صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش” والازمة في المنطقة

 

 

تقسيم بلاد الشام ينطلق من العراق… أو لا ينطلق/ جورج سمعان
التقسيم ينطلق من العراق إلى الإقليم. من العراق أولاً، أو لا ينطلق. لا من سورية ولا من أي بلد آخر من بلاد الشام. أرض الرافدين هي خط التماس الأول والأكبر والأكثر حرارة، مذهبياً وعرقياً. هي خط النار المشتعل دائماً. ليس من أيام النجف وكربلاء. قبل ذلك منذ الفتح الإسلامي والصراع العربي – الفارسي. بل أبعد من أيام الصراع بين الفرس والبيزنطيين، وبينهم وبين الفراعنة. كانت ولا تزال خط التماس بين إمبراطوريات وحضارات وثقافات. وهو ما طبع أحداثها دائماً بهذا الطابع الدموي الحاد. حقيقة يتذكرها اللبنانيون جيداً عندما كان فريق منهم ينادي بالتقسيم أثناء الحرب الأهلية. كان العراقيون يذكّرونهم بأن التقسيم مستحيل إذا لم يبدأ من العراق أولاً! ولا يكفي بالطبع أن تتوافر له إرادات محلية. لا بد من ظروف إقليمية ودولية مواتية.
أياً تكن التطورات المقبلة ونتائج المنازلة الكبرى التي يُعد لها لمواجهة «داعش» وأخواتها، الظروف تبدلت فعلاً. تغير وجه الإقليم. فشلت النخب التي ورثت الانتداب في حماية هويات الدول الوطنية وصهر مكوناتها في وحدة صلبة. وفشل النظام العربي في حماية أهله من تدخل المتدخلين. صفحة تطوى وأخرى تفتح على أشلاء الضحايا وركام المدن والنواحي المتهاوية، والتطهير والتهجير وأطنان من الأحقاد والثارات… لا مفر من إعادة هيكلة الكيانات القائمة سريعاً قبل أن تتصدع وحداتها نهائياً وتنهار كل الحدود.
ثمة أسئلة كثيرة تعزز الأجوبة عنها موقف المولعين بنظرية «المؤامرة». أولها هذا التوقيت الذي اختارته «داعش» لإعلان حربها على ما تسميه «جيش نوري المالكي». وأنى لها هذه القوة لتلحق هزيمة بجيش نظامي جرار؟ ولماذا لم تندلع الشرارة طوال سنتين من تظلم المحافظات السنّية وتعرضها لهجمات؟ انطلقت الشرارة غداة إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد بدعم واضح من إيران وفي مواجهة رفض غربي وعربي واسع. انطلقت مع بدء الحديث عن سعي زعيم «دولة القانون» إلى ولاية ثالثة، وبدعم من إيران أيضاً في مواجهة رفض معظم القوى السياسية المعنية بالشأن العراقي في الداخل والخارج. انطلقت مع نشوء التعــــقيدات في المحادثات الخاصة بالملف النووي بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى. ويمـــكن بعض اللبنانيين أن يزعــــم أيـــضاً أنها انطلقت مع الفشل في اختيار رئيس جديد للجمهورية قريب من «محور المقاومة». والسبب أن كبير مرشحيهم، حليف «حزب الله»، عجز حتى الآن عن تسويق نفسه رافعاً شعار «أنا أو لا أحد»!
ببساطة، يوحي التوقيت للمولعين بنظرية المؤامرة بأن لطهران يداً. والرسالة واضحة: يستحيل أن تتخلى طهران عن حليفيها في دمشق وبغداد… وبيروت أيضاً التي نجحت أجهزتها الأمنية حتى الآن في مطاردة مجموعات «داعشية»… باستثناء أحدهم أفلت و «جاء عكس السير» على ما نسب إلى وزير الداخلية! «انتظروه من الشرق فأتاهم من الغرب»، وطار موسم السياحة وفرغت الفنادق! تريد طهران تسوية لملفها النووي لا تتسبب بمزيد من الصراع الداخلي بين أجنحة السلطة، ولا تطوي صفحة برنامجها النووي. وتريد فوق هذا وذاك ألا تنازعها قوة وتجرها إلى البحث في مستقبل كثير من مواقع بنتها في السنوات الماضية في طول المنطقة، من بغداد إلى المتوسط. تريد باختصار الحصول على الكعكة كاملة من دون شركاء. سواء كانوا أميركيين أو عرباً قريبين أو بعيدين! وسواء أدى ذلك إلى انهيار دولتين عربيتين أساسيتين في حفظ التوازن والاستقرار للنظام العربي، ووقوف بلد آخر على شفير الهاوية.
ثمة أسئلة مقابلة لا تعوزها أصواتاً تتهم خصوم طهران باختيار الوقت المناسب لتفجير قنبلة «داعش» التي لا جدال في أنها تشكل تهديداً لمصالح الجمهورية الإسلامية وحلفائها في العراق وسورية ولبنان. لم تعد سورية ساحة استنزاف وحيدة لإيران. بات عليها أن ترد على تحدٍّ خطير لنفوذها في بلاد الشام كلها. لن يكون تناول الكعكة سهلاً. لن تكون الإقامة على هذه المساحة الواسعة من العالم العربي مريحة. ستقتصر الإقامة ربما على مناطق سيطرة حلفائها.
أياً تكن الأجوبة عن هذه الأسئلة، الحقيقة التي لا خلاف عليها هو أن تحرك «داعش» ومن معها وناصرها أعاد خلط الأوراق. وخلق معطيات جديدة على الأرض. وهكذا وجد الأميركيون أنفسهم أمام وضع لا يحسدون عليه. ويخشى أن يكرروا أخطاء الماضي القريب بتخاذلهم حيال الأزمة السورية. وكانوا أخطأوا في غزو العراق. ولم ينصتوا لصوت عقلاء أوروبا. واخطأوا في الانسحاب منه سريعاً بعدما كانوا سارعوا إلى تسريح جيشه. هذا التسريح الذي أفادت منه قوتان إقليميتان رئيسيتان هما إسرائيل وإيران: شُطِب العراق من معادلة الصراع مع الدولة العبرية. وأُزيحت القوة التي وقفت في وجه الجمهورية الإسلامية طوال عقد، في حرب الخليج الأولى. ولا ترغب هاتان القوتان بالتأكيد في رؤية مؤسسة عسكرية قادرة في العراق مجدداً. ومثلهما الكرد الذين يقلقهم قيام جيش جيد التسليح والــــتدريب، وذاكــــرتهم مليئة بمآسي الماضي البعيد والقريب في صراعهم مع الحكومات المركزية في بغداد. لــــذلك، لم يتأخروا أبداً في تعزيز إقليمهم بالانتـــشار في كركـــوك ومناطق أخرى متنازع عليها. ناشدوا الولايات المتحدة سابقاً ألا تمد «جيش المالكي» بطائرات متطورة. وانتظروا عشر سنوات لتسوية الخلاف على هذه المناطق، مع علمهم أن لا زعيم في بغداد يمكنه التنازل عنها. يريحهم ضعف المركز. يريحهم الصراع المقيم بين الشريكين العربيين الآخرين.
لا يمكن إدارة أوباما التي تواجه خطر «القاعدة»، مثلها مثل إيران عاجلاً أم آجلاً، سوى التفاهم معها على وجوب إجراء إصلاحات جوهرية في كل من العراق وسورية يشعر معها السنّة، وهم الأكثرية في البلدين، بأنهم شركاء حقيقيون في القرار وإدارة شؤون بلديهما. من دون ذلك لا يصح أن ترتكب واشنطن خطأ مميتاً بدعم الجيش العراقي ما لم تضمن تنحي المالكي أولاً، وهو ما ستعتبره طهران ضربة قاسية. ولا يكفي خروج الرئيس أوباما طالباً من الكونغرس الموافقة على تخصيص نصف بليون دولار للمعارضة المعتدلة في سورية، تسليحاً وتدريباً، فيما يصم أذنيه عن أصوات سنّة العراق. كأنه يوحي بنوع من التوازن: يعطي هنا ويتجاهل هناك. بات الربط بين الساحتين محكماً لا فكاك منه سياسياً وعسكرياً. لذلك، لا بد لأي مبادرة أميركية من أن تتناول أزمتي البلدين كأنهما واحدة. وإلا ترسخ الانطباع بأن الاستراتيجية الإيرانية هي الغالبة والمنتصرة دائماً، وأن الولايات المتحدة هي الخاسرة الدائمة! وكذلك لن تنجح أي مبادرة ما لم تحظ بتأييد غالبية القوى السياسية العراقية، الشيعية والسنّية والكردية.
«الدولة الإسلامية في العراق والشام» هي الرابح، ولكن إلى حين. فإلى المساحات الشاسعة التي سقطت في يدها، طغى وهج عملياتها على وسائل الإعلام. أدارت معركة إعلامية ناجحة حجبت دور غيرها من الفصائل والقوى التي لا تلتقي معها في الأهداف ووسائل إدارة المناطق التي خرجت عن سيطرة حكومة بغداد. وقد يجتذب هذا الوهج مزيداً من المقاتلين من أهل المنطقة وخارجها. وقد تقوى شوكتها على «شركائها» في الميدان. وستمد فرقها المقاتلة في سورية بالعديد والعتاد. وبدأت فعلاً بإرسال بعض ما غنمت من مخازن الجيش العراقي الذي أخلى لها كل شيء في المحافظات السنّية. وهو ما بدل وسيبدل في قواعد اللعبة في الساحة السورية. وأول الغيث عودة آلاف المقاتلين العراقيين الذين كانوا يناصرون النظام في دمشق إلى بلادهم لمواجهة تمدد «الدولة الإسلامية». ثم توجه الجيش السوري إلى مهاجمة قواعد «داعش» بعدما غض الطرف عنها لإلحاق أكبر الأذى بالمعارضة المعتدلة، ودفع الأقليات المذعورة إلى التمسك بالنظام القائم.
قد يُسر بعض المتشددين في إيران في سره. ينظرون إلى نهوض «داعش» عنصراً ضاغطاً على خصومهم، من أميركا وأوروبا إلى تركيا والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون. لكن الصورة ليست بهذه الوردية. فأن تقرر إدارة الرئيس أوباما عدم التدخل العسكري المباشر في الأزمة، في ضوء التجربتين الفاشلتين في كل من أفغانستان والعراق، لا يعني أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على مواجهة التحدي، أو أن نفوذها بدأ يتضاءل. نفوذها يتراجع بسبب قرارها الانكفاء وإن بدا أن قوى إقليمية صاعدة باتت قادرة على منافستها ومشاركتها في اقتسام النفوذ والتأثير في مجريات الأوضاع في المنطقة. أميركا ليست وحدها مرتبكة. إيران مهما بالغت في إظهار ارتياحها لا بد لها من أن تتحرك عاجلاً أيضاً. كيف ستتصرف إذا صمدت «داعش» في «دويلتها؟»، لا يمكنها أن تتدخل عسكرياً لئلا ترتكب الخطأ الذي ارتكبه المالكي، فتدفع أهل السنّة في طول المنطقة وعرضها إلى مواجهتها. ولا يمكنها الركون إلـــى واقع جديد يقطع بينها وبين حلفائها في سورية ولبنان بقــيام منـــطقة عازلة من شمال العراق إلى جنوبه الغربي، من الحدود مع الكردستانين وتركيا شمالاً إلى الحدود مع الأردن جنوباً. وليس قليلاً أن تعبر وسائل الإعلام في طهران عن المخاوف من المستجدات على الحدود الغربية! الذاكرة الإيرانية لا تزال تحتفظ بالكثير من ذكريات حرب الخليج الأولى. على الجمهورية الإسلامية أن تختار بين الاحتفاظ بالمالكي أو المجازفة بحضورها الفاعل في العراق.
يجب عدم التهاون مع «داعش». وهذه ليست مسؤولية الولايات المتحدة وحدها. إنها مسؤولية جميع اللاعبين في الساحة الشامية، غربيين وشرقيين، عرباً وإيرانيين وأتراكاً وكرداً. يجب أن تتقدم التسوية على تقدم «الدولة الإسلامية». والمؤشر الأول سيخرج من البرلمان العراقي الجديد في أولى جلساته. غير ذلك يعني أنهم جميعهم مسؤولون عن قيام أفغانستان الثانية، ولم تلتئم جروحهم بعد من الأولى… إلا إذا كان المطلوب التضييق على استراتيجية إيران وتفتيت بلاد الشام برمتها. وإذا بدا التقسيم عصياً في ظل الظروف الدولية المعقدة اليوم، فإن انغلاق كل طائفة أو مكون داخل حدود انتشاره ليس الحل الأمثل، وإن كانت البدائل شبه معدومة. مخرج كهذا سيشكل قنابل موقوتة لحروب أهلية مقبلة، مذهبية وعرقية. هل كُتب على الشرق أن تتناسل حروبه بلا توقف؟
الحياة
محاولة في رواية «الفتنة» اليوم/ حسام عيتاني
يتغامز ولداي في ما بينهما عند محاولتي شرح الصراع السني – الشيعي الراهن، تغامز المشفقين على غفلة الغافل او المغفل. ذاك ان مهمة نقل حمولات التاريخ الملتبس الى عقلين شابين لم يصابا بلوثة الصور النمطية والأحكام الجاهزة، اصعب مما تبدو.
تبدأ المحاولة من الحاضر، بحديث في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. مواقع الدول ومصالحها وتاريخها الحديث. تطلعاتها وأزماتها واقتصاداتها. الحروب التي خاضتها في العقود الماضية وما خلفته من آثار في مجتمعاتها. الغزو العراقي للكويت ثم الاحتلال الأميركي للعراق بعد عقد ونيف. تبدأ المشاكل في الظهور عند الوصول الى مكونات هذه الدول وشعوبها. ما هي الطوائف؟ كيف ظهرت؟ لماذا تتدخل في السياسة؟ ما علاقة رجال الدين بالقبائل في العراق؟ لماذا زعيم «حزب الله» رجل دين معمَّم؟
تقود الشروحات «الموضوعية» الى مزيد من الأسئلة البريئة الى حدود الإزعاج. فهمنا ان ايران والعراق خاضا حرباً مدمرة وأن الأولى تحاول منع تكرار الحرب عليها من خلال الهيمنة على الثاني، ولكن ما دخل ايران في لبنان؟ فلسطين؟ الزحف الى القدس؟ وما علاقة كل هذا بميشال عون؟
تتسع ابتسامة اليافعين عند الانتقال الى الخلفيات التاريخية. علاقة القوميات في الدول الإسلامية بالدين معضلة اخرى تستوجب الشرح. لماذا تحولت ايران الى التشيع؟ فلتتشيع وما هي المشكلة؟ ثم هناك «مصيبة» المذاهب. لماذا ظهرت؟ وإذا كان الاختلاف رحمة، ما الهدف من كل هذا التقاتل؟ وما اهمية ان يكون الأتراك على المذهب السني الحنفي والإيرانيون خصوم الأتراك اختاروا التشيع؟
ولا مفر من العودة الى الأصل. الى الأيام الأولى للخلاف بين السنة والشيعة. هنا تتسع الحدقات وتنفتح الأفواه دهشة. كيف السبيل الى كشف الرابط السري بين ما جرى قبل 1400 سنة وبين صراعات الحاضر؟ الاستنكار وعدم التصديق هو ما يقابله كل من يسعى الى تفسير حالة المشرق العربي اليوم بالاستناد الى المرويات التاريخية.
الفارق بين هذه المحادثة وبين ما سجله الطاهر بن جلون في كتابه «العنصرية كما شرحتها لابنتي» يتمثل في ان العنصرية ظاهرة يمكن العثور على مسبباتها والمؤثرين والمتأثرين فيها في الحاضر والمحيط. والأمثلة عليها والشروحات اللازمة لها لا تتجاوز معطيات الواقع والتاريخ البشري التقليدي. ماضي الظاهرة وحاضرها وخلفياتها قابلٌ كله للإحاطة «العقلانية» اذا صح التعبير، ضمن مقولات اطنبت العلوم الاجتماعية والسياسية في درسها وفهمها وتعميمها. الخلفيات الاقتصادية والاستغلال السياسي واللعب على اوتار الخوف من الغرباء والأجانب والمختلفين، وسوى ذلك من مكونات العنصرية لم تعد تفاجئ احداً او تثير استغراباً ما دامت الظاهرة وضِعت في سياقاتها الثقافية والتاريخية والسياسية الصحيحة.
في وضعنا، يختلف الأمر اختلافاً بيّناً. فنحن نتحدث في شأن راهن وملموس لكن خلفياته تقع في المجال المقدس. صراعاتنا نخوضها نحن، لكن باسم اولياء وصحابة وخلفاء وأمراء وشخصيات فوق النقد والتناول التاريخي العادي. والحال ان هذه الهوة بين المقدس والسياسي اليومي، بين الديني والعادي، تحول دون عقلنة الخلافات السياسية التي يفترض انها تدور بين بشر فانين، تحركهم مصالح وطموحات ونوازع ورغبات ارضية.
وترتطم كل الجهود الهادفة الى تقديم تفسير موضوعي للصراع السني – الشيعي الحالي بالرواية الدينية المؤسسة، ما يخرج الصراع فوراً من حيز الإدراك «العلمي» ويعيده الى السرديات الغيبية. معلوم ان مؤلفات كثيرة درست الفتنة في العهد الإسلامي المبكر، وضعها باحثون لامعون في العالم العربي وفي الغرب وقدمت رؤى تستند الى حركية الجماعات وتطورها وانتماءاتها القبلية والجهوية والحساسيات السابقة للنبوة وأثرها في تبلّر الخلافات التي افضت الى ما افضت اليه من انقسام واحتراب. ومعلومة ايضاً التفسيرات التي لا تفتقر الى الوجاهة والتي تتناول نشوء المذاهب ونجاحها في مناطق دون غيرها وملامستها مصالح المؤمنين من اهالي البلاد المفتوحة والأمصار، وجدل الملّة المعارضة والسلطة القائمة. تضاف الى ذلك، الدراسات التي تناولت تأسيس الدولة العربية – الإسلامية وما كانت تمثل بالنسبة الى النخب الدينية والعسكرية وآراء المؤرخين المسلمين وغير المسلمين في هذه الصيرورة.
بيد ان كل ذلك لا يكفي للإجابة عن سؤال يطرحه احد اليافعين: ما علاقة هذه الأحداث المغرقة في القدم بما يجري اليوم؟
لمتفذلك أن يلجأ الى لوم قوى خارجية على اشعال حروبنا الأهلية، كأن يقول ان الغزو الأميركي للعراق هو أس البلاء، أو ان يستسهل لوم ايران على اطماعها التوسعية. اما الصهيونية العالمية فجاهزة دائماً لخدمة هذه التفسيرات البتّارة. ولكن، في واقع الأمر، لا تقدم هذه الآراء أية اضافة في البحث عن سبب هذا التعلق بالماضي.
لن يشفي الغليل نسخ طروحات ماكس فيبر او علم اجتماع الأديان عموماً للفصل بين صراعات اليوم وفتنة القرن الهجري الأول. وستبدو قاصرة قصوراً شديداً محاولات التفسيرات الاقتصادوية النظر الى اوضاع بادية الشام وفتاوى الجهاد من منظور الصراع الطبقي والمستغلِين والمستغلَين.
الأرجح أن ما من تفسير سحري يقوم على معطى واحد يكفل فض هذه الشرنقة من الغوامض والتداخلات والانتقالات بين الحاضر والماضي، وأن الأقرب الى الصواب هو اخذ حزمة من التفسيرات المتضافرة لمقاربة دقيقة تفيد في بناء صورة قادرة على اقناع اجيال الشباب العرب بأن ما يدور حولهم قابل للفهم والتفسير في منأى عن التلاعن والتشاتم ونبش قبور الموتى.
الحياة
بوتين وأوباما وانقاذ المالكي/ حسان حيدر
لم تصمد دعوات واشنطن لتشكيل حكومة وحدة وطنية في العراق طويلا. اذ تراجع الأميركيون انفسهم عنها عمليا، وتبين أنهم اطلقوا الفكرة فقط لرفع الحرج عن انفسهم بسبب رغبتهم في مساعدة نظام بغداد على الوقوف في وجه التحاف السني المنتفض ضده، بانتظار ان تلغي التطورات الأمنية على الارض المفاعيل السياسية لهذه الدعوة.
أدرك المالكي ان الاميركيين يأملون منه بشكل غير مباشر اجهاض دعوتهم لانهم يعرفون تماماً ان قرار تغيير تركيبة نظامه في يد طهران وحدها، وان التفاوض يجب ان يجري مع الايرانيين، فسارع الى رفضها، مشددا على الحل العسكري أولا، وقرن ذلك بمحاولة استعادة المبادرة الميدانية عبر إرسال قوات قتالية كبيرة الى الشمال، مركزا على استعادة تكريت، ليس فقط لأهميتها العسكرية، بل لرمزيتها السنية، كونها مسقط رأس صدام حسين الذي لا يزال يؤرقه بعد سنوات على اعدامه.
ومن الواضح ان الروس الذين يعرفون ايضاً الحدود التي رسمتها واشنطن لاي تدخل من جانبها في العراق، ويدركون ان أوباما يجهد للالتفاف على الشعار الذي رفعه ورهن بموجبه تدخل طيرانه باشراك المكونين الكردي والسني في الحكومة العراقية، سارعوا الى اسعاف المالكي بتقديم طائرات حربية كان تعاقد عليها قبل فترة، لافهام الاميركيين بأن الظرف والوقت الضاغط لا يسمح بمناورات من هذا النوع، وان عليهم الاسراع في انقاذ المالكي، ولاظهار ان معركة موسكو واحدة في سورية والعراق، الى جانب نظاميهما.
وكان وزير خارجية واشنطن جون كيري دعا “الجيش السوري الحر” الى مواجهة قوات “داعش” عند الحدود السورية مع العراق، للتغطية على ما يبدو توافقا اميركيا غير معلن مع النظام السوري على أولوية محاربة “الارهاب”، بحيث يصبح اي تدخل للطيران الاميركي، اذا حصل، وكأنه لاسناد المعارضة السورية وليس جيشي الاسد والمالكي، بعدما كان رئيس وزراء العراق ابرز هذا التوافق مع دمشق عندما رحب بالغارات السورية على منطقة القائم الحدودية التي استولت عليها “داعش”، ثم تبين ان هذه الغارات التي لم تتأكد اهدافها ولا فاعليتها، كانت مجرد غطاء لمهاجمة قوات المعارضة التي تحاول استعادة مواقع حدودية اخرى من “داعش”، مثلما حصل في البوكمال.
وفي الوقت نفسه، تراجع الاوروبيون بسرعة عن دعواتهم الى التغيير السياسي في بغداد، وبدت زيارة وزير الخارجية البريطاني للعاصمة العراقية اشبه بتظهير للمالكي، حتى لو اقترنت بتكرار الدعوة الاميركية للانفتاح على المعارضة، ذلك ان لبريطانيا أولويات اخرى، ابرزها المصالحة الكاملة مع ايران، بعد قرار اعادة فتح سفارتها في طهران، طمعاً في العقود المغرية الموعودة.
كان الاعلام الغربي، وخصوصا الاميركي، قد مهد الطريق أمام اوباما للتراجع عن اشتراطه التزام المالكي سياسة معتدلة تجاه غير الشيعة، عندما ركز على فظاعات يرتكبها مقاتلو “داعش” في العراق عن سابق تصور وتصميم، بهدف تحويل الانتفاضة ضد حكومة بغداد الى نزاع طائفي، تماما كما جرى في سورية، حين سال حبر كثير عن التهديد الذي يمثله المتطرفون للأقليات الدينية والعرقية، بحيث غدت المعارضة كلها متهمة بالتطرف. لكن فات الاعلام والادارة معاً ان المالكي، على غرار الاسد، بات فاقداً للشرعية الشعبية والدستورية، وان النظام الفئوي الذي عمل على ارسائه منذ ثماني سنوات لا يستطيع ان يستمر، حتى بالقوة العسكرية.
الحياة
“كل شيء إلا كركوك”/ غسان شربل
ادخل العامل كأسين من الشاي. وضع الاول امام السيد الرئيس والثاني امام ضيفه. سارع صدام حسين الى تبديل موقعي الكأسين. كان يريد القول لمسعود بارزاني ان الشاي ليس مسموما وانه لا يغدر بضيوفه. كان ذلك في 1991. اي بعد سحق انتفاضة الاكراد، وبعد سنوات من حملة الانفال وقصف حلبجة.
كان اللقاء صعبا ورهيبا. قال صدام لضيفه: «اعرف انك اتخذت قرارا صعبا». رد مسعود: «جئتك سابحا في بحر من الدم لكن اذا كانت هناك فرصة لحل مشرف فانني مستعد». وكان يشير الى مقتل 180 الف كردي، بينهم ثمانية الآف من عشيرته وثلاثة من اشقائه. لنترك تفاصيل ذلك اللقاء. ما يعنينا منه اليوم جملة مذهلة فاجأت الزائر نفسه. قال صدام: «نحن لا ننكر ان كركوك كردية لكننا لا يمكن ان نعطيكم اياها لانها قاعدة جاهزة لاعلان دولة… كل شيء الا كركوك». وكان يلمح الى الثروة النفطية في منطقة كركوك.
قبل اسابيع من ذلك اللقاء كانت بغداد استقبلت وفدا كرديا برئاسة جلال طالباني. وخلال نقاش حول كركوك سمع الوفد من طارق عزيز جملة بالغة القسوة وهي «ليس لكم في كركوك غير حق البكاء عليها».
على مدى عقود كانت كركوك خطا احمر. لا يستطيع حاكم بغداد التنازل عنها ولا يستطيع القادة الاكراد التسليم بخسارتها الى الابد. واهمية كركوك لا تقتصر فقط على ثروتها. لاسمها في وجدان الاكراد «رنة تكاد تعادل رنة اسم القدس في وجدان الفلسطينيين». حاول صدام حسم المسألة باسلوب الضربة القاضية عبر تهجير الاكراد والتعريب القسري. لم يدر في باله ان اخطاء نوري المالكي ستسهل لاحقا عودة كركوك الى الحضن الكردي.
كانت كركوك ايضا خطا احمر بالنسبة الى الدول المجاورة للعراق التي تضم اقليات كردية. كان من اهداف اللقاءات الثلاثية الايرانية – التركية – السورية التي عقدت في التسعينات منع قيام كيان كردي او على الاقل منع اي كيان كردي محتمل من استعادة كركوك التي تضم خليطا من الاكراد والعرب والتركمان. هذا لا يلغي ان ايران ساعدت الاكراد لاستنزاف نظام صدام. وان سورية حافظ الاسد فعلت شيئا مشابها. لكن المساعدة كانت بهدف اشغال صدام او اسقاطه وليست بهدف تسهيل قيام كيان كردي.
اعتاد حاكم بغداد ارسال الجيش لـ «تأديب» الاكراد. لكن ارتكاباته توفر لهم احيانا فرصا تاريخية. كان اشراك الاكراد ضروريا لاطاحة صدام حسين. التقطوا الفرصة التاريخية. يشاركون شرط قيام عراق ديموقراطي وفيدرالي. وهذا ما حصل. سيرتكب نوري المالكي خطأ مكلفا خلال ولايتيه الصاخبتين. تجاهل المادة 140 من الدستور التي تنص على معالجة قضية المناطق المتنازع عليها عبر التطبيع والتعويض ثم الاستفتاء.
اغلب الظن ان المالكي يشعر في قرارة نفسه بما اعترف به صدام في لقائه مسعود وهو ان كركوك كردية ونتائج الاستفتاء معروفة سلفا. دفع المالكي المادة المذكورة الى الثلاجة كمن يبعد كأس السم عن شفتيه. اصابته اعراض الحاكم العراقي القوي. حاول لي ذراع اقليم كردستان ثم حاول لي ذراع المكون السني. خسر الاثنين فاطلت «داعش» في الموصل. انهار الجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها فتقدمت البيشمركة للدفاع عنها. اعلن بارزاني عن اجراء استفتاء حول مستقبل كركوك وهو ما كان يفترض ان يفعله المالكي منذ سنوات.
اساء نوري المالكي تقدير عوامل عدة. جاذبية الازدهار الذي يعيشه اقليم كردستان بالنسبة الى اكراد المناطق المتنازع عليها. والجملة التي اطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لدى زيارته اقليم كردستان ومفادها ان الزمن الذي كان يمكن فيه انكار حقوق الاكراد قد ولى. والعامل الثالث ان بارزاني كان في طليعة من شجعوا اردوغان على فتح صفحة جديدة مع عبد الله اوجلان واكراد تركيا.
يتوهم المستبد انه يحرس الخريطة. ينسى ان القهر والاقصاء يحولانها سجنا ويغريان الاقليات بالفرار عند اول سانحة. لا مصلحة للاكراد في الفرار من العراق الغني اذا كان ديموقراطيا وفيدراليا وكانوا فيه شركاء كاملين. قصة كركوك تستحق التوقف عندها. على دول المنطقة تحسس خرائطها. تحتاج الخرائط الى صيانة دائمة وعلى قاعدة الشراكة والانصاف. اكراد سورية يعيشون اليوم في ظل «ادارات ذاتية». لا يكفي ان يقول الحاكم «كل شيء الا كركوك». عليه تجرع سم الشراكة باكرا للاحتفاظ بها.
الحياة

 

 

تفكّك ناعم أم عنيف للعراق؟/ علي بردى
لا تزال أمام العراق فرصة للبقاء دولة موحدة تعترف بحقوق كل أطيافها. ليس الآن وقت إلقاء التبعات في أسباب الشروخ العميقة التي أصابت المجتمع العراقي. يقتضي الأمر مزيداً من التضحية في اتخاذ قرارات سياسية حاسمة تمنح كل المكونات فرصة المشاركة في الحكم وتقاسم الثروة، لئلا يتكرس التشقق الناعم أو العنيف في العراق.
يتعدى المأزق الراهن ما يقال عن شخص رئيس الوزراء نوري المالكي الى ما يتصل بالنهج الذي صار هو عنواناً له. يحتاج الأمر الى تبصر في مقتضيات الحرب الدولية على الإرهاب، وفي احتواء ما يمكن أن تؤدي اليه في الشرق الأوسط. هنا يكمن مصدر التهديد الرئيسي الذي أصاب صميم الولايات المتحدة في ١١ أيلول ٢٠٠١ وغيرها من دول العالم في تواريخ مختلفة من زمن الشؤم. هنا أيضاً تتربص أطماع اسرائيل بالسيطرة والتحكم والتوسع في ظل غض نظر عن ارتكاباتها الخطرة. هنا أيضاً وأيضاً تستحكم الطموحات الهائلة لايران التي سعت طويلاً الى تصدير ثورتها الإسلامية، فأخفقت إلا عندما فتح لها الأميركيون – ليس حباً (أو محاباة) بما يمثله نظام الملالي في قم وطهران – أبواب العراق. عندما جرّت الدبابة الأميركية صنم صدام حسين في ساحة الفردوس البغدادية، سقط ليس نظام البعث العراقي الكريه فحسب، بل أنهار معه أيضاً أحد الأعمدة الرئيسية التي قام عليه النظام العربي البغيض.
التقت مصالح المناقضين على دعم الأشكال المختلفة لما سماه البعض “مقاومة” للإحتلال الأميركي وما اعتبره البعض الآخر “إرهاباً” أصاب أكثر ما أصاب العراقيين أنفسهم فضلا عن الغزاة. تساءل كثيرون عن الورود التي نثرت على الأرتال الأميركية. ساهمت دول المنطقة – من السعودية وايران وسوريا – بشكل أو بآخر في إسقاط أوهام الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. غير أن الولايات المتحدة لجمت الموجة الأولى من الحرب الأهلية بين السنة والشيعة، بينما اغتنم الأكراد كل الفرص لتعزيز الإستقرار في كردستان العراق ولجذب الإستثمارات اليها. أدى نزف العراق الى تهجير الغالبية من المسيحيين وأبناء الأقليات والطوائف الأخرى.
كان يفترض في الإنتخابات العراقية أن تمثل مصدراً رئيسياً للقوة الناعمة التي تقود التغيير المنشود وتتحكم بآليات الحكم في بغداد. غير أن الصراعات المستورة والمكشوفة على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية التي تلعب على التنافر الدفين بين المكونات العراقية، عطّلت الى حد بعيد الوظيفة المرتجاة من الإنتخابات العراقية. لماذا لم يتمكن المالكي – أو سواه – من بناء ائتلاف جديد تتشكل على أساسه حكومة عراقية تتفرغ أولاً للإعتناء بأمسّ ما يحتاج اليه العراقيون في الشمال والجنوب والوسط، وتخوض إذذاك حرباً لا بد منها على الإرهاب الذي تتولى صدارته الآن “الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش”؟
البديل الداهم من هذه الفرصة الآن تفكك للعراق. تجلياته العنيفة في المحافظات السنية، وطلائعه الناعمة في كردستان.
النهار

 

الترياق من العراق؟/ محمد إبرهيم
بعدما استعصى الوضع السوري بنتيجة التوازن بين معسكرين تتزعم أولهما موسكو وثانيهما الولايات المتحدة، وبدا أن الحرب السورية لا أفق لها، مع أرجحية بسيطة للنظام على معارضيه المفككين، يبدو أن “الترياق” يأتي من العراق.
يصعب، إن لم نقل يستحيل، أن يكون لدى تنظيم “داعش” القدرة على إعادة خلط الأوراق الإقليمية على النحو الجذري الحاصل، بدون أن يكون جزءا من رد أشمل على الاستعصاء المذكور، وذلك لمصلحة المعسكر الثاني بالطبع. وبدلا من البحث في سراديب “العلاقات الخارجية” لـ”داعش”، والتي قد تجعله جزءا من رد استراتيجي للمعسكر الثاني على تفوّق استراتيجي للمعسكر الأول، يكفي مراقبة الردود السياسية على الانقلاب “الداعشي”.
كان من المفترض أن يثير اجتياح العراق من أكثر التنظيمات إرهابيةً ردا إقليميا – دوليا منسقا. خصوصا أنه لا عقبات تحول دون هذا الرد، بدءا من مجلس الأمن حيث التوافق، المعلن على الأقل، على إدانة مشروع “الملاذ الآمن” لما هو ادهى من تنظيم “القاعدة” الرسمية.
بدلا من ذلك شاهدنا انتقال الموقف الأميركي من محطة البحث بالتدخل العسكري، نزولا إلى الضربات الجوية بطائرات من دون طيار، نزولا إلى حفنة من المستشارين العسكريين. ثم جاء مطلب تعديل سياسة الحكم في العراق، في اتجاه استيعاب كل مكونات العراق الطائفية والقومية، وترجمة ذلك العملية إقصاء المالكي أولاً، ليفصح عن المشروع السياسي الكامن وراء… “داعش”. وعند هذا المطلب التقى الأميركيون مع الأنظمة “السنية” الإقليمية. وبدا واضحا أن الجهة المعنية بالجواب هي إيران، فيما تراجع الشعور الدولي- الإقليمي بالخطر الداهم، رغم أن “داعش” لم تتراجع. لا بل بدأ إعطاء التغييرات العراقية طابع الانتفاضة السنية الشاملة حيث لا يشكل “داعش” سوى أحد المكونات. وبدأت بلورة فكرة أن مواجهته تتطلب الاتفاق أولا على الصيغة السياسية للمشاركة الحقيقية في السلطة.
الإشارات الآتية من العملية السياسية التي أعلن المالكي استئنافها لتشكيل حكومة وانتخاب رئيس، توحي بالاستجابة الإيرانية لمبدأ التخلي عن المالكي وبدء المفاوضات حول البديل، وذلك تحت غطاء تخلي حزبه وطائفته عنه. لكنها مفاوضات طويلة لأن المطلوب اسم يطمئن الجميع، إقليميا ودوليا قبل أن يكون الأمر عراقيا، وفي الانتظار لابأس من الاكتفاء بمناوشة “داعش”. وبما أن أصل تمدد “داعش” الاستعصاء السوري ربما ينبغي انتظار التوافق على اسم آخر لسوريا نفسها بإمكانه جمع المكونات السورية في صيغة توافقية “عراقية” حتى يصدر القرار الإقليمي- الدولي بإنهاء “مغامرات” البغدادي بين سوريا والعراق.
النهار

 

سقوط هلال الحرس الثوري/ نديم قطيش
لم يكن ينقص السيناريوات الكابوسية حول مستقبل المشرق العربي إلا صورة مقاتلي “داعش” يزيلون الحواجز الترابية على الحدود بين العراق وسوريا.
تلا ذلك شريط على موقع يوتيوب لأحد مقاتلي التنظيم يجاهر فيه بأن “داعش” لا تعترف بالحدود بين الدول، وأنه قاتل في سوريا ثم في العراق ويتهيأ للانتقال إلى لبنان والأردن.
كرَّست هذه الصورة الكثير من المبالغات الرائجة حول الدولة الإسلامية قيد الولادة وكون هذه الولادة مقدمة لاستعادة الخلافة المندثرة عام ١٩٢٤. وهي جاءت لتترجم بصرياً، فوضى عارمة تعتري منطق التحليل السياسي الذي يملأ فضائيات وصحف ومنشورات إلكترونية عربية، وتفيد بسقوط اتفاقية سايكس – بيكو. سمعنا الكثير من مثل هذا الكلام بعد حرب الخليج عام ١٩٩٠. كان المحرك يومها لإعلان وفاة سايكس – بيكو، حيازة أكراد العراق منطقة حكم ذاتي شمال العراق محمية بسياسة الحظر الجوي، ولد للمرة الأولى في تاريخ هذه القومية.
تعود وتزدهر اليوم مثل هذه الافتراضات الراديكالية من بوابتي سوريا والعراق، حيث يبدو في المكانين أن انهيار الدولة يسبق انهيار النظام. أو أنها دول لا يمسك بعضها بعضاً إلا الحكم القائم فيها، فإذا ما طار الحكم أو تهدد، طارت الدولة نفسها. في سوريا يستعصي الحكم الأسدي (لصاحبه نظام الخميني) في وجه ثورة شعبية متحركة ومتغيرة في طبيعتها ومشروعها وتكوينها، وفي العراق يستعصي حكم نوري المالكي الآخذ في التبلور كديكتاتورية شوفينية تديرها إيران، في وجه استنفار سني وكردي و… شيعي.
وبالتالي يبدو لوهلة أن حصيلة الاستعصاء وإصرار الرافضين على رفضهم مآله الوحيد هو تفتت الكيانات في المشرق العربي، وبالتالي انهيار سايكس – بيكو، وهو ما أرى فيه مبالغة كبيرة لا تسندها الوقائع بقدر ما ترفدها المقاربات الكابوسية.
لا شك في أن داعش اليوم هي أخطر تطور طرأ على تكوين تفرعات “القاعدة” أو الكيانات غير الدولتية المشابهة، لناحية قدرتها على التجنيد وثرائها بالسيولة النقدية وتحكمها بجغرافيا كبيرة نسبيا متماسكة ومتصلة وعابرة لحدود سايكس – بيكو. غير أن لا مستقبل واقعياً لمشروع “داعش” التي ما كانت لتقف على قدميها في العراق وبعض سوريا لولا أنها مسنودة بقاعدة سنية عشائرية كانت على خصومة وعداء معها في السابق قبل أن تلتقي مصالح الطرفين في مواجهة المالكي.
وهذه القاعدة العشائرية السنية في العراق، وإن كانت تستند جزئياً على “داعش” إلا أنها تفترق معها في أن مشروعها السني يقع في صلب الوطنية العراقية وليس على نقيض منها كما هي “داعش”. أي أن العشائر السنية المنتفضة، منتفضة لأسباب تتصل بالوطنية العراقية وبخلل الشراكة الوطنية في العراق وهو ما فاقم المالكي تمثيله منذ انسحاب الولايات المتحدة من العراق. ما يعني أن “داعش” مرشحة لأن تفقد بيئتها الحاضنة إذا ما جنحت العشائر نحو تسوية سياسية عادلة تريدها وتسعى إليها في العراق. هنا تكمن المسؤولية الدولية في مقاربة المسألة العراقية المستجدة ليس باعتبارها حربًا على الإرهاب، بل باعتبارها أزمة شراكة سياسية ووطنية، تصحيحها هو المدخل الوحيد والإجباري لمحاربة الإرهاب في مرحلة تالية.
ما ينطبق على العراق ينطبق على سوريا. وها هو “حزب الله” في لبنان يذوق اليوم، ويذيقنا معه، مرارات الفشل الذي ذاقه نظام الأسد قبله، باعتماده على جلافة الحل الأمني وتزوير الحل السياسي عبر معارضات ينتجها النظام المملوك لإيران. وكما في العراق كذلك في سوريا، تشكل التسوية السياسية الحقيقية مهبطاً اضطراريا لأي مقاربة تتوسل محاربة الإرهاب لاحقا.
وبالتالي ما يسقط في المشرق العربي، عبر هذه التسويات الآتية لا ريب فيها، ليس سايكس – بيكو إنما هلال الحرس الثوري الممتد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا. فهذا الهلال يتفسخ في سوريا ويتشظى في العراق ويُستنزف في لبنان. وليس بغير دلالة أن النظريات عن سقوط سايكس – بيكو تزدهر أكثر ما تزدهر في أوساط معلقي هلال الحرس الثوري.
طبعاً، لا أفترض هنا أن ما شهدناه في المشرق العربي وشمال إفريقيا سيمر بلا نتائج دائمة وعميقة. ولكن إن كان من متغيرات ستطرأ فهي على العقد الاجتماعي للدول في المشرق العربي وليس على الدول نفسها ووحدة كياناتها.
مرة أخرى ليس بغير دلالة أن يتابع المرء الحماسة التي بها باتت تناقش مسألة الفيديرالية على شاشة “المنار” التابعة لـ”حزب الله”. إنه الإقرار النفسي والفكري والسياسي بالفشل في حكم الكل واللجوء تالياً إلى البحث عن كيفية حكم الأجزاء.
سايكس – بيكو بخير، حتى إشعار آخر. ما يسقط هو هلال الثورة الخمينية.
صحافي
النهار
أشباح الماضي والحاضر تتصارع في العراق
رأي القدس
خلا بعض اللحظات المضيئة عن التسامح الديني والفكري التي تركها لنا أمثال الخليفتين، الأموي عمر بن عبد العزيز، والعباسيّ، المأمون، فان التاريخ العربي الاسلامي كان مسرح صراع مأساوي بين الإسلام التقليدي (الذي أخذ يسمّى في الأدبيات الحديثة: السنّة) وشيعة آل البيت (الذين صاروا يدعون بالشيعة)، وكان العراق بؤرة دامية لهذا الصراع وشهد أبشع ملابساته وتجلياته لأكثر من ألف عام.
بدأت المسألة، نظرياً، مع وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وتراكمت أحداثها وأدبياتها جيلاً بعد جيل، مبتدئة بحروب على السلطة، ومع انتهاء الأسباب الأساسية لهذه الحروب مع فناء بني أميّة واندثار الحكم العباسي طوّر الإسلام التقليدي سردية عامة تصالح بين التناقضات السياسية القديمة محتفظاً بمكانة خاصة لآل البيت فيما أحيلت النزاعات القديمة الى أرشيف التاريخ، فلم يعد هناك معنى حقيقي اليوم للانتصار لعليّ أو ابو بكر ما دام الاثنان صارا في ذمّة الله، لكن الإشكالية أن الخلافات السياسية تلك تحوّلت الى بنى دينية ومقدسة صلبة تتغذى على تكرار السرديات القديمة وإعادة إحيائها.
رحل الأمويون والعباسيون الذين كان صراعهم مع العلويين من آل البيت صراعاً على السلطة والتبرير الديني لها، ولكن خطابات التعصب شهدت ازدهاراً خلال غزوات المغول (الذين كانت الخلافات الدينية بين الشيعة والسنة عاملاً استفادوا منه لدخول بغداد وانهاء الحكم العباسي)، ثم مع الصليبيين، وتراجعت ظاهرياً أثناء المواجهة مع الاستعمار الغربي (متراجعة في الفكر العربي التقليدي أمام سردية الصراع الإسلامي ـ المسيحي أو العربي ـ الغربي).
بعد الاستقلالات وتراكم كوارث الدولة العربية «الحديثة» وفشلها المدوي في أسئلة الحداثة والديمقراطية والعلمانية عادت سرديات الصراع الديني للظهور، وقد لحقتها تشوّهات الأيديولوجيات الحديثة وممارسات الاستبداد الجديدة لتأخذ أشكالاً عصابية تجمع مورثات الماضي وهمجية الحاضر.
بتأسيسها فكرة الدولة الإسلامية مجدداً، حاءت الثورة الإيرانية كحدث مرجعي هز الأبنية التقليدية للفكر السياسي الإسلامي، ورغم العداوة الأيديولوجية المفترضة، فقد عززت هذه الثورة آمال حركات الإسلام السياسي السنية، وليس الشيعية فقط، بتحقيق حلمها القديم.
ومن مكر التاريخ أن يقوم فرع تنظيم «القاعدة» المنشقّ في العراق بتسمية نفسه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في تشابه لا يخفى مع «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، أكثر مما هو استعادة لفكرة «الخلافة» الراشدة.
كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية آخر محاولات دولة الأيديولوجيا القومية العربية مواجهة فكر الإسلام السياسي الناهض، كما جسدته إيران الخميني، ومع كارثتي احتلال افغانستان والعراق انفتحت المنطقة أمام تقدم مضطرد لحركات الإسلام السياسي بطبعتيها السنية والشيعية، ليكون التدخّل الأجنبي، مجدداً، الصاعق الذي يفجر التغييرات الأيديولوجية الكبرى في العالم العربي.
في العراق، مهد الجرح الشيعي الكبير الذي مثله مقتل الحسين، تتجمع أشباح التاريخ القديم لتؤجج صراعات حديثة تماماً تتراكب عليها عوامل عالمية (المشروع الأمريكي ـ الأوروبي بمواجهة الروسي ـ الصيني)، وإقليمية قومية وإثنية (فرس، عرب، أكراد، أتراك… الخ)، ودينية (سنة وشيعة).
جاء هجوم الفصائل السنية (مع ارتفاع واضح لرايات «داعش») على الموصل، وفتوى السيستاني معلناً الجهاد الشيعي ضدها، ليفتح العراق على مواجهة مفتوحة بين كبرى الطائفتين الإسلاميتين.
وبدلاً من الثورات العربية التي حلمت بفتح طرق الحرية وهز أركان الاستبداد العربي نستفيق اليوم على سيناريو حرب دموية الانتصار فيها كارثة أكبر من الهزيمة. حرب يمكن أن تدمر المنطقة العربية بأكملها وتجعلها أثراً بعد عين، فماذا سيفعل العرب لمواجهة هذه الكارثة؟
القدس العربي
داعش بوصفها غزواً داخليّاً/ محمد أبو رمان
من أطرف التبريرات التي سمعتها من المسؤولين العراقيين، بعدما سيطر تنظيم “داعش” (اختصاراً للدولة الإسلامية في العراق والشام) على الموصل بسهولة بالغة، قول أحدهم غاضباً “نحن نتعرّض لغزو خارجي”. ووجه الطرافة في الأمر أنّ المسؤولين السوريين كانوا يشتكون من أنّهم يتعرّضون لغزو خارجي من داعش (القادمة من العراق)!
أمّا زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، فقد دخل، بصورة مختلفة، على خطّ السجالات بشأن داعش، عندما طالب التنظيم بأن يعود إلى العمل والقتال ضمن منطقة وجوده الأساسية في العراق، بينما يترك لجبهة النصرة اختصاص العمل في سورية.
المفارقة تكمن في أنّ الأغلبية العظمى من تنظيم داعش في العراق هم من العراقيين السنّة، والحال كذلك بالنسبة لجبهة النصرة في سورية، فأغلبيتها من السوريين.
المعنى مما سبق أنّ الأساس الصلب في فهم صعود هذه الجماعات والحركات يكمن في أنّها ابن شرعي للمجتمعات العربية، وانعكاس أمين وصادق لطبيعة التحولات الخطيرة التي تحدث في العديد من هذه المجتمعات، بأزماتٍ داخليةٍ ذات أبعاد سياسيةٍ واقتصاديةٍ، أو اجتماعية مركّبة!
في مؤتمر إقليمي، عُقد أخيراً في عمّان (بدعوة من مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية)، حول “صعود الراديكالية الإسلامية”؛ توافق أغلب المشاركين من خبراء الحركات الإسلامية وعلم الاجتماع على تعريف هذه الحركات والجماعات، بوصفها حركات احتجاجٍ اجتماعيٍ بأيديولوجيا دينية، أي أنّ الشرط الموضوعي لصعودها ونموها هو المعطى السوسيولوجي نفسه.
” الأردن أصبح يتوفر على بيئةٍ اجتماعيةٍ منتجةٍ لهذا التيار الذي أصبح يتمدد وينتشر في مناطق عديدة، وتضاعف عدد أتباعه ومؤيديه بصورة ملحوظة في السنوات الماضية!”
لسنا في حاجة، إذاً، لأن نذهب بعيداً في تفسير صعود داعش، بوصفها الممثل الأكبر للجيل الجهادي الشاب الجديد، في هذه اللحظة التاريخية، في ظل صراع بين قوى غير متوازنة ولا متكافئة، فهنالك مجتمعات سنيّة (في هذه البلاد) مهددة تشعر بالرعب، بينما الطرف الآخر يملك أنواع الأسلحة كلها. إلّا أنّ خطورة هذه الظروف لا تتجمّد عند حدود تلك المجتمعات، بل تمتد إلى المجتمعات الأخرى التي تتأثر بما يحدث، وما يُنقل من صور، فنجد آلاف الشباب المتطوعين المستدعين للقتال هناك، والممر السالك الوحيد هو عبر هذين التنظيمين.
ليس الصراع الطائفي الهويّاتي وحده المسؤول المباشر عن صعود “داعش”، فهناك حيثيات وشروط مختلفة ومتعددة، تساهم في صعود مثيلات هذا التنظيم، بوصفها حركات احتجاج اجتماعي، وربما من يتابع السجال والجدال في الأردن يكتشف حجم القلق والمخاوف، ليس من غزو خارجي تقوم به داعش، كما تذهب توصيفات إعلامية سطحية، بل من “غزو داعشيّ” داخلي، أيّ تفشّي هذا التنظيم وانتشاره في المجتمع، على خلاف ما ذهب إليه الزميل والصديق، محمود الريماوي، في مقالته “داعش ليس له خبز في الأردن” (في موقع العربي الجديد)، إذ إنّ المؤشرات التي ذكرها في مقالته تقابلها مؤشرات في الاتجاه الآخر الذي يثير بالفعل القلق من صعود هذا التيار.
لا يختلف رأي نخبة من الخبراء والسياسيين الأردنيين عن الزميل الريماوي، إذ ترى أنّ الأردن لا يوفّر حاضنة اجتماعية لداعش، وربما هذا الوصف (أي عدم وجود حاضنة اجتماعية) دقيق، لكنّه ليس مطمئناً، لأنّ الأردن أصبح يتوفر على بيئةٍ اجتماعيةٍ منتجةٍ لهذا التيار الذي أصبح يتمدد وينتشر في مناطق عديدة، وتضاعف عدد أتباعه ومؤيديه بصورة ملحوظة في السنوات الماضية!
تكفي الإشارة، هنا، إلى أنّ هنالك آلاف “الجهاديين” الأردنيين يقاتلون إلى جانب داعش وجبهة النصرة، ومئات يحاكمون، أو تمت محاكمتهم، على خلفية قضايا مرتبطة بهذا التيار، وأعداداً كبيرة أخرى في المجتمع تؤمن بهذا التيار وأفكاره، وتعلن ذلك، كما حدث عندما خرج مئات في مسيرة في محافظة معان، ليعلنوا تأييدهم أبا بكر البغدادي زعيم التنظيم، على مرأى ومسمع من الإعلام والحكومة والرأي العام!
بدلاً من استسهال وضع اللوم والمسؤولية على العامل الخارجي، كما نتعوّد دائماً، من الضروري أن نفكّر، أولاً وقبل كل شيء، في العامل الداخلي والتفكير في البيئة المنتجة والحاضنة لهذا التيار، وللظروف والشروط التي تدفع الشباب إلى هذه الطريق، وإلى داخل أسوار هذه التنظيمات؛ ولنفكّر لماذا ينتشر هذا التيار ويتضاعف، بدلاً من أن ينزوي ويتراجع، كما كان مؤمّلاً مع بداية الثورات العربية الديمقراطية، ولماذا يخفت صوت الاعتدال السياسي ويبرز الصوت المتشدد؟!
في السياق نفسه؛ تكمن المفارقة التي وصل إليها الخبراء في المؤتمر الإقليمي المذكور (أسباب صعود الراديكالية الإسلامية)، في أنّ البيئة الاجتماعية (في دول مثل الأردن ومصر والمغرب ولبنان) التي تنتج المخدرات والجريمة والعنف الاجتماعي والتمرّد على القانون هي نفسها التي ينتشر فيها وينمو هذا التيار.
إذا أردت أن تعرف “قصة داعش”؛ ففتّش إما عن الصراع الهوياتي الطائفي والتهميش السياسي واختلال موازين القوى؛ أو عن حالة الإحباط وخيبة الأمل؛ أو عن ظروف البطالة والقهر والحرمان الاجتماعي؛ أو عن تفكك الطبقة الوسطى وانسداد آفاق الحل السياسي، ستجد حينها أنّ الأمر ليس بالسرّ ولا بالمخفي بل ستراه جليّاً واضحاً للعيان، لمن يريد معرفة الحقائق فعلاً!
العربي الجديد
“داعش” خطر وهمي؟/ دلال البرزي
ثمة رأيان في الظاهرة “الداعشية”؛ الأول يقول بأن “داعش” مؤامرة أميركية إسرائيلية، غرضها، كما هو العادة، التخريب على المسيرة العراقية المظفرة التي يقودها نوري المالكي، وعودة الإحتلال الأميركي إلى العراق… إلى ما هناك من أوصاف باتت محفوظة، يتمسك أبناء “الممانعة” بالبوح بـ”أسرارها” كلما وقعت الملمّات. وهذه “قراءة” للحدث لا يحتاج نقضها إلى الكثير؛ من الطلب الملح للمالكي بتدخل أميركي سريع، إلى الإرتباك الأميركي نفسه، إلى الحملة الأميركية الداخلية التي يخوضها الجمهوريون وبعض الديموقراطيين الأميركيين لحث أوباما على التدخل بأقوى من مجرّد إرسال ثلاثمائة مستشار وخبير أميركي إلى أرض العراق… إلى ما لا ينتهي من الشواهد التي لا تحتاج إلى تمحيص، وكلها تضع هذه “القراءة” في خانة الخطابة البائتة؛ مع ان إلحاح الطرف العراقي “الممانع” على الأميركيين كي يحميه من همجية “داعش” يحيي سلوكاً كانت هذه “الممانعة” نفسها تأخذه على المعارضة السورية عندما كانت تتوسل تدخلاً أميركياً ضد قوات بشار الأسد، وتعتبر هذا التوسّل دليلاً على “عمالة” هذه المعارضة وتنفيذها لمخطّطات إمبريالية صهيونية. ليس معروفاً عدد الذين يصدقون فعلاً هذه القراءة، ولكن من الواضح إنها صارت تنتمي إلى عالم مضى…
ولكن هناك قراءة ثانية للحدث الداعشي، أخطر من الأولى، وصادرة عن بعض العقول المنتمية إلى المعسكر الآخر، المعادي للممانعة، تخفف من قوة “داعش”، تقلل من عدد المنتسبين إليه، تضخم من قوة “حلفائه”، العشائر والنقشبندية وبقايا البعث (كأنها “أرحم” منها)، وتكاد تقولها واضحة؛ بأن “داعش” لن تشكل خطراً علينا، طالما انها مجرّد “واجهة إعلامية”، سوف تنسحب إلى جحورها فور إنتهاء المعارك… وانه بالتالي لا لزوم لهذا الرعب أو “التضخيم” الخ.
هذه القراءة المطمئنة إلى “داعش”، تبعث على التساؤل: من أين لأصحابها الميامين كل هذه المعلومات الثمينة السرية التي لم تصل بعد إلى مسمعنا؟ من أين يستقون معلوماتهم؟ من “مصادرهم” المحلية أو الإقليمية؟ وطالما إنهم واثقون بها إلى درجة صياغتهم موقفهم السياسي على أساسها، أين هي معطيات “معلوماتهم” هذه؟ ثم هل يصدق عاقل عايَش المنطقة وزعماءها، المعارضين منهم والموالين، بأن طرفاً منهما سوف يقدم لطرف آخر “الحضور الإعلامي”، ويختفي هو خلف الكواليس، ليعمل بالسخرة على الأرض؟ من هي تلك الملائكة الضائعة التي يحدثنا عنها هؤلاء، وما هي مبرراتها؟ هل المقصود منها أن تخيفنا، كما كانوا يخيفون الصغار من البعبع الذي سيختفي عند طلوع النهار؟ فقط تخيفنا ثم تنسحب؟ خوف وهمي، طفولي، لا مبرّر له…؟
أكثر من ذلك: إذا ما دقق المرء في مكان قوة “داعش”، على امتداد العام الذي نشط فيه على الأراضي السورية والعراقية، فانه سوف يلاحظ بأنه تنظيم ثري، منضبط، ذو قدرة إنتحارية وقتالية عالية. ولكن القوة لا تقتصر على هذه العناصر المادية، “غير النبيلة”، إنما يتجاوزها الى الحاضنة الشعبية التي سمحت له بالعيش والإستمرار و”النوم”، كما استقبال انتصاراته على أساس إنها “إنتفاضة ثوار ضد الظالمين من الشيعة”… فيتحول أصحاب هذه القراءة للحدث الداعشي نظراء قراء آخرين، لم يختلفوا عنهم إلا بولاءاتهم؛ مثلهم مثل اليساريين والمحللين والقوميين والعلمانيين الذي يلتفون حول حزب إسلامي جهادي آخر هو “حزب الله”، ويشكلون الحلقة الأعرض من قاعدته الشعبية، التي تحميه من سهام “العملاء” رافضي سلاحه وتجاوزاته ودويلته، وخرقه الحدود الوطنية لصالح قيادته الإيرانية.
تنظيم “داعش” لا يستحق الإستخفاف. هو قبل كل شيء خطر على كل الأوطان، بحدودها المرْذولة الملعونة “الاستعمارية، المسخة”، خطر على الإنسان، على الأخلاق والثقافة والحضارة الإنسانية بأسرها. سليل القاعدة الطالبانية، الأكثر حنكة الآن، بعد الجيل الأول، الأكثر تنظيما وتعبئة و”حيثيات”. والتذرع بظلم الظالمين تارة لإعطاء الذرائع لهجميته، أو تسخيف قدراته تارة أخرى، أو الوعد الضمني بأنها إنما هي “هوجة” وسوف تزول… هو نوع من التعامي عن الوقائع على قاعدة الكيدية السياسية الضيقة إياها، الحاكمة لكل مجالنا السياسي المنهار.
المدن

