا. لذا، فإنّ الحضور الروسيّ ممتدّ ومتجذّر في العمق الأوكراني، ويبدو الطلاق بين البلدين مستحيلاً، وهناك ضرورة قصوى لحلّ مشكلات عديدة عالقة، ليس فقط على صعيد الحوار السياسي المشترك بين البلدين، ولكن، على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي كذلك.
لا يمكن تجاهل الأثر الجيوسياسي للحقبة الاشتراكية في هذا الملف، حيث ضم الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، ذو الأصول الأوكرانية، شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا في العام 1954، وأُسستْ قاعدةٌ عسكرية بحرية على ميناء سيفاستوبول، المطلّ على البحر الأسود. وعلى الرغم من جدلٍ قانونيٍّ بشأن ضمّ القرم إلى أوكرانيا، إلا أنّ كييف وافقت على أن يتمتع هذا الإقليم بحكم ذاتي في تسعينيات القرن الماضي، أخذاً بالاعتبار أن الإمبراطورة إكاترينا العظمى أعلنت القرم حزءاً لا يتجزّأ من روسيا وإلى الأبد، في العام 1783، لكنّ العقيدة الشيوعية ألغت، في أوج سلطتها، الفروق الشعبية والقومية بين دول الاتحاد، ما سمح بالتغاضي عن وضعية القرم، باعتبار كامل أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي الأم.
قاعدة سيفاستوبول العسكرية
تتمتع شبه جزيرة القرم بحكم ذاتي، خلافاً لمدينة سيفاستوبول، الخاضعة للإدارة الروسية مباشرة، وتمكّن الكرملين، في العام 2010، وبعد محادثات مضنية، من تمديد اتفاقية سيطرة موسكو على القاعدة حتى العام 2042، ما اعتبر انتصاراً كبيراً لروسيا، الأمر الذي حثّ المعارضة الأوكرانية على انتقاد هذه المعاهدة، ورفضها، واعتبارها مجحفة، وتمسّ بسيادة أوكرانيا. وعمل الغرب وحلف الناتو على تحريض المعارضة ضدّ السلطة الحاكمة في كييف، واعتبر خبراء عديدون الاتفاقية أحد العوامل الأساسيّة التي أدّت إلى اشتعال الثورة ضدّ الرئيس فكتور يانوكوفيتش، ما أدّى، في نهاية المطاف، إلى سقوطه وهربه إلى موسكو. عدا عن أن دول حلف الناتو شجّعت تركيا، ودعمت في العقد الأخير، مالياً وسياسياً، توجّهات حصول الأقليّة التتريّة على الحكم الذاتي. وإذا كان الصراع الحالي في أوكرانيا بين الأوكرانيين والروس، فإن الصراع في الحقب الماضية كان بين هاتين الفئتين من جهة، والتتر المسلمين السنّة، من جهة أخرى، وهم الأقليّة التي طُردت وهُجّرت في حقبة حكم الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، وقضى قرابة 100 ألف مسلم تتري من 1948 إلى 1954، لمشاركتهم في الحرب العالمية الثانية ضدّ جيوش ستالين.
استمر الصراع بين البلدين الجارين، كذلك بشأن السيادة على المياه الإقليمية، فيما اللقاء الذي جمع يانوكوفتيش وبوتين عام 2012 مكّن الأخير من توقيع اتفاقية تسمح لروسيا بالسيطرة على الخطّ البحري لمرور قواتها عبر مياه بحر آزوف المتفرّع من البحر الأسود. وقرأ “الناتو”، بدوره، الانتصار الجديد لروسيا مدركاً الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا الإقليم. ولن تسمح روسيا، بغضّ النظر عن ردود الفعل الأوروبية وحلف الناتو، بخفض حجم نفوذها في المناطق المطلة على البحر الأسود، لأنّها ضرورية لتنفيذ مشاريعها، المتعلقة بقطاع الطاقة ونقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، عدا عن أهميّتها العسكريّة.
أوكرانيا ومشاريع الطاقة الروسية
تعتمدُ أوكرانيا، بشكل رئيسيّ، على الغاز الطبيعي الروسي في اقتصادها، وتشغيل العجلة الصناعيّة، وتنقل كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، لكنّ أوكرانيا التي تعاني من مشكلات اقتصادية عديدة ومن العجز المالي، لم تتمكن من دفع استحقاقات شركة “غازبروم” المالية، وتدين حالياً بنحو مليار ونصف مليار دولار عن العام 2013 مستحقات للشركة الروسية. واضطرت روسيا إلى خفض كميات الغاز المصدّرة عبر أوكرانيا إلى أوروبا في السنوات القليلة الماضية، لتحصيل ديونها، ما أدّى إلى اندلاع أزمة طاقة في معظم دول الاتحاد الأوروبي.
وقدّمت أوكرانيا لروسيا أسلحة تقليدية ونووية من مخلّفات الحقبة السوفياتية، لتسديد جزء من هذه الديون. وحاولت روسيا، كذلك، شراء أصول شركات الطاقة الأوكرانية، لتعويض الديون المتراكمة، كما الحال مع دول اشتراكية عديدة سابقة، منها بلغاريا، ما يعني حرمان هذه الدول من سيادتها الوطنية على أهمّ القطاعات الحيويّة ـ قطاع الطاقة، إلا أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل حتّى اللحظة.
حاولت رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشنكو، في العام 2009، إيجادَ حلّ إيجابيّ لأزمة الطاقة، واتّفقت مع المنظومة الأوروبية لتمويل مشروع تنمية وتطوير شبكة الطاقة ونقل الغاز الأوكراني، بكلفة 2.5 مليار يورو، وإنجاز المشروع حتى العام 2016، بتمويل من بنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية والتطوير الأوروبي والبنك الدولي. لكنّ روسيا، الراغبة بإقصاء أيّ تدخل أوروبي خارجي قد يؤثر على احتكارها المطلق لنقل الغاز إلى أقصى أنحاء أوروبا، لعبت دوراً رئيسياً في قلب الطاولة على السيدة تيموشنكو، والتي أودعت السجن سبع سنوات بقرار من المحكمة، وفشل الاتحاد الأوروبي الذي تدخّل، بكلّ ثقله السياسي الممكن، في الشفاعة لها، وإخراجها من السجن، وتلقّي العلاج في ألمانيا.
استمرّ الضغط الروسي على الحكومة الأوكرانية، وخضع الرئيس يانوكوفيتش، في نهاية المطاف، لهذه الضغوط، بدءاً برفض المصادقة على اتفاقية التعاون التجاري والسياسي مع الاتحاد الأوروبي، مفضّلاً التوجه إلى موسكو، وطلب المساعدة من بوتين الذي أغرقه بالهدايا، ووعده بتقديم الدعم المالي، وخفض أسعار الغاز الطبيعيّ المصدّر لأوكرانيا، ما أدّى إلى ارتفاع معدّلات السخط والتمرّد لدى المعارضة الأوكرانية، ذات التوجهات الأوروبية، واتهام يانوكوفيتش بالتفريط بالمصالح الوطنية لأوكرانيا. وأدت هذه العوامل مجتمعة، إلى اندلاع الثورة في كييف، سقط في غضونها عشرات القتلى، وأجبر الرئيس يانوكوفيتش على الهرب إلى موسكو. وبهذا، لم تنته مشكلات أوكرانيا، بل يمكن القول إنّها بدأت على أرض الواقع، فالخزينة شبه فارغة، والديون المتراكمة هائلة للغاية، وهناك حاجّة ملّحة للحصول على 4 مليارات يورو، على الأقل، كي لا تعلن البلاد إفلاسها. وكانت روسيا على أتمّ الاستعداد لتقديم هذه الأموال، بدلاً من المطالبة بديونها، قبل اندلاع الثورة، والتمرّد ضدّ الوجود والنفوذ الروسي. وتدرك روسيا جيّداً أنّ الاتحاد الأورو ـ آسيوي، والذي تترأسه، غير قابل للبقاء من دون أوكرانيا، ولن تلتزم روسيا وحلفاؤها بوثيقة حقوق الإنسان واعتماد آليات الديموقراطية، كما تطالب بذلك أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
وتدرك روسيا أنّ “الناتو” لن يحرّك جيوشه لفرض هذه المبادئ، والدفاع عن أوكرانيا والوقوف في وجه الآلة العسكرية الروسية. وكان الغرب و”الناتو” قد صعّدا، إلى وقت قريب، مظاهر الحرب الباردة، وهدّدا بفرض العقوبات، لكنّ نفوذ روسيا في أوكرانيا، وسيطرتها على القرم، شأنٌ لا يقبل النقاش، ولا مبرر ولا ضرورة لاندلاع حرب جديدة، لتحديد تبعية شبه جزيرة القرم، لأنّها خاضعة، عملياً، للنفوذ العسكري الروسي، بمباركة غالبية الشعب في هذا الإقليم الذي يزيد تعداد سكانه على مليوني مواطن.