 

“داعشيو” الغرب والولادة الثالثة/ ديانا مقلد
«سنذهب إلى العراق والأردن ولبنان، أينما يريدنا الشيخ أبو بكر البغدادي أن نذهب فسنذهب.. أمل الأمة برقبتك يا شيخ».
ليس قائل هذه الجملة (النداء) بجهادي عراقي أو سوري أو حتى عربي.
إنه شاب بريطاني من أصول يمنية وُلد وعاش في بريطانيا وتعلم فيها، وكان ناجحا في عمله. ويشرح والده المفجوع برؤية ابنه يقاتل مع «داعش». إن أربع جامعات بريطانية وافقت على التحاق ابنه بدراسة الطب. لكن «أبو مثنى اليمني»، كما أعلن اسمه، اختار الذهاب للقتال مع تنظيم داعش في سوريا، وأقنع شقيقه ذا الـ17 عاما بالانضمام إليه، وها هو يعلن أنه مستعد لبذل روحه بإشارة من زعيم «داعش» العراقي ذي الشخصية الغامضة والدموية أبو بكر البغدادي.
و«أبو مثنى اليمني» هذا ظهر مع مجموعة شبان آخرين من بريطانيا وأستراليا في شريط دعائي لـ«داعش» يتحدثون فيه بالإنجليزية، ويحثون مزيدا من الشباب الغربي على الانخراط في «أم المعارك»، التي يعتقدونها قائمة في «بلاد الشام».
شكل هذا الشريط وفيديوهات وصفحات إلكترونية وصور لمقاتلين وافدين من أوروبا يقاتلون مع «داعش» صدمة كبرى لدى الرأي العام الغربي. لسنا هنا أمام شبان من بلادنا قادهم الأفق المسدود سياسيا واجتماعيا نحو القتال والتطرف، بل نحن أمام موجة انجذاب مطرد لمجندين غربيين للقتال مع هذا التنظيم. وبحسب المعلومات الأمنية، فنحن نتحدث عن ثلاثة آلاف مقاتل من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا، فيما يشكل الجهاديون البريطانيون أكبر قوة من بينهم.
هذه الحقائق تعيدنا إلى الوضع الذي أرّق المجتمعات الغربية بعد هجمات نيويورك وواشنطن في عام 2001، التي شكلت الولادة الأولى لأجيال تنظيم القاعدة المعولمة، أي تلك التي تعلمت وعاشت في الغرب. تضاعف الارتباك مع الولادة الثانية، التي جسدها التحاق غربيين بالسلفي الجهادي «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق، والآن أتت الولادة الثالثة التي مثلها تنظيم داعش؛ فها نحن نشهد انخراطا أكبر لمقاتلين من الغرب مع تنظيم يكاد يكون الأعنف والأكثر قسوة في قتاله وممارساته باسم الدين والأمة. السؤال نفسه يطرح مجددا؛ ما الذي يدفع شبانا إلى ترك مجتمعهم وحياتهم المستقرة نسبيا، بل والناجحة أحيانا، وإلقاء أنفسهم في التهلكة. هل هي أزمة هوية وانتماء وعجز عن الاندماج في المجتمعات الغربية، أم انجذاب نحو عقيدة ودين وانتماء أكبر؟ ما هذا الإغراء في الثقافة الجهادية بنموذجها الداعشي الذي يدفع بشبان إلى الانفضاض عن حياتهم السابقة والانخراط في حياة يمكن أن تفضي بسهولة إلى موت زؤام؟
تنكب حاليا التحليلات للبحث عن سبب إحباط هؤلاء الشبان من المجتمعات التي عاشوا فيها في الغرب، وانجرافهم خلف خطاب متشدد، واعتناقهم لقضية تقوم على رفض حياتهم وحياة ذويهم، كما لو كان ما يخوضونه من قتال مغامرة مثيرة، وهو ما بدا من خلال ما يتناقلونه في فيديوهاتهم وشهاداتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
كان سبق للباحث الفرنسي «جان بودريار» أن حمل الصورة الإعلامية التي عدها حليفة «العولمة» والهيمنة الغربية كثيرا من تبعات هذا الإرهاب، من وجهة نظر فلسفية ونفسية، ترى بأن كل قوة مهيمنة تحمل، بالضرورة، بذرة تدميرها الذاتي، بل ورغبتها وإرادة شعوبها في الموت. فكان أن صور «بودريار» أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وكأنها حلم جماعي «فانتازي» غربي، تحقق، ولو بعد حين، بفعل التكثيف المتراكم للعنف المشاع، تصويرا وبثا، على مدار الساعة.
الآن، وبعد العنف الكبير الذي انفجر في منطقتنا، يبدو وكأن العالم أمام فراغ مخيف، إذ لا أحد؛ سواء في الغرب أو هنا، لديه أي فكرة عما ستؤول إليه هذه الظواهر.
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
الشرق الأوسط

 

إيران تختبر أوباما مجددا في العراق/ طارق الحميد
كل التصريحات الإيرانية الأخيرة عن إمكانية تدخل طهران في العراق دعما لنوري المالكي، وعلى غرار ما تفعله إيران في سوريا، تعني أن إيران تختبر الرئيس الأميركي مجددا بالعراق، مثل ما اختبرته في سوريا. آخر التصريحات الإيرانية هذه ما صدر عن العميد مسعود جزائري، مساعد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، حيث يقول إن رد بلاده على من سماهم المتشددين في العراق سيكون «حازما وجديا»، مضيفا أن إيران أخبرت «المسؤولين العراقيين بأنها مستعدة لتزويدهم بالخبرات الناجحة في الدفاع الشعبي المتنوع، وهي الاستراتيجية نفسها الناجحة المستخدمة في سوريا لإبقاء الإرهابيين في وضع الدفاع»، مع تهديده بأن ما فعلته إيران بسوريا سيتم اتباعه في العراق! فهل يتبع الرئيس أوباما مع العراق نفس التجاهل، والتردد، اللذين اتبعهما في سوريا، ومكنا إيران من التدخل هناك بالشكل الذي نراه؟
العراق ليس سوريا، ولا مصر، ولا اليمن، ولا ليبيا، ولا حتى تونس؛ ففي العراق أخطاء حقيقية ارتكبتها حكومة المالكي، وبشهادة الأطراف السنية والشيعية والكردية. والأزمة العراقية لا تتطلب إسقاط نظام، أو رئيس مثل سوريا. وفي العراق، لا يمكن القول بأن ليس هناك قيادات، أو أحزاب، وإنما شارع ثائر ومجاميع مسلحة، ففي العراق هناك أزمة واحدة تتلخص في معاداة الجميع للمالكي، وبرحيله – وهو الذي لم يشكل حكومة ولم يتم الاتفاق على منحه ولاية ثالثة – يكون قد تم نزع فتيل الأزمة الدموية، وإعلان للجميع بضرورة الجلوس على طاولة الحوار والمفاوضات تحت مظلة حكومة وحدة وطنية، وهذا ما طالب به المرجع السيستاني، ومثله الصدر، والأكراد، والسنة، ومن ثم فإن تدخل الأميركيين عسكريا أمر غير مبرر، كما أن تردد أوباما في العراق غير مبرر أيضا.
والحقيقة أن تردد الرئيس أوباما في سوريا هو ما أوصل الأوضاع إلى ما هي عليه هناك، والدليل أن أوباما نفسه يتحدث الآن عن تدريب، وتسليح، للمعارضة السورية المعتدلة، بينما كان يقول عن هذه المعارضة نفسها قبل أسابيع قليلة إنهم عبارة عن مزارعين وأطباء، لكن ما حدث بالعراق أجبر أوباما على تغيير موقفه في سوريا، فهل يتنبه الرئيس الأميركي الآن إلى خطورة التردد في العراق، وأنه قد يفجر الأمور أكثر، ويمنح إيران فرصة التدخل العلني في العراق، على غرار ما حدث في سوريا، مما يعني اشتعال حرب طائفية، سيكون من الصعب إخمادها إن اندلعت – لا قدر الله؟ أم أن أوباما سيتحرك بحزم، وذكاء، لإزاحة المالكي، وبدعم عراقي داخلي، وليس عبر إيران؟ فما يحدث بالعراق اليوم هو أن إيران تختبر أوباما مجددا، وإذا ما فشل الرئيس الأميركي في إخراج المالكي، فإن ذلك لا يعني اشتعال المنطقة وحسب، بل إنه يدفع للتساؤل حول قدرة الإدارة الأميركية الحالية على إنجاز اتفاق حقيقي مع إيران حول ملفها النووي وهي، أي إدارة أوباما، أضعف من أن تزيح المالكي من المشهد السياسي العراقي؟
صحافي سعودي عمل في صحيفة “المدينة” ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط

 

عالم عربي سائب في متغيّرات جراحية/ عبد الوهاب بدرخان
كثيرون ينسبون ما حدث من انتفاضات شعبية في خمسة بلدان عربية إلى «مجموعات ناشطة» شبابية جرى الاشتغال عليها سياسياً، وحتى استخبارياً، لتتحيّن الفرصة الأولى لإشعال احتجاجات تزعزع الأنظمة القائمة. وفي تقارير العديد من الحكومات ما يمكن أن يؤيد هذه الفرضية، بعد رصد معمّق للوجوه التي قادت الحراك وكانت جميعاً علنية ومعروفة، كذلك بعد تحليل وقائع ما جرى. لكن تلك التقارير لا تستطيع إنكار معطيَين: الأول أن أسباب الانتفاضات موجودة وقد دأبت المعارضات المعترف بها وغير المعترف بها على التنبيه إليها على مرّ الأعوام لكن من دون طائل. والآخر أن أحداً لم يكن ليتنبّأ بحادث مفاجئ وعفوي في سيدي بوزيد واعتباره «الفرصة» المرتقبة، أو أن الشرارة ستنطلق من تونس، أي من حيث كانت التوقعات هي الأقل، رغم دوام الاحتقان والغليان الاجتماعيين.
عشية بدء حقبة الزلازل، كانت الأنظمة التي تهاوت بعض منها بشكل أو بآخر قد شخّصت بنفسها العديد من أمراضها، وعدا الداخلي منها، وهو بالغ الخطورة، حُصرت المعضلة «القومية» في أمرين:
أولهما، تكاثر الخلافات والانقسامات وتعمّقها ما تسبب بضعف عام لـ«النظام العربي الرسمي» وبما سمي وقتئذ «الخواء الاستراتيجي» لعالم عربي تضغط عليه قوى دولية وتحفّ به ثلاث دول إقليمية متنافسة على استغلال فشله في منع انهيار العراق (رغم صمته «الإيجابي» إزاء إسقاط النظام السابق) وفي الحصول على «سلام عادل» لفلسطين (رغم إسقاطه ورقة الحرب ضد إسرائيل).
والأمر الثاني هو أن الدول العربية كافةً، منفردة ومجتمعة، باتت مهدّدة من الداخل بتيارات سياسية متنكّرة بالدين يستولد بعضها بعضاً وتراوح بين «اعتدال» مقنّع وتطرّف صريح لكنها تصنع بيئة محتملة للإرهاب. ورغم الوعي بالأسباب الداخلية لهذه الظاهرة إلا أنها لم تُعالج أو عولجت على نحو مبتور وغير جدّي، ولم يكن هناك وعي كافٍ بأن «إرهاب 11 سبتمبر 2011» استعمل لإخضاع كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال لمعايير إرهابية بحتة، كما لم تنكشف نتائج الاستغلالات الدولية المبرمجة لثنائي «الاعتدال والتطرف» إلا في وقت متأخر، بعدما أصبح الإرهاب جزءاً من النسيج الداخلي في العراق واليمن. ومع بدء مرحلة التحوّلات ظهر الإرهاب في تونس ومصر وليبيا وسوريا ولبنان، فيما ازداد ترسّخاً في العراق واليمن. وعلى ذلك فإن الصومال يمكن أن يشكّل النموذج المبكر، حيث لا دولة بل دويلات، وحيث الإرهاب هو السائد.
في غضون تلك الشهور الخطيرة عام 2011 قضي الأمر ودخل العرب نفقاً مظلماً لم يعد معروفاً متى يبلغون الضوء في نهايته. الأكيد أنهم سيخرجون منه، لكن يصعب بأي حال. لم ينسَ أحد قولة كولن باول، غداة غزو العراق في 2003، بأن خريطة المنطقة ستتغيّر. كانت بذرة الفتن قد زرعت، وليس الانسحاب الأميركي من العراق ما سيوقف نموّها. وليست «المبادئ» التي أعلنها باراك أوباما للتعامل مع الانتفاضات العربية هي ما سيساعد المجتمعات على تحقيق الأهداف الصحيحة التي حددتها خلال حراكها، بدليل أن أربعة بلدان (العراق في طليعتها) أصبح متعذّراً على مكوّناتها أن تستمر في التعايش، وتبدو ماضية بسرعات متفاوتة إلى مصير قد يبدو مجهولاً إلا أن الدم لا ينفكّ يرسم معالمه على الأرض: فالعراق وسوريا، كما عرفا طوال قرنٍ، يتأرجحان الآن على شفير نهايتهما، وإذ افتقدا قيادات حكيمة وتعذّرت فيهما الحلول «الوطنية» فإن تقطيع الخرائط بات آخر الدواء، كوصفة لأزمات مفتوحة لا لحلول دائمة. أما في اليمن وليبيا فإن للتقسيم استنادات تاريخية غير بعيدة زمنياً وأعادتها صراعات «ما بعد الثورة» إلى الواجهة. ولا شك أن المشترك بين هذه الدول، وتشاطرها إياه دول عربية كثيرة، كونها دولاً فاشلة موصوفة لم يتردد حكامها السابقون والحاليون في سفك الدماء للبقاء في السلطة أو للاستحواذ عليها.
في ظل هذه التحولات الأليمة، والجراحية، لا مبالغة في القول إن العالم العربي بات أشبه بأرض سائبة ومستباحة، فيما يزداد تكالب الخارج الإقليمي والدولي لاستدراجه إلى الأسوأ، بل لإبقائه في الفخ الذي نصبه لنفسه. وكأن اللحظة التاريخية التي انتظرتها الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وتركيا وحتى كردستان، كل لأهدافها، سنحت أخيراً لتقسيم المقسّم واستقطاعه. أكثر من يشعر بسخونة ما يجري وهوله هي البلدان الصغيرة الواقعة على التماس العربي – الإقليمي. أليست ذروة الفشل أن يعاود نظام بغداد الاستعانة بالأميركيين، وأن يعوّل نظام دمشق في بقائه على الإيرانيين، وأن يتمنّى الليبيون تدخلاً دولياً، وأن يطالب اليمن بمزيد من الدعم الأمني الخارجي. الإرهاب مشكلة لكنه ليس كل المشكلة.
الاتحاد
ماذا اكتشف أوباما في العراق وسوريا؟/ فريدا غيتيس
أتلانتا، الولايات المتحدة الأمريكية (CNN) –لا يمكنك تجاهل كارثتين مزدوجتين حلتا بشعبي سوريا والعراق، وهذا ما تنبه له الرئيس باراك أوباما مؤخرا، بعد أكثر من ثلاثة أعوام من انتفاضة للإطاحة بالديكتاتور السوري، بشار الأسد، تحولت لاحقا إلى حرب أهلية، أوباما الآن يطلب من الكونغرس تخصيص 500 مليون دولار لتسليح وتدريب المعارضة السورية المعتدلة.
فات الأوان، مات أكثر من 50 ألف سوري، إنه عدد مذهل، والوضع يزداد سوءا.
والآن العراق أصبح ساحة لاقتتال طائفي يهدد بكارثة إقليمية أكبر، فالجماعات المتنافسة والأيديولوجيات المتناحرة بحالة حرب، والجماعات الاكثر راديكالية تقاتل بإستماتة وتحقق مكاسب.
ما من مجال للشك بأن هذه أكثر الصراعات تعقيدا، ومن يفوز فيها هم الأشخاص الخطأ، ويعود ذلك جزئيا إلى تلقيها دعما لم تنل منه الأيديولوجيات المعتدلة حظا.
الأسد، الذي كان سقوطه محتوما، تلقى دعما من عسكريا من إيران وتعزيزات بشرية من جماعة “حزب الله” الشيعية اللبنانية، التي ساعدته في قلب موازين القوى بميادين القتال لصالحه. هدد أوباما بالتدخل عقب استخدام الأسد الأسلحة أسلحة كيماوية، لكنه تراجع بعد اتفاقية نزع الترسانة الكيماوية، لكن الأسد مستمر في ذبح المدنيين وبالآلاف.
وبالمقابل، معارضو الأسد الساعين للإطاحة به منقسمين بشدة ويتقاتلون فيما بينهم، المعتدلون تراجعوا أمام تقدم المتشددين من يتلقون دعما في شكل تبرعات من دول خليجية، لكن حتى العناصر المتشددة منقسمة على نفسها، فجبهة النصرة – ذراع تنظيم القاعدة في سوريا، انفصلت عن “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – داعش.
نجاح الجماعات المتشددة مرتبط بتعصبها الراديكالي، وكلما حققت تقدما اكتسبت المزيد من الدعم والإقبال على أيدولوجياتها وتعضيد كوادرها وأعدادهم، ومنظمات مثل “داعش”، التي ازدادت ثراء الآن، ليس لديها نية بوقف توسعها.
الحرب في سوريا تجاوزت الحدود لتطال، وعلى أسوأ طريقة ممكنه، العراق، ولا تهدد وجود تلك الدولة فحسب، بل باحتمال واقعي للغاية بتجذر دولة إسلامية متشددة عبر كل من العراق وسوريا، تكون قاعدة انطلاق لمهاجمة حلفاء أمريكا، الأردن في مقدمتها، ولتدريب الإرهابيين ووضع مخططات إرهابية.
ما من شك إيجاد “معتدلين” مهمة غاية في الصعوبة، وحقيقة أن لخطط أوباما البدء في تسليح المعارضة السورية المعتدلة خطورة، فالأسلحة قد تقع بالأيدي الخطأ، كما حدث من قبل، والتدخل، حتى غير المباشر، في حرب طائفية مشروع خطير.
الأزمة الراهنة تتضاءل امامها كافة الأزمات، يعتبرها خبراء بأنها الأخطر بالشرق الأوسط خلال العقود الأربع الماضي، حجم المعاناة الإنسانية مخيف، وما هو على المحك على الاستقرار الدولي، على المنظور البعيد، ضخم.. قرار الغرب بالنأي بالنفس أتاح بلورة أسوأ النتائج، وهو ما لا يمكن الدفاع عنه.
المأزق العراقي يبدو أكثر تعقيدا، فأمريكا تنأى عن الوقوف لأي جانب في حرب سنة شيعية، إرسال واشنطن لـ300 مستشار للعمل مع الجيش العراقي (غالبيته من الشيعة)، بجانب قرارها الآن تسليح المعارضة السورية المعتدلة (ومعظمهم من السنة)، وتسير بحذر محاولة عدم الانحياز لأي جانب، كما يجب أن تكون.
اضطرابات الشرق الأوسط قد تبدو كمنطقة كوارث ضبابية وبعيدة، لكن بالنظر للتاريخ، فأنها كالمعتاد تصل شررها قريبا من أمريكا وتفرض تغييرات على حياة الكثيرين بمختلف أنحاء العالم.
الحرب في سوريا جذبت بالفعل عددا من المقاتلين من الدول الغربية، من أمريكا وأوروبا.. سوريا والآن العراق أصبحا أراض لتدريب إرهابيين محتملين.
أجهزة الأمن الأوروبية أصابها الرعب بشأن تأثير ذلك على أمن أراضيها، وقال مسؤول أوروبي بارز في مجال مكافحة الإرهاب: “التهديدات الإرهابية لم تكن قط بهذا الحجم”، وبدوره قال مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، جيمس كومي، إن الآلاف من الأوروبيين توجهوا إلى سوريا للقتال إلى جانب الإسلاميين، انضم إليهم عشرات الأمريكيين، وهناك انتحاري من فلوريدا فجر نفسه مؤخرا في سوريا.
بعض هؤلاء الجهاديين الدمويين يحملون جوازات سفر أوروبية وأمريكية ما يعني تجولهم بحرية بغالبية أنحاء العالم، سيعودون إلى الوطن، مؤخرا، اتهم فرنسي عائد من سوريا بقتل أربعة أشخاص في هجوم على المتحف اليهودي في بروكسيل.
التهديدات الأخيرة في امستردام تم التعامل معها بجدية بالغة في ظل مخاوف الاستخبارات الهولندية من عودة الجهاديين الهولنديين للوطن مشبعين بالأفكار الأيديولوجية الخطيرة، والعزم على تنفيذ هجمات ضد الغرب ونشر أفكارهم الراديكالية بين الجالية الهولندية المسلمة.
أجهزة مكافحة الإرهاب تعمل على منع هجمات، والقتال في سوريا والعراق يدمر الحياة، ويفرز جيلا من المضطربين نفسيا الذين قد يسعون للانتقام . إدامة هذا الصراع تهدد بتمزيق الشرق الأوسط.
قد يكون من السهل أن نزيح بوجههنا بعيدا والإدعاء بأنها أزمة معقدة للغاية، ولا تخصنا لنتعامل معها، لكن التداعيات الإنسانية والأمنية يستحيل تجاهلها. أوباما اكتشف بأنه لا يمكنه تجاهلها، وهذا ينطبق علينا أيضا.
محررة عمود الشؤون الدولية بصحيفة “ميامي هيرالد اند وورلد بوليتكيس ريفيو”، عملت سابقا كمنتحة ومراسلة صحفية مع الشبكة، ومؤلفة كتاب “نهاية الثورة: عالم متغيير في عصار البث التلفزيوني المباشر”،.. وهي كاتبة المقال أدناه وكل الآراء الواردة هناك لا تمثل سوى آراء الكاتبة.
جيش التحرير الأميركي/ حـازم الأميـن
أحدثت غزوة داعش المدن العراقية في الغرب وفي الشمال انقلاباً قيميّاً هائلاً. ففي ظل هذه الغزوة حصلت مصالحة تاريخية بين “الامبريالية الأميركية” والممانعة. ها هي إيران تطلب من الولايات المتحدة الأميركية قصف مواقع داعش في الموصل. رأس الممانعة يطلب من رأس الامبريالية أن تتولى الأخيرة تحرير الموصل من داعش!
إيران تدرك أن الجيش العراقي لا يمكنه القيام بالمهمة، ذاك أن فضيحة الموصل كشفت ضآلة هذا الجيش، وكانت فضيحة سابقة قد كشفت عن هذه الضآلة، فداعش تحتل الفلوجة منذ أكثر من ستة أشهر ولم يتمكن الجيش من تحريرها.
تقنياً، يمكن لإيران أن تقوم بالمهمة، لكن ذلك سيعني حرباً سنية شيعية مفتوحة، وسيعني أيضاً تحول داعش الى حامية ومستقطبة للسنّة من المحيط الى الخليج، وستصبح الحرب بين أبو بكر البغدادي وقاسم سليماني، ولن يتمكن الأخير من هزم داعش التي ستكون، في حال تدخل طهران الشيعية، “أهل السنّة كلهم”.
لا بأس بالامبريالية إذاً! وقد طلب فعلاً نوري المالكي من جون كيري أن يتدخل الجيش الأميركي عبر قصف جوي لداعش في الموصل.
خطاب الممانعة هذه المرة أمام امتحان أكبر من ذاك الذي خضع له بعد زيارة البطريرك الراعي اسرائيل. في حينها أتاح حزب الله لهامشه غير الحزبي حملة محدودة، فيما ضرب هو صمتاً على الزيارة كان بمثابة قبول بها. وها هو الراعي اليوم وقد عاد بطريركاً للممانعة.
كل من تلتقي بهم من الديبلوماسيين الغربيين يقولون إن ايران تريد ضربة أميركية لداعش، وإن واشنطن متردّدة. أحدثت غزوة داعش المدن العراقية في الغرب وفي الشمال انقلاباً قيميّاً هائلاً. ها هي إيران تطلب من الولايات المتحدة الأميركية قصف مواقع داعش في الموصل وهل ستسمّي تدخلنا احتلالاً؟ وواشنطن المذهولة برؤية سيارات الهامر، التي زوّدت بها الجيش العراقي، يقودها اليوم مقاتلو داعش في الموصل، تعلّمت من تجربتها الأولى في بغداد. تريد خطاباً مرحِّباً بالمهمة، وتريد أن يكون جيشها جيش تحرير.
إذاً، فإن كيري طلب كرسياً على مائدة الممانعة. يريد أن يكون شريكاً في هذه اللعبة المغرية. هو يعرف أن هذا الخطاب ليس أكثر من قناع لحروب أهلية ولشقاق وشقاء واستبداد، ويعرف أيضاً أن أهمية الموصل لطهران تفوق أهمية القدس، وأن الصراع السنّي الشيعي في وعي كل أطراف النزاع يفوق بأهميته الصراع مع اسرائيل، ولهذا فقد حجز مقعداً هنا على هذه الطاولة، بعد أن أضناه الضجر على طاولة الصراع العربي الاسرائيلي.
هذه الوقائع جرت فعلاً في الأيام القليلة الفائتة. نعم، علينا أن نفرك أعيننا جيداً لنرى، وعلينا أن نعيد الاستماع لنصدّق. لكنها جرت، ومن الآن وصاعداً علينا أن نُطلق العنان لخيالنا، فربما أقدمت داعش على قصف اسرائيل، وربما وصلت قذائفها الى ما بعد بعد حيفا، وحينها علينا أن نتوقّع خطاباً ممانعاً مختلفاً، ذاك أن جون كيري اليوم على رأس المائدة، يجلس هناك، تماماً بين نوري المالكي وقاسم سليماني، وعندها سيصمت الجميع عن السؤال: هل ما قامت به داعش بقصفها اسرائيل إرهاب أم مقاومة؟
موقع لبنان ناو

 
حافة الانهيار: العراق يتأرجح بين سلطة توافقية وحرب أهلية/ الحواس تقية
ملخص
خلال أسبوع واحد، تمكَّن عدد من الفصائل المسلحة من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العرق، نحو مليوني ساكن، وجزء كبير من محافظة نينوى، وتكريت ومناطق أخرى من محافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك؛ فأصبحت كل منطقة العرب السُّنَّة تقريبًا بالعراق خارج سيطرة بغداد، تُضاف إليها مناطق سورية بين حلب والرقة ودير الزور؛ لأنها جزء من المناطق التي خضعت سابقًا لسيطرة الدولة الإسلامية، وكانت عاملاً مهمًّا في نجاح هذه العملية العسكرية؛ لأنها وفَّرت لهم العتاد الثقيل والتمويل.
مثّل هذا التطوُّر تهديدًا لعدَّة قوى؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي بات يفتقد القوات المسلحة القادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرته، وإيران تخشى من سقوط حلفائها في بغداد، والنظام السوري يخشى من حصول الدولة الإسلامية على موارد إضافية تجعلها قادرة على التمدد في سوريا أكثر؛ وأميركا والقوى الغربية وروسيا والصين تخشى من قيام دولة جهادية بين العراق وسوريا تجذب إليها القوى الجهادية من مختلف بقاع العالم؛ فتوفِّر لهم التدريب والتمويل، وتعيدهم إلى بلدانهم لينفِّذوا عمليات مسلحة.
مقدمة
خلال أسبوع واحد، تمكَّن عدد من الفصائل المسلحة -متشكِّلة من قوات الدولة الإسلامية بالعراق والشام بقيادة أبو بكر البغدادي، وجيش الطريقة النقشبندية بقيادة عزت إبراهيم القائد السابق في الجيش العراقي أثناء حكم صدام حسين، وقوى تابعة للعشائر العربية السنية؛ مثل: مجلس ثوار عشائر العراق- من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العرق، نحو مليوني ساكن، وجزء كبير من محافظة نينوى، وتكريت ومناطق أخرى من محافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك؛ فأصبحت كل منطقة العرب السُّنَّة تقريبًا بالعراق خارج سيطرة بغداد، تُضاف إليها مناطق سورية بين حلب والرقة ودير الزور؛ لأنها جزء من المناطق التي خضعت سابقًا لسيطرة الدولة الإسلامية، وكانت عاملاً مهمًّا في نجاح هذا العملية العسكرية؛ لأنها وفَّرت لهم العتاد الثقيل والتمويل.
عدَّة عوامل تُفَسِّر انهيار القوات العراقية السريع، ويمكن إجمالها في تناقص القوى الداعمة لرئيس الوزراء المالكي، وتنامي قدرة القوى الرافضة له، فالمالكي خسر مساندة القوتين الشيعيتين الرئيستين؛ وهما: المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، وتنظيم مقتدى الصدر؛ لأنه جمع كل السلطات الرئيسية بين يديه؛ فصارت الأجهزة الأمنية جميعها تحت سلطته المباشرة وغير المباشرة، فاتهمه الصدر بالاستبداد وطالب بإزاحته، واتفق مع عمار الحكيم خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة على تشكيل جبهة تتصدَّى لبقاء المالكي في السلطة. وأثَّر هذا الموقف على تماسك القوات المسلحة العراقية؛ لأن عددًا كبيرًا منها يتشكَّل من عناصر كانت تابعة لميلشيات الصدر والحكيم، فباتت تُشكِّك في سلطة المالكي وتتردَّد في تنفيذ أوامره.
كان السخط في جانب العشائر السُّنِّيَّة على المالكي أكبر؛ لأنه تجاهل احتجاجاتهم السلمية؛ التي دامت نحو عام، واتهمهم في النهاية بإيواء الإرهابيين في ساحات الاعتصام، واستعمل القوَّة للقضاء على احتجاجاتهم، فأعلن الحرب على الفلوجة، وقصفها بالطائرات، والبراميل المتفجرة كما يفعل بشار الأسد في سوريا، وأمر باعتقال قيادات سنية مشاركة في الاحتجاجات؛ مثل الوزير رافع العيساوي؛ ويمثل الخيار الأمني مع المحتجين السُّنَّة حلقة في سلسلة من المواقف الإقصائية التي مارسها نوري المالكي نحوهم منذ مدَّة؛ فلقد تنكَّر للوعود التي قطعها الأميركيون للصحوات، الذين يُقدَّر عددهم بنحو 100 ألف مقاتل، فلم يدمجهم في القوات العراقية، وقطع رواتبهم، فلم يترك لهم خيارًا إلا الالتحاق بالقوى المسلحة؛ التي توفِّر لهم الموارد، وتسعى مثلهم إلى إسقاط نوري المالكي.
يُشارك الأكراد القوى السابقة في السعي للإطاحة بالمالكي؛ لأنه لم يفِ بحقهم من المخصَّصات المالية المنصوص عليها في الدستور، وتوعَّد بعقابهم وملاحقتهم قضائيًّا؛ لأنهم اتفقوا مع تركيا على الشروع في الاستثمار في قطاع الطاقة، وظلَّ يُماطل في تسوية وضع المناطق المتنازع عليها بين الجانبين.
تَوَافُق هذه القوى على مطلب الإطاحة بالمالكي جعل هامش مناورته ضيقًا، وفي المقابل اتَّسع هامش مناورة القوى المسلحة التي تسعى للإطاحة به، فاتحدت من جهة تقريبًا كل القوى السنية على خيار السلاح، وأعانهم حياد الأكراد؛ الذين لم يُسارعوا إلى نجدة المالكي؛ بل إنهم حصلوا على منطقة كركوك الغنية بالنفط؛ التي ظلَّ المالكي يُعارض سيطرتهم عليها من قبل، فلم يبق في مواجهتهم إلا قوات عراقية منكسرة المعنويات؛ لأن ولاءاتها متضاربة بين قوى شيعية متصدعة.
تتحكم في اتساع هذا الاجتياح العسكري عدَّة عوامل؛ فهو يتكون من قوى تحصر مطالبها في إطار الإقليم العراقي؛ مثل قوات العشائر، وعناصر الجيش العراقي السابق، وقوى وطنية أخرى قد تكون روحية؛ مثل: أتباع الطريقة النقشبندية، أو قوى سنية مقاومة، ويتكون -أيضًا- من الدولة الإسلامية؛ التي لا تعترف بالإطار الإقليمي، وتسعى إلى إقامة خلافة إسلامية؛ لكنها تحصر توسُّعها في المناطق التي يُسيطر عليها الشيعة، فلم تهاجم الأكراد، وأعطتهم الأمان؛ لأنهم في نظرها سُنَّة، علاوة على أن موارد الدولة الإسلامية محدودة، فعدد قواتها يتراوح بين 10000 إلى 20000 ألف، يتوزعون حسب تقديرات الإيكونوميست التقريبية بين 6000 في العراق ونحو 5000 في سوريا، فهي ليست كافية للسيطرة على مساحة أوسع، ثم إن تركيز الدولة الإسلامية ينصب حاليا على التحكم في طرق الإمداد نحو سوريا والمراكز الحيوية في العراق مثل مصفاة بيجي التي تنتج يوميا نحو 300 ألف برميل من النفط. هذه المحدِّدات تمنع الدولة الإسلامية من مهاجمة الأردن أو الكويت؛ لأنهم من جانب سُنَّة، ومن جانب آخر تخشى أن تُثير عداء العشائر السنية العراقية التي ترتبط بعلاقات حسنة مع السعودية حليف البلدين، ومن جانب ثالث تتشتت جهود الدولة الإسلامية في مناطق شاسعة.
على الرغم من هذه الاعتبارات، مثّل هذا التطوُّر تهديدًا لعدَّة قوى؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي بات يفتقد القوات المسلحة القادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرته، وبات يخشى على بغداد من السقوط، والقوى الشيعية العراقية باتت تخشى وصول الاجتياح إلى مناطق يسكنها الشيعة أو أماكن مقدسة، وإيران تخشى من سقوط حلفائها في بغداد، وانقطاع الطرق المؤدية إلى سوريا؛ والنظام السوري يخشى من حصول الدولة الإسلامية على موارد إضافية تجعلها قادرة على التمدد في سوريا أكثر؛ وأميركا والقوى الغربية وروسيا والصين تخشى من قيام دولة جهادية بين العراق وسوريا تجذب إليها القوى الجهادية من مختلف بقاع العالم؛ فتوفِّر لهم التدريب والتمويل، وتعيدهم إلى بلدانهم لينفِّذوا عمليات مسلحة.
هناك قوى أخرى ترى هذا التطور يجمع بين الخطر والفرصة؛ فهو يخدم السعودية لأنه يضرب هيمنة إيران على العراق ويقطعها عن سوريا؛ لكن يهددها لأن الدولة الإسلامية تُعَدُّ في نشأتها فرعًا من تنظيم القاعدة؛ الذي يرفض الاعتراف بشرعية النظام السعودي، ونفَّذ عمليات مسلحة بالسعودية عدَّة مرَّات في السابق. وهو يخدم تركيا لأنه يكسر الهيمنة الإيرانية على العراق، ويشكل ضغطًا مستمرًّا على كردستان العراق وعلى الأكراد السوريين؛ لكن من جانب آخر يمثل تهديدًا؛ فالمسلحون اعتقلوا عددًا من الدبلوماسيين الأتراك بالموصل، وسيؤدي قيام دولة سنية إلى قيام دولة كردية بالعراق تكون سابقة قد يبني عليها أكراد تركيا.
هذه الأطراف ستتعامل مع هذه التطورات بأجندات مختلفة للقضاء على الخطر الذي يداهمها، وإضعاف خصومها، وتعظيم مكاسبها، ويمكن تقسيم استراتيجيات القوى المختلفة إلى ثلاثة سيناريوهات:
الرهان على الرد المسلح للحفاظ على الوضع، أو المشاركة السياسية للسنة في النظام العراقي مقابل الحفاظ على وحدة أراضي العراق، ومنح السنة إقليمًا مشابهًا لإقليم كردستان يحظى بحكم ذاتي، أو تقسيم العراق إلى ثلاث دول.
السيناريو الأول: العودة إلى الوضع السابق بالسلاح
يدعم هذا السيناريو رئيس الوزراء نوري المالكي؛ لأن خوف المكون الشيعي من الخطر السني الداهم يجعل كلاًّ من عمار الحكيم ومقتدى الصدر يتخليان مؤقتًا عن مطالبتهما بتنحي نوري المالكي، ويعطيان الأولوية لرصِّ الصفِّ الشيعي، فيظل المالكي رئيسًا للوزراء دون أن يتراجع عن سياساته الإقصائية؛ التي دفعت قطاعات عريضة من السنة إلى التشدد واليأس من جدوى المشاركة السياسية والمراهنة على السلاح، والقتال بجانب الدولة الإسلامية التي قاتلوها سابقًا حين شكَّلُوا الصحوات.
تُوَافِق إيران بشكل عامِّ على هذا السيناريو؛ فسارعت إلى مساندة الحكومة العراقية؛ لكنها لن تستطيع التدخُّل السافر بقواتها؛ لأنها تستفزُّ الدول السنية المجاورة، وتبدو الحكومة العراقية موجودة بفضلها فتستفزّ المشاعر الوطنية العراقية داخل الشيعة العراقيين أنفسهم، وستختار بدلاً من ذلك القيادة من الخلف، والعمل على توحيد الصف الشيعي العراقي؛ فإيران ستصرُّ على زوال هذا الكيان السني الذي تشكَّل في مواجهة الشيعة، وتوعد أحد مكوناته -الدولة الإسلامية- بالقضاء عليهم؛ ولن تقبل بقيام دولة سنية معادية تقطعها عن سوريا وحليفها حزب الله في لبنان؛ لكنها من جهة أخرى قد تضطر إلى إبعاد المالكي؛ لأنه عامل انقسام بين القوى الشيعية، وجعل القوى السنية المعتدلة تتشدَّد وتراهن على العمل المسلح، وتخشى من أن تؤدي دعوة المالكي إلى تشكيل ميلشيات شعبية مسلحة إلى تفاقم الاستقطاب الشيعي السني، فتتحوَّل إلى دولة طائفية تفتقد شرعية التحدث باسم المسلمين جميعًا، فتزداد عزلتها في العالم الإسلامي والمنطقة العربية.
علاوة على هذا الاختلاف، لا يمتلك المالكي حاليًّا القدرة العسكرية على استرداد المناطق المفقودة؛ فمعركة الموصل أظهرت ضعف الجيش العراقي؛ حيث تمكَّن نحو 800 مقاتل من مواجهة 30 ألف مقاتل عراقي، سارعوا إلى الفرار، وتركوا وراءهم عتادهم، فحصل المسلحون على أسلحة ودبابات، وعربات هامفي، ومروحيتين من نوع بلاك هوك، وأخذوا من مصرف الموصل 430 مليون دولار وسبائك ذهبية (1). وتُعَدُّ دعوته إلى تشكيل ميلشيات مسلحة اعترافًا بأن القوات المسلحة النظامية ليست قادرة على صدِّ الهجمات المتوقعة للمسلحين على مناطق حيوية مثل سامراء؛ التي يوجد بها مرقدا الإمامين الهادي والعسكري، أو تلعفر التي يوجد بها نحو 200 ألف شيعي فرَّ كثير منهم حين دخلها المسلحون؛ لكن استجابة القوى الشيعية لدعوة تشكيل ميلشيات سيجعل من جانب آخر المالكي ضعيفًا؛ لأن عددًا مهمًّا من تلك الميلشيات يدين بالولاء لقيادات ترفض بقاء المالكي؛ مثل: منظمة بدر التابعة للحكيم وسرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر؛ فالمالكي لن يكون بالضرورة فائزًا في هذا السيناريو؛ لأن إيران والقوى الشيعية قد تزيحه لإعادة ترميم البيت الشيعي.
يعيق نجاح هذه السيناريو الموقف الأميركي؛ الذي يخشى أن تؤدي مساندته للميلشيات الشيعية إلى تهديد مصالحه في العالم السني، وأن يكون شريكًا في حرب أهلية تقضي على أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين بالمناطق السنية؛ فتثير رفض الرأي العام الأميركي، ولن يكون بعدها راعيًا لأي مصالحة تُعيد تشكيل النظام السياسي العراقي، ويخشى الأميركيون من أن يساعد تسليحهم للمالكي بالمروحيات على استعمالها لاحقًا في إخضاع كردستان، ولعلهم أيضًا لا يثقون في أن العمل العسكري قد يجدي؛ فلقد هاجم المالكي منطقة الفلوجة منذ نهاية عام 2013 إلى اليوم بالطائرات والمدفعية؛ لكنه لم ينجح في إخضاعها. وسيجد الأميركيون مصلحتهم في حلٍّ سياسي يقوم على إدماج حقيقي للسنة في النظام السياسي العراق، ويتلخص تقريبًا في الشروط الثلاثة التي وضعتها هيلاري كلينتون -المرشحة الديمقراطية المحتملة للانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة- للتدخل الأميركي؛ وهي: تشكيل حكومة تضمُّ الجميع، تشكيل جيش يمثِّل مختلف المكونات، والتخلِّي عن سياسة الإقصاء التي انتهجها المالكي. وستضطر الولايات المتحدة إلى الاستعانة بحلفائها في المنطقة لتسوية الأوضاع بالعراق؛ لأنها منشغلة بتركيز قواتها بالمحيط الهادي، ومساعدة حلفائها الأوروبيين في أوكرانيا، وستعتمد على دولتين رئيستين؛ هما: السعودية، وقطر؛ لأنهما تتأثَّران بالأوضاع العراقية، وتمتلكان أدوات التأثير في مجريات الأوضاع هناك.
والمحصلة أن السعي إلى استعادة الوضع السابق بالميلشيات المسلحة سيؤدي إلى حرب أهلية طائفية ستزعزع المنطقة، وتجعل العراق دولة أخرى فاشلة تجذب الجهاديين من المتشددين السنة والشيعة للتقاتل، فتفر أعداد كبيرة من العراقيين إلى دول الجوار، حيث ظهرت بوادر ذلك في فرار نحو نصف مليون من سكان الموصل إلى كردستان عقب سقوط مدينتهم بيد المسلحين، فيعمَّ الاضطراب المنطقة.
السيناريو الثاني: المشاركة والفيدرالية
تدعم السعودية خيار التشارك في السلطة من أجل الحفاظ على وحدة العراق، فدعا مجلس الوزراء السعودي إلى تشكيل حكومة وفاق وطني عراقية تتخلَّى عن سياسة الإقصاء التي مارسها نوري المالكي، فتثق القوى السنية المعتدلة من جديد في جدوى الحلِّ السياسي فتتخلَّى عن السلاح، وتبتعد عن الدولة الإسلامية التي تريد تقسيم العراق، وقد تشارك في وقت لاحق في إخراج الدولة الإسلامية من العراق؛ كما فعلت الصحوات من قبل. ويتوافق الموقف القطري مع الموقف السعودي في اعتبار المالكي المسؤول عن تردِّي الأوضاع؛ أي أن إزالته والتخلِّي عن سياسة الإقصاء سيكونان الحلَّ المناسب للأزمة العراقية، ويحقق هذا الخيار مصلحة تركيا؛ التي تريد عراقًا موحَّدًا ولو بحكومة ضعيفة؛ حتى لا يؤدي تقسيمه إلى تحوُّل إقليم كردستان إلى دولة مستقلَّة.
تمتلك السعودية ورقة مهمَّة لتسهيل تحقيق هذا السيناريو؛ وهي علاقتها المميزة بالعشائر السنية العراقية التي تشارك في القتال حاليًّا بجانب الدولة الإسلامية؛ لكن هذه القبائل السنية تتواجد -أيضًا- في أحزاب تتخوَّف منها السعودية؛ لأنها تنتمي إلى الإخوان المسلمين؛ مثل: الحزب الإسلامي العراقي، الذي انحدر منه طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية العراقية؛ لكن المالكي اتهمه بالإرهاب؛ فاضطر إلى مغادرة العراق، وستحتاج السعودية إلى قطر التي تمتلك علاقات مميزة بهذه القوى لتشكيل توافق سني يرضى بالمشاركة في الحكومة العراقية مقابل انفصاله عن الدولة الإسلامية، فتحقق الدولتان هدف إزاحة المالكي، والتأثير مستقبلاً في الحكومة العراقية من أجل تقييد النفوذ الإيراني.
يمكن أن تشارك إيران في هذا السيناريو؛ لأن خيار العمل المسلح لاسترداد المناطق السنية لا تمتلك الحكومة العراقية موارده الكافية، وقد ينزلق خيار تشكيل ميلشيات مسلحة إلى حرب طائفية تقضي على أي توافق سياسي في المستقبل؛ فتجد إيران أن الأفضل دعم خيار المشاركة السياسية للسنة؛ إلا أن نجاح هذا الخيار يحتاج إلى توافق القوى الإقليمية، وعلى رأسها توافق إيران والسعودية؛ لكن البلدان لم يتواصلا مع بعضهما منذ مدَّة طويلة، وتقف عدَّة عقبات في الطريق التقارب بينهما، فيمكن أن تكون قطر عامل تقريب وتسهيل للتواصل بينهما.
قد يتحوَّل خيار المشاركة إلى خيار الفيدرالية، فيكون تقاسم السلطة أكبر بين المركز ببغداد والمناطق السنية، ويسند هذا الخيار الدستوري العراقي الذي ينص على جوازه، وتتبنَّاه حكومة إقليم كردستان؛ التي تُحَمِّل سياسة المالكي الإقصائية سيطرة المسلحين على مناطق واسعة من العراق، ويمكن أن تُفَضِّل السعودية وقطر وتركيا هذا الخيار؛ لأنه من مصلحة السعودية وقطر قيام إقليم سني محاذٍ لسوريا؛ فيعزل بشكل كبير نظام الأسد عن الدعم العراقي الإيراني. وتُشَارِكهما تركيا جدوى هذا الخيار؛ لأنه يمنع كردستان من التحوُّل إلى دولة مستقلة.
يعتمد نجاح هذا السيناريو على تعاون سعودي قطري، يُوَسِّع نفوذهما بعد ذلك في سوريا.
السيناريو الثالث: التقسيم
تدعم هذا الخيار الدولة الإسلامية التي أعلن زعيمها أبو بكر البغدادي أن هدفه إقامة خلافة إسلامية، تكون منطقة العراق والشام مركزها الرئيسي، ثم تتوسع إلى باقي المناطق الإسلامية، وتقضي في طريقها على الشيعة؛ لكن القوى المسلحة العراقية المتحالفة معه لا تتقاسم الهدف نفسه؛ فجيش الطريقة النقشبندية يتشكَّل من عناصر من الجيش العراقي السابق ومن صوفية، ويجعل هدفه تحرير العراق من النفوذ الإيراني بعد أن دحر القوات الأميركية، فتنحصر أجندته في الاستيلاء على السلطة داخل إقليم العراق.
وتندرج كذلك مطالب العشائر في إنهاء الإقصاء الذي تمارسه عليهم الحكومة العراقية، ويرفضون تقسيم العراق، ولا يسعون إلى بسط سيطرتهم خارج حدود بلدهم. والواضح أن الجماعات السنية المسلحة تختلف في أجندتها السياسية، ولا يجمعها حاليًّا إلا السخط على الحكومة العراقية، وقد تتضارب مصالحهم إذا وجد طرفٌ منهم أن الأطراف الأخرى تمنعه من تحقيق أهدافه؛ فالعشائر العراقية أقرب إلى القبول بالمشاركة السياسية؛ لأنها كانت ممثلة من قبل فيها، وشاركت في تكوين الصحوات التي قاتلت القاعدة سابقًا؛ لكن مشاركة جيش الطريقة النقشبندية أصعب؛ لأنه يشترط إزالة آثار الاحتلال؛ بما فيها العملية السياسية التي أوصلت قوى شيعية حليفة لإيران إلى السلطة، أما الدولة الإسلامية فترفض نهائيًّا شرعية الحكومة العراقية والدولة العراقية، وتبتهج بنجاحها في إزالة الحدود بين العراق وسوريا؛ لأنه -برأييها- إنهاء لاتفاقية سايكس- بيكو التي قسَّمت العالم العربي بين القوتين البريطانية والفرنسية.
بالطبع يصبُّ خيار التقسيم في مصلحة إقليم كردستان؛ لأنه يحقِّق حلمه في الحصول على الاستقلال التام؛ لكنه يخشى من الردِّ التركي الرافض لهذا الخيار؛ حتى لا يؤدي إلى تشكيل نواة قد تجذب إليها المنطقة الكردية بتركيا، وتدعم إيران خيار رفض التقسيم؛ لأنه خطر على عراقيين شيعة متواجدين بمناطق سنية، وقد يجذب استقلال كردستان نحو المنطقة الكردية بإيران، وتشارك السعودية وقطر وأميركا والصين وروسيا هذا الرفض؛ لأنه يُهَدِّد من جانب الحدود القائمة، وسيسمح بقيام دولة يُشارك في قيادتها جهاديون سيجذبون القوى الجهادية إليهم؛ وقد يُشَكِّلُون سابقة تنتقل إلى دول أخرى.
الخاتمة
يبدو في مختلف السيناريوهات أن القوى التي ستُشَكِّل الأوضاع تَعتبر المالكي عقبة في طريق الحلِّ؛ إما لأنه في الحلِّ العسكري يعيق تشكل وفاق شيعي، أو يعيق تعاونًا كرديًّا، أو يمنع في الحل السياسي توسيع المشاركة السنية، ويُثير سخط حكومة كردستان، فتُرَجِّح هذه الاتجاهات رحيل المالكي، فيقلُّ عدد الداعين إلى الحلِّ العسكري، وتزداد حظوظ الداعين إلى حلٍّ سياسي، على رأسهم السعودية وقطر؛ لأن مخاطره وتكلفته أقل، ومنافعه تشمل الجميع بما فيها إقليم كردستان، ولا تتضرَّر منه إلا الدولة الإسلامية؛ التي ستعمل على إفشاله؛ لكنها ستفتقد الحاضنة الاجتماعية بالعراق والدعم الدولي بالخارج.
وكما كان الوضع في سوريا سببًا مباشرًا في نجاح الدولة الإسلامية في عملها العسكري بالعراق؛ فإن مختلف القوى الخارجية المؤثرة في سوريا -بما فيها إيران- ستستنتج أن استقرار الأوضاع في العراق يحتاج إلى تسوية للأزمة السورية حتى لا تجد القوى الجهادية حاضنة اجتماعية تستند عليها، فتتغير النظرة الإيرانية التي كانت تعتقد أن الدولة الإسلامية بسوريا تخدم بشكل غير مباشر نظام بشار الأسد؛ لأنها تجعل اتهامه للثوار بانتمائهم للقاعدة يجد قبولاً متزايد في الرأي العام الخارجي، علاوة على أن الدولة الإسلامية تقاتل في الأساس المعارضة السورية المسلحة، فتنهكها وتعيقها عن تركيز ضرباتها على نظام الأسد؛ لكن بمشاركة الدولة الإسلامية في السيطرة على المناطق السنية بالعراق باتت إيران ترى في التنظيم خطرًا داهمًا على مصالحها؛ هذا التطوُّر في العراق سيُقَرِّب وجهات نظر مختَلَف القوى الدولية نحو تسوية في سوريا، يكون هدفها الرئيس منع الدولة الإسلامية من أن تكون الفائز الأكبر في الصراعات الجارية بالمنطقة العربية.
__________________________________
الحواس تقية – باحث بمركز الجزيرة للدراسات

 

“داعش” والترويج الإعلامي /حسن بن سالم
بإزاء العمليات والمعارك العسكرية والميدانية التي يشنها ويقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أرض الواقع في العراق وسورية، ثمة عمليات ومعارك أخرى يديرها ربما تكون لها أهمية أكثر في بعض الأحيان من تلك التي تدور رحاها على الأرض، يستطيع من خلالها حسم معاركه وتوسع وتمدد نفوذه، تلك هي المتعلقة باستخدام واستغلال الوسائل والوسائط الإعلامية كافة التي يستطيع «داعش» من خلالها قلب المعادلات والموازنات لمصلحته في وضع سياسي مهترئ ومتهالك، وإذا كانت التنظيمات المتطرّفة كافة حول العالم تستخدم وتستعين بـ«السوشيال ميديا» للتجنيد والتمويل، إلا أنّ «داعش» فاجأ المهتمين والمختصين بدراسة الجماعات المتطرفة كافة لاسيما في الغرب بقدرته الاستثنائية على استغلال المواقع الاجتماعية في نشر آيديولوجيته وتجنيد أكبر عدد من الشبّان حول العالم، ومواكبة واستخدام أكثر الوسائل تطوراً وتقنية وبشكل ملاحظ وتوظيفها لمصالحه الميدانية.
لن نعود إلى الوراء للحديث عن بداية نشاطه الإعلامي على «الإنترنت»، وإنما من حيث ما انتهى إليه «داعش» من تطور هائل ومخيف في هذا المجال، فـ«داعش» لم يكتف بنقل تفاصيل أخباره صوتاً وصورة أولاً بأول من طريق مواقع «يوتيوب» و«فيسبوك» و«تويتر».
وأيضاً «آنستغرام» و«تمبلر»، التي تسهم بشكل كبير في صناعة بروبغاندا لها وتضخيم حجم سيطرتها ونفوذها، وبث الرعب والخوف في نفوس خصومها، وإنما قامت أخيراً باقتحام عالم تطبيقات الهواتف الذكية، فأحد مشاريع «داعش» في هذا المضمار هو تطبيق «فجر البشائر» باللغة العربية على موقع «تويتر»، الذي أطلق منذ أقل من شهرين ويتمّ تسويقه على أنّه منتج «داعش» الرسمي، إذ يتيح لمستخدميه بالاطلاع على آخر أخبار التنظيم الجهادي من خلال الاشتراك بالإنترنت أو على هواتف أندرويد من خلال تحميله من متجر غوغل، وهذا التطبيق لا يشبه غيره من التطبيقات، فمنذ لحظة تنزيله يبدأ بنشر تغريدات على صفحة المستخدم الشخصية بشكل آلي، وتتضمّن التغريدات روابط وهاشتاغ وصوراً وفيديوهات، ويتم نشر المضمون ذاته والتغرديات من حسابات جميع الذين نزّلوا التطبيق، لكن بفوارق زمنية محدّدة لتفادي الشبهات.
مجلة «ذا أتلانتيك» الأميركية أشارت إلى أن نشاط التطبيق في نشر التغريدات بلغ حجماً قياسياً خلال هجمات «داعش» الأخيرة لتبلغ حدود 40 ألف تغريدة في اليوم الواحد، ولمّا بدأت وسائل الإعلام تتحدّث عن تقدّم «داعش» صوب العاصمة بغداد، بدأ مئات مستخدمي تطبيق «فجر» بإرسال آلاف التغريدات التي تضمَّنت صورة لأحد مقاتلي داعش ينظر إلى علم التنظيم يرفرف فوق المدينة مع نص مكتوب على الصورة يقول: «إننا قادمون يا بغداد».
وكان حجم هذه التغريدات كبيراً، لدرجة أنّ أية عملية بحث عن كلمة بغداد على موقع «تويتر» سينتج منها ظهور صورة مقاتل داعش هذا في المقام الأول، وهو ما استخدم بالتأكيد كواحدة من وسائل ترهيب سكان المدينة، وتمت لاحقاً إزالة التطبيق من متجر غوغل للتطبيقات لمخالفته الأنظمة، وهم في حساباتهم على «تويتر» يعدون مؤيديهم بالعودة من جديد.
«داعش» يدرك تماماً الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعية في جعل تنظيمها عابراً للحدود وصناعة شعبية افتراضية تفوق الواقع، فهو ما إن يطأ أرضاً حتى يبادر بشكل منظم وسريع في تغذية المواقع بأخباره صوتاً وصورة، فمن بين سبعة حسابات فتحها التنظيم في محافظات صلاح الدين وديالي والأنبار ونينوى أغلق منها خمس، كما تم غلق الحساب الرسمي للتنظيم على «فيسبوك»، غير أنّ حسابات جديدة سرعان ما تظهر لتحلّ مكانها، ولم يفوت «داعش» على نفسه مناسبة كمناسبة كأس العالم، إذ ذكرت «إلاندبندنت» أنه ضخ كمية من الرسائل في هاشتاغات عدة مهمة مثل «#Brazil2014».
ربما يكون من المثير لدى الكثير من الإعلاميين والمهتمين كيف يستطيع تنظيم الدولة الإسلامية التجنيد والاستقطاب وكسب الدعم والتأييد، على رغم ممارساته الوحشية الفظيعة التي يحرص التنظيم على بثها لمشاهد الإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والتهليل والتكبير على ذلك، والتفنن في ابتكار الوسائل المرعبة في القتل كتصويرهم شباباً يحفرون قبر أبيهم قبل أن يُنفّذ بهم حكم الموت، وهنا يجب الإشارة إلى أن التنظيمات الجهادية تستهدف من خلال مواقع التواصل الاجتماعي إيصال رسائلها إلى ثلاث فئات:
أولها: المؤيدون والمتعاطفون، ويكون الهدف التواصل معهم بتجنيدهم واستثمارهم والحصول على دعمهم ومساندتهم، وثانيها موجه للرأي العام بغرض تأكيد قوة وانتشار نفوذها وتحركها على الأرض، وثالثها إلى خصومها من الدول ومؤسساتها بهدف زعزعة أمنها.
«داعش» يدير هذه العملية بدهاء، فهو حينما يقدم ويستعرض مشاهد القتل الوحشي ويضع تعليقاً من منظوره لتلك المشاهد مثلاً: «تصفية المئات من قطعان الجيش الصفوي وراية الدولة تعلو فوق جثثهم»، فهو تقدمها لأناس تفشت بينهم مشاعر خيبات الأمل والإحباط والخذلان واليأس والغضب الشديد لهم مما يجري ويمارس عليهم من سياسات طائفية، فيحاول أن يظهر وكأنه تمكن مما عجز عنه غيره تجاههم، وفي المقابل يقدمها لخصومه كافة بغرض بث الرعب والخوف والترويع وإضعاف معنوياتهم، وفي الوقت نفسه بدأ يسعى إلى ترويج صور تقديمه المساعدات والتفقد للأهالي في المناطق المسيطر عليها، بغرض إحداث خلخلة لدى المتعاطف تجاه ما يسمعه ويقرأه عن وحشية «داعش».
مقلق جداً إطالة أمد الصراع السياسي في المنطقة، ما يصب لمصلحة داعش، فكل يوم يمر في ظل انسداد الأفق المستقبلي للخروج من هذا الصراع، فهو يستثمره في استنزاف واستغلال الناشئة وتوريطهم من خلال ذلك الترويج والضخ الإعلامي الهائل والمتزايد على «الإنترنت» كتابة وصوتاً وصورة.
* كاتب سعودي.
الحياة
البغدادي «خليفة»… لمَن؟/ الياس حرفوش
من تمثل هذه «الدولة الإسلامية» التي اعلنت عن مبايعة ابي بكر البغدادي «خليفة للمسلمين» وباسم من تتكلم؟ البيان الذي قرأناه عن انبعاث «الخلافة» كان يمكن اعتباره مجرد مزحة ثقيلة الظل، لولا اعمال القتل والارهاب والوحشية التي تميز سلوك هؤلاء الذين باتوا يشكلون أخطر بدعة في تاريخ الاسلام وأكبر خطر على تراثه.
«الدولة الاسلامية» المزعومة هذه لا ينتج من حكمها سوى تفكيك المسلمين ونشر الاقتتال بين صفوفهم، وتقديم أسوأ صورة ممكنة عنهم الى ابنائهم اولاً والى العالم الخارجي ثانياً. وفي الوقت الذي تعلن هذه «الدولة» سقوط الحدود بين سورية والعراق، بحجة الانتصار على حالة التقسيم التي تقول انها نتجت من اتفاق «سايكس بيكو» لاراضي الدولة العثمانية، فانها في حقيقة الامر لا تعمل الا على تفكيك الدولتين اللتين ينشط اجرامها فيهما اليوم، كما انه مرشح للانتشار في بلدان اخرى. فاذا كان صحيحاً ان السنّة في العراق وسورية، الذين يزعم هذا «الخليفة» البائس الحديث باسمهم ورفع الظلامة عنهم، يسعون الى تصحيح اوضاعهم وتحقيق المساواة بينهم وبين سائر المواطنين، فانهم بالتأكيد لا يسعون الى تقسيم بلدهم ولا الى اقتطاع جزء منه ليقيموا فيه معزولين، كما انهم لا يرون صورتهم في ابي بكر البغدادي ولا في سلفه ابي مصعب الزرقاوي، مثلما انه لم يروا صورتهم من قبل في ذلك «الخليفة» الآخر الملا عمر، الذي جلبت «خلافته» واحتضانه لاسامة بن لادن اكبر كارثة على صورة المسلمين في العالم.
ظاهرة «داعش» التي تديرها عصابة البغدادي، والتي تحولت الى منتج جديد باسم «الدولة الاسلامية» او «داس» (ارجو ان يدفعوا حق استخدام هذا الشعار اذا تبنّوه) هي ظاهرة لا تنضح الا بالتخلف وبالاغتراب عن العصر وكل ما فيه من قيم انسانية. وهي اسوأ وريث للدول التي تزعم «دولة البغدادي» انها تسير على خطاها وتحاول احياء تراثها، من الدولة الاموية الى دولة العباسيين وصولاً الى الحكم العثماني. ولأن «دولة البغدادي» لا يديرها الا الجهلة والاميون، فهي تجهل طبعاً الظروف والاوضاع التي عاش المسلمون وغير المسلمين في ظلها، في تلك الدول. وتجهل فوق ذلك الانفتاح والتفاهم اللذين كانا قائمين بين الحكم الاسلامي آنذاك، وسواه من الامبراطوريات الغربية، فضلاً عن الانفتاح الثقافي على العصر الذي تمثل بالترجمات عن الروائع العالمية، وبتشجيع مبادرات الابداع الثقافي والعلمي التي كان يحتضنها الخليفة نفسه.
رغم ذلك، فان «دولة البغدادي» لم تنشأ من فراغ، كما ان المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها، والتي تساوي مساحة بريطانيا، لم تحصل السيطرة عليها بطريق الصدفة. فالتراخي الغربي في دعم قوى المعارضة المعتدلة في سورية في مواجهة القمع الذي يمارسه نظام بشار الاسد ضد شعبه، وامعان نظام نوري المالكي في تهميش القيادات السنّية في العراق وفي ممارسة سياسة انحياز مطلقة الى مصالح ايران على حساب مصالح العراقيين، كانا العاملين اللذين غذّيا خطاب التطرف في سورية والعراق، الذي وجدت فيه «داعش»مؤونة مناسبة.
تحوم اسئلة كثيرة حول الجهات التي تغذي «داعش» والتي تستفيد من انتشار هذا الوباء. واذا كانت «دولة البغدادي» تدرك ان اعداءها الحقيقيين هم المعتدلون من السنّة قبل سواهم، كما اثبتت باعدام عدد من قادة «الصحوات» في ريف حلب وصلبهم، فانه لا بد من التساؤل عمّن يخدم البغدادي، الذي لا يقاتل سوى التنظيمات السنّية، سواء في سورية او في العراق، ولا يتمدد الا في الاراضي التي تسيطر عليها هذه التنظيمات، كما لا يقدم نفسه الا كبديل عن قياداتها.
«داعش» او «داس» عنوان للتفكك وللمذابح والحروب الداخلية. والرد عليه يجب ان يكون برفع صوت الاعتدال والوحدة والنفور من الخطاب المذهبي والطائفي.
الحياة

 

أميركا استعانت بالأصولية لمواجهة الشيوعية وتستعين اليوم بالوحدة الوطنيّة لضرب التطرّف/ اميل خوري
هل في الإمكان القول إن سياسة الإدارة الأميركية في المنطقة باتت أكثر وضوحاً وهي استخدام كل الوسائل المتاحة لضرب الإرهاب بكل أشكاله بعدما أصبح عدواً مشتركاً للجميع وخطراً يوحّد الجميع وحتى المتخاصمين لضربه؟
في الماضي استعانت الولايات المتحدة الأميركية بالحركات الأصولية وعلى رأسها أسامة بن لادن لمواجهة الحكم الشيوعي في أفغانستان، وهي تستعين اليوم بكل القوى على اختلاف اتجاهاتها وتعددها لمكافحة الارهاب حتى وإن صحّ ما يقال إنها ساهمت في تكوين خلاياه، تحقيقاً لأهداف، وهي تجعل منه الآن بعبعاً يخيف الجميع فيتوحدون على اختلاف الاتجاهات والمشارب والمذاهب لضربه، وقد خصصت أميركا مبلغ خمسة مليارات دولار لهذه الغاية لم يعرف بعد كيف سيصرف هذا المبلغ وأين ولأي وسيلة من الوسائل المجدية للمكافحة.
لقد كان لافتاً قول الرئيس باراك أوباما: “لا توجد معارضة معتدلة قادرة على الانتصار في سوريا”. لكن هل جرب الرئيس الاميركي قدرة هذه المعارضة بعد تزويدها السلاح المتطور أو أقله وقف الغارات الجوية بالبراميل المتفجرة كي يحكم عليها، لا أن يترك المعارضة على تعدد فصائلها وحيدة في مواجهة جيش النظام المدعوم علناً بالمال والسلاح من إيران وروسيا، لا بل أن مجلس الأمن الدولي لم يستطع حتى فتح ممرات انسانية لمساعدة أبناء القرى المحاصرة بسبب “الفيتو” الروسي. واللافت أيضاً قول الرئيس أوباما إنه طلب من الكونغرس تخصيص مبلغ 500 مليون دولار لمساعدة المعارضة المعتدلة وهو قول ينقض ما قبله. فهل هذا يؤكد تخبط السياسة الاميركية أم هو دليل على اعتماد الازدواجية في هذه السياسة؟ فلو أن الإدارة الأميركية ساعدت المعارضة المعتدلة في حينه لما كانت دخلت على الخط مجموعات أصولية متشددة اتخذ منها الرئيس بشار الأسد “فزاعة” للشعب السوري كي يجعله يختار بين حكمه وحكم هذه المجموعات المقطعة للرؤوس والايدي وآكلة أكباد الضحايا… ولو أن الإدارة الأميركية حزمت أمرها في العراق لما استطاع تنظيم “داعش” اجتياح أرض واسعة فيه بسحر ساحر. وها هي بعد دخول دبّ الارهاب الى كل المنطقة ومنها إلى سائر المناطق في العالم بسبب السياسة الأميركية المترددة أو الفاشلة تستيقظ لتدعو الى مكافحة هذا الارهاب الخطر الذي أخذ يضرب في كل مكان ولا يميز بين دين ودين ولا بين أبيض وأسود…
والسؤال المطروح هو: ما هي السياسة التي ستعتمدها الإدارة الاميركية للتخلص من “داعش” وأخواتها؟ هل تخيِّر الأنظمة في المنطقة بين أن تشكل حكومات ائتلافية أو وحدة وطنية تتمثل فيها كل القوى السياسية الاساسية كي تستطيع مواجهة الإرهاب بوحدة موقف، ولا تجعل من أي طرف يشعر بالظلم والقهر والغبن والحرمان فيصبح بيئة حاضنة لكل شكل من أشكال الارهاب ليس حباً به بل كرهاً وانتقاماً من الطرف الآخر المستبد به، وهو ما تدعو إليه أميركا الآن في العراق وتكرر الدعوة إليه في سوريا تطبيقاً لمبادئ جنيف، وهو ما تدعو إليه أيضاً في كل دولة تعاني انقساماً سياسياً ومذهبياً حاداً وإلا كان التقسيم هو الحل وقد يبدأ من الدولة الكردية التي باتت واضحة المعالم والحدود إذا لم تتوصل إلى تفاهم مع الدولة المركزية في بغداد.
الواقع انه لم يعد في الإمكان إقامة أنظمة ديموقراطية تأخذ بالعدد بحيث تحكم الاكثرية والاقلية تعارض لأن الانقسام لم يعد سياسياً ووطنياً كما في الماضي بل أصبح مذهبياً لا يسمح بتطبيق هذه الديموقراطية بل بتطبيق ما يسمى الديموقراطية التوافقية التي لا تستثني أحداً من مكونات الوطن كي يشعر الجميع أنهم مشاركون في اتخاذ القرارات وغير مهمشين.
لذلك مطلوب من العراق تشكيل حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها كل القوى الاساسية سياسياً ومذهبياً ومناطقياً وإلا استمرت الفوضى العارمة بقيادة الارهاب والتي لا نهاية لها الا بالتقسيم. ومطلوب من سوريا الشيء نفسه لأنه لم يعد في الامكان قيام حكم الحزب الواحد أو اللون السياسي الواحد أو المذهب الواحد. ومطلوب ايضاً من مصر أن تفعل الشيء نفسه لأن اي حكومة فيها لا تستطيع تجاهل وجود “الاخوان المسلمين” وما يمثلون. وكذلك الامر في كل دولة ينقسم فيها الناس مذهبياً وليس سياسياً فقط، ولبنان هو من هذه الدول منذ أن بات من الصعب عليه تطبيق النظام الديموقراطي العددي في ظل الطائفية بل تطبيق الديموقراطية التوافقية، وما دام في استطاعة اي مذهب إذا رفض المشاركة في الحكومة لأي سبب اعتبارها غير ميثاقية بحيث بات في الامكان القول إن الدول التي تتعدد فيها المذاهب والاعراق لا تحكم الا جماعياً وليس فردياً وإلا تحوّل المحروم هذه المشاركة بيئة حاضنة للارهاب ليس حباً به بل حباً بالانتقام ممن يضطهده أو يهمشه.
النهار

 

ساحة متفجّرة جديدة للصراع الدولي والإقليمي وسيناريو دعم الأسد يتجدّد مع المالكي/ روزانا بومنصف
أنهى وزير الخارجية الاميركي جون كيري جولته على العراق وبعض دول المنطقة كما اوروبا حيث زار بروكسيل وباريس والتقى مسؤولين عرباً كباراً حول الازمة العراقية قبل ان يلتقي الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز على وقع نغمة تفاؤلية الى حد ما استندت الى تصريحات اية الله السيستاني حول الذهاب الى اتخاذ الاجراءات اللازمة لايجاد حل في العراق شاع انه قد يكون مبنياً على الاستغناء عن نوري المالكي لمصلحة قيام حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع. لكن بدا لمتابعي الشأن العراقي دخول عناصر عملية أكثر تأثيراً من الوساطة التي قام بها كيري وان كانت واشنطن قررت على نحو مبكر ارسال 300 مستشار عسكري الى العراق من أجل معاونة السلطات العراقية على منع تمدد مسلحي “الدولة الاسلامية في العراق وسوريا” الى بغداد. العنصر الأكثر تأثيراً من التحرك الاميركي ظهر من خلال مسارعة روسيا الى تلقف مبادرة تأخرت عنها الولايات المتحدة بالنسبة الى المالكي الذي كان طالب الولايات المتحدة بتوجيه ضربات عسكرية ضد مناطق سيطر عليها مسلحو داعش وقبائل سنية، فأعلنت تسليم خمس مقاتلات روسية من طراز سوخوي 25 الى العراق والتي قال المالكي انها ستستخدم في مهمات في الايام المقبلة او لجهة اعلان طهران ان ردها في العراق سيكون حازماً باستخدامها الأساليب نفسها التي استخدمتها ضدّ المعارضة في سوريا في موازاة تهيئة طهران الرأي العام الايراني حول ضرورة التدخل العسكري في العراق والاستعداد للحرب لأنه ستكون هناك كربلاء أخرى كما قال أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي. وفي موقف معبر عن دخول اسرائيل على خط الازمة العراقية وعلى نحو مناقض لجهود كيري الديبلوماسية في ضرورة العمل على بقاء العراق موحداً من خلال اقامة حكومة شاملة برئاسة غير المالكي تساهم في المصالحة مع السنة والاكراد، أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو دعمه قيام دولة كردية معتبراً ان الاكراد جماعة عرقية تشكل حائط صد ضد العرب.
وعلى رغم ان هذه الدول قد تلتقي على هدف واحد هو منع تمدد امارة داعش وتثبيتها على المناطق الحدودية بين سوريا والعراق فمن غير المحتمل ان تكون جميعها على صفحة واحدة من الازمة العراقية خصوصاً ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان سارع في مقابل دعوة واشنطن الى حكومة وحدة في العراق تحمل في طياتها التخلي عن المالكي الى الاتصال بهذا الأخير مؤكداً دعم روسيا له مما قد يكرر سيناريو دعم روسيا وايران لبشار الاسد بحيث يستبعد ان يقبل المالكي بالتنحي او افساح أمام حكومة وحدة وطنية ما لم تكن برئاسته مما قد يؤدي بالبلد أيضاً الى حرب اهلية لا يستبعد ان تكرر تجربة سوريا المستمرة منذ اكثر من ثلاث سنوات على هذا الصعيد خصوصا في ضوء توافر العوامل نفسها تقريباً: اولا ما اعلنته ايران عن نقل تجربتها الناجحة من سوريا الى العراق الى جانب الاضافات المتعلقة بحماية المراقد والمراكز الشيعية المقدسة، تمسك المالكي بالسلطة وعدم استعداده للتنحي في ظل دعم ايراني كامل في مقابل رغبة عربية وخليجية لتنحيه كما هي الحال مع الاسد، دعم روسيا لنظام المالكي الى جانب دخول الولايات المتحدة بخجل الى الوضع العراقي مجدداً بدلاً من دخول قوي مختلف.
وتزامناً كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زار المملكة السعودية من أجل بحث الوضع العراقي والازمة السورية أيضاً على نحو يعبر عن منافسة روسيا الولايات المتحدة على التعاون من أجل حل محتمل للوضع في العراق وربما في سوريا أيضاً. وهي مؤشرات كباش جديد تقول مصادر ديبلوماسية انها تضاف الى خلفية الكباش المستمر حول الازمة في اوكرانيا بين روسيا والولايات المتحدة، لكن يخشى ان يساهم في تعقيد الأمور أكثر بالنسبة الى العراق حيث الحصص والارباح أكثر بكثير من الوضع في سوريا مع موضوع النفط والمصالح الحيوية والصراع على حدود الكيانات فيه الى جانب الانقسامات الطائفية والمذهبية وامتداداتها في دول المنطقة.
تخشى المصادر المعنية ان يكون موضوع الازمة العراقية قد افتتح ساحة متفجرة جديدة للصراع الاقليمي والدولي بحيث يخشى الا تؤدي الجهود الديبلوماسية التي قام بها كيري ثمارها في المدى المنظور. ثمة الكثير على المحك على ضوء ما يجري هناك قد يكون أهمه وأبرزه الاتفاق المحتمل مع ايران حول ملفها النووي قبل العشرين من الشهر الجاري ما يترك باب المساومات والبازارات مفتوحا على مصراعيه من أي جانب معني بالازمة العراقية لا سيما من جانب طهران. لذلك من غير المستبعد ان تظهر اي نتائج ملموسة لحل جدي على الصعيد العراقي قبل بلورة نتائج المحادثات على الملف النووي بين ايران والدول الخمس الكبرى زائد المانيا، في الوقت الذي يسجل احتدام سياسي على خط ايران والمملكة العربية السعودية. وهذه الاتهامات الايرانية قد يصعب معالجتها في المدى القريب بحيث تطول أزمة توتر العلاقات الاقليمية وتالياً الحروب بالواسطة في المنطقة.
النهار
تقسيم العراق… و”تدعيش” الخليج!/ راجح الخوري
عشية وصول جون كيري الى أربيل في الاسبوع الماضي كان مسعود البارزاني يعلن صراحة ان العراق لن يعود الى ما كان عليه، وعلى رغم ان المحادثات بينهما توقفت عند حدود الحديث عن قيام دولة فيديرالية في العراق، فان التطورات العاصفة اسقطت كل هذه النظريات.
من حيث الشكل اعلن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” إقامة “الخلافة الاسلامية” مبايعاً ابو بكر البغدادي” خليفة على المسلمين”، وهذا مجرد إعلان عن سلسلة من الحروب المذهبية التي ستطول، وقد تنتهي فعلاً بسيطرة جغرافية عابرة للحدود بين العراق وسوريا، لكن الدولة الكردية التي لطالما شكّلت حلماً تاريخياً عارضته تركيا وايران وسوريا وايران، باتت الآن في قبضة اليد!
ان تعاون اميركا وايران في ادارة المذبحة السورية بعناية، على امتداد أكثر من ثلاثة اعوام وفق خرائط موضوعة بدقة، والانهيار السريع والمشبوه وربما المرسوم والذي لا يصدّق للجيش العراقي، الذي قيل ان عديده وصل الى مليون وتكاليفه تجاوزت الـ١٢٠ مليار دولار، يشكلان المدخل السوري – العراقي المزدوج الى التقسيم، الذي لن يتوقف بالتأكيد في العراق، فلطالما كانت الخطط تستهدف تفتيت المنطقة، بما يعني ان دومينو اعادة رسم الخرائط الذي يهدر في شمال العراق سيشمل المنطقة كلها.
سيقال طبعاً اننا في الطريق الى محيطات من الدماء والمآسي، وان نصف قرن من المذابح على الاقل ستمسك برقاب الجميع، فها هو امين مجلس تشخيص مصلحة النظام الايراني محسن رضائي يدعو من اقليم اذربيجان صراحة، الى التطوّع من اجل الحرب في العراق: “عليكم ان تستعدوا… ان هناك عاشوراء وكربلاء اخرى في الطريق”، وها هي “داعش” بكل وحشيتها وبطشها الدموي تعلن بالتوازي دولة الخلافة، وها هم فرّيسيو السياسة يستعدون لاقتسام العراق كبداية لتقسيم الاقليم!
تنقل “الفايننشال تايمس” عن حسين سيليك الناطق بلسان حزب العدالة والتنمية التركي قوله: “استعدوا لقبول دولة كردية مستقلة في شمال العراق فالتقسيم أمر حتمي. ان الاكراد اشقاؤنا”، ومن الواضح جداً ان اردوغان سيجد بالتعاون مع البارزاني، الذي سبق له ان سوّى مشكلة عبدالله اوجلان مع انقرة، حلولاً تريح الطرفين، كردياً ونفطياً بالنسبة الى الاتراك الذين سيريحهم ايضاً الوخز الكردي في خواصر الايرانيين.
اما ايران التي سبق لها ان استولت على عدد من حقول النفط في جنوب العراق، فستضمن حصتها من الكعكة العراقية لتصبح قوة نفطية كبرى. واما الوسط العراقي الذي تم “تدعيشه” فسينقل التقسيم الى سوريا، لكن له مهمات اميركية – ايرانية خطيرة، تمتد الى الاردن لجعله مقبرة القضية الفلسطينية بعدما تم تسريح مارتن انديك وانتهى الحل السلمي، لتبدأ محاولات تصدير “التدعيش” الى السعودية ودول الخليج!
النهار

 

من انتظر الخلافة؟/ راشد فايد
كان منتظراً أن يعلن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الخلافة الإسلامية، وان “ينتصر” بإزالة الحدود بين البلدين، وأن يبايع أبو بكر البغدادي “خليفة على المسلمين”. فالالتباس في نشأته ودوره، في الحرب في سوريا والعراق، وأعمال التفظيع والإجرام، وافتعال الصدامات مع الثورة السورية، كلها امور وشت، يومياً، بدور في تنفيذ استراتيجية فارسية أساسا، وإقليمية عموما، ضد هوية المنطقة.
إعلان الخلافة، وإلغاء الحدود، المصحوبان بالسمعة السيئة، يستدعيان، حكما، استنفارا دوليا، تريده ايران فرصة اتفاق مع واشنطن، في بند طالما أرّق الأخيرة منذ رونالد ريغان، وهو محاربة الارهاب. كيف لا و”داعش” مارسته في وجهين: التنكيل بالافراد، ثم الاعتداء على الحدود، التي لا ترغب واشنطن في المسّ بها حاليا، مهما اصدرت مراكز الابحاث والدراسات، من تصورات وسيناريوات، إلا ما يفترضه “تجميل” موضعي.
ليس في ذلك نظرية “المؤامرة”، بل هو واقع تآمري، وعاد كثيرون منذ كشْف أطماع الثورة الايرانية في الجوار وقيادة العالم الاسلامي، وكان مؤشره الابرز تظاهرة الحجاج الايرانيين في مكة سنة 1987، بشعار البراءة من المشركين، و”ازاحة” مرجعية النجف الدينية العراقية العريقة، بعدما كان صدام حسين كتم انفاس فقهائها.
من كان ينتظر إعلان الخلافة، وإزالة الحدود، لم يكن سنّة العالم العربي، وغير العربي، بل أهل ولاية الفقيه في طهران، الذين مهدت “أصابعهم” المخابراتية لهذه “الكذبة” لتبرير تدخل سافر في الداخل العراقي، بعد المقنّع الراهن، وتعميم صفة الإرهاب على كل الاعتراض العراقي على ديكتاتورية حليفها المالكي، واستنفار واشنطن وغيرها، الى تحالف دولي يواجهه.
كل ذلك، بينما منطق الحل السياسي يقول بأن الخروج من الازمة يسهل إذا ألزمت طهران حليفها المالكي افساح المجال لمرشح آخر، ليشكل حكومة متوازنة ترضي الجميع، تحديدا السنّة، الذين تزعم “داعش” القتال باسمهم، وتتعمد طهران تعميم دمويتها عليهم جميعا، وبلا تمييز، لتبرير تدخلها.
لكن هل “داعش” بهذا الحجم الذي يقدمها به الاعلام “المغذى” محليا ودوليا، بالنفط او بالاستغباء الايراني؟
تقول الارقام الغربية، لاسيما الاميركية، إن عدد مقاتلي “داعش” لا يربو على الـ7 آلاف، في أعلى تقدير، فمن أين لها هذه العظمة القتالية المدعاة على امتداد الاراضي العراقية والسورية؟
كشف الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، ان عدد المقاتلين الفلسطينيين الذين رحلوا، لا يتعدى الـ6 آلاف، حكمت قيادتهم بهم، جزءا كبيرا من لبنان، وتحكمت بحياة الجزء الآخر. فمن أين كانت لها القدرة؟
من تواطؤ انظمة الاقليم، جميعاً، ومن التفاف شعبي حول القضية الفلسطينية، ومؤمنين بعدالتها، ومن نفعية شخصية حركت انتهازيين وطفيليين.
“داعش” ليست بعيدة عن تواطؤ الممانعة، وتوق الوطنيين الى سلطة ديموقراطية، وجهالة العوام، وجوع الانتهازيين، والايمان الاعمى بعودة الخلافة، ردا على الولي الفقيه، ولو بفارق 25 سنة.
النهار

 