الدور الأوروبي ما بعد الثورة
طموح أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مشروع، ولا يمكن حرمان هذه الدولة من حقّها بتحديد المصير. لكن، هناك عوامل جيوسياسية تفرض جدول أعمالٍ يختلف عن الأهواء الشعبية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من الشعب الأوكراني يرفض الانفصال عن الفلك الروسي، ويرى أنّ مصالح أوكرانيا الاستراتيجية مرتبطة بروسيا، في وقت يعتبر الاتحاد الأوروبي أوكرانيا دولةً مركزية في التحالف الشرقي. لذا، سارع إلى تقديم الدعم المالي، واقترح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، إلمار بروك، تقديم مساعداتٍ ماليةٍ، بقيمة 20 مليار دولار، حال بدء أوكرانيا عمليات الإصلاح المطلوبة، وأضاف كذلك أنّ الاتحاد الأوروبي لن يسمح بإفلاس هذه الدولة.
لم يتأخر الردّ الروسي على الانقلاب الأخير في أوكرانيا كثيراً، وحصل الرئيس فلاديمير بوتين على تفويضٍ من مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي، لاستخدام القوات العسكرية الروسية. وبات بإمكان الرئيس الحديديّ تحريك قواته الموجودة في سيفاستوبول، لفرض السيطرة المطلقة على شبه جزيرة القرم، ولن تقوى أية قوّة أجنبية، بما في ذلك “الناتو”، على الوقوف في وجه هذه القوات، المتمركزة في الإقليم منذ عقود طويلة، وكأنّ مقولة الإمبراطورة إكاترينا، التي اعتبرت القرم جزءاً أبدياً من روسيا، تحققت.
أدرك الملاكم الشهير فيتالي كليتشكو، زعيم الحزب الديموقراطي، المعارض لوقت قريب: “ضربة”، بعد الانقلاب الدموي في كييف، أنّ أوكرانيا، المفلسة من الناحية العملية، ستجد نفسها وحيدة في وجه الدبّ الروسي. لذا، طالب بالتهدئة، وقال إنّ هناك ضرورة ملحّة لمزيد من الاستشارات والمحادثات مع روسيا لحلّ الأزمة بطرق سلمية، ووقف طبول الحرب. وتوجّه لمواطني القرم وشرق البلاد، مؤكّداً عدم وجود أيّة توجّهات للحدّ من حقوقهم الدستورية.
كل السيناريوهات مفتوحة في الملف الأوكراني. لكن، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، تتمثّل بحضور روسيٍ قويّ في شمال أوكرانيا، بل ويبدو منطقياً، إذ يحصل على دعمٍ ملحوظٍ من نحو 10 ملايين مواطن، كما أن هناك حضوراً روسياً في شرق البلاد أيضاً، حيث تتمركز القاعدة الصناعيّة الأساسيّة لأوكرانيا التي تضمن جزءاً كبيراً من إجماليّ الناتج القومي لهذه الدولة. لذا، يتوجب على أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الواقع بحذر، لتفادي الوقوع في أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخها المعاصر.
العربي الجديد