الحل بـ”طائف” عراقي وآخر سوري/ غسان حجار
ترتسم حاليا في العراق صور دول ثلاث: دولة كردية قائمة، وثانية سنية تقوم مع “داعش” والجيش العراقي السابق وبقايا حزب “البعث” العراقي ومجموعات العشائر والقبائل السنية التي انتفضت على الهيمنة الفارسية، وثالثة شيعية تحاول المحافظة على مكتسبات حققها النظام القائم بدعم اميركي – ايراني.
واذا قسم العراق دويلات لها امتداداتها الطبيعية في سوريا، فإن الجغرافيا السورية ستتبدل، وسينضم اكراد سوريون الى كردستان العراق، وسيقيم العلويون دولتهم وعاصمتها اللاذقية، وستكون للسنّة دولتهم المتصلة أيضاً بالعراق، على غرار “داعش” الذي تشمل سلطته الاسلامية العراق والشام.
وهكذا يتمدّد التقسيم انطلاقاً من العراق، ليصل الى سوريا ولبنان، وربما الاردن، فيتقلص لبنان الكبير مجدداً ليعود الى حدود الجبل مع بعض الأقضية التي ارتبطت به تاريخياً.
واذا كان الكلام حالياً، او قبل حين، يعتبر ضرباً من الخيال، فإن عودة الى سبعينات القرن الماضي تحملنا مجدّداً الى ما صرّحه المتبصر آنذاك الشيخ موريس الجميل جواباً على وفد مسيحي عرض عليه آنذاك فكرة تقسيم لبنان. قال الجميل آنذاك: “لن أناقش في أصل الفكرة، لكني أقول لكم إننا كمسيحيين لا نملك قرار تقسيم لبنان او توحيده. قرار التقسيم رهن بحدوث أمر واحد في المنطقة. فاذا حدث نذهب جميعاً مسيحيين ومسلمين الى التقسيم رغماً عنا”. ولما سئل عن الحدث اجاب: “تقسيم العراق، اذا تقسّم العراق، يقسّم لبنان وسوريا وبلدان اخرى، وفي حال لم يقسّم العراق، فلن يحدث اي تقسيم لدول المشرق”.
هكذا يجد المشرقيون انفسهم اليوم أمام هذا المفترق: تقسيم العراق. وهو، في حال وقوعه، لن يجر المنطقة العربية الى سايكس بيكو جديد، بل الى حمم جهنمية بدأت نذرها تصلنا منذ حين، وها هي تتفجر في مدننا وقرانا، متأرجحة بين تنظيم “داعش” الذي يمكن الصاق كل التهم فيه، وأنظمة استخباراتية عبثت وتريد ان تعبث بأمن لبنان انتقاما ربما لتراجع نفوذها فيه.
تحتاج المنطقة العربية اليوم الى انظمة بديلة تنتجها مؤتمرات حوار برعاية دولية وعربية تكون على غرار “مؤتمر الطائف” الذي خصّص لانهاء الازمة اللبنانية. ولعل اللبنانيين لم يقرأوا في بنود الطائف سوى السلبيات، لأنهم لم يتمكنوا من تطبيقه تارة، او لأنهم طبقوه بشكل سيئ مراراً. فالطائف انهى الحرب وحفظ حقوق المجموعات الطائفية والسياسية اللبنانية كما لم يفعله دستور آخر. واذا كانت مجموعات هيمنت على الآخرين في سوريا والعراق، فإن طائفاً آخر يمكن ان يعيد توزيع السلطات، فلا تستبد فئة بأخرى، بل تحفظ حقوق السنة والشيعة بما يمثلون، ومعهم حقوق الاكراد والكلدان والآشوريين في العراق، ومثلها حقوق العلويين والدروز والمسيحيين من ارثوذكس وكاثوليك وسريان وأرمن في سوريا. عندها يمكن ان تستقيم الأمور فلا تعود الحقوق منّة من أحد، ولا يمكن لأحد ان يهيمن على الآخر.
النهار
مشكلات لا يختصرها الإرهاب/ سليمان تقي الدين
لم يستنفد اللاعبون في صراعات المنطقة أهدافهم وطاقاتهم كي تشهد هذه التطورات والمفاجآت المفتوحة على مزيد من الاحتمالات. ما قيل عن «اتفاقية كيري ـ لافروف» كسقف وإطار للصراعات الدولية لم تظهر جدواها وفاعليتها الكاملة في المنطقة، وسرعان ما تم تجاوزها في الأزمة الأوكرانية.
المراهنون على الدور الروسي الدولي الكابح للأميركيين ليس لديهم الآن الكثير من الحجج المقنعة. أما الذين «استبشروا» بالحوار الأميركي الإيراني كي يستنتجوا أن إيران «سيدة الشرق الأوسط» ومحور النظام الإقليمي الجديد فهم كذلك في خيبة شديدة، أو يجب أن يكونوا كذلك بعد صدمة الانقلاب في الوضع العراقي.
لم نعد طبعاً إلى المربع الأول الذي بدأت فيه أزمة المنطقة مع الانتفاضات العربية، لكن مظلة أميركا التي جمعت كل «المتعهدين لمحاربة الإرهاب» تبقى هي المرجعية الأساسية لهذا «التصنيف» ولتوزيع الأدوار على اللاعبين المحليين. علاقة أميركا بالإرهاب مثل علاقة شركائها الجدد الذين لهم باع طويل في استثمار وإدارة هذا الملف بالصورة الانتهازية المعروفة. فمن المؤكد أن الإرهاب جزء من المنظومة الدولية متعددة الجنسيات والعابرة للقارات ومن أدوات الحروب المعاصرة.
على أي حال إن حجم المتغيّرات التي حصلت في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، ولا سيما الانهيار السريع للنظام الإقليمي، ما كان يمكن استيعابه حتى من قبل القوى الدولية المتدخلة في هذا الانهيار. طبيعة القضايا والمشكلات التي طرحتها الشعوب لا تختصرها مسألة سقوط نظام هنا أو هناك. كانت المنطقة حبلى بأزمات ديموغرافية وجغرافية وقضايا قومية وإثنية وأقليات وأديان وطوائف ونزاعات إقليمية وتراكم غير محدود من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية ومن غياب ثقافة الحرية وحقوق الإنسان. انفجرت كل هذه الأوضاع دفعة واحدة حتى صار على القوى التي تخشى هذا «الوضع الثوري» أن تلعب معاً بالعنف وتتعاون معاً على إدارة الفوضى وتصفية «الوضع الثوري» أو مخاض التغيير السلمي الديموقراطي.
لقد صار تمويهاً وتواطؤاً فاضحاً الحديث عن معركة الإرهاب لتغيير مجرى الأوضاع ولمصادرة القضايا السياسية والاجتماعية فضلاً عن قضايا الحريات. غرقت المنطقة في نزاعات إقليمية ودولية في كل البلدان التي شهدت حراكاً شعبياً وانتفاضات سياسية وجرى إخضاعها للمعايير نفسها وتشريع التدخل الخارجي المباشر في شؤونها (اليمن، البحرين، ليبيا، تونس، مصر، سوريا، العراق…) بحيث لم يعد في أي مكان للمواجهة طابع معركة الحرية والكرامة والعيش. أولوية الأمن سادت الخطاب السياسي الرسمي الإقليمي والدولي حتى في أكثر البلدان التي شهدت تحركات سلمية ولم تتهددها الانقسامات الأهلية كمصر وتونس.
ولعل المشهد الذي انتهى إليه الوضع العربي من تراجع لدور المعارضات الشعبية والانتفاضات السياسية لكي يصير مشهداً حربياً أهلياً وإقليمياً هو الدليل على تعاون قوى وأطراف «الثورة المضادة» على إخماد هذه الحركة التاريخية العربية وإخضاعها لتقاسم النفوذ الخارجي.
انتهت الآن كل الأطراف الفاعلة إلى مصب دولي كبير تتطلع إليه الدول كما الحركات السياسية لكي يكون هو المنقذ لها من ورطة هذه الفوضى. وبعد أن كان الطموح الرسمي أو الشعبي هو إزالة أو الحد من الهيمنة الأميركية، صار خطب ودها مطلباً في كل مكان ودعوتها إلى التدخل المباشر هدفاً مجرداً عن نيات التبعية أو التفريط بالسيادة أو بالحرية.
لكن ذلك كله يجب ألا تغطيه ذريعة النزاعات الجيوسياسية أو الحروب الإقليمية ولا المصائر المشروعة حيناً وغير المشروعة غالباً للجماعات الطائفية، فالدول والحركات التي شاركت في هذه الكارثة المتمادية آن لها أن تراجع هذه السياسات وأن تسعى جدياً لوقف الحروب التدميرية من أجل أوهام السيطرة. هناك حقيقة مؤكدة أن الحرب دارت على أرض العرب وبينهم وبين شركائهم التاريخيين في المنطقة وأن القوى الدولية الكبرى لم تخسر في هذه الحرب بل استثمرتها ولا تزال، وأن وقودها من شعوب هذه المنطقة وثرواتها.
لا نعرف طبعاً أين يمكن لهذه النزاعات أن تصل بعد أن سقطت الكثير من إمكانات الاحتواء عسكرياً وسياسياً. فالقصف الجوي الأميركي والطائرات من دون طيار، أو الخبراء العسكريون أو سوى ذلك من أي جهة أتى لا يغيّر في طبيعة الميدان. وما أفلت من عقاله عبر انتشار الميليشيات المسلحة في جميع مناطق العراق لا يمكن السيطرة عليه إلا بحل سياسي يستوعب القوى السياسية قبل القوى الأمنية. إن جزءاً مهماً من مناخ العراق وبلاد الشام هو عدم شرعية القوى العسكرية في بلدان هذا الإقليم. فهل بات علينا البحث عن مؤتمر دولي لإخراجنا من حالة التوحش التي قادتنا إليها كل تيارات الإسلام السياسي؟
السفير

 

“الخليفة” ومسؤولية الإسلاميين/ ماجد كيالي
من سخرية الأقدار إعلان الخلافة من قبل تنظيم غامض، له من العمر سنوات، وليس من جماعة “الإخوان المسلمين”، ذات الانتشار الواسع والتي يزيد عمرها عن ثمانية عقود، وهي التي جعلت ذلك على رأس أجندتها، منذ تأسيسها.
المشكلة مع “الخلافة” تكمن في محاولة البعض إضفاء القدسية عليها، كأنها منزّلة من السماء، أو كأنها من أركان الإسلام، بينما هي مجرد نظام سياسي انبثق من اجتهادات البشر في مرحلة تاريخية معينة. المشكلة، أيضاً، أن هذا النظام، الذي ينشده ويقدسه البعض، تحول مع معاوية، الخليفة الأموي الأول، إلى ملكية مطلقة ووراثية، وأن الدعوة إليه تنطوي على محاولة استرجاعية لتاريخ متخيّل، وغير واقعي. إضافة إلى ذلك فهذه دعوة إلى دولة دينية، تتأسس على الأمة الطائفة (الإسلامية)، في حين أن التاريخ لم يعرف أمة كهذه، بقدر تعرّفه على امبراطورية إسلامية؛ فثمة فرق بين هذه وتلك. وما يفاقم هذا الأمر أننا بتنا إزاء إسلامات متعددة ومختلفة، مع انقسام اسلامي كبير (“سني” وشيعي”) وفرق متعددة ومختلفة، كل واحد منها، عند الجهتين، يعتبر نفسه الممثل الحصري للدين.
معلوم أن إحياء “الخلافة” هو بمثابة قاسم مشترك بين التيارات الإسلامية، السياسية والدعوية والجهادية، أي جماعة الإخوان وحزب التحرير والجبهة الإسلامية (السورية) ومنظمات “القاعدة”، وتفريخاتها، ومنها جبهة النصرة و”داعش”. أما في “الإسلام الشيعي” فثمة مفهوم الإمامة، الذي تحول بعد “الثورة الإسلامية” في إيران إلى مفهوم “الولي الفقيه”، وهو خليط من حكم فردي وديني. علماً أن “الإمامة” تعتبر من أصول الدين، وأن الإمام هو خليفة النبي محمد، وينوب عنه، في أمور الدين والدنيا.
* * *
القصد من كل ذلك لفت الانتباه إلى أن ما ذهبت إليه “داعش”، بمعزل عمن وراءها، يستمد شرعيته من طروحات التيارات الإسلامية (“السنية” و”الشيعية”). أي أن هذه التيارات، وفي مقدمها الإخوان، تتحمل مسؤوليتها في مواجهة هذا التنظيم الإرهابي والتكفيري، بدحض ادعاءاته عن “الخلافة” و”اهل الحل والعقد” و”الحاكمية” والمبايعة، فهذه كلها مفاهيم تاريخية، وليست من الدين، إذ هي نشأت بعد وفاة الرسول، وقول القرآن الكريم:”اليوم أكملت لكم دينكم”. الناحية الثانية، أن هذه التيارات ينبغي أن تدرك أنها، في سياق دحضها أطروحات “داعش”، إنما تقوم بالتصالح مع الواقع والعصر والعالم، بمراجعتها أطروحاتها ذاتها، أيضاً، بعد أن تبيّن بالتجربة فواتها، وإمكان استغلالها، والتلاعب بها. ولاشك أن مراجعة كهذه تنطوي على إدراك ضرورة التمييز وعدم الخلط بين شؤون الدين وشؤون الدنيا، أو بين الشريعة والشرعية، وهو الأمر الذي ظلت هذه التيارات ترفضه ولا تدرك أهميته.
النهار
لا عراق ولا سورية!/ حازم صاغية
أنذرنا غلاف مجلة «تايم» الأميركية، قبل أسابيع قليلة، بـ «نهاية العراق». وهذا ما يغدو اليوم عنواناً بارزاً من عناوين «النهايات» التي يوصف بها المشرق العربي اليوم. فما بعد استيلاء «داعش» على الموصل، وضم كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي الكردية، نجدنا أمام عراقات ثلاثة يجوز الشك الكثير في القدرة على رتق فجوتها، أكان ذلك بالديبلوماسية أو بالعمل العسكري.
لكن ما لا يُنتبه إليه كثيراً أن فناء العراق المحتمل إنما زُرعت مقدماته في فناء الداخل العراقي، كما الداخل السوري. والأمانة تقتضي القول إن ثمة مقدمات سبقت حزب البعث على الدرب هذا. فالتربية التي تلقتها أجيال عراقية على يد المنظر القومي العربي ساطع الحصري، والتنظيمات الشبابية شبه الفاشية للأخوين ناجي وصائب شوكت، وتجربة الملك غازي الذي توهم جعل العراق «بيامونت العرب»، تقليداً لتجربة الوحدة الإيطالية، وقمع الأقليات الأشورية والكردية، فضلاً عن الشيعة، وانقلابا بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني، و»الفرهود» الذي استجره الانقلاب الأخير وتداعياته بحق اليهود العراقيين، شكلت كلها البحر الذي غرف منه البعثيون اللاحقون. وطبعاً صعد البعث تلك المقدمات ومأسسها ودمجها في عمارته الفكرية.
فإذا كان حافظ الأسد، وعلى ما ذهبت تحليلات عدة، قد أعدم الداخل السوري لصالح التيمن الإمبراطوري، دوراً إقليمياً وتدخلاتٍ عسكرية و»أوراق» مقايضة، فمثله فعل صدام الذي خيضت في عهده ثلاث حروب كبرى، فضلاً عن الحرب المتواصلة على الأكراد، والحروب الصغرى المتبادلة، وغالبها أمني وإرهابي، مع سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وكان لإحدى «ملاحمه» أن ضجت بعُظام فظيع: فحين كانت الحرب الباردة تخبو، شاء صدام أن ينوب مناب الاتحاد السوفياتي فيتحدى، بقضمه الكويت، النظام الدولي السياسي والمالي.
وبالطبع تساوى صدام والأسد الأب في إنكار المبادئ التي يُفترض أنها مبادئهما. فحافظ قاتل «حلفاءه» الفلسطينيين واللبنانيين في 1976، ووقف إلى جانب الأميركيين ضد «الإخوة» العراقيين في 1990-1991. كذلك مرر البعث العراقي، عبر جيشه في الأردن، القوات الأردنية لضرب «الإخوة» الفلسطينيين في 1970، وقدم تنازلات ترابية وسياسية لنظام الشاه «الرجعي»، أواسط السبعينات، كي يخنق الانتفاضة الكردية، ثم هاجم، بالنيابة عن «الإمبريالية الأميركية والرجعية العربية»، النظام الإسلامي الإيراني بُعيد قيامه.
وكان ما رشح البعث في سورية لهذه المهمة مشابهاً لما رشح البعث في العراق لها، أي القاعدة الأقلية للسلطتين معطوفةً على أيديولوجيا قومية ذات انتفاخ أكثري مبالغ فيه. فالعاجز، في الحالين، عن إقناع شعبه بشرعيته وباستحقاقه السلطة، هرب من عجزه هذا بقوة خطابية ولفظية فائقة. هكذا وفيما كان النظام الأقلي، الأمني والعسكري، مولداً بطبيعته للأزمات، كانت الأيديولوجيا القومية ترسم خرائط الطريق للالتفاف على الأزمات تلك. ولما كانت الدعوة إلى «الوحدة العربية» قد فقدت كل معناها وحيويتها، وصارت سهلة على كل استخدام، لم يتبق من «العروبة» إلا الغرض الاستعمالي لمصلحة التيمن الإمبراطوري وأجهزته الأمنية الحاكمة.
واصطبغ، في هذا السياق، ما يُعرف بـ»حركة التحرر الوطني» في المشرق بمعنى محدد، هو استيلاء الكيانين البعثيين والعسكريين الأكبر، العراق وسورية، على قرار الكيانين غير البعثيين وغير العسكريين، لبنان والأردن، ومعهما الفلسطينيون حياةً وقضيةً. فالأردن ولبنان والفلسطينيون إنما جُعلوا المواد الأولية لسياسات التيمن الإمبراطوري وأسواق تصريفها في الآن ذاته.
هكذا، وقبل الانفجارين المدويين في سورية والعراق، مر البلدان في طور انتقالي عنواناه بشار الأسد ونوري المالكي، حيث احتُفظ بأولوية الخارج إنما في دور تابع فرضه تغير الظروف. فالمالكي أهدى بلده إلى إيران قبل أن يطالبها، ومعها الولايات المتحدة، بإنقاذه. وكان الأسد النجل قد سبقه إلى ربط بلده بالعجلة الإيرانية، بدلاً من التحالف الندي السابق، قبل مطالبة طهران، ومعها موسكو، بإنقاذه. أما «داعش» فعنوان هذا العفن الضارب في عشرات السنين من وظائف إقليمية منتفخة وذرائع إيديولوجية تافهة تكفلت إفناء بلدين.
الحياة
لماذا نطالب برحيل المالكي؟/ د. عبدالوهاب الأفندي
كثيراً ما نتهم نحن معشر الأكاديميين والمعلقين الصحافيين بأننا نهوم في آفاق الخيال ونتمنى على الله الأماني، ونقول ما لا نفعل. وهذا يصح في حق جميعنا معظم الوقت. ولكنا لا نكتفي دائماً بإنكار المنكر بالقلب واللسان، فنتحرك أحياناً لتلافي الكوارث التي تحل بربوعنا كضيف ثقيل دائم. لذا أحب أن أشارك القراء اليوم تفاصيل مبادرة كنت طرفاً فيها من أجل الوصول إلى حل ناجع لأزمة العراق، ليس بغرض التباهي بعد كتمان، ولكن استقاء العبرة وتحديد المسؤولية.
وكنت قد كتبت مراراً على هذه الصفحات أذكر بأن العراق لا يحتاج لأن يكون رجل العالم العربي المريض، بل بالعكس، يمكن أن يصبح إحدى النقاط المضيئة، ومصدر خير ودعم للمنطقة. فبإمكانه التحول إلى محور توافق بين طوائفه، وجسر للتقارب بين العرب وإيران، بدلاً من بؤرة توتر طائفي.
يمكن للعراق كذلك أن يصبح بموارده قاطرة تنمية للمنطقة العربية بكاملها، بدلاً من أن يظل بؤرة عنف وخراب. فالعراق هو البلد العربي الوحيد الذي يتمتع بثورة نفطية هائلة، وموارد مائية وزراعية طيبة، وموارد بشرية غنية في العدد والقدرات، مما يجعله، لو أحسنت إدارته، مصدر خير عميم لشعبه أولاً ثم للأمة العربية والإسلامية ثانياً.
وحتى نتبع القول بالعمل، فاتحت بعض الأصدقاء العراقيين في ضرورة إطلاق مبادرة لتجنب الصراع الطائفي المفتعل في العراق. وبالفعل تجاوب معي صديق عزيز له صلة وثيقة بالمؤسسة الحاكمة بالعراق، حيث كان له نفوذ قوي داخل الحكم قبل أن يستقيل من الحكومة ويغادر العراق. وبعد سلسلة حوارات في عاصمة غربية ولندن خلال الصيف الماضي، تم اقتراح مبادرة يتولاها الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي، لما تربط الشيخ من صلة صداقة ومعرفة وثيقة بطرفي النزاع. وبالفعل قمت شخصياً بابلاغ الشيخ الغنوشي الذي رحب على الفور بالفكرة واقترح إضافة شخصيات أخرى ذات نفوذ إليها. وتصادف أن زار صديقي العراقي تونس حيث تمت مناقشة الفكرة بتوسع. وعندما نقلت الفكرة إلى الأطراف العراقية المتنفذة سمعنا ترحيباً بها في الأول، ولكن الأمر ما لبث أن تحول إلى مماطلة فهمنا بعد فترة أنها رفض كامل للفكرة.
فقد كانت فكرتنا واضحة، ترى معالجة مصدر التوتر الطائفي الأساس بسبب خلافات بين الساسة، خاصة بعد الفوز غير المتوقع لقائمة العراقية التي سعت لتخطي البعد الطائفي في انتخابات 2010. وقد أدى هذا إلى استهداف رموز القائمة من القيادات السنية كما هو معروف.
وكان رأينا أن هذه عملية انتحارية، خاصة في وجود قطاع مهم في الوسط السني كان يرفض العملية السياسية برمتها باعتبارها صنيعة الغزو الأمريكي. وعليه فإن التهجم على الفئة التي قبلت المشاركة في العملية السياسية يشكل تقويضاً لهذه العملية بكاملها. ولن يكون هذا في مصلحة العراق، لأنه سيسقط في قبضة استقطاب طائفي مدمر.
من هنا رأينا أن تقوم مبادرة للتوفيق بين المالكي والساسة السنة حتى تتم استعادة العملية السياسية وتعزيز مصداقيتها. وهذا يستدعي فتح حوار بين الأطراف المعنية عبر الوساطة التي اقترحناها.
وبدلاً من الاستجابة لهذا الاقتراح الذي رأيناه معقولاً، بل وملحاً، جاءنا مقترح بعقد مداولات فكرية حول الطائفية، وهو ما اعتبرناه تهرباً من المهمة الأساسية في مواجهة الأزمة السياسية في العراق والتعامل المباشر مع أطرافها. وكما رأينا، لم يكن هناك خيار غير الذي طرحناه سوى خيار الاقتتال و «الحل العسكري». أي أن المالكي رأى بأن في مقدوره تصفية وتدجين الساسة السنة، وإقامة بديل «شيعي» للاحتلال الأمريكي، لا مكان فيه إلا لمن يتعاون مع هذا «الاحتلال البديل».
من هذا المنطلق فإن المالكي يتحمل، بموقفه هذا، وزر التدهور الذي شهده العراق مؤخراً، لأنه بإصراره على الإقصاء والتخندق الطائفي أضعف الدولة العراقية. وها هو الجيش العراقي الذي بنى سياسته عليه ينهار ويذوب، فيكون رده هو أسوأ الخيارين، وهو تجييش ميليشيات طائفية وعودة إلى سيادة فرق الموت. وفي هذا نهاية العراق الموحد.
وعليه لا بديل عن تنحي المالكي، لأنه يتحمل المسؤولية في نظرنا عن التمادي في السياسات التي أدت إلى تمزيق العراق وسقوطه في إسار حرب لا تعرف نهاية لها. وقد كان يمكن لو تمتع ببعد نظر وقليل من الأريحية أن يجنب العراق هذا المصير، ولكنه للأسف اختار الطريق الذي لا يأتي بخير. وستفرض عليه الآن لو بقي في السلطة تنازلات وتراجعات أكبر من تلك التي كان يمكن أن تفرض عليه في حال لو استجاب لمبادرات الصلح. فالعراق في حاجة إلى رجال دولة لا إلى زعماء عصابات طائفية، يرهنون سيادة الوطن للنقيضين: إيران وأمريكا. ولنا حجتنا الدامغة على المالكي ومن وقف معه.
وختاماً أريد أن أستبق هنا التعليقات المعهودة التي ستقول: ما شأنكم بالعراق وساسته وأهله؟ أليس لكم في بلدكم السودان شغلاً بأزماته المتكاثفة، خاصة وأن الأمس صادف مرور ربع قرن على انقلاب يونيو/حزيران 1989؟ وحتى لا يتمادى البعض في هذا المنحى، نقول إن مبادرتنا لمعالجة الأزمات السودانية لم تنقطع، وكانت أولها مبادرة مشتركة تقدمت بها مع الأصدقاء الأعزاء فرانسيس دينغ وبونا ملوال عقب لقاء في أتلانتا في يناير/ كانون الثاني عام 1992. ولكن زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق رفض تلك المبادرة. عقب ذلك شاركنا بفعالية في مفاوضات أبوجا في صيف عام 1992 و 1993، ثم مفاوضات نيروبي. ومنذ مطلع عام 1995 نشطنا في مجموعة استشارية من سبعة أشخاص كانت تعمل مع وسطاء منظمة إيغاد والوسطاء الغربيين، حيث ظللنا نعمل بلا كلل متطوعين حتى عام 2001. وبعد تفجر أزمة دارفور عملنا كذلك على الاتصال بكافة الأطراف، إضافة إلى تأليف كتابين عن الأزمة ومئات المساهمات الأخرى. وبعد اتفاق السلام شاركنا في كثير من المبادرات التي نظمت لدعم الوحدة، بما فيها مبادرات الأمم المتحدة والإيغاد، كما قمت بكتابة مقال مشترك مع الصديق فرانسيس دينغ في دعم الوحدة.
وبعد تعيين اللجنة رفيعة المستوى من قبل الاتحاد الافريقي برئاسة الرئيس تابو امبيكي، تعاونا مع اللجنة، بما في ذلك اصطحاب الرئيس امبيكي في جولة لزيارة معسكرات النزوح حول الفاشر ثم نيالا في 2009. وما زلنا نتعاون مع هذه اللجنة وندعمها بكل ما نستطيع. وبين هذا وذاك، ظللنا نلتقي المسؤولين السودانيين رغم خلافاتنا معهم، ونسدي لهم ما استطعنا النصح لما ينفع البلاد. وفي آخر لقاء لي مع النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه في عام 2010، اقترحت عليه التوسط لفتح مفاوضات مع قيادات حركة العدل والمساواة، وأبلغته بأنني قد تحدثت مع بعض قادة الحركة ولمست منهم عقلانية في المواقف تستحق التعامل معها، ولكنه رفض الفكرة. وبالطبع فإن الحكومة قبلت التفاوض مع الحركة بعد عام من ذلك، بوساطة قطرية، وذلك بعد إضاعة وقت ثمين.
والعبرة في الحالين هي أن الساسة المغترين بالسلطة لا يستبينون النصح إلا ضحى الغد. فلم يتعظ المالكي بمصير سلفه صدام كما لم يتعظ على عثمان بمن سبقه. ولهذا فإن الحل الأنجع هو في استبدال من يدمر البلاد بالقادرين على بنائها والراغبين في ذلك.

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي

 

جيش بعمامة على أنقاض آخر هرب بالدشداشة/ د. مثنى عبدالله
■ يقولون لا تقسوا كثيرا على الجيش في كتاباتكم لانكم تصيبون معنويات أفراده بالاحباط. قلنا لم نجد جيشكم فكيف سنجد معنوياته، بل وصلنا تهديد من البعض بوضعنا على لائحة الارهاب، ان استمر نهجنا في فضح هروب القائد العام أمام من كان يسميهم فقاعة. قلنا نحن بريئون مما تتهموننا به، فقائدكم هو الذي أثبت لنا في الموصل، أنه أكبر فقاعة عرفها التاريخ السياسي العراقي.
يريدون منا أن نكون شهود زور، وأن نقول ربع الحقيقة في الكارثة التي نعيش وفي الدماء التي تسيل. يريدوننا أن نتلاعب بالالفاظ والكلمات ونسمي الاشياء بغير أسمائها، كي لا نجرح مشاعر السلطان.. يريدون أن نقول ان الجيش لم ينهزم بل يعيد تموضعه، ويغير تكتيكاته ويعيد انتشاره.
هل سمعتم بجيش يعيد تموضعه بالملابس المدنية، ويزدحم أمام مكاتب الخطوط الجوية العراقية في أربيل كي يحصل على تذكرة عودة الى بغداد؟ هل تعلمون أن هنالك قوات كانت تُرابط على الحدود سلّموا أنفسهم بالملابس المدنية الى دولة عربية مجاروة؟ وهل علمتم بأن هنالك بعض العسكر لبسوا الزي المدني وهربوا مع المدنيين الذين نزحوا الى مخيمات اللاجئين في المنطقة الشمالية من العراق ولازالوا فيها حتى الان؟ بكى العراقيون عندما انكسر الجيش العراقي في ظروف قاهرة معروفة في حرب مع دول عظمى، وفتحوا قلوبهم قبل بيوتهم لكل من عاد من الميدان عام 2003، وكذلك كان حال الاشقاء في مصر عندما تعرض الجيش المصري الى الحال نفسها في حزيران/يونيو 1967، لكن هل وجدتم بواكي للجيش الهارب من الموصل وصلاح الدين وكركوك؟ كلا، لان هنالك فرقا كبيرا بين أن يكون الجيش تلميذا نجيبا لشعبه فيحميهم، وبين أن يكون سوط السلطان فيهين كراماتهم في السيطرات الامنية والطرقات والسجون والمعتقلات.
فرق كبير بين جيش يقاتل في الحرب لدرء الاخطار وحماية الحدود وصيانة استقلال الوطن، ونسيجه القومي والمذهبي والديني منصهر في بعضه بعضا، وبين آخر يتحول الى شرطة محلية ينتشر في الطرقات والاحياء، يبتز الناس ويهين كراماتهم ويعتدي على الاعراض، ويرفع رايات طائفية ومذهبية دون علم الوطن.
واذا كانت الثورة العراقية الاخيرة قد أطاحت بكل الغطرسة والعنجهية التي كان يتسلح بها مقاتلو الجيش، كما أنها في الوقت نفسه نزعت كل الاغطية التي حاول القائد العام التسربل بها، لاظهار نفسه على أنه المنقذ للبلاد والعباد والقائد الهمام، فان تبعات الحدث ونتائجه وانعكاساته باتت تساعدنا أكثر من أي وقت مضى على فهم وادراك حقيقة العناصر الفاعلة في المشهد السياسي، لان المعادلات السياسية والشخوص الفاعلين فيها في أي بلد تمتحنهم الظروف الصعبة لا الظروف الطبيعة.
في الظروف الطبيعية تغلب العواطف على حقيقة الاشياء فتكسوها بألوان زاهية، بينما الظروف الصعبة هي وحدها التي تظهر حقيقة العناصر المشتركة في المعادلة وترجعها دائما الى أصولها الاولى. أنظروا الى المشهد جيدا ستجدون أن المؤسسة، التي أطلقوا عليها زورا اسم الجيش العراقي، تكونت من إدماج ميليشيات طائفية متناحرة لها مرجعيات سياسية ودينية مختلفة. كان المطلوب أن يكون للعراق الجديد المُحتل، عنصر قوة كركن أساس من أركان بنائه، كما قالوا. لكن الدمج غير الصهر، الاول يُبقي الحال كما هي عليه، بينما الصهر يعطي ناتجا آخر بسبب التفاعل والتجانس، لذلك بقي الكل في هذه المؤسسة، له مرجعيات ليست هي الوطن فكان هروبه استحقاقا طبيعيا. ركزوا النظر على الزعامات السياسية، وابحثوا عن خلفياتهم ومصادر تمويلهم وتدريبهم وسيناريو وصولهم الى السلطة، ستجدون لا علاقة لهم بهذا الوطن المسمى العراق، لذلك بات من الطبيعي اليوم أن يكون شعارهم، أقصفوا الوطن، ولا غرابة أن يقف المتحدث الرسمي باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية في مؤتمر صحافي في بغداد ويقول بلا خجل «نأمل أن يكون هنالك تدخل حقيقي يوفر مساعدة حقيقية للعراق»، ويتبعه قائده نوري المالكي في حديث الى قناة فضائية أجنبية ليقول بوضوح أكبر أن قصف طائرات النظام السوري لشعبنا في داخل الاراضي العراقية مرحب به. نعم لقد عاد الجميع الى خلفياتهم الطائفية الميليشياوية، وكشفوا بوضوح أكبر عن نزعاتهم الاستبداية وحقدهم الطائفي الاعمى، لذلك لابد من الرجوع مرة أخرى الى تلك الاصول الشاذة فكريا، والعمل بالنوايا والاهداف التي تؤمن بأن العراقيين ليسوا طرفا واحدا، وشعبا واحدا، وهوية واحدة. عندها سنجد أن الجيش الرديف الذي أعلنوا عنه لابد منه، وسنفهم جيدا ما معنى أن تكون قياداته من المُعممين، وعناصره من الخلايا الطائفية التي كانت نائمة. انها لحظة انطلاق الثارات والاحقاد ضد الاخرين، ولابد أن تكون ذراع الردع طائفية لسببين رئيسيين، أولهما التأكيد على شعارهم الديمقراطي بعدم التخلي عن السلطة التي يجب أن تبقى بامتياز حصري لطائفة محددة، والسبب الثاني اقليمي يتعلق بمتطلبات محور طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ الضاحية الجنوبية، الذي يحاول بناء مفهوم اجتماعي جديد في الاقليم قائم على أساس معسكرين، هما معسكر الحسين ومعسكر يزيد، وأن بين الطرفين بحورا من الدم وثارات لابد من ايقاضها، لكن الجيش الرديف القائم بدلا من الجيش الهارب ليس جديدا على العراقيين. لقد ذقنا مرارته منذ عام 2003 وعرفنا ذروة جرائمه في الاعوام 2005 ـ 2008، حينما كانوا يستخدمون كل جهد الدولة المدني والعسكري لتنفيذ الاعتقالات والقتل والتهجير والابتزاز، حتى باتت جثث الابرياء ملقاة على قارعة الطرقات وفي أماكن جمع النفايات، وحصلت في العراق أكبر عملية تهجير قسري عرفها العالم بعد هجرة الفلسطينيين على يد الصهاينة. واذا كانت ايران وبعض الدول الغربية قد تطابقت مصالحهما في هذه الفترة وبات الجميع يعمل بجد واخلاص لوأد الثورة العراقية المباركة، واطلاق صفات الارهاب والتطرف عليها، غاضين البصر عن المظالم الشعبية، فان الواجب القومي والانساني يتطلب من النظام الرسمي العربي التخلي عن سياسية النأي بالنفس عن القضية العراقية. ان أي مراقب يستطيع ان يرى بوضوح تام المواقف العربية الواضحة مما يحصل في لبنان وسوريا وغيرها من الاقطار العربية، لكن الموقف العربي لازال غامضا مما جرى ويجري في العراق. اننا لا نريد حيادية النظام السياسي في مصر، طمعا في علاقات مع المالكي، ولا نعتقد بأن الموقف السعودي قد أصبح بحجم المأساة التي نعيشها، ولا نرى تحركا خليجيا حقيقيا لمساندة أهلنا ودعم ثورتنا، على الرغم من أن الجميع قد اكتوى بنار القضية العراقية حينما فتحت الحدود العراقية أمام الغزو السياسي والاستخباري الايراني، فانداح من العراق الى بقية الاقطار العربية المجاورة للعراق. أنكم جميعا مطالبون بوقفة تاريخية يفرضها الدين والعروبة والوفاء للعراق وأهله، وأن لا تأخذكم بالحق لومة أمريكا وغيرها.

باحث سياسي عراقي
القدس العربي
إعلان الخلافة.. جبهات جديدة تشتعل/ معين الطاهر
أخيراً، تمخضت الدولة الإسلامية في العراق والشام، “داعش”، عن الخلافة الإسلامية، وبويع أبو بكر البغدادي من “أهل الحل والعقد” الذين لم تعرف هويتهم أو ماهيتهم، وهو موضوع إشكالي في الفقه الإسلامي، خليفةً على كل المسلمين في شتى أقطارهم، وتم الإعلان عن دولة الخلافة الموعودة.
استفادت داعش من الحاضنة الشعبية ذات الأصول السنية في العراق، والتي تمردت على سياسات نوري المالكي المجحفة بحقها، وتمكنت، بالتعاون مع قوى أخرى حزبية وعشائرية، من السيطرة على غالبية الجزء السني في العراق خلال ساعات. وكانت، قبل ذلك، قد نجحت في السيطرة على أجزاء واسعة من سورية، ومن ثم في القضاء على حلفائها بالأمس من جبهة النصرة أو الجيش الحر، ورسخت زعامتها في مناطق نفوذها.
إعلان الخلافة ليس ترفاً، ولا دعاية حزبية أو سياسية، أو دعوة دينية. بل هو، ومن المنظور الديني لهذه الاتجاهات، له بعده المتجذر في العقيدة وأصول الدين. وكما كانت له مقدماته التي امتدت من القاعدة وأبو مصعب الزرقاوي والدولة الإسلامية، فان له نتائجه التي يدركها تماماً صانعو الإعلان. ويدركون انعكاس هذه النتائج على سياساتهم، وعلى معاركهم التي يخوضونها.
دولة الخلافة المفترضة لا تحتمل التعددية، في مناطق سيطرتها، وفي شتى بقاع المسلمين، فالخليفة هو خليفة كل المسلمين الذين عليهم السمع والطاعة، وسلطته مطلقة عليهم جميعاً، ولا يجوز أن يكون لهم أكثر من دولة، فما بالك بأكثر من جماعةٍ، أو حزبٍ، أو تنظيم.
لنتمعن في ما ورد في إعلان الخلافة، حين يقول “وإياكم وشق الصف، ومن أراد شق الصف، فافلقوا رأسه بالرصاص، وأخرجوا ما فيه، ولا كرامة لأحد”. كما أنه يخاطب الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى في كل مكان، ويقول “بطلت شرعية جماعاتكم وتنظيماتكم، ولا يحل لأحد منكم أن يبيت دون أن يبايع”، مذكراً إياهم بأن سبب تأخير النصر “وجود هذه الجماعات”.
إذن، أصبح من الواجب شرعاً، ضمن هذا المفهوم، على الجميع من الظواهري إلى الملا عمر و”طالبان” إلى “الإخوان المسلمين”، وإلى أي فردٍ، أو جماعةٍ، أن يبايع الخليفة البغدادي فوراً، ومن دون أي تأخير، وإلا اعتبر مرتداً خارجاً عن جماعة المسلمين، ووجب قتاله.
أما الحاضنة الشعبية التي مكنت الخليفة البغدادي من بسط سلطته، وتوسيع دائرة نفوذه، فإن عليها، أولاً، أن تنصاع لهذه السلطة. لم يعد مقبولاً أن يقال إن قوى حزبية، أو قوميةً، أو إسلاميةً أخرى، أو حتى عشائرية، شاركت، أو ستشارك في سلطة الخليفة ودولته. وحتى يتمكن الخليفة من تحقيق وحدانية السلطة، عليه أن يتجه، أولاً، إلى محاربة المرتدين من مسلمي الأمس الذين لا ينصاعون لسلطانه. تماماً كما فعل الخليفة أبو بكر الصديق، عندما توجه لمحاربة المرتدين، قبل أن يتوجه نحو الفتوحات الخارجية.
بمعنى آخر، إن العقد الاجتماعي والسياسي الذي سمح لـ “داعش” ببسط نفوذها في الشام والعراق سيجري استبداله، بالقوة، بسلطة الخليفة الدينية المطلقة، وعلى هذه السلطة لكي تترسخ وحدها من دون شريك أن تشتبك مع حلفاء الأمس. لذا، من المتوقع أن تتحول الجبهة مع نوري المالكي أو بشار الأسد إلى جبهة ثانوية، وتشتعل في الداخل جبهات أخرى، سواء على أرض دولة الخلافة الحالية، أم مع القوى والجماعات الأخرى التي سترفض، قطعاً، منطق المبايعة والانطواء تحت راية الخليفة في بلدانها الإسلامية. كذلك، قد تتحول الأوليات لتوسيع نطاق دولة الخلافة من العدو الافتراضي الحالى (المالكي وبشار أو الشيعة) مع إبقائهم هدفاً دائماً للتعبئة والتحريض المذهبي إلى نواحٍ وبلدانٍ أخرى في الإقليم قد تعتبر بمثابة خاصرة رخوةٍ في النظام الإقليمي برمته. وهدفاً أسهل لزعزعته، والانقضاض عليه، فثمة جبهةٌ تكاد أن تخف وتيرة الصراع فيها، وجبهات تشتعل أو تكاد، وقواعد جديدة للاشتباك تتشكل في منطقتنا.
العربي الجديد

 

داعش … الطائفية والنفوذ والتمويل والمخاطر/ خيري حمدان
يستند تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) على أسس عقائديةٍ وطائفيةٍ سنّيةٍ، تسعى إلى مواجهة المؤسسات والتنظيمات الشيعية في العراق وسورية، (وقريباً؟) في دول عربية محيطة، امتداداً للصراع التاريخي ما بين الحسين بن علي بن أبي طالب ويزيد بن معاوية الذي أطاح الحسين في معركة كربلاء، وأسفر عن ذلك تقديس الشيعة ضريح الحسين في كربلاء، والذي اعتبروه سيّد الشهداء وناصر المظلومين. لم تنته المعركة حتى يومنا، وما تزال تبعاتها تتضاعف وتتفاعل، ويتم استغلالها لتأجيج الصراع الطائفيّ بين الشيعة والسنّة. وما يزال أهل الشيعة يشتمون سقيفة بني ساعدة، بعد مرور نحو أربعة عشر قرناً على تلك الواقعة، التي أسفرت عن تولية الصحابي أبي بكر الصديق أميراً على المسلمين، في وقت انشغل فيه الإمام علي، كرم الله وجهه، بتغسيل جثمان النبي محمد عليه السلام، فأقصي عن أحقية الخلافة.
شهدت القارة الأوروبية صراعاً مثيلاً، وحرباً طاحنة امتدت ثلاثين عاماً (1618– 1648) أدّت إلى تقليص سكان ألمانيا، آنذاك، بنسبة 30% عقب النزاع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، وأصل التسمية Protest أي الاحتجاج على تعاليم الكاثوليك، لكن الحرب انتهت بصلح وستفاليا، ووقعت معاهدة مونستر التي وضعت حداً للصراع السياسي الديني، وبهذا فصلت السياسة عن الدين، وتمكنت أوروبا من تحقيق التقدم المنشود، خلافاً للصراع الطائفيّ الدمويّ بين الشيعة والسنّة، وما تزال شعوب العالم العربي تدفع ثمنه حتى اللحظة.
الجهاديون ومشروع الدولة الاجتماعية
“يهتم تنظيم داعش بالحفاظ على نظام الطاقة وتوفير الخدمات المختلفة، ليصبح في مناطق نفوذه دولةً منظمةً ذات مؤسسات فاعلة، تطمح للبقاء لفترات طويلة الأمد، وليس مجرد تنظيمٍ عابرٍ في هذه المنطقة المتفجرة”
انطلق تنظيم داعش بسرعة، وتمكن من فرض حضوره في سورية، وهو يمتدّ الآن ليفرض سيطرته على بعض المدن العراقية، ويسعى جاهداً إلى الوصول إلى منابع النفط العراقية، لكي يحصل على مصدر تمويل شبه دائم، في وقت تتخبط فيه السلطات العراقية والقوى الأمنية وقوام الجيش ومؤسسات الدولة الخاضعة لإرادة سلطةٍ، عملت على تهميش المصالح السنيّة في البلاد، مما ساعد على رفع معدلات التوتر والكراهية بين الفئتين الشعبيتين، إضافة إلى النفوذ الإيراني الكبير في العراق.
طلب رئيس الوزراء (الشيعي)، نوري المالكي، من الأميركيين تدخلاً عسكرياً. لكن، ليس متوقعاً دخول جيوش أميركية إلى العراق، وتكرار أخطائهم في حرب الخليج، وتحمل مزيد من التبعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وليس متوقعاً، أيضاً، تدخل شمال العراق الكردي الساعي نحو استقلال كامل عن العراق، بعيداً عن تعقيداته العرقيّة، ليجد المالكي نفسه من دون حلفاء، الأمر الذي استدعاه لحشد حركة شعبية شيعية واسعة لمواجهة داعش، ولن تسفر هذه المواجهة عن حلٍّ ناجعٍ لهذا الصراع، بل ستعمل على تعميق هذه الأزمة، وستحثّ طوائف السنّة على الاندماج والتماهي مع داعش.
عملياً، هناك إمكانية كبيرة لأن تؤدي الحرب الأهلية في العراق إلى تقريب المسافة بين طهران وواشنطن، باعتبار داعش عدواً مشتركاً لإيران والولايات المتحدة الأميركية على حدّ سواء، في وقت ترى فيه أميركا الجمهورية الإسلامية واحة من الاستقرار والهدوء، مقارنة بما يحدث في منطقة الشرق الأوسط.
أخذت داعش في الاعتبار تجربة تنظيم حزب الله الشيعي في لبنان، الذي تمكّن من إيجاد بوتقة مستقلة، ومجتمع – دولة شيعي، خارج إطار الدولة اللبنانية، لذا، سارع تنظيم داعش إلى تحقيق سياسة اجتماعية، تضمن للعائلات الأمان والمأوى والمأكل، جنباً إلى جنب مع قوانين الشريعة الصارمة، وأشرفت داعش، مثالاً، على العناية بدار الأيتام في الرقة. وسهّل التنظيم كذلك للتجار في مناطق نفوذهم مقايضة السلع والبضائع المختلفة، تجنباً لاستخدام العملة المحلية “الليرة” التي فقدت كثيراً من قيمتها، نتيجة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية والتدمير المنظم للبنى التحتية التي يمارسها النظام السوري منذ سنوات. ويهتم هذا التنظيم بالحفاظ على نظام الطاقة وتوفير الخدمات المختلفة، ليصبح في مناطق نفوذه دولةً منظمةً ذات مؤسسات فاعلة، تطمح للبقاء لفترات طويلة الأمد، وليس مجرد تنظيمٍ عابرٍ في هذه المنطقة المتفجرة.
تمويل ذاتي
خلافاً لما يعتقد كثيرون أن هذا التنظيم يحصل على دعم مالي كبير من أثرياء الخليج، في ظلّ العزلة التي يواجهها هذا التنظيم، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية معلوماتٍ، إثر حصولها على 160 جهازاً دقيقاً لتخزين البيانات “فلاشة” تابعة لتنطيم داعش، وتؤكد هذه البيانات أنّ داعش منظمة حازمة ذات بنى قوية وتمويل ذاتي، حصلت على جزء كبير من موازنتها، بعد سيطرتها، في العام الماضي، على محطات تكرير النفط في شمال سورية، وبيعها آثاراً تاريخية ومعالم حضارية منقولة، وابتزازها أموالاً من الأثرياء. ووفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تحصل داعش من عائدات النفط فقط على 50 مليون دولار شهرياً. ويذهب التنظيم إلى أبعد من ذلك، ليضع تقارير مالية مفصلة ودقيقة، يشرح فيها أوجه الصرف المالي، وكأنّه منظمة حكومية، أو بنكاً دولياً رائداً.
وتمكّن داعش كذلك من كسب غنائم الجيش العراقي المنهزم، من تجهيزات عسكرية أميركية وأسلحة وذخائر، والأهم من ذلك، السيطرة على بنوكٍ عراقية في الموصل، وتقدر الأموال التي اغتنمها داعش بنحو نصف مليار دولار. لذا، فإن الأموال المخصصة للجهاد كثيرة، ويمكن لداعش اجتذاب متطوعين للجهاد في صفوفها ضدّ الشيعة.
الخلافة في مواجهة ولاية الفقيه
يعتبر تنظيم داعش الإرهابي، من وجهة النظر الأميركية، تحدياً كبيراً لإدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حيث خسرت أميركا المليارات وآلاف الجنود في حرب الخليج الثانية في العراق. ويمكن لتنظيم داعش، حال تنامي قدراته، أن يشكل تهديداً لإسرائيل والأردن، كما جاء، أخيراً، في صحيفة “نيويورك تايمز”، وتهديداً لباقي حلفاء أميركا في المنطقة. وهناك كذلك ما يدعو للقلق في إيران، بعد تموضع مشروع الخلافة الإسلامية السنيّة ضدّ نظام ولاية الفقيه في العراق ذي الأغلبية الشيعية. لذا، من المتوقع أن تتدخل إيران بكل الطرق والأساليب الممكنة لوقف تقدم داعش، وقد بدأت بإرسال قوات لمواجهة داعش عسكرياً. وتفيد معلومات بوصول قائد فرقة القدس الخاصة، الجنرال قاسم سليماني، إلى بغداد، للتحضير وإعداد القوات المعنية بالدفاع عن بغداد.
وسرعان ما صرح الرئيس الإيراني، حسن روحاني، عن استعداد بلاده للدفاع عن الشيعة في العراق. وقد حذر وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، من نذر حرب أهلية في العراق، في كلمته في افتتاح مؤتمر وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في جدة، معارضاً التدخل الأجنبي والأجندات الخارجية، ومنع تحويل العراق والدول التي خاضت غمار الاضطراب السياسي ممراً لتيارات التطرف وموجات الإرهاب المختلفة.
وقد تراجع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن تصريحاته بشأن إمكانية اللجوء لتعاون عسكري مع إيران، بعد انتقاداتٍ شديدةٍ تعرض لها في البنتاغون والبيت الأبيض والكونغرس. لكن، هناك دوافع عديدة دعت الوزير لإعلان هذه التصريحات، آخذاً بالاعتبار الدور الإيراني الاستخباراتي في الحرب الأميركية ضدّ طالبان “السنّة” في العام 2001، وأكّد وزير الدفاع، تشاك هيغل، هذا التعاون بين البلدين. لكن، يجب أن لا ننسى كذلك معارضة الجمهوريين الشديدة للتعاون مع إيران التي وصفوها بمحور الشر، واعتبار أميركا بالنسبة لإيران، إلى وقت قريب، “الشيطان الأكبر”، فهل يلتقي الغريمان لإطاحة عدو مشترك!
“يمكن لتنظيم داعش، حال تنامي قدراته، أن يشكل تهديداً لإسرائيل والأردن، كما جاء، أخيراً، في صحيفة “نيويورك تايمز”، وتهديداً لباقي حلفاء أميركا في المنطقة.”
من المتوقع، كذلك، أن تسعى الدبلوماسية الأميركية إلى إيجاد حلولٍ سياسيةٍ للأزمة العراقية، وتقديم تنازلاتٍ لفئات السنّة، لتجنب صدامٍ عسكري غير مرغوب به وفقاً لأجندة إدارة أوباما ورغبته بعدم التورط العسكري في المناطق الساخنة حول العالم. وردّاً على تساؤلٍ سابق بشأن التحالف الأميركي الإيراني، سيجد أوباما معارضة شديدة من المملكة العربية السعودية وإسرائيل أيضاً التي ترفض رفع استحقاقات إيران في المنطقة، وبسط نفوذها، ولو لمواجهة تنظيمات إرهابية ومتطرفة. وتعتبر التقارير الأخيرة التي نشرتها الخارجية الأمريكية ووزارة المالية إيرانَ من أكبر ممولي الإرهاب في العالم، وهي التي لم تتوقف لحظة عن تمويل “حزب الله” اللبناني الشيعي، والتنظيم الفلسطيني “حماس”، فكيف يمكن التعاون مع إيران على المستوى الاستراتيجي، بل ذهب زعيم الأقلية الجمهورية، في مجلس النواب الأميركي، جون بينر، إلى أبعد من ذلك، وطالب بعدم التحدث مع إيران بشأن الأزمة العراقية نهائياً، وأبدى مخاوفه من ردود فعل حلفاء أميركا في المنطقة، على خلفية تعاون محتمل مع إيران.
لا تبشر الأزمة العراقية بالخير، وستعمل على كشف التناقضات العرقية والعقائدية التي يعاني منها هذا البلد العريق، وستضع الحكومة العراقية، بزعامة نوري المالكي، على المحك في هذه المواجهة العنيفة، خصوصاً أن أوجه الفساد مستشرية في مؤسسات الدولة، مع انعدام العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحقّ الأقليات المختلفة، وفي مقدمتها الأقلية السنيّة، وداعش المتحدث باسمها إلى أجلٍ قد يطول.
العربي الجديد

 

 

المبايعة في ولاية “تويتر”/ روجيه عوطة
ما إن أعلن المتحدث بإسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”-داعش، دولة الخلافة، حتى تساءل أحد المغردين في “تويتر” حول كيفية مبايعة “الشيخ المجاهد العالم العامل العابد الإمام الهمام المجدد سليل بيت النبوة” أبو بكر البغدادي خليفةً للمسلمين. لم يطُل وقت الإستفهام كثيراً، حتى حصلت تلك “الكيفية” على إجابتها التقنية، وفي الموقع الإلكتروني نفسه. بدأت التغريدات تتوالى وتتكاثر، وقد كتبت جميعها على النحو ذاته، معقودة على هاشتاغ واحد #مبايعة أمير المؤمنين، عملاً ببيان “دولته”، وتداركاً لكل “باطل أو إثم”. فهذا أمر من أوامر “أهل الحل والعقد” في العراق وبلاد الشام، مفاده الطاعة للخليفة، وبذلها في الدين والدنيا، فكيف للـ”المؤمنين” ألا يولوا شؤونهم لـ”أميرهم”، الذي، حتى الساعة، لم يظهر سوى في صورة قديمة، وفي بعض التسجيلات الصوتية؟
والحال إن “تويتر”، بما يشترطه على مستخدميه من عدد محدد من العبارات في التغريدة، بدا في ليلة المبايعة، ولا يزال، ولاية الإنقياد والموافقة بامتياز. إذ لم يُطلب من “المؤمنين” بدولة الخلافة غير إشهار البيعة ببعض الكلمات، من دون أن ينتبهوا إلى أن ذاك الطلب، مصدره مجهول، أو لنقل، مبهم، مثل “الخليفة” وسيرته. لكن هذا الغموض، لن يمنعهم من التغريد بالطاعة، فيكتب “أبو حور الجزراوي”، أن كل “بيعة لغير أمير الؤمنين لا تصح”، ويشابهه في هذا الرأي، “أبو حفص المقدسي”، الذي بايع الخليفة، نظراً للـ”وضوح”، الذي لمسه في “الراية والمنهج والعقيدة”. أما أبو عباس التونسي، فدعا إلى “الإلتحاق بركب الأمة في المبايعة” إلخ.. هكذا، تبدد هذه التغريدات وغيرها، الإبهام الذي يلف “داعش” وزعيمها، إذ يقلبه إلى بائنٍ، خصوصاً أن إعلان الخلافة، على ما يظهر تويترياً، يحقق مكبوتاً قديماً، كان قد رسخه خطاب إديويولوجي شديد الذيوع، مختصراً إياه بمقولة “الدين هو الحل”.
في هذا المعنى، من الممكن القول أن هاشتاغ البيعة هو بمثابة مفتاح للوصول إلى هذا “الحل”، الذي لطالما هجس به الكثيرون، وها هم الآن، يسمعون به، ويشاهدونه واقعياً. وبالتالي، شرعوا في إطلاق مكبوتهم، أو بالأحرى، دفعتهم “داعش” إلى هذا الفعل. من هنا، لا يعود غريباً أن يبايع أحدهم البغدادي بسبب “وضوحه”، رغم انعدام ظهوره. ذلك، أن المبايع يتوجه ببيعته إلى رغبة تسكنه، خاطبتها “الدولة”، وفكت أسرها، قبل أن تمأسسها بالقتل والتنكيل. في كل الأحوال، ثمة مَن انتبه، في “تويتر”، إلى أن الوضوح يشوبه ابهامٌ، متعلق بالخليفة نفسه، بحيث أنه من غير “المنطقي”، أن يبايع المؤمنون أميراً لا يُعرف له وجه أو خطبة علنية. ما دفع البعض إلى التغريد حول ذلك، رافضين المبايعة قبل أن يظهر الخليفة. فسأل زياد الشراري: “هل تجوز مبايعة الخليفة من دون ظهوره؟”، كما طالب البعض الآخر بظهور البغدادي، كي تتم البيعة بطريقة شرعية، إضافة إلى أن عدداً من المغردين ربطوا بين ظهوره والقيامة، و”تسليمه الراية للمسيح”، على ما كتب أحدهم.
إذاً، يقع إعتراض المؤمنين على غموض شخصية الخليفة، وليس على أفعاله الداعشية. ما أدى إلى شيوع الكثير من التغريدات، التي تنبئ بظهور البغدادي في الساعات المقبلة، في صور حصرية، أو في فيديو مرئي. لكن، رغم هذه الشائبة في البيعة، استمر المغردون في إعلانها عبر “تويتر”، الذي تحول إلى ميدان الطاعة، على عكس “فايسبوك”، الذي انفجر ضاحكاً على الخلافة وأميرها، في بوستات ساخرة كثيرة. وقد يكون مرد هذا الفرق إلى أن حضور الإسلاميين في “تويتر” أكثر فاعلية من حضورهم في “كتاب الوجه”، لا سيما أن لـ”الدولة” حساباً على الأول، بينما لا تمتلك صفحة رسمية زرقاء.
إلى ذلك، يُضاف أن التغريدة، بوصفها اقتضاباً، تتحمل أن تكون رسالة “أمر”، أو رداً بالإيجاب عليها، خصوصاً أن كاتبها غامض، ملثم “الوجه”، وبالتالي الذات. ذاك أنها، خلافاً للبوست الفايسبوكي الذي يُكتب بآلية وجهية ذاتية، تتحمل البيان أكثر من الإبهام. وعليه، قد يصح الإستفهام حول إمكان انتقال “داعش” إلى “فايسبوك” في حال كشف البغدادي عن وجهه، وأنهى مرحلة اللثام.. فهل اقتربت “الدولة” من الهجرة إلى الموقع الأزرق، ومن إعلان قيام ولايتها الإعلامية فيه….ثم مَن سيكون أميرها هناك؟
المدن

 

سايكس بيكو.. سحقا أم سلاما؟/ مشاري الذايدي
من كان يتوقع أن نصل إلى لحظة يتحسر فيها بعثي قديم ويساري عروبي عتيد على ضياع حدود سايكس بيكو؟!
هذا ما حصل من اليساري العروبي اللبناني وليد جنبلاط، ومثله صاحب الهوى السوري العروبي نبيه بري، على وقع صخب «داعش» وصرخاتها على جنبات الفرات.
قضي الأمر، وصار الشخص المجهول، أو شبه المجهول، أبو بكر البغدادي، هو خليفة المسلمين الموعود، ولا مناص للبقية من مبايعته، على غرار المنصور والسفاح وخلفاء الموحدين والمرابطين.
«داعش» شظية من التاريخ القديم وصلت إلى عصرنا. وكنست كل مواضعات وتفاهمات المنطقة منذ أزيد من قرن، أو هي تحاول ذلك. أعلنت على لسان «حاجبها»، أو كاتبها، ما دمنا نتحدث عن مصطلحات التاريخ، أبو محمد العدناني، أنها صارت باسم «الدولة الإسلامية» فقط، ليس «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وأن هدفها هو إقامة الخلافة الإسلامية المفقودة، على اعتبار أن منصب الخليفة منصب «إلهي مقدس»، كما قال بعض دعاتهم بالنص، وأن هدفها الآن إزالة الحدود من البحر الأبيض إلى الخليج العربي، يعني منطقة الهلال الخصيب كلها، ومعها الجزيرة العربية. الجماعة بثت تسجيل فيديو باسم «كسر الحدود» تتحدث فيه عن إزالتها الحدود بين محافظتي الحسكة في سوريا ونينوى في العراق. وقال شخص في تسجيل الفيديو: «أقول لأمة الإسلام: نحن الآن في العراق.. الله عز وجل حطم هذه الحدود؛ حدود سايكس بيكو.. أصبح المسلم يدخل إلى العراق من دون جواز».
هذه الحدود، كما هو شائع، حصيلة تفاهم سري بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم منطقة الهلال الخصيب، وتركة «الخلافة» العثمانية سنة 1916. بين وزيري خارجية البلدين، وكشف النقاب عنها الشيوعيون عقب الإطاحة بالحكم القيصري الروسي. هجاء حدود سايكس بيكو، أي الدولة الوطنية بحدودها الحالية، هو ركن ركين من الثقافة العربية «العلمانية» طيلة قرن تقريبا، وخطاب التيارات العروبية والبعثية واليسارية كلها يقوم على هجاء حدود سايكس بيكو والدعوة لتجاوزها.
الإسلاميون منذ حسن البنا وحزب التحرير وجمعية الخلافة الهندية، كلهم من بقايا الدعاية الحميدية، نسبة للسلطان عبد الحميد، الذي كرس فكرة الجامعة الإسلامية لضرب التيارات القومية والإصلاحية وإخافة أوروبا، ونجح (مؤقتا) في ذلك، لكنه بعد زوال حكمه بذر فكرة «تقديس» موقع الخليفة والخلافة. فكر «الإخوان»، الذي هو منبع ما نراه كله، هو مزيج من هجائيات اليسار والعروبيين، مع مثاليات الخلافة ونقائص الجامعة الإسلامية الحميدية.
الآن يقول لنا وليد جنبلاط في جريدة «الأنباء»: «سبق أن قطعت عهدا على نفسي أن أضع باقة من الزهور على ضريحي السيدين مارك سايكس وفرنسوا بيكو، فيبدو أن الحدود التي رسماها واتهما حينذاك بأنهما وضعا الحواجز المصطنعة بين الدول الشقيقة، أفضل بكثير من الحواجز التي تسقطها (داعش) وأخواتها». ويترحم نبيه بري على سايكس بيكو «قياسا بما نحن عليه اليوم».
الأخطاء مرتبط بعضها ببعض، حتى وإن لم يتضح لنا هذا في الرؤية الأولى!
الشرق الأوسط
خِلافةٌ هي كارثة جديدة/ زيـاد مـاجد
يبدو إعلان زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش” أبو بكر البغدادي “الخلافة” حدثاً كوميدياً أو مزحة سمجة. لكنه ليس على هذا النحو تماماً. فالمشروع الذي يقوده الرجل، المستفيد من تضافر عوامل سابقة وراهنة (أشرنا إليها الأسبوع الفائت)، سيتسبّب بويلات تضاف الى الويلات التي أصابت وتصيب المنطقة.
ذلك أن القول بدولة وخليفة في رقعة على تخوم مدينتي بغداد ودمشق، عاصمتَي الخلافتين العبّاسية والأموية، وفي ظلّ حروب مستعرة واحتقان مذهبي وفلتان بعض الحدود، سيجذب جهاديّين إضافيين من أصقاع الأرض (أو على الأقل سيزيد الموجودين منهم تماسكاً)، بما يُطيل أمد العنف الهمجي ويمدّه بمخيّلات وتهويمات وإسقاطات قاتلة. وهذا سيجعل اجتثاث “الدولة-الخلافة” أكثر كلفة دموية، إن في العراق أو في سوريا، وأكثر انفتاحاً على احتمالات تعاون عسكري دولي وإقليمي قصير النظر يخلط بعض الأوراق ويعدّل مرحليّاً الأولويّات الأمنية لدول عدّة.
أكثر من ذلك، يمكن افتراض أن “الخليفة” البغدادي سيسعى الى استقطاب شبّان مقيمين في دول غربية، أو جماعات ناشطة في دول أفريقية وآسيوية، وقد يحاول الاستفادة منهم للقيام بأعمال إرهابية أو لتنظيم عنف مشهدي مثير في أماكن إقامتهم نفسها، بما يضاعف الاهتمام الإعلامي بظاهرته ويدفعها لاحتلال الصدارة لفترة في الأجندات السياسية الدولية.
الأسوأ، أن ما سيعانيه أهل المناطق الواقعة ضمن حدود الخلافة سيكون بلاءً مضاعفاً. فإضافة الى فائض الظلامية والإجرام وكراهية الحياة التي نشهد منذ عام تقريباً نموذجاً منها في “إمارة الرقة” وفي بعض مناطق الريف الحلبي الشرقي وأرجاء واسعة من محافظتي دير الزور والحسكة، ستشهد “أرض الخلافة” صدامات محليّة مستمرة بين موالين ومعارضين لزعيهما، وستشهد على الأرجح حملات عسكرية كبرى لاقتلاعه ولإنهاء هذه المأساة المديدة.
على أنه لا شفاء فعليّاً من “داعش” والخلافة التي تعلنها ومن شبيهاتها المُقبلات من دون اجتثاث أصل البلاء الذي خرّج ويخرّج ظواهر مثلها، أي النظام الأسدي، ومن دون تجفيف مصادر الإرهاب في الأنظمة القاتلة وفي الشبكات الظلامية التي تنتعش كلّ ما تفاقم العنف وطال أمد النزاعات…
يبقى أن لبنان الواقع على مقربة من دولة البغدادي، والمشارك أحد أحزابه في حرب النظام السوري ومجازره التي أتاحت لمسوخ الدولة “البغدادية” بالبروز والتمدّد، قد يتعرّف قريباً الى أمير الدولة المولّى عليه، بعد أن بدأ يتعرّف الى العنف الإرهابي المتنقّل بين طرقات وفنادق، في ظلّ عجز القوى السياسية عن إدارة أوضاعه وحماية المؤسسات الدستورية ومنع التهديدات الخارجية من التحوّل عناصر إنهاك وتهتّك وقُسمة داخلية إضافية.
موقع لبنان ناو

الشرق الأوسط.. خريطة لم تُرسم/ جوشوا كيتنج
عند وصول جون كيري إلى بغداد كانت الأنباء الأبرز هي أن التخوم الغربية للبلاد أصبحت برمتها خارج سيطرة دولة العراق. واستولت القبائل السُنية على المعبر المشروع الوحيد بين العراق والأردن. وتخضع المعابر بين العراق وسوريا إما لسيطرة “داعش” أو للبشمرجة الكردية. وفي الوقت نفسه أرسل الزعيم الكردي مسعود بارزاني برسائل قوية تشير إلى أنه ربما يكون الوقت حان لتسعى كردستان إلى الحصول على استقلال كامل. ومع الأخذ في الاعتبار هذه التطورات، ليس من الغريب أن يتساءل عدد من كتاب السياسة الخارجية الكبار إذا ما كان وجود دولة العراق الموحدة قد أصبح سراباً. ويقول الصحفي جيفري جولدبيرج “لا اعتقد أن الحفاظ على العراق كدولة موحدة يستحق لا الأموال الأميركية ولا الأرواح الأميركية بالطبع”. ويعتقد فريد زكريا أن الولايات المتحدة “يجب أن تعترف أن العراق أصبح مؤلفاً من دويلات وعليها أن تعمل على إبقاء هذه المناطق مستقرة وخالية من الإرهاب بقدر الإمكان”.
ويمضي آخرون قدماً ويجادلون بأن أزمة العراق تشكل نهاية اتفاقية سايكس- بيكو لتقسيم الشرق الأوسط بين القوى الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى التي مهدت الطريق لرسم الحدود الحديثة للمنطقة. وأُعلنت وفاة سايكس بيكو مراراً وتكراراً لكن الحدود في الشرق الأوسط لم تتغير كثيراً منذ عقود. لذا لن ألقي بالخريطة الحالية للشرق الأوسط جانباً بعد. فهناك الكثير من الدول الضعيفة والممزقة في العالم ومناطق تود أن تصبح دولاً لكنها ليست كذلك. والاعتراف الدولي هو الحاسم في الأمرين. وفي العصور الحديثة، لا تؤيد القوى الأجنبية فيما عدا استثناءات قليلة بارزة التعديلات الكبيرة في الحدود فيما يبدو. والولايات المتحدة كانت تخشى تفكك الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت الحالي تستهدف السياسة الأميركية فيما يبدو الضغط على الحكومة العراقية كي تصبح أكثر تماسكاً بدلاً من السماح لها بالتفكك إلى دويلات. وفي حالة العراق هناك أيضاً مشكلة الجماعة التي فرضت القضية على الطاولة وهي الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهي ليست أكثر الجماعات شعبية في المنطقة. وربما تتحلى داعش ببعض صفات الدولة وبعض الجماعات السُنية الأخرى انضمت إليها، لكنها بلا حكومة أجنبية ترعاها، ولن يعترف أحد بدولة سُنية جديدة ما دام أن الجماعة التي كانت تعرف من قبل باسم “القاعدة” في العراق هي التي تدير الأمور.
وقد تكون كردستان قصة مختلفة. فالمنطقة تمتعت بما يقترب من الاستقلال بحكم واقع الحال لفترة من الوقت. وحتى قبل أحداث هذا الشهر وصلت الأمور إلى مأزق بين الأكراد والعراق في النزاع على صادرات النفط، وشكلت الحكومة الكردية الإقليمية تحالفا لم يكن محتملاً مع عدوها التقليدي، تركيا. وإذا مني تمرد “داعش” بالهزيمة في نهاية المطاف، فهذا يرجع في جانب ليس بالصغير منه إلى جهود قوات البشمرجة الكردية، وهو ما سيجعل كردستان العراق في وضع تفاوضي أقوى بكثير في حال انتهاء الصراع.
وزادت احتمالات الاستقلال الكردي التام المعترف به في الأسابيع القليلة الماضية بشكل كبير. لكن إذا كان لي أن أخمن فإن الصراع سينتهي على الأرجح في صورة شيء أقرب إلى النظام الفيدرالي الذي قدم جو بايدن صورة له عام 2007. (وهذا يخالف ما يجري تذكره اليوم وهو أن بايدن لم يقترح قط فعليا تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات مستقلة تماماً). لكن تقسيم الجماعات العرقية في البلاد يحدث على أي حال. وحتى إذا أصبحت كردستان مستقلة، اعتقد أننا مازلنا بعيدين عن عملية رسم كاملة للخريطة. وأنا لا أقصد القول إن تغيير الحدود قد تكون أفضل للمنطقة. فليس هناك إلزام أخلاقي للدفاع عن الخطوط التي رسمتها القوى الاستعمارية لصالحها قبل عقود.
لم ننته بعد من اتفاقية سايكس- بيكو وأظن أن الحدود المعترف بها دولياً في الشرق الأوسط ستظل كما هي إلى حد بعيد في السنوات الخمس أو العشر المقبلة. لكن العدد الكبير والمذهل والذي يتنامى من اللاجئين والصراعات المدنية التي لا تهدأ فيما يبدو والاستقطاب العرقي وزيادة سطوة الجماعات المسلحة غير المنتمية لدول، كل هذا يجعل السؤال الأفضل ربما يكون مدى الصلة الفعلية بين هذه الحدود المعترف بها دوليا والشعوب التي تعيش داخلها؟
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
الاتحاد
شتّان ما بين “أبي بكر” و”أبي بكر”/ الاب جورج مسوح
مع سيطرة الميليشيات المسلّحة التي تتّخذ الدين ستاراً تتلطى خلفه على مناطق شاسعة من بلاد الشام، ينتاب الناس الشعور بالقلق الشديد على أنفسهم وعلى مستقبلهم. وهذه الميليشيات التي تجمع تحت رايتها ما لا يمكن جمعه وفق علم المنطق السليم، تتوسّل المذهبيّة وحدها قاسماً مشتركاً. فهي مزيج من تناقضات فكرية واجتماعية وإيديولوجية تحرّكها العصبية المذهبية في سبيل صدّ مشروع مذهبي آخر.
تبلغ هذه العصبيّة ذروتها مع مبايعة تنظيم “داعش” قائدها خليفةً على المسلمين وعلى ديارهم. غير أن معظم المسلمين يرفضون هذا الأمر الواقع رفضاً قاطعاً. كما أن هذا الإعلان يخالف القاعدة الفقهية التي تقول إن المبايعة ينبغي أن تصدر عن أهل الحلّ والعقد، وأولي الأمر من المسلمين، وهذا ما يفتقده “الخليفة” المنصّب ذاته.
لا ريب في أن إعادة نظام “الخلافة الإسلامية” حلم يراود الكثيرين من المسلمين الناشطين الذين ينتمون إلى تيارات متعددة من الإسلام المعاصر، ولا فرق هنا بين المتشددين والوسطيين إلا بالوسائل اللازمة، عنفية لدى الأوّلين أو غير عنفية لدى الآخرين، لتحقيق هذا الحلم.
جماعة “الإخوان المسلمين” ليست الجماعة الإسلاميّة الوحيدة التي تؤمن بضرورة عودة الخلافة والسعي الجدّي في سبيل تحقيق ذلك في أي ساعة تتوافر فيها شروط هذه العودة المنشودة. فثمة جماعات وأحزاب أخرى لا تخفي هذا الأمر، بل تناضل من أجله جهاراً وبكل ما أوتيت من قوّة وتصميم. وليس ثمة فقيه واحد من المراجع الكبرى في الإسلام نفى أو أنكر أن تكون الخلافة قد ولّت إلى غير رجعة لحساب دولة المواطنة. وكلّنا نعلم مصير علي عبد الرازق عندما تجرّأ في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” (1925) على القول بعدم ضرورة الخلافة، فحوكم وطُرد من الأزهر.
تفيدنا عبر التاريخ القديم أن الإمبراطوريات الكبرى كانت تحضن الأقليات العرقية والدينية وتصون بقاءها. وقد احترمت الخلافة الإسلامية هذا الأمر، وشرّعت وجود غير المسلمين، وبخاصة أهل الكتاب من يهود ومسيحيين وصابئة، في إطار ما سمّي نظام “أهل الذمّة”. وإنّنا لنظلم الخلافة إذا أهملنا الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي، عندما نعتبر نظام “أهل الذمّة” غير منصف. طبعاً، مع تبدّل الأحوال وتقدّمها في عصرنا الحديث، نرفض رفضاً باتاً هذا النظام، ونسعى إلى المواطنة الكاملة والمساواة التامة ما بين المسلمين وغير المسلمين.
في الواقع، حافظت الخلافة الإسلاميّة على التنوّع الدينيّ، وبخاصة حين كانت في أوج قوّتها وانتشارها. أما غير المسلمين فتفاقمت معاناتهم مع انحطاط دولة الخلافة في العصر العباسي الثاني وبلغت ذروتها مع حكم المماليك والعثمانيين. فمَن كان يظنّ أن العراق، الذي شهد في أوج الخلافة العباسية ازدهاراً مسيحياً لا يضاهى، وسوريا، التي يصحّ فيها القول ذاته في ظلّ الدولة الأموية، سيصبح فيهما الوجود المسيحي، ووجود الأقليات الأخرى، في خطر داهم بسبب الخلافة الداعشية؟
النضال ضدّ الأنظمة الديكتاتورية لا يكون بالسعي إلى إقامة نظام لا يقلّ تخلفاً عنها، وإن اتّخذ لقباً شريفاً لدى عموم المسلمين. فالخلافة الداعشية خلافة منحرفة لا تمتّ بأي صلة إلى الإسلام الذي عهدناه في بلادنا. ثمّ، شتّان ما بين “أبي بكر البغدادي”، أوّل الخلفاء الداعشيين، و”أبي بكر الصدّيق”، أوّل الخلفاء الراشدين.
النهار

 

الخلافة وحروب الخلفاء غير الراشدين/ موناليزا فريحة
اعلان عودة الخلافة لم يثر حماسة كبيرة لدى الجهاديين حول العالم. الحلم الاكبر للاسلاميين الذي صار “حقيقة” لم يدغدغ مشاعرهم. مبايعة “الدولة الاسلامية” قائدها أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين حول العالم لم تحظ بنصرة واسعة. وفي ما عدا جماعة “بيت المقدس” الناشطة في سيناء و”لواء أحرار سنّة بعلبك” نزيل فندق “دي روي” و”جيش الصحابة” في سوريا، لم يعلن كثيرون من ذوي “الايادي البيض” السمعة والطاعة للخليفة إبرهيم.
بعد أشهر من المكاسب في سوريا والعراق، يلعب “داعش” بالنار. نصّب نفسه زعيماً للحركات الجهادية حول العالم. تجاهل “القاعدة” الأم وزعيمها أيمن الظواهري، في انعطاف هو الاكبر في الجهاد العالمي منذ هجمات 11 أيلول. عيّن نفسه “إماماً وخليفة للمسلمين في كل مكان”، أي على نحو مليار ونصف مليار مسلم حول العالم، وليس فقط على مسلمي بوادي العراق وسوريا التي شملتها غزوته الاخيرة. حضّ كل الجماعات الجهادية حول العالم على مبايعته. لم يتحدّ أعداءه فحسب من المسلمين، وإنما أيضاً الحركات الاسلامية والخلفاء المفترضين الحالمين أيضاً بالخلافة. فهل يبايع تنظيم “القاعدة” الذي كان يعدّ نفسه الى وقت قريب زعيما للجهاد العالمي، “داعش”؟ أم يعلن الظواهري تمرده فيصير عدواً للخلافة، ويُعاقب بالقتل؟ ماذا عن “بوكو حرام” النيجيرية و”حركة الشباب” الصومالية و”طالبان” الباكستانية، و”القاعدة في المغرب الاسلامي”، و”القاعدة في شبه الجزيرة العربية”؟ ماذا لو بايع بعض هذه الجماعات “الدولة الاسلامية” ورفض بعض آخر، فهل تدخل هذه الجماعات الجهادية في حرب “أهلية”؟ وما سيكون موقف المتعاطفين الغربيين مع “حزب التحرير” مثلاً؟ هل ينتقل هؤلاء الى العراق للعيش في دولة الخلافة التي طالما حلموا بها، أم يتريثون؟
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو كيف ينعكس اعلان الخلافة على الحرب في سوريا والعراق. حتى الامس، كان مقاتلو “النصرة” يقاتلون “داعش” عند معبر البوكمال ويتعاونون مع فصائل أخرى، بما فيها “الجيش السوري الحر” في دير الزور. فهل نشهد خلطاً جديداً للأوراق وانشقاقات في صفوف الحركات الاسلامية المتناحرة أصلاً في سوريا؟ وماذا يكون موقف العشائر والبعثيين السابقين الذين حاربوا الجيش العراقي الى جانبه؟
لعل “داعش” أساء تقدير حجم التعاطف الذي يحظى به بين أبناء المناطق التي غزاها أخيراً وبين المسلمين عموماً. ربما يأمل في أن يدفع إعلان “الخلافة” قبائل وقرى الى مبايعة أبو بكر. حتى الآن لا دلائل كبيرة على ذلك، لكن الاعلان نفسه كفيل بإثارة حالات جديدة من الفوضى والانشقاقات داخل دول عربية بدأت تعيش تحت تأثير تسونامي “داعش”، منها الأردن ولبنان وحتى السعودية، وهو ما قد يلائم مخططات “داعش” ويفتح له آفاقا جديدة لإكمال غزوته.
النهار

 

بمثابة إعلانٍ للحرب…!/ الياس الديري
سيمرّ وقت طويل، وستشهد المنطقة أحداثاً جساماً قد تتخلّلها حروب صغيرة وتواكبها فوضى عارمة، قبل أن ينجلي الضباب الكثيف الذي يُحيط بدولة “الخلافة الإسلاميّة” التي حلّت محلّ “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” بشحطة قلم من تنظيم “داعش” الذي بدأ يشكّل علامة استفهام كبرى بالنسبة إلى المنطقة العربية ودول الغرب أيضاً.
مَنْ هي القوى النافذة التي تدعم “داعش”؟ وما هو حجم الدور الذي نيط بهذا التنظيم الذي تطوَّر بسرعة فائقة، مثلما تمكّن من الاتكاء على ثروة ضخمة من المال والتأييد؟
الغموض وحده هو الجواب عن كل الأسئلة التي تُطرح محليّاً وعبر البحار.
كذلك الأمر بالنسبة إلى سؤال آخر مُربك، مفاده: إلى أين ينوي “داعش” الوصول؟ وما هو الهدف الذي ينوي بلوغه وتحقيقه بعد إعلان “الخلافة”؟
خبراء مشهودٌ لهم في هذا المجال يتوقّعون انعكاسات إيديولوجيّة بالغة الأهميّة والخطورة لخطوة “داعش”. وفي رأي البروفسور بيتر نيومان أن إعلان دولة “الخلافة” أو مجرّد “دولة إسلاميّة “هو بمثابة إعلان للحرب، ليس على الغرب وحده، بل على “القاعدة” أيضاً”.
كما لا يستبعد آخرون أن يشكّل الإعلان المفاجئ، الذي ارتجّت له مطارح متعدّدة، “بداية مرحلة جديدة من الجهاد العابر للقارات”.
ثم تنتقل بنا علامات الاستفهام التي لا تخلو من الهواجس والتوتّر إلى التساؤل ماذا ومَنْ وراء الدولة والخلافة والأكمَة؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تصل هذه التجربة المُحرجة لكل المنطقة العربيّة وللشرق الأوسط القديم والجديد معاً؟
لقد أرخى الحَدَثُ بظلّه الثقيل والمُربك على العواصم العربيّة المعنيّة مباشرة، وتحديداً بغداد ودمشق. ثم الدول المحيطة، والتي ليست بعيدة جغرافيّاً وسياسيّاً عن تفاعلات الحَدَث وطراطيش ذيوله المدوّية. غير أن الجميع ينتظرون “شيئاً ما”، “تطوّراً ما”، مفاجأة ما تزيل الغموض الذي يغلّف هذا الزلزال الجديد.
الوضع هناك، وتحديداً في المناطق العراقيّة المفتوحة على المناطق السوريّة، لا يختلف عن حال الحيص بيص: خلافات، وفوضى بين “داعش” و”القاعدة” والفصائل السنّية والعشائر والبعث، فضلاً عن انتصاب المرابض والمتاريس… والله أعلم.
لكن “السذاجة” السياسيّة التي واكبت أميركا العظمى في غزواتها المشرقيّة والآسيويّة، كما في بعض القرارات والحروب الإفراديّة التي عادت عليها بالخيبات، وعادت هي منها منتوفة الريش، وعلى طريقة الفرار براً بحراً جواً، هذه “السذاجة” عادت فتجلّت أمس في سياق تعليقات وزارة الخارجيّة الأميركيّة على إعلان “الخلافة الإسلاميّة”، وقولها إنه لا يعني شيئاً، إنها مجرّد محاولة لتخويف الناس: لقد سمعنا سابقاً مثل هذه الكلمات.
أما البيت الأبيض فيرى، عبر الناطق باسمه، أن “داعش” يحارب ليدمّر العراق… ودعا القادة العراقيّين لمواجهة هذا التهديد الوجودي.
النهار

 

دواعش التفتيت.. أي وحدة وأي دولة؟/ ماجد الشيخ
في فراغ القوة والهيمنة والنفوذ، وتشتت القوى، وضعف الأقطاب الدوليين وتنافسهم الحاد، وعدم الوصول إلى “اتفاق مصالح” حتى بينهم؛ وسط هذا الفراغ، لم يكن أمام الكيان المسمى “داعش”، وهو اختصار ما يسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” إلا القفز خطوة أخرى في المجهول، أو في هواء الفراغ الدولي والإقليمي، ووسط الدواخل العاجزة عن حماية نفسها، في مواجهة غزوات “الدواعش” وأمثالهم، من خلاصيي التدين الجديد، الآخذ على عاتقه مهمة العمل على ابتناء دولة/كيان جديد، يشار إليه كونه “دولة الخلافة”، تلك التي بقيت حلماً أو وهماً في أذهان عديدين، إن لم نقل كل قوى وتيارات وأحزاب الإسلام السياسي وغير السياسي.
وها هو تنظيم “داعش”، بغلاظته وغلوه وتطرفه، ونزوعه الغريزي – الخلاصي، يستبق الجميع، ليعلن دولته للخلافة، على الرغم مما تثيره هذه الخطوة من خلافات واختلافات بائنة وواضحة، بينه كتنظيم وتنظيمات مشابهة، وحتى أقرب المقربين منه: كتنظيم القاعدة ممثلاً بجبهة النصرة وغيره من فروع وأجزاء من أجزاء التنظيمات المتناسلة من بعضها، حيث يطيب التفتيت، فأي دولةٍ، وأي وحدةٍ، يمكن أن تنشأ من جراء الخطوة “الداعشية”؟ وأي خلافة مختلف عليها من المبتدأ وحتى المنتهى؟
الخلافة “الداعشية”، واحدة من أبرز عناوين الخلافات، ليس المذهبية أو الطائفية، بل داخل المذهب الواحد والطائفة الواحدة؛ وعراق اليوم الذي سمح بإعلانٍ كهذا عن “خلافة”، بزعامة “داعش”، هو اليوم، كما بالأمس؛ ضحية أكثر من احتلالٍ محليٍّ ودولي وإقليمي، انتقل، وعلى مر عشرات السنين، من استبداد إلى آخر، وصولاً إلى استبدادٍ راهن، يصارع للبقاء، مثل مشروع حرب أهلية طويلة ومدمرة؛ تماماً كما هو الحال في سورية التي خضعت، وتخضع، لعدد من قوى الاستبداد وأنواعه؛ بدءاً من استبداد النظام الاستملاكي، مروراً باستبدادات قوى التدين المحلي، وأضرابها من قوى “الجهاد” الأممية، وصولاً إلى “داعشيي الخلافة” الذين يراد لهم إن استقرت أمورهم أن يشكلوا امتدادا لـ “داعشيي الخلافة” في العراق، هذا في حال استمر الود بلا خصام النزوع التفتيتي بين “الدواعش” أنفسهم.
وإذا كانت معاناة شعوبنا ومجتمعاتنا ودولنا شاقةً وعسيرة، جراء تقسيمات سايكس بيكو وحتى اللحظة، فإن انقساماتنا جراء “دولة الخلافة” ستكون أكبر، لا سيما بما تحمله من بذور حروبٍ أهلية طويلة، سوف تكون أقسى وأمر، وأكثر تدميراً مما شهدناه حتى اليوم، منذ احتلال فلسطين، وتحوّل دول الإقليم إلى حارسة لمصالح الاحتلال الكولونيالي والأهداف الاستعمارية التي قامت “إسرائيل الوظيفية” على حمايتها، ولم تزل، بمشاركة موضوعية، وإن بشكل غير مباشر مع تداعيات سايكس – بيكو، وخصوصاً لجهة التماثل بين بعض أنظمة وظيفية وإسرائيل ككيان استيطان استعماري.
“من عفن استبداد الأيديولوجيا القومية، إلى عفن استبداد الأيديولوجيا الإسلاموية، نشأت “داعش” على أنقاض البنى التي انهارت، منذ صعد أيديولوجيو البعث القومي إلى السلطة، حين دمروا الدولة ومؤسساتها، وجعلوا منها خراباً، ترتع فيه أجهزة القمع البوليسية التي صارت بديلاً لكل شيء، ما عدا سلطته “المؤبدة”
التمدد “الداعشي” الحالي في العراق وسورية، في ميزان الوضع الدولي، ليس أكثر من ظاهرة “سايكس بيكوية” جديدة مضافة، وعنواناً لتفتيت وتجزيء ما لم يكن مفتتاً أو مجزءاً من قبل. كما هو إعلان حرب أهلية، أو حروب الأهل ضد الأهل، باسم “المقدس التديني” المخترع من أفراد أو مجموعات شقت غبار الطاعة، وهي، في المقابل، تريد طاعة الناس لها من دون وجه حق، سوى ادعاء استعادة ما كان في بطون كتب التاريخ، من سرديات خلافة مرت بأطوار متعددة؛ من الخلافة الدينية إلى الخلافة المدنية إلى الخلافة العائلية، وصولاً إلى الخلافة العثمانية التي انتهت في عشرينات القرن الماضي. وكأن هؤلاء الماضويين لا علاقة لهم بحاضر أو مستقبل، وبالفعل الأمر كذلك؛ إنهم يريدون الاستيلاء على المستقبل من شرفات ماضٍ، لا يمكن له أن يعود، أو يجري تمثله، وتمثل شخوصه، أو عقلياتهم التي سادت يوماً ومن ثم بادت، وهي بائدة في مطلق الأحوال، مهما ادعى المدعون، أو زعم الزاعمون.
من عفن استبداد الأيديولوجيا القومية، إلى عفن استبداد الأيديولوجيا الإسلاموية، نشأت “داعش” على أنقاض البنى التي انهارت، منذ صعد أيديولوجيو البعث القومي إلى السلطة، حين دمروا الدولة ومؤسساتها، وجعلوا منها خراباً، ترتع فيه أجهزة القمع البوليسية التي صارت بديلاً لكل شيء، ما عدا سلطته “المؤبدة”، وفي خدمته. وها هي “داعش” نفسها تريد تكرار تجربةٍ من تجارب الفشل الأيديولوجي لقيامة الدول التي تولد ميتة، فلا يحييها سوى دفنها ولو حية، قبل أن يستفحل خطرها وخطر تحولها إلى سرطانٍ يميت الأموات قبل الأحياء؛ فأي دولةٍ للتفتيت، يمكنها أن توحد ما لم يتوحد أصلاً، وأي وحدة تموت على أيدي “الداعشيين” وأضرابهم، قبل أن تحييها الأيديولوجيا، لتميت معها دولاً كانت قد شبعت موتاً، منذ الصعود الانقلابي لبعثيي الأيديولوجيا القومية التي انقلب أصحابها على ذواتهم، مرات ومرات.
وفي كل الأحوال، تبدو مخاطر ما أقدم عليه تنظيم “داعش” اليوم، وفي الغد، أكثر ما تبدو داخلية، في مجتمعاتٍ معنية بما يجري، وهي المستهدفة أصلاً، على العكس مما يعتقد بعضهم من أن خطوة “داعش” موجهة للخارج (إسرائيل وإيران والغرب)، غير المستهدف إلا بمقدار ما ينجح “الداعشيون” في تدمير الدواخل الوطنية، لبلدانٍ بدت وتبدو وطنياتها الراهنة مقهورة ومسلوبة الإرادة، هشة وقابلة للانكسار، على أيدي ممتطي أحصنة الاستبداد المتلون؛ من كان منه في السلطة، ومن يجعل من نفسه وريثا له، ولو بالقوة “الداعشية
العربي الجديد

 

عن “داعش” التي تشبهنا/ رشا الأطرش
فجأة، إعلان الخلافة الإسلامية في لبنان وجواره، و”أميرنا” هو “عبد السلام الأردني” الملقب بـ”ذئب القاعدة”. ومن قبل “الخلافة” المنبوشة من كتب التاريخ العتيقة، سلسلة هجمات إرهابية على لبنان، تكاد انفجاراتها تنحصر في سياق إحباطها، لا سيما بعدما حدّت إجراءات أمنية حزبية ورسمية، منذ أشهر، من “عمليات الرد الانتقامي” على مشاركة حزب الله في القتال الدائر في سوريا. بل وبعدما ساد كلام عن “اللاقرار” الدولي والإقليمي وحتى المحلي بإشعال “الساحة” اللبنانية، إلى درجة أن السيد حسن نصر الله نفسه دعا من يريد مقارعته إلى ملاقاته في سوريا. وبصرف النظر عن السوريالية المثيرة للتفكر، وربما الريبة، في مسلسل إرهابي تكثّف في أيام لبنانية مريعة، مرشّحة للاستمرار، فإن الإرهاب “الجهادي” بات غولاً حقيقياً يعيش معنا في البيت. سوريا في البداية، والآن العراق ولبنان. وغداً؟ يعلم الله و”أمير المؤمنين”.
فلندع المباشر من السياسة والأمن جانباً. هنا إشكالية ثقافية مربكة: شباب دشنوا ربيعاً عربياً، ذا شعارات مدنية وديموقراطية، هاجسها الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية وتداول السلطة، وعلى هامشها حراك ثقافي تمخض عن فنون وآداب جديدة بأفكار من خارج علب أنظمة حكمت بأبوية فاسدة ومستبدة طوال عقود… كيف ينتمي هؤلاء الشباب إلى الجيل نفسه والمنشأ الوطني ذاته لأقرانهم الذين تستقطبهم “جبهة النصرة” ثم تنظيم “داعش”، فيأتون بما نعلم ونذوق منذ أكثر من عامين؟ هي ذاكرة الجيل ذاتها، والمعاناة، بل والأدوات نفسها (في ما خلا السلاح). لا سيما الأداة “الثورية” الأبرز – تكنولوجيا التواصل والرقمنة التي أطلقت تسمية “ثوار الفايسبوك” مطلع 2011. ومع ذلك، لا تبدو القضية واحدة، رغم المنبع المفترض أنه واحد، لثورات انقلبت حروباً أهلية وعمليات إرهابية صرفة.
فكرة أساسية تلحّ هنا: ثورات عربية ما بعد حداثوية، هل من الغريب فعلاً أن تصمد أقل بكثير من إرهاب ما بعد حداثوي، في “أوطان” لم تهضم الحداثة؟ والسؤال يتمحور حول “الحراك المعارض” أكثر بكثير من السلطة البالية وتقنيات تشبثها بذاتها.
لا غرابة كبيرة. ها نحن أمام خطاب عمره أكثر من ألف سنة، يُقدّم في فيديوهات منجزة باحترافية تقنية مدهشة، يبث عبر “يوتيوب” ويعمم عبر “فايسبوك” و”تويتر”، وتتناقله الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. حتى مبايعة “خليفة المسلمين” جرى معظمها عبر “تويتر”.
منذ انطلاقة “القاعدة”، قبل أحداث 11 أيلول وبعدها، لطالما استَخدم الموروث الغرائزي للجماعة والطائفة، إعلامَ التواصل الاجتماعي، لتجنيد عناصر ظلامية. “المواطن المراسل” لعبة “النصرة” و”داعش” في سوريا. و”الآي باد” يستخدم لإطلاق صواريخ على خلفية علم أسود الممهور بالشهادتين، بات رمزاً لقاطعي الرؤوس التي تتقاذفها الأرجُل لاحقاً في لعبة كرة قدم قروسطية.
في غرب العالم، خيضت قيم الحداثة كتجربة فعلية، في الدولة كما في المجتمع. تجربة سياسة ومصانع وخط إنتاج وأفكار… بكل بهجتها الفكرية والاجتماعية والتقنية، وتوحشها الاقتصادي والعسكري. صعد جيل ما بعد الحداثة (baby boomers)، الذي أبصر النور بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فصنع ملامح الثلث الأخير من عقد الستينات، وما بعده. كانت مرحلة فوران وتغيير. دشّن شبابها صفحة تاريخية جديدة، مفتوحة على حلم الغد، لا كوابيس الأمس. كان الجيل الذي نشأ على قيم ما بعد الحداثة باعتبارها تجربته الأساس، الاجتماعية والثقافية والسياسية. فجّر ممارسة مغايرة، وباتت مقارعة السلطة، وسياساتها ومفاهيمها، صراع أجيال. حتى تصاعُد الظواهر العنفية، انصبّ في النهاية، على طاولة تفاوض مجتمعية، كما تحت قباب مؤسسات وطنية متغيرة بدورها، بوظائفها وتعاريفها. مناهضة الحروب صارت تيارات، كما نذكر مع الجزائر وفيتنام. بدأ تطهير القوانين، تدريجياً، من التمييز الجندري والعرقي والديني. اخترق “البوب”، الدراما والموسيقى، وولد الروك. وساهم تطور تقنيات البث والإعلام (الراديو والتلفزيون والستيريو) في جعل التغيرات مرئية وتراكمية. وانكبّ منظّرون على تفسير العصر حتى دخلوا به الألفية الثالثة: إعراض عن نماذج تفسير الناس والأشياء، على طريقة “داخل” و”خارج” (الديالكتيك، الكبت الفرويدي، الدالّ والمدلول). ذوَت طوباوية الفن الذي استقال من وظيفته الخلاصية، وصار نصوصاً تضاف إلى نصوص، محاكاة أكثر منه ارتقاء.
بعد الفورة الحداثية في العمران والصناعة والتكنولوجيا، كما في الحكم والتشريع والقضاء، تنامت المقاومة لشعارات من نوع “تقديم التضحيات في سبيل التقدم”. والحال، إن المجتمعات التي شبعت حداثة، فتشرّبتها وفككّتها وتجاوزتها، قد تفرز جريمة مدينية، مافيات وفساد قد يتغوّل لكنه يظلّ يخشى المحاسبة. لكن الإرهاب يخرج منها اليوم بوجوه مهاجرين لم يندمجوا في مهجرهم، وبالتالي لم يهضموا ما هضم مواطنوهم الجدد وتجاوزوه، حتى بحوادثه الإرهابية من مثيل ما أفرزه الصراع الإنكليزي – الإيرلندي، وترسبات التمييز العرقي في أميركا…
“داعش” التي تسعى الآن إلى “توحيد الأمة”، ومثيلاتها، ليست نباتات شيطانية. نمت في أرضنا هذه، حيث لم تتماسك دول فعلية. لمحنا بارقة نهضة، في لبنان ومصر والعراق… وانطفأت. أقليات معسكرة، وقادة جيوش وعصابات، قصوا الشرائط مفتتحين “استقلالنا” عن الاستعمار، وشاخوا وماتوا في سلطة أورثوها. لم نصنع إلا القليل. لم نخترع. لم نبنِ مؤسسات بحق. دوّنا دساتير – ديكور. سننّا قوانينن، إما للقمع أو التجميل. الدين، الطائفة، العشيرة، الفساد، الذكورية، التمييز القومي، الحروب، الإيديولوجيا.. ما زلنا لا نناهض شيئاً إلا لنصطدم بمرايانا، فنفشل وننكفئ، أو نزداد سُعاراً وتخلفاً، رغم سياراتنا وأبراجنا وجامعاتنا ومايوهات نسائنا.
وها هي “داعش” تستخدم تطبيق “الفجر” الذي يطلق حملات مصغرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يطلب كمّاً معتبراً من المعلومات الشخصية لدى تنزيله، بما في ذلك الإذن بدخول حسابات الأشخاص في “تويتر”، ومخازن الصور والفيديو، وبيانات شبكة الانترنت اللاسلكية. ثم يتولى “فجر” نشر تغريدات “داعش” (سباب، وعيد للآخر، ترهيب، تعذيب، ذبح…)، وذلك عبر حساب مستخدم التطبيق، ما يجنبها تصنيف “سبام”. هكذا، قد تنجح “داعش” في تمرير 40 ألف تغريدة في يوم واحد، ما يلفت الأنظار أكثر، ويحفّز إعادة التغريد، ناهيك عن التعليق والتفاعل.
بعد حداثة تنظيماتنا الحزبية وميليشياتنا الطائفية، خرج تنظيم “القاعدة” ما بعد حداثوياً بامتياز، أفقي التوسع والهيكلة. له زعيم، لكن فروعه “الوطنية” تتمتع بشبه استقلالية.
كان جيل دولوز هو الذي تحدث عن النموذج الثقافي للمراحل الأكثر تطوراً ممّا بعد الحداثة. “الجذمور” (rhizome)، تلك النبتة المتمددة أفقياً تحت الأرض، تتحول جذورها فروعاً، ثم تُنبت الفروع جذوراً جديدة تغذيها، ثم فروع، ثم جذور… إلى ما لا نهاية. تقاوم الانتظام والتراتبية. لا بداية معروفة لها ولا نهاية. تتحدى “شجرة الحداثة”. وما يصحّ في توصيف الدينامية الثقافية والسياسية والاقتصادية، في مجتمعات عجنت الحداثة وخبزتها ومضت قدماً، يصح في فهم الإرهاب في مجتمعات مرّت الحداثة فوق رؤوس أبنائها الذين شهدوا عليها زوراً، أو كانوا مستهلكين لنتاجاتها في أحسن الأحوال. “داعش” اليوم هي “الجذمور” المثالي الذي تخطى “القاعدة”، بل إن الأخير “تبرأ” من “داعش” باعتبارها مغالاة!
وفي الوقت نفسه، تطفو ظاهرة “الذئب الوحيد”: مهدي نموش (29 عاماً – فرنسي من أصل جزائري)، المتهم بالهجوم على المتحف اليهودي في بروكسل، حيث قتل ثلاثة أشخاص. أرجِع تطرفه الإسلامي إلى محطات مختلفة، إما فترة سجنه لجرم جنائي (سرقة ومخدرات)، أو لزيارته سوريا قبل عام للقتال مع “داعش”. نموش ليس إرهابياً محترفاً. اسمه ليس في أي من قوائم الاستخبارات أو جداول الشبكات المنظمة.
المايجور نضال مالك حسن، فتح النار في “فورت هود” في تكساس، العام 2009، فقتل 13 شخصاً. الأخوان تزايرنيف الشياشانيان، اضطلعا كـ”ذئبين وحيدين”، بتفجيرات ماراتون بوسطن. ويحكي عن الأميركي منير محمد أبوصالحة الذي قتل في تفجير انتحاري في سوريا بعدما جذبته “جبهة النصرة” كما الحورية عازفة القيثارة – جلاّبة البحّارة إلى حتفهم.
في فرنسا، يشكل المسلمون ثمانية في المئة من إجمالي السكان، لكنهم أكثر من نصف المساجين، وتقارير تفيد بنحو 150 سجيناً ينشرون “أفكاراً متطرفة” بين زملاء الزنازين. مرآة 11 أيلول تكمل استدارتها. شبان تدربوا في معسكرات تنظيم “القاعدة” أو أشباهه، يعودون إلى أوطانهم (أوطانهم الأم أو المَهاجر حيث ولدوا)، لاستكمال “نضال” يسميه سائر العالم إرهاباً، في مدريد ولندن وتركيا واليمن والمغرب. “الذئب” ينضم من تلقائه إلى حاضنة، وأحياناً يهجم وحده.
ثم نقرأ عن شباب يتراوح عددهم ما بين ألفٍ و1500 أوروبي مسلم، التحقوا بالقتال في سوريا. في تقرير لمؤسسة “راند” الأميركية المستقلة (حزيران/يونيو الماضي)، زيادة بنسبة 58 في المئة في عدد الجماعات الجهادية والسلفية المماثلة لتنظيم “القاعدة”، في غرب إفريقيا وشمالها وشرقها، مروراً بالشرق الأوسط، وصولاً إلى إندونيسيا. “القاعدة” موضة قديمة. إرهابنا الراهن ابن عصره، المكلوم في حداثته والمريض بما بعدها في آن واحد.
منذ أكثر من عقد والتنظيمات الجهادية تستخدم “تويتر” و”فايسبوك” و”انستغرام” و”يوتيوب” لتجنيد الأعضاء اليافعين وتدريبهم، أو على الأقل لإقناعهم برسالتها و”صوابها” الأخلاقي والديني. السوشال ميديا – الرمز الأبرز للعولمة وما بعد الحداثة حول العالم – تستولد في بلادنا “الذئاب”، فريدةً كانت، أو منجذبة إلى قطيعٍ لا تُعرف رؤوسه من ذيوله.
عندما دفع دولوز بمقولة “أن تكون أقلية”، أرادها فعلاً أخلاقياً معاصراً، مُفترِضاً أنها مضاد الفاشية. فالإناث، مثلاً، يفقن الرجال عدداً، لكنهن لسن كذلك في مواقع القرار والسلطة أو علاقات القوى. وبهذا المعنى هن أقلية، وبهذا المعنى “فلنكن كلنا نساء” حتى ينلن حصتهن العادلة. تنطبق النظرية على صراعاتنا بشكل عجائبي: الشيعة كأقلية عددية فعلية، والسنّة كأكثرية تعتبر نفسها الآن مظلومة ومهمشة، في سوريا والعراق ولبنان.. والكل يقتل.
فلسفة الحداثة، السياسية والثقافية، شرعنت ذاتها على أساس روايات الإجماع، السرديات الكبرى. لكن احتضار تلك السرديات بدأ، في أنحاء العالم، منذ خمسين عاماً على الأقل. فلا حقيقة مطلقة، إنما احتفالية مستمرة بعلاقات متغيرة، بين الناس، وبينهم وبين عالمهم ودولهم. أما فلسفتنا المعاشة اليوم، فصنوها السرديات الكبرى، بل الغيبيات، تشرعن إرهاباً بأدوات لم تؤتِ ثواراً سلميين سوى قليل مُحتضر، وبرع في استخدامها معلنو “الخلافة”، الصامدون كما يبدو… ويبقى السؤال: كيف سيحكمنا “ذئب القاعدة” ويقيم علينا الحدّ؟ لا يُستبعد ظهوره علينا في منازلنا، متجسداً في “هولوغرام”.
المدن
“خلافة البغدادي”.. ومعانيها السياسية/ إياد أبو شقرا
إعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) قيام «الخلافة الإسلامية» في العراق تطور، في اعتقادي، لا يمكن أن يمر مرور الكرام، لا على صعيد وجود أو انعدام مقومات حقيقية مكانية وزمانية لتأسيسها، بل يجب التوقف عنده في ظل الظروف العامة المحيطة بها.
بادئ ذي بدء لا تبدو واضحة حتى لمتابعي الشأنين الإقليمي والجهادي مؤشرات لحجم «داعش» الفعلي، الذي يتيح لها إعلان ما أعلنته. فحتى عندما شنت هجومها الحالي في غرب العراق وشماله، وادعت لنفسها معظم العمليات العسكرية، ارتفعت أصوات من العشائر والجماعات السنية الأخرى، محذرة من أن ثمة من يريد صبغ الانتفاضة الشعبية الحاصلة في المناطق ذات الغالبية السنية على حكم نوري المالكي – المدعوم إيرانيا – بصبغة «داعش» لتسهيل التأجيج ضدها تمهيدا لضربها.
ثم أن ثمة صراعا دمويا بين «داعش» وعدد من التنظيمات المشابهة لها فكريا وعقائديا يستعر في المنطقة، منها جبهة «النصرة» التي تتبع تنظيم «القاعدة»، ناهيك من التعارض الكبير في الممارسات بينها وبين الجماعات الإسلامية الأقل تشددا، التي تنحو منحى آخر في السعي إلى السلطة.
أضف إلى ما تقدم أن هناك معطيات جيوبوليتيكية استثنائية تلقي بظلالها اليوم على عموم الشرق الأوسط. ولئن كانت أطماع طهران في منطقة الخليج قديمة، فإن الطريقة التي تتعامل بها الآن مع كيانات «الهلال الخصيب» غير مسبوقة. ذلك أن طهران، عمليا، تحكم بالواسطة كلا من العراق وسوريا ولبنان. وتأتمر بإمرتها تنظيمات مقاتلة أسقطت واقعيا حدود «سايكس – بيكو» قبل أن تسقطها «داعش» وتعلن على الأثر «الخلافة». ونرى لها كذلك في شبه الجزيرة أصابع نشطة وتحالفات تكتيكية واستراتيجية في منطقة الخليج واليمن، بل إن لها صلات حتى في شمال أفريقيا العربي.
هنا لا بد من التوقف طويلا عند سرعة تجاوب واشنطن مع طلب نوري المالكي مساندته، بعكس موقفها «الخجول» – الذي يصفه كثيرون بالمتواطئ – إزاء معاناة السوريين مع نظام الأسد على امتداد أكثر من ثلاث سنوات قضى فيها مئات الألوف وشرد الملايين. وهو ما يشي بمنظور استراتيجي أميركي للمنطقة لا تطمسه العبارات المنمقة المضللة.
أساسا علينا تذكر أن جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي الحالي والسيناتور السابق، كان قد اقترح تقسيم العراق عام 2006، أي قبل توليه منصبه الحالي. وكانت رؤية بايدن تأسيس ثلاثة «كيانات» للشيعة والسنة والأكراد. وقبل ذلك، كان «المحافظون الجدد»، الذين هيمنوا على السياسة الشرق أوسطية الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن يتكلمون عن «شرق أوسط جديد». ومع أن ملامح هذا «الشرق الأوسط الجديد» كانت غامضة بعض الشيء – على الأقل على العرب – فإن عملية غزو العراق وما عقبها من إسقاط نظامه واجتثاث جذور السلطة فيه، ومن ثم حل الجيش وقوات الأمن، والتغاضي عن النزعات الطائفية المذهبية والعرقية، والنوازع الانتقامية الثأرية، مهدت الطريق إلى «عراق بديل» مختلف تماما عن «عراق ما قبل 2003». العراق البديل هذا تكامل بصورة واضحة لأذهان مخططي السياسة الخارجية الأميركية، مع منظومة جديدة غدت معالمها جلية للعيان. وأدى فيها نظام بشار الأسد الدور الموكل إليه، ألا وهو اصطناع الشراذم الأصولية السنية، واستغلالها على المستويين المحلي والإقليمي.
بما يخص العراق، كلف نظام الأسد بتجنيد شراذم جهادية متشددة وإرسالها إلى العراق – على غرار ما كان يفعله «أبو القعقاع» محمود قول آغاسي – لمضايقة قوات الاحتلال الأميركي تمهيدا لفرض سحبها. وهذا بالضبط ما كانت تريده طهران، بدلا من الاصطدام مباشرة بالقوات الأميركية وتحمل الكلفة الباهظة لإراقة دماء الأميركيين. ونجحت خطة طهران، واقتنعت القيادة الأميركية بأن ثمن البقاء في الأراضي العراقية ما عاد مقبولا.. فانسحبت تاركة البلاد تحت سلطة سياسية تابعة للقيادة الإيرانية، والمناطق السنية تحت رحمة الجهاديين المتشددين، إلى أن ضاقت بتجاوزاتهم وتعسفهم العشائر فظهرت «الصحوات»، وأفلحت بإبعادهم لفترة لا بأس بها عن معاقلها.
في لبنان، كان مطلوبا إنهاء «الحالة السنية» التي مثلها رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق، وأبرز الساسة السنة، غير أن الجهة المخططة والمنفذة أساءت تقدير ردة الفعل. فقط ردة الفعل. لكن هذا الخطأ العرضي أمكن تصحيحه بعد استيعاب صدمة ردة الفعل الشعبية غير المحسوبة بدقة، ومن ثم استعاد محور طهران – دمشق زمام المبادرة. وبدأ العمل على القضاء على القيادة السنية «المعتدلة»، المقبولة عربيا ودوليا، عبر اصطناع قيادات متشددة تزايد على تيار «المستقبل» الشعبوي الخدماتي الذي يفتقر أساسا إلى «الغريزة» السياسية والأرضية الآيديولوجية الصلبة، وتسحب بشعاراتها الراديكالية الغاضبة «البساط السني» من تحته. وكان أول الغيث تسهيل دخول تنظيم «فتح الإسلام» إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، حيث إحدى أكبر الحواضن السنّية في البلاد. وكما حدث مع «صحوات» الأنبار حصل في نهر البارد، فسقطت محاولة «فتح الإسلام» على أيدي شهداء الجيش اللبناني الذين كان معظمهم من سنيي المنطقة المحيطة بالمخيم، أي عكار والمنية والضنّية وطرابلس.
كذلك عملت القيادتان الإيرانية والسورية على تفجير «تحالف 14 آذار» الذي كونه الزخم الشعبي اللبناني المناوئ لهما من الداخل. فجرى احتضان ميشال عون، أحد غلاة الزعماء المسيحيين المتشددين، فــ«أعيد تأهيله»، ثم استخدامه لشق صفوف القوى الديمقراطية والليبرالية والتقدمية في لبنان. ونفذ عون المهمة الموكل بها بحذافيرها حتى الآن. وبالتنسيق والتفاهم مع حزب الله عطل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبالأمس طرح «مبادرة» طائفية – تقسيمية تناقض الدستور وتتجاهل كليا مخاطر الفراغين السياسي والأمني.. بينما يعزز حزب الله، وسط الفراغين، موقعه كدولة داخل الدولة.
أما في سوريا، فلا حاجة إلى التذكير بما فعله بشار الأسد من إعادة رسم جغرافيتها السكانية بالدم والتهجير والتقسيم الطائفي والعرقي الفعلي. «سوريا اليوم» أيضا غير «سوريا مطلع 2011».
وهكذا أمامنا غول تقسيم المنطقة، ومن ثم تقاسمها باسم احتواء «خلافة البغدادي»، التي لو لم تكن موجودة لوجب اختلاقها.
كاتب صحافيّ ومحلّل سياسيّ وباحث في التّاريخ، يعمل في صحيفة الشّرق الأوسط منذ تأسيسها
الشرق الأوسط
حل إيراني لسورية والعراق وحل حضاري لأوكرانيا/ عبدالوهاب بدرخان
إشارتان متناقضتان من باراك أوباما في غضون أيام، وكأن صاحبهما ليس الرجل نفسه. في 21/ 06 يقول أن لا معارضة سورية معتدلة قادرة على هزيمة نظام الأسد. وفي 25/ 06 يطلب من الكونغرس 500 مليون دولار لتدريب المعارضة المسلحة المعتدلة وتجهيزها. من جهة يطمئن النظام إلى أن المعارضة غير ذات فاعلية، ومن جهة أخرى يريد أن ينفق نصف بليون ليحسّن أوضاعها، وهذا قرار متأخر عامين على الأقل. قد يقال هذا لا ينفي ذاك، لكن سائقاً لا يعرف يمينه من يساره قد يتسبّب إما بتعطيل حركة المرور أو بحادث خطير. ثم ماذا لو كانت الإشارتان التعبير الأحدث عن ارتباك ساد السياسة الأميركية منذ الأزمة السورية حتى الآن.
في النتيجة استطاع أوباما مجدّداً تأجيج الظنون في حقيقة نياته، وفي التحليل الذي يتحكّم برسم سياسته. وسواء قصد أم لم يقصد، فإن تبرّعه بهذا التقويم لحال المعارضة، بعد أيام من «انتخابات الأسد»، فُهم بأنه اعتراف ببقاء النظام. أكثر من ذلك، لم يستبعد المعارضون السوريون، وقد لُدغوا مراراً من الجحر الأوبامي، أن يكون كلامه تمهيداً لـ «التقارب» مع دمشق وإعادة تأهيل الأسد ونظامه، على خطى تقارب آخر مع طهران يبدو الجانب الأميركي فيه مصمّماً على تجاهل طبيعة النظام الإيراني الذي يتحدّث إليه، ومتناسياً كل ما سبق أن قالته واشنطن في تفنيد سياسات «تصدير الثورة» التي تحوّلت مع الزمن تصديراً للصواريخ.
حائرٌ أوباما؟ الأكثرة حيرةً مَن يبنون سياساتهم على إشاراته. فهو يريد حلّاً حضارياً في أوكرانيا، مستوحًى من «قيم» ما بعد الحرب الباردة، كونها تنتمي إلى العالم المتقدم. ولا يمانع حلّاً إيرانياً – لا حضارياً في العراق وسورية، لأن أنماط القتل والإرهاب فيهما ساوت ما بين الدولة والجماعات ورسّختهما في عالم ما قبل الحضارة. أما وزيره جون كيري فيستبق جاهوزية المعارضة السورية «المعتدلة» ويطالبها بمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وكأنها تنتظر دعوته وهي التي فقدت خيرة رجالها المدنيين والعسكريين في مواجهتها التنظيم منذ منتصف العام الماضي. ولو سئل أي سوري مَن المسؤول عن اختراق «داعش» مناطق المعارضة لأجاب بلا تردّد: الأسد وأوباما. الأول لأن معظم الداعشيين مرّ بسجونه قبل أن يُرسَل إلى العراق، ثم يُستدعى إلى مهمة ضد المعارضة وبتسهيلات من أعوان النظام ومن الإيرانيين. والثاني لم يدرك في منتصف 2012، قبل وصول الداعشيين، أن تلك كانت اللحظة المناسبة لتسليح «المعارضة المعتدلة». أما لماذا لم يفعل فلأنه عارض على الدوام «إسقاط النظام» قبل معرفة البديل. كان الإسرائيليون اعترضوا رسمياً على التسليح في اجتماعات حلف الأطلسي (الناتو). ما يعني أن التناغم ممكن بينهم وبين أوباما، على رغم تنافر ظاهر في المسألة الفلسطينية. وفي أي حال كانت «محاربة الإرهاب» شرطاً أميركياً دائماً لدى البحث في التسليح مع «الائتلاف» و «الجيش الحرّ»، ولم يكن هناك خلاف على هذا المبدأ، بل على ممانعة الأميركيين حصول المعارضة على مضادات جوية. كانت الحجة أن إسقاط الطائرات سيدفع النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي، وبعدما استخدمه فعلاً صارت الحجة أن المضادات قد تقع في أيدي إرهابيين.
لعل التصوّر الأميركي الأخير لما يسمّى «معارضة معتدلة» صالحة للتسليح، هو الاعتماد على عسكريين معروفين هم خليط من لوائح سليم إدريس (الذي تُعتبر مجموعة «حزم» من الموالين له) ولوائح أحمد الجربا (الذي يتمسك بالمجلس العسكري الأعلى، وقد ألغى أخيراً قراراً أصدره رئيس «الحكومة الموقتة» أحمد طعمة بحلّه)، وإذ يغادر الجربا رئاسة «الائتلاف» ساعياً إلى أن يكون البديل أحد القريبين منه، فإنه يستعد لدور آخر عسكري يشرف على إحياء «الجيش الحرّ» أو بديل منه. وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع جون كيري إلى مطالبة رئيس «الائتلاف» بأن يستحثّ عشيرته، شمّر، كي تقاتل «داعش» في سورية «والعراق» (!). وعدا أن الطلب مستهجن من وزير أميركي، فلا مشكلة بالنسبة إلى فرع شمّر السوري المنخرط في محاربة «داعش» في دير الزور. لكن فرع شمّر العراقي مشارك في الثورة ضد حكومة نوري المالكي، وهل يمكن الجربا أن يقول لقومه في العراق، بعد المهانات التي تعرّضوا لها، إن أميركا تريدهم أن يحاربوا معها، وإذا دعاهم إلى إحياء «الصحوات» فمن يضمن أن المالكي أو بديله لن ينقضّ عليها ثانية، بل هل ينسى الجربا أن المعركة الرئيسية للشعب السوري هي ضد نظام الأسد وأن إيران والمالكي شريكا هذا النظام في قتل آلاف السوريين وتشريد مئات الآلاف منهم وفي الهزائم التي أُنزلت بالمعارضة بسبب إجحاف «أصدقاء» مثل أوباما وكيري وخذلانهم؟
كيفما قلّبتَ تحوّلات السياسة الأميركية ترَها مراهنة على إيران وتوجّهاتها. فالتركيز الراهن على «داعش» أصبح مبَرّراً وقد استفحل خطره، لكنه خطرٌ صُنِّع تصنيعاً ولم ينبثق من الثورة السورية، أما في العراق فزرع زرعاً في مناطق السُنّة التي كافحته عندما أتيح لها خيار آخر. ففي سورية حاربت إيران و «حزب الله» والميليشيات العراقية لإخراج السوريين من مدنهم وبلداتهم ومن بيوتهم وكانت تقول إنها تحارب «التكفيريين»، إلا أنها لم تطلق رصاصة واحدة على «داعش». وإذ تشارك أميركا الآن في حشد الجهود ضد «داعش»، فإنها تجد مصلحة في غضّ النظر عن دور إيراني في نشأة هذا التنظيم، ثم في شيطنته، وبالتالي في الانحياز إلى الحجّة الإيرانية القائلة إن المشكلة في سورية والعراق هي الإرهاب…
لا، المشكلة هي نظام الأسد ونظام المالكي، بل هي النظام الإيراني نفسه، أما الإرهاب، فجاء في سياق الصراع الذي يخوضه هذا الثلاثي مع المحيط العربي تثبيتاً لنفوذ سياسي – مذهبي لإيران. كان المالكي بدا أكثر حنكةً ودهاءً من الأسد، خصوصاً أنه استحوذ على كل السلطة في «نظام ديموقراطي» مفترض، على رغم اعتراف الدستور بحقوقٍ لكل «المكوّنات» الاجتماعية – السياسية، وعلى رغم وجود برلمان منتخب، بل على رغم اتفاق لم يحترمه على أن تكون الحكومة جامعة و «وفاقية». فهل المشكلة في مبالغته بتحدّي السنّة والكرد أم في ظهور «داعش» ثم صعودها؟ أما الأسد، فكان يظن أن الأمر الواقع الذي شكّله «نظام ذو شرعية» طالما أنه حظي بشبه «قبول» دولي وعربي، ثم أظهرت الثورة أنه يحكم بالقمع والترهيب، فهل المشكلة في أنه اختار العنف والإخضاع كما استخدم إرهاب «داعش» للتعامل مع غالبية السوريين أم في دفاع الشعب عن نفسه؟
لا بدّ من أن يوضح الأميركيون ما هي المصلحة الآن: محاربة الإرهاب (كما يقول خطابهم العلني)، أم إدامته حيث هو وتعميق وجوده (كما تشي به سياساتهم)؟ لطالما قالت واشنطن أن نهج الأسد صنع بيئة جاذبة للإرهاب، ويمكنها أن تضيف إليه إيران والمالكي، لكن انجذابها إلى حربهم ينزلق إلى النمط نفسه من سياساتها الكارثية في أفغانستان غداة خروج السوفيات منها عام 1989. أما الوزير كيري فيتخبّط بين الوهم والخيال، إذ يدعو المعارضة السورية إلى حربين متزامنتين: ضد نظام الأسد لإسقاطه، ومع نظام الأسد لإسقاط «داعش». وإذ نُقل عن كيري أخيراً أن الأسد سيضطر إلى «تغيير حساباته» في غضون الشهرين المقبلين، فإن العرب الذين سمعوا ذلك يخشون خصوصاً أن تكون واشنطن مخطئة في تعاميها عن أن إيران هي التي تحرّك الدمى وتتلاعب بتوازنات المنطقة. فالحرب على الإرهاب تكون مجدية إذا توافرت لدى نظامي دمشق وبغداد إرادة وقدرة على حلول سياسية وفاقية تنصف الجميع بمن فيهم السُنّة وتحافظ على وحدة الدولة والشعب. لكن الحلول تحتاج إلى تنازلات، وهو ما تمارس طهران إزاءه أقصى «الممانعة»، لأنها تفضّ لعب ورقة «داعش» في تقرير مصير البلدين.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

 

البغدادي على طريق “البعث”/ حسان حيدر
يبدو النداء الذي وجهه «الخليفة» البغدادي الى المسلمين خارجاً عن السياق الذي تنحو اليه الدول العربية التي يفترض انه يخاطب مواطنيها. فهو يدعوهم الى «دولة الخلافة» التي تعني في نظره الوحدة والتجانس ورفع الحواجز وإزالة الحدود، فيما هم ذاهبون في معظمهم الى الافتراق والتباعد، بعدما فشلت محاولات صهرهم في دول مركزية اثبتت الأحزاب والحركات التي هيمنت عليها، وبعضها اسلامي، انها لم تدرك التمايزات بين فئات جمهورها، او رفضت الاعتراف بها، ولم تستوعب التباينات في مجتمعاتها، او حاولت وضع علاجات قسرية لها كي تحافظ على وحدتها الشكلية، فأوصلتها الى خيار وحيد هو الانفصال عندما اتيحت لها الفرصة.
وحين يقول البغدادي ان «سورية ليست للسوريين والعراق ليس للعراقيين» انما يستعيد في قالب ديني اللغة السياسية لحزب «البعث» والأحزاب القومية الأخرى التي باءت تجاربها القائمة على فكرة تخطي «الحدود الاستعمارية» بالفشل الذريع، وأنتجت حروباً ومآسي وانقلابات دموية وأنظمة مستبدة لا تفترق كثيراً عن «داعش» في معاملة المختلفين معها وسومهم صنوف الترهيب.
انتهت تجربة الأحزاب القومية في العالم العربي الى قيام ديكتاتوريات ترى التنوع ضعفاً والتعدد تقسيماً والاختلاف خيانة، ولا تجد غير اجهزة الأمن وما يتفرع عن انشطتها من سجن وتعذيب وقتل وإبعاد وإخفاء، وسيلة لتطويع من يتجرأ على المجاهرة بمفهوم يناقض مفهومها لمعنى المواطنة والانتماء والحكم وتداوله.
ولو اخذنا ما يجري في ليبيا مثالاً لرأينا كيف ان زوال الحكم العسكري المخابراتي الذي بناه القذافي على مدى عقود، كشف عن البون الشاسع بين شعارات الحاكم وبين واقع المحكومين. لا يعني هذا ان المشكلة في الليبيين، بل ان النظام الذي هيمن عليهم طويلاً لم يبذل اي جهد حقيقي لتطوير مفهوم المواطنة لديهم، بل انزل عليهم عسفاً، من فوق، صيغاً عن الوحدة والانتماء، تبين انها كانت محدودة التأثير لتجاهلها ما يرغبون هم في ان يكون الرابط بينهم. ولهذا عادت فجأة الى السطح نزاعاتهم المناطقية والقبلية والعائلية بمجرد ان رفع الغطاء القمعي الثقيل عنها.
وهناك مثال آخر في اليمن الذي ادركت قواه السياسية بعد الانتفاضة على نظام علي صالح ان الحل الأمثل لانتشاله من الاحتراب الداخلي يكمن في صوغ نظام فيديرالي يتيح اشكالاً من الحكم الذاتي للأقاليم، وخصوصاً في الجنوب الذي عانى سكانه من وحدة قسرية فرضت بقوة السلاح.
والأمر نفسه ينسحب على العراق المنقسم طائفياً وعرقياً بعدما تبين ان النظام «البعثي» لم يوفر لشعبه سوى وحدة صُورية سرعان ما تصدعت بعد انهياره. وهي الحال ذاتها في سورية «البعثية» التي تحكمها اقلية طائفية منذ السبعينات بموجب شعار «الوحدة والحرية والاشتراكية» الذي كشفت الحرب الأهلية المحتدمة زيفه وعرّته من اي صدقية. وهناك ايضاً السودان الذي انشطر بلدين، ولبنان الذي يعطل الانقسام بين مكوناته مؤسساته الدستورية.
فإذا ما قيض لـ «دولة» البغدادي المفترضة ان تعيش ردحاً، وهي على الأرجح لن تعيش لافتقادها الكثير من المقومات، ولاجتماع العديد من القوى الإقليمية والدولية ضدها لما تراه فيها من سمات العنف والقهر «الطالبانية»، فلن تكون مختلفة عن جمهوريتي «البعث» العراقية والسورية ولا عن «جماهيرية» القذافي ولا عن «الحكم الإسلامي» في السودان، لجهة سوق رعاياها الى «الوحدة» سوقاً. وما القتل الجماعي واحتلال الكنائس في الموصل ورفع اعلام «داعش» عليها الا عينة مما ينتظرهم.
الحياة
شروط الهجرة إلى… «خلافة» داعش/ زهير قصيباتي
مطلوب مهاجرون الى «جنّة داعش»… بعدما أعلن أبو بكر البغدادي النفير العام، ونصَّب نفسه «خليفة للمسلمين». كان نفيره أقوى صدىً من زعيق رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي لم يتحقق بعد من نية موسكو فيما ترسل طائرات «سوخوي» إلى فضاء بغداد، هل هي للدفاع عنه وعن كبريائه في كسب التحدي لولاية ثالثة على رؤوس الموالين والخصوم، أم لمنع «الدواعش» من إسقاط عاصمة العراق، خوفاً من ابتلاعهم ايضاً ما بقي من دولة الرئيس السوري بشار الأسد؟
«سوخوي» روسية في فضاء بغداد ومنطقتها الخضراء، وعلى الأرض فرق مستشارين أميركيين. المالكي محظوظ بجمع الأميركيين والروس على هدف واحد، بعدما انقسموا على الأسد… ولكن ما الذي يضمن «صمود» رئيس الوزراء العراقي للرهان على حرب شاملة بين «داعش» وسنّة العراق ممن يأبون الآن فتح المعركة مع «أبو بكر البغدادي»؟
الأكيد أن مشكلة المالكي ومأزق بلاد الرافدين، أعمق بكثير من مجرد «دولة خلافة» تبدو حتى الآن أقصر طريق إلى فتنة أخرى بين المسلمين. وأما الأميركيون و «بطتهم» العرجاء إدارة باراك أوباما، فيجتهدون في تلخيص العِبَر وتوزيعها يميناً ويساراً، كلما تدفقت حمم بركان آخر في المنطقة العربية. ووحدهم العرب، كما يُفهم من نصائح واشنطن، لا يدركون أن «الديموقراطية قد تشوبها الفوضى أحياناً»… في العراق!
فليُسأل المالكي عن ديموقراطيته التي تساوي مصير البلد بمصير ولايته الثالثة، وتجنّد العراقيين سنةً وشيعةً في معركته مع «الخليفة»!
بين نفير وزعيق واستغاثة، فلنعد إلى دعوة البغدادي المسلمين الى الهجرة، على طريق «دولة الخلافة» وقد زرعت بينهم بذور فتنة أخرى عمياء. أما شروط قبول طلبات المهاجرين الذين أغوتهم نشوة اكتساح «داعش» غرب العراق، ومحو الحدود العراقية- السورية، فبسيطة:
– ألاّ يقل شجاعةً عن أي انتحاري يقتل من المسلمين أكثر مما قتل أعداؤهم منهم.
– ألاّ يتردد في قتل أطفال يريدونَهم شهداء بالفطرة، لري «دولة الخلافة» بالدم.
– ألاّ يرفّ له جفنٌ في سبي النساء، وقتل شيعة وفي التنكيل بمسيحيين، لتهجيرهم رأفةً بهم!
– ألاّ يعتبر فرض الإتاوات والتهريب والترهيب محرّمات في الإسلام، ما دام الهدف تغذية خزينة «الخلافة»… دفاعاً عن الفقراء، ومسلمي بورما وأفريقيا الوسطى.
– ألاّ يجهر بما يعارض طاعة البغدادي، أو يعتبره من «الخوارج»، أو يتمرد على كتائبه.
– ألاّ ينطق باسم ما هبّ ودبّ من الفصائل التي تجمعت في «المحرقة» السورية… لاستكمال مشاهد ملحمة أمّ النكبات العربية.
– ألاّ ينطق باسم النظام السوري، لأن قطافه لم يحِنْ بعد… تمهيد أرض المعركة يحتاج مزيداً من الفتن.
… فمَنْ يلبي شروط الهجرة؟
إنهم «الدواعش» الذين باسم قتالهم بوصفهم تكفيريين، تُصادَر دول ومؤسسات، تنهار كيانات، ويدب الذعر على الحدود. هكذا تتناسل الكوارث في دنيا العرب، وبكل بساطة يطمئنهم الأميركي، لماذا العجب والخوف من كبوة الكيان العراقي، أيّ «ديموقراطية» قد تشوبها فوضى!
وإذا كانت المصيبة أن البطة الخرقاء الأميركية تغطي ما زرعته من قنابل موقوتة في وحدة العراق، فالمصيبة الثانية أن «مرشد» محور الممانعة، زعيم الكرملين، تلميذ الـ «كي جي بي» النجيب، ما زال يجتهد لإقناع العرب بأنهم مجرد ضحايا للمؤامرة الغربية. يخشى علينا من سيناريو «مرض» سورية وليبيا والعراق كأوكرانيا، يلتقط الإيراني الإشارة: تقسيم العراق ممنوع، وليحلم بارزاني بما يشاء.
وعلى طريقة المحور، يعزف المايسترو من موسكو: لولا بصيرتنا وقفزتنا الى القرم، لكان الحلف الأطلسي سبقنا إليها… ولولا بصيرة الأسد، والحرب القذرة لانهارت سورية في يد «الإرهابيين»… ولولا حكمة «حزب الله» لوصل «الدواعش» الى الضاحية الجنوبية، وسوليدير.
وبعد كل ذلك، ولو امتنعنا عن إحصاء الضحايا المدنيين، ممن يموتون بالبراميل المتفجرة بعدما هربوا من «الكيماوي»، ومَنْ ينتحرن أو يُقتلن في سورية بعد اغتصابهن، ومَنْ يُصلبون في دولة «الدواعش»، ويهربون من جحيم الحروب المجنونة في عالم سايكس- بيكو ومحور الممانعين ودول الذل، إلى المقابر الجماعية العائمة على قوارب الموت… إذا رفضنا إحصاءهم، قد نُغضِب البغدادي، وإذا شيّعناهم طاردتنا البراميل الطائرة، ولكل ذلك، أليس الأوْلى أن نقف مع المالكي؟!
صحيح ان «الدواعش» سليل طبيعي لكل ما حاصرنا من استبداد «الديموقراطيين»، وصحيح كذلك أن جبال الجنون التي نرتقيها أعلى من فضاء طائرات الاستطلاع الأميركية التي تستكشف المؤامرات من فوق بغداد.
الحياة

 

طريــق الفدرالية/ غسان العيّاش
بعد تطوّرات الأسابيع الأخيرة، كثرت التكهّنات حول مستقبل العراق.
فهل هو مقبل على حلّ سياسي، أم مرشح لاستمرار العنف والانزلاق أكثر فأكثر نحو الحرب الأهلية؟ هل يستعيد وحدته ويعيد إنتاج النظام الدستوري نفسه، أم يصبح بالكامل بلدا فدراليا؟ هل يبقى موحّدا أم يتحوّل إلى دويلات؟
النظام المركزي بات صعبا في ظل استفحال الخلافات الطائفية المستعرة منذ قرابة العقد. وتقسيم العراق إلى دويلات مستقلة يستحيل من دون اعتراف دولي بالكيانات المفترضة. الاعتراف الدولي بعيد الاحتمال. رغم تلويح السيد مسعود البرزاني بأن انفصال كردستان قد نضج “وحان قطافه”، فهو، لغاية تاريخه، لم يجد داعما اقليميا أو دوليا لفكرته إلا بنيامين نتنياهو.
تطوير الفدرالية، القائمة فعليا، قد يكتسب في ضوء ذلك أنصارا ومحبّذين. قادة العشائر السنية لمّحوا مرارا إلى أن أبرز شروطهم اثنان: إزاحة نوري المالكي والحصول على امتيازات مشابهة لتلك التي يتمتع بها إقليم كردستان.
الموضوع يستحق المناقشة، خصوصا أن النموذج العراقي قد يعمّم في المنطقة، التي تتكوّن من وحدات سياسية و”مراكز” هشة تبيّن أنها قائمة على بحر من العصبيات، المغطاة بقشرة رقيقة من الشعارات المضللة.
خلافا لما هو شائع، الفدرالية تفترض في العراقيين، أحزابا وعشائر ومناطق وطوائف، تعزيز قناعتهم بوحدة بلدهم ورغبتهم بالعيش المشترك. فالفدرالية ليست نظاما لجمع كيانات متحاربة ومتباعدة ومتعادية في بلد واحد، بل هي صيغة لتوحيد مجموعات ذات انتماءات مختلفة في إطار دستوري وسياسي واحد. إنها ليست طريقة لترسيم خطوط التماس، ولا لإدارة الحروب أو لتنظيم جولات العراك. بالعكس من ذلك، فهي تسعى إلى صيانة الوحدة عن طريق فض الاشتباك وتوزيع الاختصاصات بين مختلفين، بقصد تكريس الوحدة وتلافي الطلاق.
إن عراقا فدراليا لا يبنى على الأحقاد ولا يؤسّس على الضغائن، بل يتطلب تفاهما وطنيا على المسائل الأساسية، تماما مثل أي نظام اندماجي. إنه يمثل اعترافا بالتباينات وعزما على تجاوزها بتوزيع الصلاحيات والاختصاصات بين المركز والأقاليم. لذلك فإن عنصر الوحدة في نظام فدرالي صحيح لا يقلّ شأنا عن الاعتراف بذاتية الأقاليم. الفدرالية الناجحة هي التي تقيم جيشا مركزيا قويا، وإدارة مركزية واقتصادا مركزيا.
هذا يعني أن الاتجاه إلى الفدرالية لا يعفي القوى والأحزاب (والطوائف) العراقية من واجب الحوار والاتفاق على أهمّ المسائل التي تواجه العراق، إلا إذا كانوا، تحت مسمّى الفدرالية، ينوون تقسيم بلدهم إلى كيانات تتحارب إلى الأبد.
المفروض الاتفاق على الجيش، تركيبته وقيادته ووجهة سلاحه، ودوره في الأمن الداخلي والحياة السياسية. كما يفترض، في الحالة العراقية الراهنة، توفير الاتفاق الصعب على السياسة الخارجية والدور الاقليمي للعراق، الذي بات، مثل لبنان، يختلط فيه النزاع الداخلي بالصراع الإقليمي.
ولا بدّ من التوافق على موضوع حيوي وحسّاس، وهو طريقة تقاسم عائدات النفط على الطوائف – الأقاليم – لأن الطبيعة أساءت توزيع منابع النفط بين طوائف العراق.
لا تخفى أهمّية النفط في حياة العراق والعراقيين، إذ تشكل الصناعة، وأبرز مكوّناتها انتاج النفط وملحقاته، 65% من الناتج المحلي المقدّر بحوالي 222 مليار دولار. يؤمّن النفط 80% من القطع الأجنبي وأكثر من 90% من إيرادات الحكومة، فلا حياة، بالتالي، لحكومة محلية محرومة من عائدات الذهب الأسود. العراق هو الثامن بين بلدان العالم المنتجة للنفط الخام ورابع البلدان المصدّرة له، وهو الخامس بين بلدان العالم من حيث احتياطي النفط الخام.
إلا إن هذه الثروة النفطية ليست موزعة بطريقة متساوية بين الأقاليم، بل يستأثر الجنوب الشيعي والشمال الكردي بمعظم احتياطي العراق. إن حقول البصرة وحدها، وأهمّها حقل الرميلة الشمالي ثم حقل مجنون، تختزن احتياطيا يقدّر بأكثر من 65 مليار برميل، ما يمثل 60% من الاحتياطي النفطي العراقي. وفي حقول كركوك، التي أصبحت تحت سلطة كردستان، 13 مليار برميل، أي ما يعادل 12% من الاحتياطي النفطي العراقي. ففي عراق موحّد، ولو فدرالي، لا يجوز أن تسبح مقاطعات بالنفط بينما تغرق أخرى في رمال الصحراء.
هكذا، سواء كانت الوحدة اندماجية أو فدرالية، يفرض إنقاذ العراق أن تنصرف النخب العراقية من دون إبطاء إلى البدء بمعالجة النقاط الساخنة، العديدة، في طريق استعادة العراق.
السفير
بائع الزجاج في كركوك/ صقر أبو فخر
في العراق، اليوم، حدثان خطيران، من شأنهما تقطيع أوصال المشرق العربي برمّته، وتخليع ما بقي فيه من أبواب ونوافذ ومصاريع. هما احتلال قوات البيشمركة مدينة كركوك، وهو الأهم، وإعلان الخلافة الإسلامية، بزعامة أبي بكر البغدادي، بعد تسعين سنة بالتمام على زوالها في اسطنبول، وهذا له كلام آخر. والواضح أن الجميع في العراق، اليوم، يطلق النار على الجميع، وفي جميع الاتجاهات. وحده مسعود البارزاني منصرفٌ إلى جمع القذائف الفارغة، ليعيد حشوها، واستخدامها بفاعلية. لقد انتهى نوري المالكي (أو جواد المالكي، كما كان يدعى إبان المنفى الدمشقي)، ولعله يفتّش، الآن، عن موقعٍ يجنّبه المنفى ثانية، أو عن حمايةٍ ما، وسيجد، بالتأكيد، هذه الحماية في إيران، أو لدى مرجعية السيستاني، لكن المالكي يجب أن يُحاكم على المصائب التي أنزلها بالعراق؛ فهو مسؤول عن انسحاب الجيش العراقي من الموصل وكركوك، من دون أن يدافع عن المدينة، ولو بطلقة. وهو المسؤول المباشر عن إفقاد هذا الجيش شرفه العسكري، لأنه حوّله إلى جيش لطائفة، وليس جيشاً لوطن.
إذا كان مسعود البارزاني يمثّل، اليوم، اللاعب الشاطر في اقتناص الفرص، فإن المالكي كان يمثّل، حتى اليوم، الانتهازية بأقبح تجلياتها، بل الانتهازية المتسربلة بالتعصب الطائفي. فقد طبّق المثل المشهور: “عندما تتولى القردة سلطان الحكم فارقص أمامها كما ترقص”. وطوال فترة حكمه، رقص أمام الإيرانيين والأميركيين والأتراك والسعوديين، وأَمْتَعَهم برقصه كثيراً، لكن وصلته الأخيرة انتهت بكارثة؛ فقد حطم العراق، وأدخله في أدغالٍ من المحال الخروج من متاهاتها بسرعة، وصار العراق على يديه أسداً عجوزاً جريحاً، تتناتشه الضباع الطائفية من عيار “عصائب أهل الحق” و”داعش”، وغيرها من أعاجيب الحركات السياسية المنفلتة من أي عقالٍ، أو عقل.

الصراع على النفط هو ما يسربل العراق، اليوم، بعد احتلال كركوك. وإسرائيل باتت لاعباً مكشوفاً في هذا الصراع، بعدما ظلت، طوال ستين سنة، لاعباً مستوراً إلى حد ما. وكركوك هي مدينة “النار الأزلية” التي بُنيت تقديساً للنار المشتعلة، جراء النفط الذي يفور من تحت الأرض والغاز المنبعث من باطنها. وها هي اليوم تكاد تُشعل المشرق العربي برمته.
* * *
يروي جوناثان راندل أن فلسطينيةً سألت مصطفى البارزاني عن صلته بإسرائيل، فأجاب: “أنا مثل شحاذ أعمى، واقف على باب الجامع الكبير في السليمانية، أعجز عن رؤية مَن يضع في يدي الممدودة قطعة نقدية” (“أمة في شقاق”، بيروت: دار النهار، 1997). الأعمى لا يمكنه أن يقود شعبه إلى الحرية، بل إلى المصائب. وهذا ما فعله البارزاني الأب. أما خليفته “كاكا” مسعود، فتحوّل من الشحاذة إلى لعب دور بائع الزجاج: في الليل يلقي الحجارة على النوافذ، وفي النهار يعرض إصلاحها، (تحيا الانتهازية!). وبهذه الروح الاقتناصية، سقطت كركوك، وهي مدينة يقطنها الأكراد، وليست مدينة كردية على الاطلاق. وأمام خيار منطقة شيعية من بغداد إلى البصرة، وخلافة داعشية من دير الزور إلى ديالى، فإن عرب كركوك وتركمانها ومسيحييها سيختارون، على الأرجح، الدولة الكردية التي سيظفر بها البارزاني، أخيراً، وهو الأمر الذي فشل فيه والده. أما السطو على كركوك، بحجة وجود أكراد فيها، فلا تنطلي على أحد. النفط هو الأساس، ووجود الأكراد في هذه المدينة ذريعةٌ ستجعل تركيا تطالب بحقوق قومية مزعومة في الموصل وكركوك معاً، وستتدخل لحماية التركمان، مثلما تدخلت في قبرص، بذريعة حماية الأتراك فيها.
* * *
وقوفنا المبدئي إلى جانب حقوق الأكراد يجب ألا يجعلنا نغمض أعيننا عن العنصرية الكريهة التي تنبعث من بعض الأوساط الكردية، كالمطالبة بطرد العرب من المناطق ذات الأغلبية الكردية. وجلال الطالباني، أو “مام” جلال، الذي أعلن موافقته على عودة اليهود الكرد إلى كردستان لم يتجرأ على المطالبة بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، مع العلم أنه كان يعمل سراً مع وديع حداد في سبعينيات القرن المنصرم، ويعرف أن الطرد (أو الترانسفير) مسلك صهيوني تماماً، لكن الوقوع في غرام أميركا أنساه الحليب الذي رضعه من الثورة الفلسطينية. ويا للعجب، فأميركا التي كانت الدولة الوحيدة في التاريخ التي انتقلت من “الهمجية” إلى التحضّر مرة واحدة، هي التي دشّنت رحلة العودة من التحضّر إلى الهمجية في العراق، الذي نشأت فيه أقدم حضارات البشر.
العربي الجديد

 

المؤامرة/ أمجد ناصر
المؤامرة موجودة في التاريخ. تلعب دوراً فيه. لكنها لا تصنعه. مجال عملها تحت الأرض، بينما التاريخ يصنع فوق الأرض. المؤامرة يصنعها أفراد، فيما التاريخ تصنعه شعوب. لكن المؤامرة، مع ذلك، لا تنفصل عن التاريخ. لا تستطيع ثلة من المتآمرين، الأذكياء، المغرضين، إحداث تغيير في حركة التاريخ، ما لم يكن التاريخ مستعداً، موضوعياً، لتقبل “المؤامرة”، فهي، بهذا المعنى، جزء من فعل التاريخ، غير أنها تعوّل على “الخطة” السرية المسبقة، والأفراد المنفذين “الخفيين” الذين يندسون بين الجموع، ويبثون “سمومهم”.
المؤامرة تنجح على مستوى الأفراد (تجنيد، اغتيال، غسل مخ)، ولكن، من المستبعد أن تنجح على مستوى الجموع (الجماهير بلغة الرفيق ماركس). هناك، بالطبع، من يعتقد أن الثورات العربية (نظراً لمآلاتها الحزينة) تمَّ التخطيط لها، ووضع جدول أعمالها، في قبوٍ للمخابرات المركزية، أو أي دائرة غربية مشابهة، ثم أطلقت شراراتها في “فيسبوك” و”تويتر”، فالتقطت الجماهير العربية (المليونية في الحالة المصرية) الطُعم، فهبَّت، منوَّمة مغناطيسياً، إلى الساحات والشوارع.. ثم أعيدت الكرَّة، مصرياً، مرات عديدة، ونجحت في كل مرة!
لا حاجة للقول إن صفحة “فيسبوك” وحساباً على “تويتر” لا يمكنهما، بأي حال، أن يدفعا الحشود المليونية (ما زلت أتحدث عن مصر) الغاضبة إلى التقاطر على تلبية نداء الثورة. لو لم تكن هناك حاجة مصرية، ملحّة، وعاجلة، ولا يمكن تأجيلها، لما رأينا تلك الوقائع التي لم يعرفها تاريخنا من قبل، حتى في فترة النضال ضد الاستعمار الأجنبي.
لا صفحة “فيسبوك” ولا “هاشتاج” في وسعهما أن يحملا “حزب الكنبة” على التزحزح عن الكنبة، لولا أن الوضع المصري العام لم يعد يطاق، وأن الحياة لم تعد قابلة للعيش.
هذا هو التاريخ.
هذا ما يفعله، بالضبط، التاريخ.
***
أقول هذا لكي أنعطف إلى ما أعتبره، أنا الذي يؤمن بحركة التاريخ، مؤامرة فعلية، مكتملة الشروط والأركان، حيكت في أقبيةٍ سرّية، ومُدَّت بأموال قذرة ودوافع إجرامية، أقصد: داعش.
كيف يمكن لأي عاقل أن يصدِّق أنَّ هذا الهبوب المدوي لداعش وماعش على أكبر بلدين في المشرق العربي، والتهامهما بمعدة غير قادرة على هضم قرية أو دسكرة؟
لا وجود لعوامل تاريخية تمكِّن داعش (أو من هم على شاكلتها) من التمكُّن من مَهْدَيْ الحضارات البشرية الأولى، جوهرتي الأمويين والعباسيين، وإعلان “خلافتها”، بالبلطة والساطور، فيهما. صحيحٌ أن هناك عوامل محدَّدة ساعدت داعش على الانتشار في وسط مظلمتين كبيرتين وجريمتين منظمتين، مارسهما بشار الأسد والمالكي ضد شعبيهما، ولكنَّ الاستجابة العنيفة “الداعشية” على ذلك لا تتعدّى رد الفعل الفردي: الكفر بالعمل السياسي أو الجماهيري، أو حتى العسكري الذي تمارسه قوى ذات مرجعيات مدنية، واعتناق الانتحار الذي تمثله داعش على شعبي سورية والعراق.. بل وسائر المنطقة.
هناك شبان سعوديون، تونسيون، جزائريون، أردنيون إلخ.. اختاروا، كردِّ فعل على الاخفاقات السياسية والتوترات الحادة التي تصنعها البطالة والكبت الجنسي، أن يحولوا أجسادهم قنابل يفجرونها وسط من يعتقدون أنهم كفار، أو رافضة. ولكن، كم عدد هؤلاء؟ لا يمكن لعددهم، إضافة إلى العناصر المحلية، أن يشكل جيشاً ضارباً يحتل، بين عشية وضحاها، نصف العراق.
***
كانت الثورة السورية سلمية في البداية، ذات مطالب تدرجَّت من الإصلاح إلى إسقاط النظام، غير أنها، على الرغم من وحشية النظام السوري، تمسَّكت بسلميتها طيلة عام تقريباً، إلى أن دخل التسليح الفردي الذي مورس للدفاع عن النفس، ثم ما لبث، مع اشتداد عنف النظام، وتدخل الخارج متعدّد الرؤوس والأهداف، أن أخذ يكتسح الثورة، ويحولها ثورةً مسلحة، لا يمكن لها أن تجاري النظام الذي فتحت أمامه مخازن الأسلحة الروسية والإيرانية. هل كان يمكن أن تبقى الثورة السورية سلمية؟ سؤال لا يقدم ولا يؤخر الآن. لكن ما له علاقة بـ “الآن” هو دخول “داعش” على الخط، وقدرتها على استثمار إحباط الشباب السوريين من تناحر قواهم المحلية، ويأسهم من أي دعم دولي حقيقي، فعملت على تجنيدهم، فحققت انتشاراً سريعاً في بعض المناطق السورية “المحررة”.. ولكن، عندما بدا أن هناك إرادة إقليمية ودولية لإخراج “داعش” من المعادلة السورية، سرعان ما كُنست من الشمال السوري كله، تقريباً، ودُفِعَت في اتجاه الحدود مع العراق.
وفيما بدا لنا أنها تدافع عن بقايا معاقلها في سورية، رأيناها تكتسح شمال العراق وغربه، في غمضة عين! هكذا من دون مقدمات مقنعة، ولدت “الثورة” العراقية المسلحة، بعد إخفاق الاعتصامات والعمل الجماهيري، واسع النطاق، ضد نظام المالكي الفاسد والطائفي.
كيف حدث ذلك؟ من يقف وراء ذلك؟
هل يكفي القول إن “داعش” قوة منظمة، غير فاسدة، تموّل نفسها من سطوها على البنوك وبيعها النفط، كي ننفي عنها اختراقها مخابراتياً، أو ولادتها القيصرية في أحد أقبية المخابرات الإقليمية أو الدولية؟ كلا. يستحيل أن تكون داعش رداً تاريخياً على الاستبداد والفساد والتشرذم والطائفية والعشائرية التي تجتاح عالمنا العربي. فهي، نفسها، حركة ضد التاريخ.
العربي الجديد

 

سياسات أميركية أوصلت إلى «الخلافة» البغدادية/ بكر عويضة
تقول واشنطن إنها مستعدة لدفع عشرة ملايين دولار لرأس إرهابي يُدعى أبو بكر البغدادي، فكيف يُعقل أن أدعو الرئيس باراك أوباما ليبايع من ادعى الآن أنه «الخليفة» إبراهيم؟ مشهد كاريكاتوري، بالتأكيد.
لكن، الواقع يقول إن سياسات الإدارة الأميركية الحالية أسهمت – ضمن عوامل مختلفة – في تمكين جحافل «داعش» من تثبيت الأقدام بمواقع عدة على الأرض السورية، بل جرى غض النظر حتى عندما أعلن التنظيم مدينة الرقة عاصمة مؤقتة، وراح يمارس في الشوارع منها والأزقة بطش السيوف وإزهاق الأرواح، ثم إن تواصل خطأ التساهل الأميركي في التعامل مع نظام بشار الأسد يسّر زحف التنظيم للجوار العراقي، ومع وصول الرايات للموصل، وإذ دانت لها تكريت، ومن بغداد اقتربت، بدا للبغدادي أن «الخلافة» صارت طوع يده، فقد تمكَّن، ومن ثم وجب أن تحل «الدولة الإسلامية» محل التنظيم، فتدعو لحل كل جماعة ليست تدين لها ولمن أعلنته واشنطن أخطر إرهابيي العالم، فكان جوابه أن أعلن نفسه «الخليفة» إبراهيم.
خطورة ذلك الأمر أنه أبعد من مجرد كلام قد يبدو- لمن يشاء – لا يستحق كثير اهتمام. الوضع العربي لم يعد يقف على حافة بلل التفتت، بل صار بين خيار العوم أو خطر الغرق. بلغني مثلٌ سوداني دارج يقول: «اللي يتبلبل – أي بلل الماء – يعوم». تذكرت المثل إذ يتمثل أمامي، وكثيرين غيري، سوء الحال العربي وقد بلغ من الوبال ما يقضّ مضجع كل ذي بال. بالطبع، لكل أمرئ، أينما أقام، وتحت أي سقف نام بقارات الكوكب الخمس، وبصرف النظر عن اختلاف مواقيت انبلاج الفجر وشروق الشمس، وأيضا عن جنس معجم الأمثال الساكن تحت الوسادة، بالطبع لكل امرئ أن يطبق ما يسمع أو يردد من أمثال، وفق ما يظن أنه حق توجبه مصلحته.
مثلاً، سؤال المجرِّب أفضل من علاج الطبيب طالما أن دواء المُعالج بالعشب يرضي مزاج أغلبية الشعب، أو ما دام أن شكل دواية من يداوي بالقلم، لون الحبر، رائحته، مجمل الخلطة «كلهاعلى بعضها»، بلغة السوق، يمكن لها أن تسكِّن صداع معظم المعترين، حتى لو أن أكثرهم لا يعلمون. من ذاك الذي يهتم، دع عنك هذا الهمّْ، كل ما يقلق الضمير لم يعد يهم، اقلب الصفحة، عد إلى خيار العوم أو الغرق، رُبّ قائل، عن حق، أجب عن السؤال الأهم: أما يزال بوسع العرب عبور مآزق ما بعد ربيع التغيير، أم أن الخرق اتسع على كل راقع، والرتق ابتلع كل من ظن أنه أنجع راتق؟
الحق أنني لا أملك الجواب. إنما ليس من الصواب أي استسلام لليأس. موضوعية المنطق تقتضي التسليم بأن الولايات المتحدة ليست وحدها من أخطأ الحساب في سوريا، العراق، ليبيا، أو في غيرها من مجتمعات عرضتها خضّات الأربع سنوات الماضية لأخطار تفتت كياناتها إلى شظايا، وقبل لوم دول كبرى تضع مصالحها أولاً في الميزان، جدير بأهل تلك المجتمعات إمعان النظر في أفعال القوى الأساس اللاعبة بساحات ملاعبها على نحو تلاعب بمصائر الناس وبمستقبل أمصار لحساب موازين فئوية أو طبقية، فجرى تغليب كفة حزب هنا، أو منظمة هناك، جماعة أو حركة في هذا البلد أو ذاك، تكتل في قُطر ما، أو تحالف يضم تناقضات ليس يستقيم معها أي حلف، فماذا كانت النتيجة؟ تقهقر حلم ديمقراطية التغيير، فتبعه انهيار سلمية تداول السلطة، ضرب الخلل سُلم الأولويات، فاختل سِلمُ المجتمع، وأصيب وعي العقل بما يشبه صداع الدوار، فسادَ سَقَمُ التفكير، وغُيّب سوّي القول في غابات إفساد العقول، انتفخت الأفئدة بهواء الأنا، حلقت الأرواح في فضاء «أنا ومن بعدي الطوفان»، لم يخطر للمنتفخين بعظمة الذات، بأمجاد القلم ولمعان الفضائيات، أن نيران فتنة ينفخون في أوارها ستحرق أمة بأكملها يزعمون أنهم على أمجاد ماضيها حريصون، وعلى مستقبل رفعتها خائفون، ارتفع صوت من يجادل بحق يراد به الباطل بعينه، وعلا صراخ من يزعق بالباطل في رابعة النهار يريد دحض حق يسطع في كبد السماء، فإذا بحق الجهاد المتسلح بنور العلم يختلط بظلام سلاح إزهاق الأرواح، صار الخلط أساس النحو والصرف، حتى كيف يميز تلميذ الأبيض من الأسود في خيط لغة العرب بات موضع جدال، فما العجب إنْ فقدت الحروف نقاطها، أضاعت الأسماء معانيها، وما المشكل إن اعتدى خبر على مبتدأ، ولمَ الاستغراب إذا ارتابت أية قضية عربية بعدالتها، فإن سئلت عمن وأدها، حار جوابها أين يحط الرحال؟
سادت عبر التاريخ حضارات ثم بادت، أعلنت دول فما عمّرت طويلا (كما حال وحدة ليبيا وتونس تحت مسمى «الجمهورية العربية الإسلامية» التي أعلنها معمر القذافي بعد قمة مفاجئة مع الحبيب بورقيبة في 12 يناير/ كانون أول 1974)، ونهضت دول من ركام الخراب فصمدت لرياح الاضطراب من حولها، وقاومت زلازل وأعاصير أرادت تدميرها. في هذا السياق، يمكن القول إن دولة تنظيم «داعش» الذي بايع «الخليفة» إبراهيم قد تعيش بضعة أيام، أسابيع، أشهر، أو بضع سنين، من يدري، لكن يبقى المهم تذكّر أن فصيلاً صغيراً انفصل عن «القاعدة»، تمكن خلال أربع سنوات من تنظيم آلاف المقاتلين تحت رايات أمكنها أن تعبر وتحتل مساحات واسعة ما بين العراق وسوريا، وأن ذلك التطور في حد ذاته لم يؤخذ، في حينه، بمستوى جاد يتناسب مع حجم ما مثله من مخاطر مقبلة. هل ما يزال بالوسع صد تأثير حصاد الحسابات الخاطئة؟ الواجب يقتضي أن يكون الجواب بنعم إيجابية، تستفيد مما حصل، وتخطط بعلم وموضوعية للمستقبل. دعونا نأمل أن الآتي أفضل.
الشرق الأوسط

 

سايكس بيكو جديدة/ أحمد عبد الملك
حالة الدهشة التي تسيطر على الشعوب العربية جرّاء التطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط، خصوصاً العراق وسوريا، جعلت الكتاب العرب يرسمون خرائط عدة لشكل المنطقة في الأيام المقبلة، وهذا ليس نقيصة، قدر ما هو احتراز وتحذير بالمحظورات التي قد تتم في غير صالح الشعوب والبلدان العربية، ومن تلك الخرائط ما أسموه (سايكس بيكو) جديدة ترعاها الدول الكبرى، وتقضي بتقسيم المنطقة العربية على أساس طائفي، دونما مراعاة لأحكام التاريخ والجغرافيا، ولكأن هذه المنطقة «عزبة» مشاعة، يتحكم فيها الغرب وحلفاؤه بعد كل مئة عام؟ والحديث عن (سايكس بيكو) الجديدة يُذّكرنا بالاسم ذاته عام 1916 عندما باركت روسيا القيصرية اقتسام فرنسا وبريطانيا منطقة الهلال الخصيب وما حولها، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعدم قدرتها على السيطرة على مقاليد الأمور.
وكانت الاتفاقية قد عُقدت سرية بين الدبلوماسي الفرنسي (فرانسوا جورج بيكو) والبريطاني (مارك سايكس)، وتم تبادل وثائق التفاهم بين وزارات الخارجية في كل من باريس ولندن وموسكو، ولم يتم الإعلان أو الكشف عن الاتفاقية إلا عندما وصل الشيوعيون إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917. وبذلك استولت فرنسا على سوريا ولبنان والموصل في العراق، واستولت بريطانيا على جزء من جنوب بلاد الشام والعراق والمنطقة الواقعة ما بين الخليج العربي والمنطقة الواقعة تحت النفوذ الفرنسي، بينما ظلت فلسطين تحت الوصاية الدولية ليتم تحديد مصيرها في المستقبل.
وللأسف أقرت الأمم المتحدة عام 1922 وثائق الانتداب المذكورة. وصدر في عام 1917 وعد بلفور المشؤوم ليعطي اليهود وطناً قومياً في فلسطين، حيث أعلن وزير الخارجية البريطاني عن تعاطف بريطانيا مع التوجه لإعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقام بإرسال رسالة إلى المليونير اليهودي المعروف روتشيلد. ولقد دعمت الدول الكبرى والصهيونية العالمية هذا التوجه، وبدأت عمليات الهجرة إلى فلسطين التي كان العرب وقتها يمثلون 93% من سكانها، وبقية القصة معروفة.
الشكل الجديد الآن لهذه الاتفاقية ما زال لم يُعلن. لكن القراءة الأولية لواقع الأحداث تُنبئ عن أن الاتجاه يسير نحو تقسيمات جديدة في كل من العراق وسوريا. رغم إعلان وزير الخارجية الأميركي كيري التزام بلاده بوحدة العراق، لكن ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي يرى أن سايكس بيكو جديدة سوف تنقذ بلاده من ورطتها المتفاقمة في العراق وترددها في سوريا؛ مؤكداً أن الشرق الأوسط القديم سوف يتفكك، وأن المسألة مسألة وقت!؟ والصورة التي رسمها هاس لا تختلف عما يدور في الأروقة السياسية من أن دولة شيعية مع هيمنة إيرانية ستكون في الجنوب العراقي، ودولة كردية في الشمال، واحتراب سني مع قوى أخرى ستفضي إلى دولة سنية في الشمال الغربي وبغداد. (العرب – 17/6/2014).
الصورة غير واضحة، ولقد ازداد التوتر على الحدود العراقية الأردنية، بعد ورود أنباء عن اقتراب مسلحين إلى المنافذ الحدودية، ونشر الأردن لعتاد حربي كبير على مسافة 100 كيلو لحدوده مع العراق. قد يزداد التوتر إذا ما اقتربت تلك العناصر إلى الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية من العراق، أي الاقتراب من الكويت أو السعودية، وهنا لا مندوحة للولايات المتحدة من التدخل، لوقف تغيّر الحالة الأمنية، خصوصاً بعد تلميح كيري من أن توجيه ضربات لتلك العناصر تمثل أحد الخيارات المهمة، لكنها لا تمثل الجواب الكامل. ويبدو من شكل الوجود الأميركي الجديد في الخليج (سفينة النقل البرمائية و550 من مشاة البحرية الأميركية وحاملة الطائرات (H.W.Bush) وطراد الصواريخ والمدمرة (تروكستون)، التي تحمل صواريخ موجهة، فإن محاصرة العناصر المسلحة ستكون عبر الصواريخ دون أن يتورط الجنود الأميركيون في مواجهات قتالية مع تلك العناصر. وفي الوقت ذاته، ترفض المملكة العربية السعودية أي تدخل أجنبي في شؤون العراق، وهو موقف مجلس التعاون أيضاً، حيث يتخوف الخليجيون من رد فعل مشابه لما جرى عام 2003 عندما احتل الأميركيون العراق.
وما يزيد من قتامة الصورة وضبابيتها، اختلاف توجه (داعش) في العراق، عنه في سوريا، حيث وقفت عناصر (داعش) ضد الجيش السوري الحر المناضل من أجل الحرية وإطاحة نظام دمشق، لكن الفصيل في العراق يبث رسائل مختلفة – ولربما قام البعض باختلاق تلك الصور وبثها باسم (داعش) لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن التعويل على مصداقيتها- ومشاهد لقتل جماعي ضد الأطراف الأخرى، كما أن حجم عناصر (داعش) مازال مبهماً. وهل من المعقول أن توجد هذه العناصر على تلك المساحات الهائلة من أراضي العراق؟ باستثناء الشمال.
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ما زال ينتظر العون الأميركي بعد أن تفاقمت الأمور، وازداد العنف في العراق، خصوصاً بعد هروب عناصر الجيش الرسمي من جبهات المواجهة والتخلي عن أسلحتهم. فهل تعترف الولايات المتحدة بأنها أخطأت في دعم المالكي المدعوم من إيران نظراً لاعتماده المذهب الشيعي المرتبط بإيران، وما عليها إلا أن تدفع ثمن هذا الدعم؟
نحن نعتقد أن تجاوز عناصر (داعش) للحدود العراقية سوف يفتح جبهات عنف عديدة، وليس من المُستبعد قيام توازنات جديدة تشارك في أطراف إقليمية ودولية، لتأمين منابع ومصافي النفط العراقية، وهو الهدف الأسمى للغرب وللولايات المتحدة، على غرار ما حدث عام 1991 لطرد القوات العراقية من الكويت. أما بقية القضايا، فإن الإدارة الأميركية لا تلتفت إليها بإلحاح، وتدعها «تحلحل» نفسها بنفسها مع الأيام. كما صار الحال في سوريا، التي لم « يتحمس» الغرب والولايات المتحدة لسرعة حسم المعارك فيها وإسقاط النظام، كما حصل تحمس كبير من قبلهم في مناطق أخرى من العالم العربي. لا يمكن تقديم تقرير جازم أو رسم صورة محددة لمستقبل الأحداث في المنطقة، ولكن تغيّر خريطة العراق وسوريا قد لا تكون من الأمور غير المُستبعدة في ظل الظروف الحالية.
الاتحاد
أرسلوهم إلى دولة البغدادي/ عبد الرحمن الراشد
«نحن نخص بندائنا طلبة العلم والفقهاء والدعاة، وعلى رأسهم القضاة وأصحاب الكفاءات العسكرية والإدارية والخدمية والأطباء والمهندسون في الاختصاصات والمجالات كافة». هذا النفير أطلقه أبو بكر البغدادي، الذي نصب نفسه خليفة للمسلمين في أنحاء العالم ولم يكتفِ بدولة العراق والشام، المعروفة هزءًا بـ«داعش»!
دعا المسلمين إلى الهجرة إلى دولته، وأنها واجبة على ألف مليون مسلم في أنحاء الكرة الأرضية. وجاءت ردود الفعل عليه؛ كم هائل من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، تهزأ من الداعشيين. لكن ليست كل الناس تعتبر «داعش» مزحة سخيفة، فهناك من يروج للتنظيم علانية، ويدعو للقتال في صفوفه. ومع أن معظم دول المنطقة تنهى عن السفر إلى سوريا والعراق بسبب الاقتتال، وتلاحق من يجرؤ على فعل ذلك، إلا أن فكرة إرسال عشرات الدعاة ومثقفي «داعش» ليست بالسيئة. فمعظم هؤلاء الذين يدافعون عن تنظيم «داعش»، فكرا ورجالا ودولة، ويحرضون على القتال في صفوفه، هم أنفسهم يفضلون حياة الدعة التي يعيشونها في «المجتمعات الكافرة»، سواء في الخليج، أو المغرب العربي، أو أوروبا.
ويذكر أنه في عام 1990، كان هناك أحد الأئمة من جنسية عربية، في دولة خليجية، يخطب كل ليلة في المصلين يحث على مقاتلة القوات الأميركية التي جاءت لتحرير الكويت، ضد قوات صدام. وذات ليلة، وبعد أن أنهى صلاته، قرع باب بيته رجال الأمن، يبلغونه أنه سيتم ترحيله بسبب خطبه التحريضية، وأنهم أمنوا له مقعدا مجانا على متن سفينة في طريقها إلى ميناء البصرة العراقي، حتى يباشر الجهاد هناك. وبعد أن بكى واستعطف، كتب متعهدا ألا يحرض على منبر المسجد على القتال.
مثله كثر، من الذين يفتون كل يوم في الإعلام، ويخطبون على المنابر، مدافعين عن «داعش» وداعين لنصرتها، هي وبقية التنظيمات المتطرفة، في العراق وسوريا، لكنهم أنفسهم لا يذهبون، ولا يرضون لأولادهم بالسفر، إلى «دار الخلافة». نحن نعتقد أنه بعد أن أعلن خليفتهم البغدادي النفير، يدعوهم للالتحاق بدولته الرائعة، فمن الواجب تذكيرهم بأنه توجد اليوم دولة إسلام وخلافة وخليفة، ولم يعد لهم عذر بالتلكؤ وترك الواجب للآخرين، وإرسالهم للعيش في دولتهم الطوباوية.
ليس كل المتطرفين متحمسًا لدولة «داعش» أو «جبهة النصرة». فأبو محمد المقدسي، سر «القاعدة»، وفيلسوفها الشهير، الذي أطلق سراحه من سجون الأردن حديثًا، ومع أنه يعتبر مرجع المتطرفين في أنحاء العالم، فإنه لم يُطِق ما تفعله «داعش»، وكتب محذرا منهم. وفي رسالة طويلة كتبها المقدسي قال: «لقد سمعت قبل الإفراج عني عن إساءات بعض الناطقين الإعلاميين والشرعيين في كلتا الطائفتين المتنازعتين («داعش» و«النصرة») ورددت على بعض ذلك وأنكرته، كما طالعت فيما طالعته بعد خروجي من السجن إساءات وسفالات لا يستحق أصحابها وصف المجاهدين ولا وصف الشرعيين ولو وصفوا بالشوارعيين بدلا من الشرعيين لكان أقرب، فمن اتهام للمخالفين باللقطاء وأبناء العواهر ونحوه من الفحش ووضيع القول.. إلى غير ذلك من الكذب والبهتان والافتراء على المخالف بما لا يليق».
حتى المقدسي اعتبرهم شوارعيين وحث على قتالهم. هذه حال الأمة المخطوفة من قبل مدعي الدين يقاتل عن فكر دولتهم من قفز على صهوات خيولها، مجموعة من البلطجية وخريجي سجون الإجرام، تحت أعلامهم السوداء يقتلون العزل ويخطفون الأطفال ويغتصبون النساء.
الشرق الأوسط

 

“داعش” من رحم أوباما؟/ راجح الخوري
كان من المعيب ان يبدو باراك اوباما قلقاً ومرتعباً، من حفنة من الجهاديين التكفيريين جاؤوا من الدول الغربية وقاتلوا مع “داعش” و”النصرة” في سوريا منذ ثلاثة اعوام تقريباً، بعدما كانت قد وصلتهم أخبار الفظاعات والمجازر التي ارتكبها النظام ضد السوريين، ثم انضم بعضهم الى القتال في العراق ضد جيش نوري المالكي المنهار.
اوباما يتعامى عن الكارثة السورية والمئتي ألف قتيل وملايين المهجّرين، ولا يشم رائحة الاسلحة الكيميائية التي استعملت ولا رائحة براميل الكلور التي تخنق الناس تحت ركام منازلهم، ولا يتذكّر تهديداته الفارغة بعد مذبحة الغوطتين، ولا مسلسل الاهانات التي الحقها سيرغي لافروف بوزير خارجيته جون كيري الذي لا يجيد سوى الجري على سلّم طائرته!
يرتعد اوباما من عودة الجهاديين الغربيين وانتقالهم الى اميركا لارتكاب اعتداءات، وخصوصاً انهم يحملون جوازات سفر غربية وليسوا في حاجة الى تأشيرات اذا قرروا التوجه الى اميركا، لكن عضو لجنة الأمن الداخلي النائب بيتر كينغ سارع الى السخرية من اوباما قائلاً: “لا بدّ من ان يكون اكثر هجومية. ان سوريا هي تهديدنا الأكبر، والمسألة ليست ان هناك مئات من الاوروبيين يقاتلون مع الارهابيين، بل هناك أكثر من مئة اميركي يقاتلون في سوريا”، وكان أحدهم قد فجّر نفسه في شاحنة مليئة بالمتفجرات في شمال سوريا في أيار الماضي!
استعار اوباما في حديثه الى شبكة “آي بي سي” سياسة “الضربات الاستباقية” التي اعتمدها سلفه جورج بوش والتي طالما انتقدها عندما قال: “سيكون علينا ضرب المنظمات التي تنوي الاعتداء علينا”، ويبدو ان هذه النظرية موضع نقاش عميق في واشنطن، وخصوصاً بعد الانهيار الدراماتيكي للجيش العراقي الذي بناه الاميركيون ودمّره نوري المالكي قبل ان تدمّره ثورة العشائر السنية التي احتلّت صورتها الخارجية “داعش” بكل فظائعها والجرائم المروعة!
هل كثير اذا قلنا ان الـ٦٧٠ فرنسياً والـ٢٠٠ بلجيكي والـ٤٠٠ بريطاني والـ١٠٠ اميركي الذين يقاتلون مع الارهابيين في سوريا والعراق، ويشكلون فعلاً قنابل متفجرة ستعود الى الغرب وقد تنفّذ سلسلة من التفجيرات والجرائم، هم عملياً الأبناء الاشرار الذين ولدوا من رحم سياسة اوباما المتخاذلة، التي تواصل منذ ثلاثة اعوام ونيف اصدار البيانات التافهة عن عدم شرعية الاسد، الذي يلقى دعماً روسياً وايرانياً وصينياً ودمّر سوريا على رؤوس أهلها؟
يعرف أوباما ان نوري المالكي دمّر حركة “الصحوات” التي شكّلها الاميركيون وتمكنت من إلحاق الهزيمة بـ”القاعدة” في العراق، ومع هذا استمر في تغطية سياسته لأنه متعهّد تخريب العراق، ويعرف السوريون والعراقيون والكثيرون في هذه المنطقة البائسة، ان “داعش” ولدت من رحم الاستخبارات الاميركية، فعلى من يضحك الرئيس الداعشي “أوماما”؟
النهار

 

خلافة البغدادي.. ومعانيها السياسية/ إياد أبو شقرا
إعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) قيام «الخلافة الإسلامية» في العراق تطور، في اعتقادي، لا يمكن أن يمر مرور الكرام، لا على صعيد وجود أو انعدام مقومات حقيقية مكانية وزمانية لتأسيسها، بل يجب التوقف عنده في ظل الظروف العامة المحيطة بها.
بادئ ذي بدء لا تبدو واضحة حتى لمتابعي الشأنين الإقليمي والجهادي مؤشرات لحجم «داعش» الفعلي، الذي يتيح لها إعلان ما أعلنته. فحتى عندما شنت هجومها الحالي في غرب العراق وشماله، وادعت لنفسها معظم العمليات العسكرية، ارتفعت أصوات من العشائر والجماعات السنية الأخرى، محذرة من أن ثمة من يريد صبغ الانتفاضة الشعبية الحاصلة في المناطق ذات الغالبية السنية على حكم نوري المالكي – المدعوم إيرانيا – بصبغة «داعش» لتسهيل التأجيج ضدها تمهيدا لضربها.
ثم أن ثمة صراعا دمويا بين «داعش» وعدد من التنظيمات المشابهة لها فكريا وعقائديا يستعر في المنطقة، منها جبهة «النصرة» التي تتبع تنظيم «القاعدة»، ناهيك من التعارض الكبير في الممارسات بينها وبين الجماعات الإسلامية الأقل تشددا، التي تنحو منحى آخر في السعي إلى السلطة.
أضف إلى ما تقدم أن هناك معطيات جيوبوليتيكية استثنائية تلقي بظلالها اليوم على عموم الشرق الأوسط. ولئن كانت أطماع طهران في منطقة الخليج قديمة، فإن الطريقة التي تتعامل بها الآن مع كيانات «الهلال الخصيب» غير مسبوقة. ذلك أن طهران، عمليا، تحكم بالواسطة كلا من العراق وسوريا ولبنان. وتأتمر بإمرتها تنظيمات مقاتلة أسقطت واقعيا حدود «سايكس – بيكو» قبل أن تسقطها «داعش» وتعلن على الأثر «الخلافة». ونرى لها كذلك في شبه الجزيرة أصابع نشطة وتحالفات تكتيكية واستراتيجية في منطقة الخليج واليمن، بل إن لها صلات حتى في شمال أفريقيا العربي.
هنا لا بد من التوقف طويلا عند سرعة تجاوب واشنطن مع طلب نوري المالكي مساندته، بعكس موقفها «الخجول» – الذي يصفه كثيرون بالمتواطئ – إزاء معاناة السوريين مع نظام الأسد على امتداد أكثر من ثلاث سنوات قضى فيها مئات الألوف وشرد الملايين. وهو ما يشي بمنظور استراتيجي أميركي للمنطقة لا تطمسه العبارات المنمقة المضللة.
أساسا علينا تذكر أن جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي الحالي والسيناتور السابق، كان قد اقترح تقسيم العراق عام 2006، أي قبل توليه منصبه الحالي. وكانت رؤية بايدن تأسيس ثلاثة «كيانات» للشيعة والسنة والأكراد. وقبل ذلك، كان «المحافظون الجدد»، الذين هيمنوا على السياسة الشرق أوسطية الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن يتكلمون عن «شرق أوسط جديد». ومع أن ملامح هذا «الشرق الأوسط الجديد» كانت غامضة بعض الشيء – على الأقل على العرب – فإن عملية غزو العراق وما عقبها من إسقاط نظامه واجتثاث جذور السلطة فيه، ومن ثم حل الجيش وقوات الأمن، والتغاضي عن النزعات الطائفية المذهبية والعرقية، والنوازع الانتقامية الثأرية، مهدت الطريق إلى «عراق بديل» مختلف تماما عن «عراق ما قبل 2003». العراق البديل هذا تكامل بصورة واضحة لأذهان مخططي السياسة الخارجية الأميركية، مع منظومة جديدة غدت معالمها جلية للعيان. وأدى فيها نظام بشار الأسد الدور الموكل إليه، ألا وهو اصطناع الشراذم الأصولية السنية، واستغلالها على المستويين المحلي والإقليمي.
بما يخص العراق، كلف نظام الأسد بتجنيد شراذم جهادية متشددة وإرسالها إلى العراق – على غرار ما كان يفعله «أبو القعقاع» محمود قول آغاسي – لمضايقة قوات الاحتلال الأميركي تمهيدا لفرض سحبها. وهذا بالضبط ما كانت تريده طهران، بدلا من الاصطدام مباشرة بالقوات الأميركية وتحمل الكلفة الباهظة لإراقة دماء الأميركيين. ونجحت خطة طهران، واقتنعت القيادة الأميركية بأن ثمن البقاء في الأراضي العراقية ما عاد مقبولا.. فانسحبت تاركة البلاد تحت سلطة سياسية تابعة للقيادة الإيرانية، والمناطق السنية تحت رحمة الجهاديين المتشددين، إلى أن ضاقت بتجاوزاتهم وتعسفهم العشائر فظهرت «الصحوات»، وأفلحت بإبعادهم لفترة لا بأس بها عن معاقلها.
في لبنان، كان مطلوبا إنهاء «الحالة السنية» التي مثلها رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق، وأبرز الساسة السنة، غير أن الجهة المخططة والمنفذة أساءت تقدير ردة الفعل. فقط ردة الفعل. لكن هذا الخطأ العرضي أمكن تصحيحه بعد استيعاب صدمة ردة الفعل الشعبية غير المحسوبة بدقة، ومن ثم استعاد محور طهران – دمشق زمام المبادرة. وبدأ العمل على القضاء على القيادة السنية «المعتدلة»، المقبولة عربيا ودوليا، عبر اصطناع قيادات متشددة تزايد على تيار «المستقبل» الشعبوي الخدماتي الذي يفتقر أساسا إلى «الغريزة» السياسية والأرضية الآيديولوجية الصلبة، وتسحب بشعاراتها الراديكالية الغاضبة «البساط السني» من تحته. وكان أول الغيث تسهيل دخول تنظيم «فتح الإسلام» إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، حيث إحدى أكبر الحواضن السنّية في البلاد. وكما حدث مع «صحوات» الأنبار حصل في نهر البارد، فسقطت محاولة «فتح الإسلام» على أيدي شهداء الجيش اللبناني الذين كان معظمهم من سنيي المنطقة المحيطة بالمخيم، أي عكار والمنية والضنّية وطرابلس.
كذلك عملت القيادتان الإيرانية والسورية على تفجير «تحالف 14 آذار» الذي كونه الزخم الشعبي اللبناني المناوئ لهما من الداخل. فجرى احتضان ميشال عون، أحد غلاة الزعماء المسيحيين المتشددين، فــ«أعيد تأهيله»، ثم استخدامه لشق صفوف القوى الديمقراطية والليبرالية والتقدمية في لبنان. ونفذ عون المهمة الموكل بها بحذافيرها حتى الآن. وبالتنسيق والتفاهم مع حزب الله عطل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبالأمس طرح «مبادرة» طائفية – تقسيمية تناقض الدستور وتتجاهل كليا مخاطر الفراغين السياسي والأمني.. بينما يعزز حزب الله، وسط الفراغين، موقعه كدولة داخل الدولة.
أما في سوريا، فلا حاجة إلى التذكير بما فعله بشار الأسد من إعادة رسم جغرافيتها السكانية بالدم والتهجير والتقسيم الطائفي والعرقي الفعلي. «سوريا اليوم» أيضا غير «سوريا مطلع 2011».
وهكذا أمامنا غول تقسيم المنطقة، ومن ثم تقاسمها باسم احتواء «خلافة البغدادي»، التي لو لم تكن موجودة لوجب اختلاقها.
الشرق الأوسط

 

في سورية والعراق الحاجة إلى تغيير في موازين القوى/ راغدة درغام
يبحث الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وكبار مساعديه عن استراتيجيات لتناول نزاعات وتحديات منطقة الشرق الأوسط كي لا تبدو الأمانة العامة عاجزة عن الضلوع بمسؤولياتها رابضة في ظل فشل مجلس الأمن وانقساماته – الحقيقية منها وتلك المواتية لكل من روسيا والولايات المتحدة. اليوم، وفيما منطقة الشرق الأوسط تمر بإحدى أهم المراحل من مسيرة التغيير الصعبة والمعقدة، لا توجد سياسة واضحة للأمم المتحدة وخريطة طريق لدور مميز لها على الصعيدين الإقليمي والدولي. الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن – زائد إلمانيا – تفاوض الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الملف النووي في فيينا بعزم على إنجاح تلك المفاوضات لتتكلل برفع العقوبات تدريجياً عن طهران. هذه الدول تتعمد غض النظر عن الانتهاكات الإيرانية للقرار 1747 الذي فرض بموجب الفصل السابع من الميثاق حظراً تاماً على قيام طهران ببيع أو نقل أية أسلحة أو خبراء عسكريين من أراضيها الى أية دولة أخرى. بكلام آخر، ان الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا توافق روسيا والصين على اعفاء ايران من المحاسبة على انتهاكاتها قراراً لمجلس الأمن تم تبنيه بموجب الفصل السابع يُلزم كل الدول بتطبيقه. وهذا يعني ان الدول الخمس تنتهك قرار مجلس الأمن وهي تقفز عمداً على الانتهاكات الإيرانية – لحماية المفاوضات النووية. هذه السابقة الخطيرة أدت بالدول الخمس الى أسوأ أداء لها عبر العقود الماضية، بل ربما في تاريخ الأمم المتحدة. وهذا يحدث فيما تنخرط الدول الخمس الكبرى في مهزلة مفاوضات بطيئة وسخافة بيانات عائمة بينما عدد القتلى في سورية يفوق الـ 150 ألفاً والكارثة الإنسانية تتفاقم. ليس في وسع بان كي مون التدخل في شؤون مجلس الأمن ولا يمكن له الإملاء عليه. لكن الأمين العام للأمم المتحدة ليس خادماً لمجلس الأمن بموجب ميثاق الأمم المتحدة، انه مستقل عن مجلس الأمن ولديه صلاحيات لا تخضع للمجلس بل وله حق القيادة الأخلاقية والسياسية عبر اللجوء الى المادة 99 التي تعطيه حق طرح القضايا التي يرفض مجلس الأمن طرحها. لذلك، من المفيد للدول التي تعارض انبطاح كبار أعضاء مجلس الأمن أمام الانتهاكات الإيرانية في العراق وسورية ولبنان أن تتنبه إلى ضرورة صياغة مقاربة جديدة مع الأمانة العامة للأمم المتحدة.
حدث العراق أعاد خلط الأوراق وهو يفتح نافذة على تفكير مختلف نحو الحدث السوري ونحو الدور الإيراني في كل من سورية والعراق. هذه فرصة لكل من الأمانة العامة للأمم المتحدة ولدول مجلس التعاون الخليجي للاستماع الى بعضهما بعضاً بإصغاء ولإصلاح العلاقة المتوترة التي سادت في الفترة الأخيرة بسبب الاختلاف حول سورية.
الخلاف الأساسي بين المملكة العربية السعودية والأمانة العامة للأمم المتحدة هو حول شرعنة الدور الإيراني في سورية والعراق. الأمم المتحدة ترى ان التوصل الى حلول في سورية والعراق يتطلب، منطقياً، الإقرار بالدور الإيراني والنفوذ الإيراني في هذين البلدين. وهي ترى أن لا مناص من التحدث والتفاوض مع ايران حول مصير سورية والعراق معاً.
الموقف السعودي يعارض تماماً ذلك الطرح على أساس ان انخراط الأمم المتحدة مع إيران في شأن سورية أو العراق يضفي شرعية على الطموحات الإيرانية الإقليمية التي تتعدى الحدود الإيرانية ويشرعن الدور والنفوذ الإيرانيين في هذين البلدين العربيين. الرياض تعارض إضفاء الأمم المتحدة الشرعية على التدخل الإيراني في العراق – سياسياً – وفي سورية عسكرياً وذلك عبر «حزب الله» الذي يقاتل في سورية علناً تلبية لطلب إيران وعبر تواجد «الحرس الثوري» الإيراني في سورية والعراق – بانتهاك واضح لقرار مجلس الأمن الملزم.
رأي الرياض هو أن من واجب الأمم المتحدة – أمانة عامة ومجلس أمن – محاسبة إيران على انتهاكاتها بدلاً من إعفائها. رأيها أن الطلب منها مباركة شرعنة الدور الإيراني في سورية والعراق خطأ فادح ترتكبه الأمانة العامة للأمم المتحدة. والرياض لن تتقدم بهدية الشرعنة هذه مهما حصل.
ما هي على استعداد لتقديمه يتمثل في شراكة ضرورية مع الأمانة العامة والأسرة الدولية في مكافحة «داعش» على نسق مكافحة «الصحوات» العراقية لـ «القاعدة» لإلحاق الهزيمة بها. ترى الرياض أن دورها ونفوذها مع سنّة العراق وسورية ذخيرة أساسية في أيدي الأمانة العامة والأسرة الدولية إذا كانت الأمم المتحدة تريد حقاً تبني مقاربة جديدة في هذين البلدين – مقاربة لا تعتمد إيران كحجر أساسي لمصير البلدين كما هي الحال الآن.
بات «دارجاً» هذه الأيام التحدث عن «المقاربة الإقليمية للحل في سورية والعراق. وها هي المؤسسات الفكرية Think tanks الغربية تنصّب على «إيران أولاً» في تلك المقاربة وتعمل على ما يسمى ديبلوماسية «المسار الثاني» track two diplomacy التي بدورها تعمل على شرعنة الدور الإيراني في سورية والعراق تحت عنوان «البراغماتية». هذه المؤسسات – وبعضها تموّله الدول الخليجية المسحورة بالمؤسسات الفكرية الغربية – تستغرق في غض النظر عن الانتهاكات الإيرانية للقرارات الدولية ودور «حزب الله» و «الحرس الثوري» بقيادة قاسم سليماني في سورية والعراق. وفيما تتعمد إعفاء الطرف الإيراني من المحاسبة، توجّه اللوم الى السعودية بزعم أنها تغذي التطرّف السني متناسية تماماً إنماء إيران للتطرف الشيعي بمختلف أنواعه ولاستخدام إيران وحلفائها التطرف السني بل ولصوغه في أكثر من حالة.
في الفترة الأخيرة أدركت الرياض ضرورة تبني إجراءات ضد مواطنيها المتورطين في الإرهاب وهي مُطالبَة ان تفعل أكثر. أما ان يتحدث بعض موظفي الأمم المتحدة عن مسؤولية سعودية في أحداث سورية والعراق بإعفاء تام للمسؤولية الإيرانية في هذين البدلين، فهذا إما غباء خارق أو تفكير خطير.
فإذا أرادت الأمانة العامة الانخراط مع السعودية باعتبارها دولة ذات نفوذ في المنطقة العربية، عليها أولاً ان تميز بين الدورين السعودي والإيراني في الدولتين العربيتين (العراق وسورية). عليها ان تستمع بدقة الى الطروحات السعودية لجهة مساعدتها في جهودها الرامية الى حوار وطني شامل في البلدين. وعليها ألاّ تستمر في الانسياق وراء شرعنة الدور الإيراني بصفته مفتاح الحل في البدلين. وأخيراً، عليها الكف عن الافتراض الساذج بأن الانتصارات المرحلية هي انتصارات دائمة – وهذا يعني أن على كبار موظفي الأمم المتحدة التوقف عن التفكير بمستقبل سورية من منظور انتصار بشار الأسد وبقائه في السلطة.
وعلى الديبلوماسية السعودية التحرر من نمط المقاطعة وعدم الانخراط لأن ذلك في غير مصلحتها أو مصلحة العراق وسورية. الرياض أعادت مقعدها في مجلس الأمن الى الأمم المتحدة تعبيراً عن غضبها من المجلس. بعضهم يعتبر تلك الإجراءات رسالة مهمة وموقفاً لا سابقة له أيقظ الأمم المتحدة الى مساوئ مواقفها. وبعضهم الآخر يعتبرها إجراءات تكتيكية عابرة وليست استراتيجية. المهم، ان الوقت حان الآن لصفحة جديدة مع الأمم المتحدة لأن الامتناع عن الانخراط سياسة خاطئة سيما ان السياسة الإيرانية متأهبة للانخراط وتسويق المواقف الإيرانية.
فمن الضروري للرياض فتح قنوات دائمة مع الأمانة العامة على اعلى المستويات. حسناً فعلت بقرارها الأخير تقنين المساعدات بقيمة 500 مليون دولار للعراق عبر الأمم المتحدة. فهذه خطوة بنّاءة. والآن، يجب إلحاق هذه الخطوة بخطوات أخرى على مستوى التطورات في المنطقة.
هذا الأسبوع، ربما يعلن بان كي مون اسم ومهمات الممثل الجديد لسورية الذي يحل مكان الأخضر الإبراهيمي. دمشق وموسكو تعملان على إزالة الشق العربي من مهمات الممثل المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. السفير الروسي فيتالي تشوركين يقول ان تلك هي نصيحة الأخضر الإبراهيمي. وبعض كبار مساعدي الأمين العام يعتقد ان انهاء الشق العربي من مهمات الممثل الجديد يفتح فرصة على مقاربة جديدة تحتاج تعاون دمشق وموسكو.
إذا وافق بان كي مون على تلك النصيحة وقرر إنهاء الشق العربي يكون ارتكب خطأً فادحاً ليس فقط بحق سورية وإنما أيضاً لجهة علاقة الأمم المتحدة بالدول العربية. والأرجح أنه لن يفعل لأنه يدرك تماماً ان ذلك سيخدم النظام في دمشق وحليفه في موسكو.
واشنطن، من جهتها، لا تريد ممثلاً بإرادة قوية ويعزم على مقاربة تفضح تلكؤها. وهي بذلك تتفق مع موسكو في الرغبة في شخصية تهادنية. لذلك مارس كلاهما «الفيتو» على رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفن رود خوفاً من عزمه على دفع مجلس الأمن الى تحمل مسؤولياته.
الأسماء التي شقت طريقها الى القائمة عديدة. والأهم، هو الولاية التي ستوكل الى الممثل الجديد. واضح ان عملية جنيف انتهت سيما ان الأخضر الإبراهيمي نفسها وصفها بأنها كانت «سطحية». المقاربة الجديدة يجب ألاّ تكون قائمة على تفاهمات «سطحية» أو ساذجة تفترض موافقة الأسد على التخلي عن السلطة أو تقاسمها مع المعارضة. المقاربة الجديدة يجب ألاّ تنطلق من الافتراض ان الرئيس السوري بشار الأسد بات «واقعاً» دائماً من الضروري الإقرار بدوامه. فالأسد ليس قادراً على توحيد الشعب السوري. والأسد لن يتمكن أبداً من أن يصبح ضامن الاستقرار في سورية. وعلى الأمم المتحدة أن تفكّر ملياً في ذلك قبل صياغة الولاية الموكلة الى الممثل الجديد.
المقاربة الجديدة يجب أن تأخذ في حسابها ان الموازين العسكرية على الأرض في صدد اعادة الفرز وأن هناك حاجة الآن الى عملية سياسية وطنية في سورية (كالتي ستحدث في العراق قريباً). عملية جنيف كانت عبارة عن «حوار سوري» بين النظام والمعارضة. فشلت لأن النظام لم يكن مستعداً للتخلي عن امتيازاته وسلطته ليتقاسم الحكم مع المعارضة. المقاربة الجديدة يجب أن تتبنى قاعدة الحوار الوطني بين مختلف الأقطاب والقطاعات السورية – السياسية والعسكرية – للتوصل الى عملية سياسية جديدة نوعياً.
مثل هذه المقاربة، إذا انطلقت بعزم دولي، يمكن لها أن تُطلق حديثاً إقليمياً جديداً من نوعه يرغم الدول الفاعلة على الانخراط فيه. إيران بالتأكيد ستقاوم مثل هذه المقاربة، وكذلك روسيا. فالمحور الذي يضمهما هو محور فلاديمير بوتين وقاسم سليماني وكلاهما ينظر الآن الى امتداد ذلك المحور عراقياً ليشمل نوري المالكي كما شمل بشار الأسد. هذا المحور سيقاوم المقاربة الجديدة. سيبيع الكلام المعسول، إنما سياسته باتت واضحة وهي عدم الاستغناء عن بشار الأسد تحت أي ظرف كان.
لذلك، عملياً ومنطقياً، أن المقاربة السياسية الجديدة تتطلب بالضرورة تغييراً ميدانياً في موازين القوى العسكرية على الأرض. وهذا ما يحدث الآن. فالانتصارات المرحلية وهمية. وهذا ما يجدر بالأمم المتحدة إدراكه وهي تصيغ خياراتها الإستراتيجية الممتدة في رعاية حوار وطني جدي يشمل العشائر ورجال الأعمال والأقليات، إلى حديث إقليمي يتضمن إيران شرط وضع ما تقوم به في سورية والعراق على الطاولة وليس إخفائه تحت الطاولة.
الحياة
سورية والعراق وأخطار التمزّق/ الياس حرفوش
لا يحتاج المرء إلى عناء كبير في التحليل ولا إلى بعد نظر ليدرك أن ما يواجهه العراق وسورية في الظرف الحاضر هو أخطر عملية تمزيق داخلي منذ قيام هذين البلدين ضمن حدودهما الحالية. صار السؤال عن الطريقة الأفضل لممارسة الحكم في دمشق وبغداد سؤالاً هامشياً. السؤال الأهم اليوم هو اذا كانت ما تزال هناك قدرة أو إمكان للمحافظة على التعدد الاجتماعي والطائفي الذي تميز به كيان الدولتين السورية والعراقية طوال السنوات السبعين الماضية. هل ما زال ممكناً لهذا «التعايش» او العيش تحت سقف بلد واحد ان يعود الى قيد الحياة بعد ان قضت عليه المذابح المتبادلة ومجازر السنوات الاخيرة التي تم ارتكابها من مختلف الاطراف؟
لا شك في أنه كان هناك فضل للسيدين مارك سايكس وفرنسوا بيكو في رسم الخرائط الحالية لدول المنطقة. ورغم الاعتراضات «العروبية» على عملية الرسم هذه، ورغم دعوات الوحدة التي اتخذت طابعاً شعبوياً وشاعرياً اكثر مما كانت دعوات جدية وواقعية، فان انقضاء السنين والمشاركة في هموم المواطنة وفوائدها تمكّن من ترسيخ حد مقبول من قناعات الانتماء الوطني، في سورية والعراق، كما في سواهما من دول المنطقة.
الوضع القائم اليوم يطرح أسئلة عميقة وحقيقية حول انتهاء صلاحية هذا الانتماء. يمكن الدخول في جدل طويل حول المسؤولية عن الوصول إلى هذا الوضع. هل هو الدور الذي لعبته إيران من خلال نفوذها المستجد بين الشيعة في سورية والعراق، وصولاً إلى لبنان والبحرين وسواهما؟ أم هو سوء الحكم والإدارة في دمشق وبغداد، سابقاً وحالياً، وتغليب مصلحة الطائفة، طائفة الرئيس، على مصالح الطوائف الاخرى وحقوقها ؟ أم أن مواجهة قمع النظام السوري هي السبب، إذ غذّى هذا القمع، إضافة إلى المجازر وأعمال القتل التي رافقته، مشاعر الحقد لدى الأكثرية السنّية، ثم تمددت هذه المشاعر عبر الحدود في مواجهة نظام نوري المالكي، واستثمرها أبو بكر البغدادي في مشروعه المشبوه لإزالة الحدود بين سورية والعراق؟
لكن، وبصرف النظر عن السبب، فإن الشعور السائد اليوم بين كثيرين من المحللين والمراقبين لأوضاع المنطقة هو أن مصير سورية والعراق كبلدين موحدين، ربما يكون قد تجاوز مسألة بقاء نوري المالكي وبشار الأسد في الحكم أو خروجهما منه. وإذا كان مسعود بارزاني قد بادر إلى إشهار الرغبة في الطلاق قبل سواه، فإن الواقع أن كثيرين تساورهم هذه الرغبة عندما تحين أمامهم أول فرصة للانفصال. هناك أزمة عميقة تواجه إمكان إعادة اللحمة بين السنّة والشيعة، وبين العرب والأكراد، وبين المسلمين والمسيحيين، ولا فائدة من إخفاء ذلك بملاحم الوحدة الوطنية وبقصائد التعايش ووحدة المصير.
من هنا، ربما كان الذين يبكون فوق ضريحي سايكس وبيكو، مثلما فعل نبيه بري ووليد جنبلاط، على حق في حسرتهما. كان لا بد للتخريب والتدمير اللذين لحقا بالبنية الوطنية طوال سنوات ما سمي بالاستقلال، أن يوصلا إلى المآسي الحالية. ليس عادياً أن يرتكب مواطن بحق مواطنه الآخر ما يرتكبه بعض أبناء الدول العربية بحق بعضهم الآخر من مذابح وأعمال صلب. وليس عادياً كذلك أن ترافق الحقد الطائفي المتبادل عمليات التهجير التي شملت طوائف ومناطق بكاملها، حتى أن خرائط التقسيم الطائفي أصبحت مرسومة فعلياً على الأرض قبل أن يتم تحديدها رسمياً في الدساتير.
الحياة
اتفاقية سايكس بيكو التي ننتج ما دونها!/ محمد قواص
منذ اللحظات الأولى للحراك الذي انفجر في درعا في سورية عام 2011، سال حبرٌ كثير «يبشّر» بسايكس بيكو جديدة في المنطقة. لم يستند هذا الاستشراف المغرور على معلومات أو معطيات، بل على ثابتة الكفر بالفعل المحليّ والاستئناس بفكرة الغرف السود والمصير المرسوم من الخارج. في ذلك من يذكّر بوحدوية المنطقة التي لم يمنع تحقيقها إلا مبضع متآمر أحال المنطقة بلداناً وأقطاراً.
نكتشفُ اليوم أن الثنائي سايكس وبيكو «أكرما» المنطقة بكيانات وتقسيمات كُتب لها الحياة منذ مئة عام، وأن أهل المنطقة لم يأتوا طوال هذا القرن بأحسن منها، لا بل أن العرب، لا سيما في الهلال الخصيب باتوا يحلمون بديمومة التركة السايكسبيكية، وهم يشهدون تصدعها واحتمال تفتتها وزوال خرائطها.
لم تتقصد بريطانيا وفرنسا بالتواطؤ مع روسيا القيصرية أن تُخرج، من خلال تقسيمات السير مايك ساكس وجورج بيكو، وثيقة مقدّسة يُحرم الكفر بها. فالوثيقة التي كشفتها الثورة البولشفية كانت تعالجُ حالة ظرفية فرضها انهيار الدولة العثمانية، بيّد أن أهل المنطقة الذين لم يُستشاروا بمآلاتهم، أجادوا تقديس خرائط الرجلين وأمعنوا في صونها، رغم أناشيدهم التي صمّت آذاننا عن الوحدة والأمة والرسالة.
كانت مصالح الغرب تقتضي تقسيم التركة العثمانية وفق ما تيسرّ، وبناء على تنافر أو تكامل مصالح دُولِهِ الكبرى. لم يشقّ الرجلان حدوداً داخل دولة واحدة قائمة، بل أعادوا، وفق تباينات، ترقية ولايات عثمانية إلى رتبة دول. وإذا ما فرض القدرُ السايكسبيكي ظلماً وإجحافاً طاول مدناً ومناطق وقوميات، فإن ذلك يبقى تقييماً نسبياً في ظل غياب تام لأي بدائل أخرى متوافرة أو تملك أن يدور نقاش حولها.
لم تتغير مصالحُ الغرب ولا شيء يوحي أنه يتآمر لمزيد من التقسيم في بلادنا. والأمر لا يعود لأخلاقية ونبل هابط على عواصم القرار الكبرى، بل لرتابة في التعامل مع كيانات العرب منذ زوال ما كان استعماراً أو انتداباً. وقد عملت واشنطن بدأب لبقاء السودان موحداً، أو على الأقل لم تأنس للتقسيم (بشهادة مسؤولين سودانيين)، ذلك أن التعاطي مع الكيانات الكبرى يبقى أقل تعقيداً منه مع تلك المتفتتة.
على أن احترام كيانات سايكس بيكو وتدعيم صمودها، كان يحتاج، على ما يبدو وربما في غفلة عن الرجلين، إلى رواج الديكتاتوريات على منوال ما نبت كالفطر بعد الاستقلالات. بات زوال الاستبداد سبباً مباشراً لانفجار مجتمعي داخلي، ذلك أن لحمتها الداخلية تشكّلت لأسباب غالبيتها قهري لا تعاقدي. وربما أن إرهاصات التقسيم التي تطل على العراق وسورية تسوقها حاجة لعقود اجتماعية جديدة تعيد تنظيم تعايش أهل المنطقة وفق قواعد يتدخلون لأول مرة في استنباطها.
في تداول المراقبين العرب هذه الأيام لما كشفته مجلة التايم الأميركية عن خرائط جديدة – قديمة لتقسيم العراق بامتدادات سورية كويتية سعودية، يجوز القبول بذلك الاحتمال طالما أن العراقيين (ربما لأسباب جيوبوليتيكية لا يتحملون وحدهم وزرها) عاجزون عن انتاح مشروع عراقي يقنع مكوّنات العراق. الأكراد يلوّحون بإعلان استقلالهم دون اعتراض تركي هذه المرة، فيما يوفّر الحدث الداعشي مبرراً متقدماً لإنشاء الكيانين السني والشيعي. داخل تلك الأعراض يدفعُ الغرب العراقيين لكتابة مصيرهم سواء من خلال الوحدة أو التقسيم، فلا يبدو أن دينامية دولية تحول دون الخياريّن.
انتظرت المنطقة مئة عام لتنتفضَ على مقدسات سايكس بيكو وتأتي بما هو أدنى منها. لكن الخروج من نمط جغرافي إلى آخر، وإن كان مصحوباً بغصّة نوستالجية، قد يكون تطوراً متقدماً ينظّم بشكل أصحّ تعايش المجتمعات ويشلّ نزوعها نحو التصادم، وقد يكون باعثاً لاندثار النزوع نحو الاستبداد لحكم النقائض. على أن تقدم احتمالات التقسيم قد تؤدي ربما، في الحالة العراقية على الأقل، إلى نضج حالة جامعة تعيد إنتاج النظام السياسي على قواعد مختلفة عن تلك التي تناسلت من واقعة الاحتلال عام 2003، وإن كان أمر ذلك ما زال عصيّاً في الوقت الراهن.
التخلص من السايكسبيكية ليس أمراً استثنائياً إذا ما قورن بتمارين التفكيك وإعادة التشكّل التي شهدها العالم في العقود الأخيرة. أتاح أنهيار جدار برلين عام 1989 أندماج الألمانيتين. لكن نفس الحدث لم يُعِد لألمانيا الموحدة الأراضي الشاسعة التي كانت قد اقتطعت منها وضمت إلى بولندا ضمن ما يسمى بخط أودر – نايسه. فكك الحدث يوغسلافيا بطريقة دموية أظهرت مستويات عالية من الحقد الداخلي المكبوت، فيما فكك نفس الحدث تشيكوسلوفاكيا بطريقة سلمية حضارية أسست لتعايش حضاري متقدم بين الكيانين.
بكلمة أخرى قد لا يدور النقاش في منطقتنا حول وجاهة التفكك ونجاعته، بل حول وسيلة الخروج من الكيانات التقليدية والدخول في أخرى. في ذلك أن نموذجيّ العراق وسورية لا يبشران إلا بالمخارج المأسوية على منوال انفصال باكتسان عن الهند. ربما قد يكون من الحكمة، وقد عزم أهل المنطقة على انفصال، إعادة استدعاء سايكس بيكو آخر يفرض بقوة القانون الدولي ربما، انتقالاً أقل دموية يجنب المنطقة كارثة أين منها كوارث اليوم.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني
الحياة
السياسة الأميركية جعلت إيران تُمسك بأوراق الحل في العراق وسوريا ولبنان/ اميل خوري
بات في الامكان القول: “فتش عن ايران في كل ما يجري في المنطقة” بعدما بدا ان كلمتها لا يعلو عليها كلام، وهي كلمة لا تُرد. ففي العراق تصر على أن يبقى نوري المالكي لولاية ثالثة على رأس الحكومة حتى وان استمرت الفوضى التي قد تقود الى التقسيم، وقد تعطل نصاب الجلسة بعد اكتماله للاتفاق على رئيس للحكومة وعلى رئيس لمجلس النواب وعلى رئيس للجمهورية، لان ايران تريد بقاء المالكي أو اختيار بديل منه يكون على صورته ومثاله. وفي سوريا أصرت ايران على بقاء الاسد في السلطة وان ينتخب لولاية ثالثة حتى لو عطل ذلك كل المساعي للتوصل الى حل سياسي واستمر القتال الى اجل غير معروف ودخل الأصوليون والارهابيون على خطه. وفي لبنان عطلت جلسات انتخاب رئيس للجمهورية فشغر منصب الرئاسة الاولى بعدما سهلت تشكيل حكومة من غالبية القوى السياسية الاساسية في البلاد استعدادا لانتقال صلاحيات الرئاسة اليها كما ينص الدستور. ويبدو حتى الآن ان ايران لن تؤمن النصاب لأي جلسة مخصصة لانتخاب الرئيس إلا اذا كان المرشح مقبولا منها. و”حزب الله” الذي يمثلها في لعبة التعطيل لا يرشح العماد ميشال عون للرئاسة منافسا للمرشح سمير جعجع بل يكتفي بالدعوة الى الاتفاق على مرشح توافق من دون ان يخطو اي خطوة في اتجاه التوصل الى هذا الاتفاق، ما يعني ان الحزب إذا لم يستطع ايصال من يريد الى سدة الرئاسة ويكون رئيسا يؤمن بالمقاومة، فان الحزب يترك عندئذ هذه الورقة لايران كي تستخدمها للضغط والمساومة في محادثاتها مع الولايات المتحدة الاميركية حول الملف النووي، وعندما تبدأ خطوة التقارب مع السعودية، اضافة الى ورقة الحل في سوريا التي تمسك بها ايران كما تمسك بورقة الحل في العراق وحتى في فلسطين واليمن وان استمرت الحروب فيها الى اجل غير مسمى وكانت اسرائيل هي المستفيدة من استمرارها.
ولا تمسك ايران بورقة رئاسة الجمهورية في لبنان فقط انما تمسك بورقة الحكومة التي انتقلت اليها صلاحيات الرئاسة بحيث تستطيع ان تفجر هذه الحكومة ساعة ترى ان لها مصلحة في ذلك، وهي تمسك أيضا بورقة الانتخابات النيابية بحيث تستطيع ان تحول دون اجرائها اذا لم يكن قانون اجرائها على قياس مرشحي “حزب الله” وحلفائه لضمان فوز أكثرية نيابية يكون لها الحكم كاملا وحدها ولا شريك لها فيه تطبيقا للنظام الديموقراطي الذي يصير عندئذ مقبولا بل مطلوبا وان في ظل الطائفية ولا تعود الديموقراطية التوافقية تصلح لمثل هذه النتيجة التي تسفر عن الانتخابات… وتمسك ايران ايضا بورقة التمديد أو عدم التمديد لمجلس النواب اذا تعذر الاتفاق على قانون جديد تجرى الانتخابات على أساسه. وهي الورقة التي تجعل ايران تحدث الفراغ الشامل في لبنان وهو فراغ يفتح الباب لعقد مؤتمر تأسيسي يعيد النظر في دستور الطائف على النحو الذي ينصف الطائفة الشيعية التي تشعر بالغبن في دستور الطائف كما كانت الطائفة السنية تشعر بالغبن في دستور ما قبل الطائف. وعندئذ تطرح التعديلات التي اقترحها الرئيس ميشال سليمان في خطابه الوداعي قبل مغادرته قصر بعبدا، ويطرح حليف الحزب العماد عون اقتراحه بانتخاب رئيس الجمهورية من الشعب على مرحلتين: الأولى مسيحية والثانية وطنية… اعتقادا منه ان الرئيس الماروني الذي يفوز فيها هو الرئيس القوي، لكنه ينسى انه يكون قويا بأصوات المسلمين وتحديدا الشيعة اذا ظل الوضع في لبنان على ما هو الآن، اي سلاح في يد طرف لبناني ولا سلاح في يد طرف آخر لتبقى الكلمة الفصل لمن يحمل السلاح وهو ما يشهده لبنان منذ العام 2005 الى اليوم تحت شعار المقاومة…
والسؤال المطروح هو: من الذي اعطى ايران كل هذه الاوراق كما أعطاها من قبل لسوريا حافظ الاسد؟
يقول وزير سابق مخضرم ان سياسة الولايات المتحدة الاميركية هي التي اوصلت المنطقة الى ما وصلت اليه اما عن قصد او عن غير قصد.
فقد انسحبت من العراق وتركت ايران تدخل اليه سياسيا وامنيا واقتصاديا فانتقل الحكم من سيطرة السنة الى سيطرة الشيعة، فأدى اختلال التوازن الى اشعال فتنة لا خروج منها الا بالاتفاق على حكومة وحدة وطنية والا كان التقسيم للتخلص من “داعش” وأخواتها. وعندما قامت الحرب في سوريا بين النظام وخصومه اكثرت اميركا لمواجهتها من التصريحات النارية المهددة باسقاط النظام من دون تقديم اي مساعدة للمعارضة، فكانت النتيجة ان بقي الاسد في الحكم ولاية ثالثة. وفي لبنان ما ان تخلص من الوصاية السورية حتى وقع تحت وصاية قوى 8 آذار حليفة سوريا. وها ان ايران تعطل مرة اخرى انتخاب رئيس لمدة غير معروفة والى ان يصير اتفاق على رئيس يرضي ايران من خلال الثنائي عون – نصرالله حتى وان دخل لبنان المجهول من باب الفراغ الشامل…
النهار
أوباما أفشل الرؤساء متى تستقيل؟/ راجح الخوري
كان يوم امس اسوأ ايام باراك اوباما الذي لم تعرف الولايات المتحدة في تاريخها الحديث على الاقل، رئيساً متردداً واستعراضياً مثله، وهو ما يدعو الكثيرين الى طرح تساؤل محق: متى يستقيل أوباما؟
ذات يوم كتب المفكر الاميركي جون تشاينبك: “عندنا أنظر الى مداخن البيت الابيض أحسب انه فبركة كبيرة للأوهام”، ولم يكتسب هذا الكلام معناه إلا مع باراك اوباما الذي وصل رافعاً شعار “قادرون على التغيير”، وقد تمكن فعلاً من التغيير، وها هو يجعل من الامبراطورية احدى جمهوريات الموز!
في يوم واحد أظهر استطلاع للرأي اجرته جامعة ” كوينبياك” الاميركية، ان اوباما اسوأ رئيس اميركي منذ الحرب العالمية الثانية، التي كانت مدخلاً للولايات المتحدة كلاعب اول على الساحة الدولية، وفي اليوم عينه اعلن نائب امين مجلس الامن القومي الروسي يفغيني لوفياكوف” ان هيمنة اميركا على الساحة الدولية شارفت على النهاية… وعليها ان تجلس الى طاولة المفاوضات حول نتائج الحرب الباردة”!
وجاء ذلك في موازاة تصريح طوني بلير “ان نجاح داعش وتوسّعها في الاراضي العراقية سببه عدم تدخل اميركا والغرب في سوريا…” ولا أغالي اذا اعتبرت أن هذا الكلام يأتي تأكيداً لعنوان مقالي امس “ان داعش ولدت من رحم اوباما”.
وعندما قال بلير ان فشل الغرب، اي اميركا وبريطانيا، سببه عدم التحرك عسكرياً وإطلاق حرب ثانية لإنهاء الصراع ووقف النزيف في سوريا، فانه صادف اعلان منظمات سورية من “المعارضة المعتدلة” كما يسميها اوباما، انها ستلقي السلاح لأنها لم تلق من الاسلحة ما يساعدها على مواجهة “داعش” وحليفها في الميدان، اي النظام السوري!
تأكيداً لهذا الواقع الفاضح الذي طالما دفعني الى تسمية باراك “اوماما” (مع احترامي الشديد طبعاً لكل الامهات والنساء في الدنيا)، فقد اكّد بن رودز نائب مستشارة الامن القومي الاميركي، ان النظام السوري هو المسؤول عن ظهور تنظيم “داعش”، وان المعارضة السورية تقاتل في الوقت عينه النظام و”داعش”، وأضاف: “ان مصدر التهديد الارهابي ليس “داعش” بل النظام السوري الذي خلق ازمة انسانية أوجدت داعش… لكن الواضح ان تمادي اوباما في التعامي الأحمق عن هذه الازمة الكارثية هو الذي عمّق الازمة وخلق داعش”!
ارقام الاستطلاع وجدت ان ٣٣ ٪ يرون ان اوباما هو اسوأ رئيس في خلال ٧٠ عاماً، وان اميركا كانت لتكون افضل لو فاز ميت رومني… وهذا ليس غريباً لأن اوباما هو صانع الفشل المعيب في سوريا والعراق واليمن ومصر وليبيا وتونس واوكرانيا، وفي خذلانه امام بوتين، وفي ممالأته السخيفة لإيران، وفي جبنه في فلسطين حيث كان خضوعه لنتنياهو فاضحاً!
النهار
أسبوع سوريالي/ هشام ملحم
بات من الصعب استيعاب التطورات المتلاحقة في العراق وسوريا ناهيك بتفسيرها عقلانيا او فهم مضاعفاتها ومعانيها البعيدة المدى. المقاييس التي تستخدم عادة في التحليلات والدراسات السياسية والاجتماعية، مثل العوامل الاقتصادية ومعدلات الدخل وموازين القوى والمصالح القومية وغيرها من العوامل كالهويات والانتماءات، تبدو غير كافية لتفسير تفكك دولتين مثل سوريا والعراق، وبروز قوى مثل “داعش” (او ما يسمى الدولة الاسلامية) قادرة، ولو موقتاً، على محو حدود قائمة منذ قرن، أي حدود سايكس-بيكو بين الدولتين.
تطورات الاسبوع الماضي في العراق تبدو سوريالية بامتياز. نظام نوري المالكي الهش يحظى الان بالدعم العسكري الاميركي والروسي والايراني والسوري. ورأينا في الوقت عينه وصول خبراء ومستشارين مع أسلحتهم وطائراتهم من أميركا وروسيا وايران. ويجب ألا نستغرب اذا قيل لنا إن الطائرات الاميركية من دون طيار تحلق في اجواء العراق، مع طائرات مماثلة تنطلق من ايران. وخلال أيام معدودة، رأينا الطائرات الاسرائيلية تقصف مواقع في سوريا، والطائرات السورية تقصف مواقع في العراق. طبعاً الرئيس الاسد لم يعلق على القصف الاسرائيلي، لكن المالكي شكر الاسد على قصفه. الولايات المتحدة اعترضت على القصف السوري، وحضت ايران على ان لا يكون تدخلها في العراق انطلاقاً من اعتبارات مذهبية. ايران طبعاً رفضت التدخل الاميركي المحدود في العراق. وزارة الخارجية الاميركية اعترفت بان واشنطن تشاطر ايران رأيها في خطر داعش، لكن هذا لا يعني بالطبع تطابق “المصالح الاستراتيجية”.
التطورات الميدانية كشفت عن ائتلاف موقت بين “داعش” وفلول انصار صدام حسين برئاسة عزت الدوري الذي أسس “جيش الطريقة النقشبندية”، اضافة الى بعض القبائل السنيةّ التي تشعر بالتهميش والتمييز المذهبي الذي يمارسه نظام المالكي. هذا ائتلاف مبني على التوتر والتجاذب ولن يستمر طويلاً وخصوصاً بسبب الممارسات البدائية والدموية لـ”داعش”.
الرئيس الاسد الذي استفاد عسكرياً من الدور المدمر لـ”داعش” في سوريا، حين تركها تقاتل الفصائل السورية المعارضة الاخرى من اسلامية وغير اسلامية، يسعى بخبث الى وضع نفسه في خدمة الائتلاف المضاد لـ”داعش” والتقرب من الاميركيين. المفارقة في الرد الاميركي على تحرك الاسد هو ان البيت الابيض استهجن العنف الذي مارسه الرئيس السوري ضد شعبه لأن ذلك أوجد المناخ الملائم الذي سمح لـ”داعش” بأن تتوسع قبل ان تغزو العراق. وفات الناطق باسم البيت الأبيض انه كان يرد من غير ان يدرك ما قاله منتقدو الرئيس أوباما في السنتين الأخيرتين، من ان تردده او رفضه التدخل في النزاع السوري أو تسليح المعارضة المعتدلة ساهم على نحو غير مباشر في تقوية “داعش”.
كان بالفعل اسبوعاً سوريالياً بامتياز.
النهار

 

موسكو والمشهد “العراقي ـ الداعشي”/ هاني شادي
الاتصال الهاتفي بين فلاديمير بوتين ونوري المالكي في 20 حزيران 2014، أوضح بجلاء أن موسكو لن تقف على مسافة بعيدة مما يحدث في العراق، وتمدُد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). فقد أكد بوتين للمالكي أثناء هذا الاتصال الهاتفي «دعم روسيا الكامل لجهود الحكومة العراقية الرامية إلى تحرير أراضي العراق من الإرهابيين بأسرع وقت ممكن». وتمخض هذا الاتصال عن الاتفاق «العاجل» على بيع طائرات حربية هجومية عاملة في قوام سلاح الجو الروسي حاليا من نوع «سوخوي ـ 25» إلى حكومة بغداد. وتؤكد مصادر روسية أن أول عشر طائرات حربية من تلك الطائرات قد وصلت إلى العراق بالفعل. وهو ما أعلن عنه المالكي نفسه، مشيرا إلى أن «هذه الطائرات ستساعد القوات الحكومية في التغلب على المسلحين المتطرفين». والأمر لم يقتصر على طائرات «سوخوي» وحسب، بل أُعلن أيضا عن تسليم موسكو للمالكي مروحيات مقاتلة من طرازي «مي-35» و«مي-28» أيضا. وتقدر قيمة هذا العقد «العاجل»، حسب بعض المصادر الروسية والغربية، بـنحو 365 مليون يورو.
ولكن هل يعني ذلك أن موسكو باتت من الأطراف المشاركة مباشرة في المشهد «العراقي ـ الداعشي»؟ لا تخفي موسكو انزعاجها من تمدُد الجماعات الإسلامية المتطرفة، وما تُعلنه من «خلافة إسلامية» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهذا يرجع لما لذلك من تأثير سلبي محتمل على شمال القوقاز الروسي خاصة، وعلى بعض المسلمين الروس عامة. فليس سرا أن الفكر الديني المتطرف المدعوم بتنظيمات مسلحة تغلغل، ولا يزال، بقوة في داغستان وتتارستان، على سبيل المثال لا الحصر. ولا يمكن لموسكو أن تنسى حربين طاحنتين مع الشيشان في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة. ويمكن تعليل السرعة «التاريخية» لتنفيذ الصفقة مع رئيس الحكومة العراقية بالتدهور الحاد للوضع داخل العراق الناجم عن الهجوم «الناجح» لمقاتلي «داعش»، الذين يحاولون الاقتراب من مشارف بغداد واحتلال عدد من منشآت النفط. كما أن لجوء المالكي إلى الاستنجاد بموسكو يعود إلى «خلافاته» مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث اتهم واشنطن عمليا بهزيمة جيشه نتيجة المماطلة في توريد مقاتلات «F- 16». وبالطبع، لا يمكن هنا تجاهل مصالح روسيا في العراق، ومنها ما يتعلق بشركة «لوك أويل» النفطية الروسية التي تعمل في حقل «غرب القرنة»، وصفقة السلاح الموقعة بين موسكو وبغداد نهاية 2012، والتي تقدر بـأكثر من 4,3 مليارات دولار. ولا ينبغي أيضا تجاهل أن الروس، وهم يقدمون الدعم العسكري لحكومة بغداد، تتركز عيونهم على مصير دمشق.
من التصريحات الرسمية الروسية بشأن العراق خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عامة، يمكن استنتاج أن موسكو لن تبقى بعيدة عن أحداث العراق. ولكن مدى «انغماس» روسيا في هذه الأحداث غير واضح حاليا. فقد نفت وزارة الدفاع الروسية إرسال طيارين روس إلى العراق لقيادة طائرات «سوخوي ـ 25»، ولكنها أكدت وجود فنيين عسكريين روس في الأراضي العراقية حسب اتفاقيات مع حكومة بغداد. ويرى روسلان بوخوف، مدير مركز تحليل الاستراتيجيات بموسكو أنه ليس في الوقت الراهن لدى الجيش العراقي طيارون مدربون يستطيعون قيادة طائرات «سوخوي»، ولم يستبعد استخدام طيارين سوريين أو إيرانيين أو التعاقد مع طيارين من دول ثالثة.
ولكن الروس ليسوا وحدهم من سيقرر مستقبل الأحداث في العراق، فهناك إيران والسعودية والولايات المتحدة الأميركية وتركيا وإسرائيل. لقد سارع نائب وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، إلى زيارة موسكو في الأول من الشهر الجاري وبحث الملفين العراقي والسوري. وإمعانا في إظهار التقارب الإيراني الروسي في المواقف، صرح عبد اللهيان في العاصمة الروسية بأن «واشنطن ترغب في خلق أوكرانيا جديدة في العراق». وبالطبع، يمكن ان تتفاهم موسكو وطهران على خطوات عسكرية معينة لدعم بغداد في مواجهة «داعش». ولكن المأزق الحقيقي، هنا، يتمثل في كيفية إخراج العراق، والمالكي شخصيا، من المأزق السياسي الراهن. كما أن «تعاون المضطرين» بين موسكو وواشنطن في العراق جائز أيضا، انطلاقا من مواجهة «الخطر المشترك» للجماعات الإرهابية. وذلك برغم تحميل موسكو، عن حق، مسؤولية ما يجري في العراق إلى السياسة الأميركية منذ غزو العام 2003، وبرغم الخلافات مع واشنطن بشأن أوكرانيا. ومثال تعاون البلدين في أفغانستان، لخير دليل على هذه الإمكانية في العراق أيضا.
وفي ما يتعلق بالموقف الإسرائيلي الأخير الداعم لاستقلال «كردستان العراق»، فإننا نعتقد أن موسكو لن توافق عليه، برغم علاقاتها التاريخية الجيدة مع أكراد العراق عامة. وفي غالب الظن، لن تقبل روسيا أيضا بموقف من يدعو إلى «خلع» المالكي، ولكنها تقبل بتشكيل حكومة ائتلافية جديدة يتمثل فيها «السنة والشيعة». فقد حذر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في تصريحاته الأخيرة «من مغبة انهيار العراق، كما انهارت ليبيا أو كما يرغب البعض بانهيار سوريا». وشدد الوزير الروسي على «أن ذلك سيؤدي إلى انفجار المنطقة، ليبقى عدم الاستقرار علامة مميزة لها على مدى سنوات طويلة، ومحذرا من أن هذا سيمس دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا والدول القريبة الأخرى أيضا». وتدعو موسكو حاليا، على لسان لافروف، الى قيام الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بالبحث عن طرق للمحافظة على وحدة أراضي العراق. وتطرح مشاركة كل الدول المجاورة للعراق، بما في ذلك سوريا، في هذه العملية. وهذا قد يعني، في ما يعني، البحث عن اتفاق دولي ـ إقليمي لـ«هندسة» الترتيبات المستقبلية في المنطقة.
السفير

 

تأثير الخرائط السحري.. خريطة “داعش” مثالاً/ مأمون الحاج
تحوّلت الخريطة التي نشرها “داعش” لـ”دولته” بعد دخوله الموصل، من خبر آني، إلى خلفية مستمرة لمعظم أخبار “دولة الخلافة”. يلاحظ متتبع قناتي “العربية” و”الجزيرة” أنّ الخريطة المذكورة تتكرَّر في معظم التقارير المعدّة عن مستجدات “داعش”، وكذلك الأمر، وإن بنسبة أقل، في تقارير “فرانس 24″، و”بي بي سي”، و”سكاي نيوز عربية”. وذلك ما يشير إلى أهمية هذه “الخريطة” في إيصال الرسالة المطلوبة من جهة، وإلى وجود توافق ضمني على تلك الرسالة بين هذه المنابر، من جهة أخرى.. فما هي تلك الرسالة، ولماذا تستخدم «الخريطة» حاملاً أساسياً لها؟
تطورت عملية استخدام الخرائط في نشرات الأخبار خلال السنوات القليلة الماضية بشكل هائل مستفيدة من التطور التقني الحاصل، ابتداءً من الخرائط المستخدمة في نشرات أخبار الطقس، مروراً بخرائط «خطوط التماس» والاشتباكات الميدانية و«الطائفية» باستخدام تقنيات 3D، ووصولاً إلى خريطة دولة «داعش» التي تمثل نقلة نوعية في استخدام الخرائط إعلامياً.
يرد المتخصصون في دراسة تأثير وسائل الإعلام، قدرة الخرائط الهائلة على إعادة صوغ وعي المشاهد إلى ثلاثة عوامل أساسية: الأول، هو أن تلك الخرائط تقدم إمكان تبسيط المعلومات والتحليل السياسي المعقد وتكثيفها ضمن «صورة» واحدة سهلة الحفظ، وتتناسب هذه الصورة مع «الفهم» الموجه الذي تريد وسائل الإعلام زرعه في وعي المتلقي. العامل الثاني، هو المتعة المصحوبة بالإيهام، فألوان الخرائط وطريقة حركة عناصرها وخاصة باستخدام التقنيات الثلاثيّة الأبعاد، تشابه إلى حد بعيد الألعاب الالكترونية التي مثلت لأجيال كاملة الصلة الأساسية بالتكنولوجيا وبالتطور. أما العامل الثالث والأهم، فهو «قدسية العلم»، إذ إنّ عملية رسم الخرائط وتثبيت تفاصيلها تنتمي في نهاية المطاف إلى حقل علمي محدّد، وبما أنّ الأغلبية العظمى من المشاهدين لا تتوفر على المستوى العلمي المطلوب لا في الجغرافيا ولا في غيرها، فإنّ ما تقدمه هذه الخرائط يتحول في وعيها (باعتباره علماً) إلى مسلمات إيمانية غير قابلة للطعن. بالنتيجة، فإنّ للخرائط دورا بارزا ومهمّا في إيصال الشحنة والفكرة المطلوبة، وخير مثال على ذلك خرائط صفوت الزيات على “الجزيرة”. خرائط ملونة «دقيقة»، تمشي فوقها مجسمات الدبابات والطائرات والجنود، تظهر توزع «قوات الأسد» مقابل توزع «الجيش الحر» والفصائل الأخرى، وتظهر سير العمليات وتتنبأ (وهذا الأهم) بسيرها اللاحق.. في تلك الخرائط كان يجري تحريف الحقائق الميدانية بشكل كبير ومستمر، بناء على سياسة القناة، ومع ذلك فإنّ تحليلات الزيات (وبالأحرى خرائطه) استمرت لفترة طويلة كجزء أساسي من النقاش الشعبي العام في الشارع السوري باعتبارها «مستنداً» و«وثيقة» تثبت وجهة نظر محددة!
تحمل خريطة «داعش» هي الأخرى رسالة واضحة المعالم، فهي باتساعها من جهة (وصلت مساحتها إلى حوالي 175 ألف كيلومتر مربع، وهذا أقل بقليل من مساحة سوريا كاملةً)، وبإلغاء خصوصيات مناطقها المختلفة من جهة أخرى (تثبت دراسات متعددة أنّ كتلة “داعش” ضمن المقاتلين الذين يشغلون المساحة المذكورة لا تتجاوز 10 في المئة، في حين يتوزع الباقون بين النقشبندية/البعثية وقوات العشائر)، إنما تستكمل عملية ترهيب الناس، أي تستكمل رسالة “داعش” ووظيفتها، وتستكمل تفريق الناس ضمن المنطقة على أساس طائفي. كما أنها تقدم مادةً دسمة للجمهور الغربي تسمح بتعزيز انتشار التيارات المناصرة للحرب، وتخفيف الضغوط الداخلية عليها، بل قمع تلك الضغوط.
بالطريقة نفسها، تحذف “العربية” و”الجزيرة” لواء اسكندرون من خريطة سوريا، لتلغي واقع احتلاله، وتتجرأ بين الفينة والأخرى على حذف الجولان السوري المحتل أيضاً، وتلّون خرائط العراق ولبنان وفقاً لتوزع الطوائف.. الخ.. هكذا تساهم الخرائط في خلق واقع التقسيم، وفي تعزيز قوى الإرهاب وتحويلها في أذهان الناس إلى وحش كاسر لا أمل في مقاومته..

 

تفتيت المفتت في “سايكس-بيكو”/ أسامة أبو ارشيد
اهتم كثيرٌ من الإعلام الغربي بسيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) على الموصل، ومدن أخرى في الشمال والغرب العراقي، وإعلان التنظيم، بعد ذلك، ما وصفها بـ”الخلافة الإسلامية” من حلب في سورية إلى ديالى في العراق، من زاوية أن في ذلك “محوا” لخطوط التقسيم الشهير للمشرق العربي الذي تمّ بناء على اتفاقية سايكس-بيكو.
وتلك الاتفاقية هي ذلك التفاهم السري المشؤوم بين القوتين الاستعماريتين البائدتين، بريطانيا وفرنسا، عام 1916، على تقاسم الهلال العربي الخصيب بينهما، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ودخولها في طور الأفول. ومنذ ذلك التاريخ، وبعد تعديلات طفيفة، أدخلت على نص الاتفاق الأصلي في السنوات التالية، فُرضت خريطة وحدود جغرافية وهمية ومفتعلة على منطقةٍ، عرفت بتجانسها الجغرافي والبشري تاريخياً، وشظيت على أساسها قبائل وعشائر واحدة، وزرعت فيها ألغام حدودية ومذهبية وعرقية، قابلة للانفجار في أية لحظة.
ولكن، حتى ذلك التفتيت المشؤوم يبدو، اليوم، في طور تفتيت آخر، وبشكلٍ قد يغير خريطة بلدانٍ كثيرة في المشرق العربي، كما نعرفها اليوم. ومن ثمَّ يبدو الحديث عن “محو” تنظيم “داعش” تلك الحدود الوهمية نوعاً من المبالغة. فما يجري عملياً، اليوم، هو إعادة رسم خرائط في المنطقة، وتشظيتها فوق ما هي متشظية. ويكفي أن ندلل على ذلك بتوجه أكراد العراق إلى الاستقلال كلياً عن العراق، خصوصاً بعد سيطرتهم، منتصف الشهر الماضي، على مدينة كركوك الغنية بالنفط، مستفيدين، في ذلك، من انهيار قوات الجيش والأمن العراقيين أمام تقدم ثوار العشائر السنية، المتحالفين مع “داعش”. المثير هنا أن كركوك لم تكن يوماً ضمن ما يطلق عليه بـ”الإقليم الكردي”، على الرغم من كل مزاعم الأكراد.
قد يكون العراق بوابة التقسيم والتشظية في المنطقة. فمنذ الغزو الأميركي عام 2003، وفرض معادلةٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ فيه، ومن ثمَّ تفجر الصراع على أساسٍ من خطوط هذه المعادلة، والحديث لا يتوقف عن ضرورة تقسيم العراق إلى دويلاتٍ ثلاث: شيعية وسنية وكردية. نائب الرئيس الأميركي الحالي، جوزيف بايدن، كان واحداً ممن دعوا عام 2006 إلى تقسيم العراق على أساسٍ من هذه الفواصل العرقية والمذهبية التي دشنها العدوان الأميركي. حينها، كان بايدن عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي.
اليوم، تدخل إسرائيل على الخط، وهي الخنجر الذي غرز أصلاً في خاصرة العالم العربي، لضمان بقائه متشظياً، ضاغطة على الولايات المتحدة لقبول استقلال “إقليم كردستان” عن العراق. فهل هي محض مصادفة أن يتحدث بهذا اللسان، الشهر الماضي، كل من رئيس الدولة العبرية، شمعون بيريز، في لقائه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في واشنطن، ورئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، في محاضرة له في جامعة تل أبيب، ووزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، خلال لقائه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في باريس؟
“ثمة من يطرح أميركياً أن حدود سايكس-بيكو هي من مخلفات قوتين استعماريتين آفلتين في المنطقة العربية، وأن هذه الحدود ليست بالضرورة الخيار الأميركي، القوة الإمبريالية الحالية الوارثة للنفوذين الاستعماريين السابقين في منطقتنا”
لا أظن أن أحداً يصدّق أن هذه محض مصادفة، ولا أظن أن أحداً يشك في أن من مصلحة إسرائيل أن ترى مزيداً من التمزق في المنطقة العربية فوق ما هي ممزقة.
ولكن العراق ليس وحده من يقف على أعتاب التقسيم والشرذمة، فهناك سورية أيضاً. فسورية التي تحولت ساحتها من ثورةٍ شعبيةٍ ضد نظام قمعي إلى ساحة حربٍ، بالوكالة، إقليمياً ودولياً، تشظى شعبها إلى شعوب. فثمة السنة، وهم الأغلبية المقموعة، وثمة العلويون، وهم الأقلية الحاكمة، وهناك الأكراد الذين عاشوا تحت نظام البعث على الهامش. وفوق هذا وذاك، ثمة أقليات مسيحية وعرقية أخرى، وإنْ بنسبٍ قليلة.
إجرام النظام ورفضه مطالب الإصلاح الشعبية قاد إلى انقسام المجتمع السوري، مذهبياً وعرقياً وجغرافياً. وساهم تواطؤ كثيرين من العرب والغرب في عدم دعم الثورة السورية بما تحتاجه لهزيمة نظامٍ، جرد آلته العسكرية لسحق شعبه، ساهم في إيجاد حالة من الاستنزاف، طويل الأمد، لكل من النظام والثورة، وهو ما ساعد في تعميق الشرخ المجتمعي أكثر فأكثر. وطبعاً، ساهمت سياسات إيران الطائفية التخريبية في سورية، كما في العراق من قبل وحالياً، وحلفاؤها من الشيعة، وتحديداً في حزب الله اللبناني، في استثارة شرخ مذهبي آخر في جسد الأمة العربية والمسلمة.
وجراء ذلك، كثيراً ما طرحت سيناريوهات “للحل” في سورية، قائمة على أساس دولة علوية في الساحل السوري، وسنية عربية في الوسط، وكردية في الشمال الشرقي.
نعم، نبرة حديث تفتيت المنطقة العربية على أسس عرقية ومذهبية وطائفية تتعالى منذ الغزو الأميركي للعراق، وهو لا يستثني، حتى الحليفين الأميركيين في السعودية ومصر. فثمة من يطرح أميركياً أن حدود سايكس-بيكو هي من مخلفات قوتين استعماريتين آفلتين في المنطقة العربية، وأن هذه الحدود ليست بالضرورة الخيار الأميركي، القوة الإمبريالية الحالية الوارثة للنفوذين الاستعماريين السابقين في منطقتنا. ومن ثمَّ، إذا كان التقسيم قد وقع في السودان، بعد سلخ جنوبه عنه، وربما يكون هناك مزيد في الطريق، وإذا كانت ليبيا تعيش هواجس تشظية هي الأخرى، وكذلك المغرب واليمن.. إلخ، فما الذي يمنع من إعادة رسم الخرائط، كلها أو جلِّها، ولكن أميركياً هذه المرة!؟
إننا قد نكون نشهد تحقق “نبوءة” وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كوندوليزا رايس، عن “الفوضى الخلاقة” في المنطقة. لكن هذه “النبوءة” المدمرة تتحقق بأيدي بعضنا، خصوصاً من الأنظمة القمعية التي فتحت الباب مشراعاً للتدخل الخارجي في شؤون منطقتنا. فالانقلاب على إرادة الشعوب، وغياب شرعية الحكم الشعبية، قاد تلك الأنظمة إلى البحث عن “شرعية” أجنبية، ولكن هذه “الشرعية” لا تأتي من دون ثمن. وها نحن، اليوم، نرى وجهاً من أوجه هذا الثمن الباهظ.
أخشى ما أخشاه أن يتحول المفتت في سايكس-بيكو، اليوم، إلى رثائية بعد التفتيت القادم، لا قدر الله. حينها، لن يكون في مقدور أجيال العرب القادمة أن تفهم ذلك النشيد العربي الذي دوماً ما تغنينا به صغارا:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدان ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فربما لن تكون بغداد، حينها، عاصمة للعراق كما نعرفه اليوم، وكذلك دمشق عاصمة لسورية كما نعرفها اليوم، وقس على ذلك. أتمنى أن أكون مخطئاً، ولكن المستقبل لا يُبنى بالتمنيات بقدر ما أنه ينهض بالعمل والاستجابة للتحدي. فهل نستوعب المعادلة، ونستبق الفوضى العارمة ونمنعها قبل وقوعها؟ كلنا يتمنى ذلك، ولكن، مرة أخرى، التمني وحده لن يجدي.
العربي الجديد
ملوك الطوائف قادمون/ ماجد عبد الهادي
لم أستسغ يوماً قراءة، أو سماع، أو مشاهدة شيء من كل هذه الهجمات على الشيعة، أو على العلويين، في مواقع الإعلام الاجتماعي، وفي صحفٍ وقنواتٍ تلفزيونية تتبنى خطاباً سنيّاً مذهبياً متطرفاً.
ولطالما كنت مقتنعاً، وما أزال، بأن الشكل المذهبي للصراع الراهن في العراق، وإلى حد ما في سورية، ليس إلا واجهة صممتها طهران، ونفذتها، بالتعاون الضمني، أو المباشر، مع عواصم أخرى في المنطقة والعالم، ليتوارى خلفها الجوهر الاستعماري للسياسة الإيرانية (الفارسية) حيال البلدان العربية، ولتُغرق شعوب ما تسمى دول الطوق حول إسرائيل بحروبٍ دينية طائفية، وعرقية، يجعلها لا تتذكّر فلسطين، إنْ تذكرت، إلا في المناسبات السنوية لضياعها، وبفعلٍ لا يتجاوز الخطابة الجوفاء.
ما الذي يمكن أن نجنيه، أنا أو أنت، سنياً كنت أو شيعياً، حين نستأنف صراعا سياسياً على السلطة، كان قد شرخ الإسلام، وشق صفوف المسلمين، وأراق بحوراً من دمائهم، ثم توقف قبل أكثر من ألف سنة؟
هو سؤال، تجيب عليه الأحداث المأساوية المتلاحقة، في سورية والعراق، حيث برزت تنظيمات، أو قل عصابات، ترفع شعاراتٍ مذهبية متطرفة، بينما هي مجهولة الهوية والتكوين والأهداف، لتقدم المسلمين السنّة إلى العالم، بوصفهم قتلة، وقاطعي رؤوس، ينحدرون من العصور الوسطى. في حين يظهر المسلمون الشيعة، على الجانب الآخر، من ميدان الحرب المستعرة، رافعين شعارات الذود عن مقاماتٍ وأضرحة دينية، لم يمسّها أحد بسوء، على مدى مئات السنين السالفة، وليقاتلوا بشدة، في حقيقة الأمر، دفاعاً عن أنظمة حكم، لا يجمعها إلا الاستبداد، والفساد، والولاء لإيران.
اللعبة الجهنمية، هنا، أو المؤامرة، إن شئتم، استدعت من صانعيها، وفق الذي رأيناه ونراه رأي العين، تسليط أضواء العالم على جرائم تنظيماتٍ، توصف بالتكفيرية، والإرهابية، مثل داعش والنصرة، في مقابل غض الطرف عن تنظيماتٍ، تكفيريةٍ أيضاً، ولا تقل إرهاباً، كعصائب أهل الحق، ومجموعات أبي الفضل العباس، ناهيك عن حزب الله.
وفي ظني، كما في ظن كثيرين سواي، أن أولئك لا يمثلون السنّة، وهؤلاء لا يمثلون الشيعة. عشت عقوداً من عمري في بيئة سنيّة، لم أسمع خلالها كلمة مسيئة للشيعة، وتعرفت خلال سنوات إقامتي الطويلة في سورية إلى شبانٍ علويين، عارضوا نظام حافظ الأسد، ورزحوا في سجونه سنين طويلة، وأتيح لي أن أقضي ردحاً من الزمن في العراق، وأن أدخل منذ نحو عشرة أعوام، إلى سراديب وبرانيات الحوزة العلمية في النجف، وأمضيت هناك أسابيع طويلة في إعداد فيلم وثائقي، التقيت من أجله، وتحاورت، مع علماء دين، وفقهاء شيعة، وطلابا حوزويين، يتمسكون بعروبتهم، ووطنيتهم العراقية، قدر تمسكهم، بدينهم، ولا يدينون لإيران بأي ولاء، بل إن كثيرين منهم كانوا يتحسبون مبكراً من أطماعها التوسعية في المنطقة.
ولعل الخلاف الذي طفا على السطح، أخيراً، بين المرجع الشيعي محمود الحسني الصرخي، والمراجع الأخرى، في النجف وقم، جاء ليؤكد وجود قاسمٍ مشترك بين طيفٍ واسع من أتباع المذهبين الإسلاميين، مفاده أن إيران هي بيت الداء، فالرجل الذي يتعرض، الآن، وأتباعه، ومقلدوه، لحملة قمع شعواء، وقف علناً ضد فتوى المرجع علي السيستاني بالتطوع للقتال إلى جانب قوات نوري المالكي، وحذّر من الفتنة الطائفية، إن استمرت ممارسات الحكومة على حالها، نحو السنة، كما عاب على من يأخذون على القوى السنية تحالفها مع تنظيم داعش، بأنهم كانوا قد تحالفوا مع “الشيطان الأكبر”، وساعدوه على احتلال العراق.
لا أمل كبيراً، مع ذلك، في أن ينتصر صوت العقل لدى أتباع كلا المذهبين، ولا فرصة، أيضاً، في أن ينتصر جنون التطرف هنا على رديفه هناك، أو العكس، ولن يحسم أولئك، أو هؤلاء، في زمن الحروب الإلكترونية، ما عجز أسلافهم عن حسمه، قبل أكثر من ألف سنة، لكنهم قد ينجحون في تقسيم هذه المنطقة إلى ممالك طائفية متصارعة، تدفع الجزية لملك “قشتالة الجديدة” القابع في طهران، وربما في تل أبيب.
بعد إعلان “دولة الخلافة” المثيرة للضحك والبكاء في آنٍ معاً، علينا أن ننتظر مستقبلاً قريباً، لا تكون فيه إسرائيل الدولة الوحيدة القائمة على أساس ديني، وإنما تجاورها ممالك سنية، وشيعية وعلوية، ودرزية، ومسيحية، قوية على شعوبها، مستسلمة أمام أعدائها، حتى تستيقظ هذه الأمة، ويقيض الله لها قائداً مثل يوسف بن تاشفين الذي حارب قشتالة، وانتصر عليها، وأنهى حقبة ملوك الطوائف في الأندلس.
العربي الجديد
كوابيس التقسيم/ ساطع نور الدين
لم يوقظ انقلاب “داعش” في العراق، وقبله في سوريا، أيا من احلام التقسيم اللبنانية القديمة، وربما لن يوقظها ابدا. اما الكوابيس فهي شأن آخر، وهي تراود مختلف الطوائف التي تشعر الان أن حمم البركان المتفجر خلف جبال لبنان الشرقية ستحرق الديموغرافيا اللبنانية الحساسة.. إن لم تكن قد أحرقتها بالفعل.
“داعش” هو مجرد فتيل اشعل الجمر الكامن تحت الرماد. احتل العناوين الرئيسية، لكنه، وبرغم امتلاكه جيشا مصغرا وتمتعه بعصبية استثنائية وقدرة مالية، لن يتحول الى مكون جوهري ، ثابت ودائم، من مكونات الهلال الخصيب. هو سقط بالفعل عندما سارع الى اعلان قيام دولة الخلافة وعندما نصب زعيمه ابو بكر البغدادي خليفة للمسلمين. عندها صار مادة للتندر. ولن يطول الوقت حتى يتهاوى ذلك البنيان الوهمي، لتعود الامور الى نصابها الطبيعي.
اعلان الخلافة برهن ان “داعش” مهتم بصورته في الاعلام اكثر من صورته في الواقع. وهو بذلك قدم تسجيلا جديدا لا يختلف في العمق عن التسجيلات التي صنعت شهرته ومجده: قطع الرؤوس وجز الاعناق واخيرا صلب المحكومين. الامر هو كناية عن تتويج لعملية تقديم اوراق اعتماده الى الجمهور، على طريقته الأثيرة، التي لا تختلف في شيء عن اي من افلام الرعب او العنف الاميركية.. التي يبدو ان البغدادي يتابعها عن كثب، مثلما كان حال مرشده الاول اسامة بن لادن الذي استوحى هجمات 11 ايلول 2001 من نتاج هوليود الحافل بمشاهد تفجير الابراج بواسطة الطائرات.
لا يمكن الزعم ابدا ان مخيلة البغدادي قد خانته، الحال هو انها بلغت مداها الاقصى. بعد الخلافة، لن يكون تبدر امر الرعية والمهاجرين المدعوين الى كنف الدولة الوليدة، سوى بداية الوقوع في فوهة البركان، الذي كشف عن ان الارض تميد بسكانها الاصلييين وبانتماءاتهم المتعارضة وطموحاتهم المتناقضة.. التي توحي بالحالجة الى اعادة النظر في الترسيم الاخير للحدود بين دول الهلال المعتمد منذ عشرينات القرن الماضي.
نسب خطأ الى “داعش” زوال معاهدة سايكس بيكو، عندما تمت السيطرة على عدد من المراكز الحدودية السورية العراقية.. مع العلم ان التنظيم الآتي من مجاهل التاريخ يمكن ان يساهم في مرحلة لاحقة في تخفيف حدة الاستنفار المذهبي بين الكتلتين المتصارعتين، وربما ايضا في تسوية تستبعد غلاة المتطرفين من السنة والشيعة، وتؤسس لعقد سياسي واجتماعي جديد.. بعد التوصل طبعا الى الاستنتاج البديهي بان تصفية الاخر او انكار وجوده هما وصفة دائمة للخراب.
لا يمكن للبغدادي ورجاله البالغ عددهم ما بين 12 و15 الف مسلح ان يغير الجغرافيا السياسية للعراق او سوريا او حتى لبنان، مهما امتلك من اسباب القوة والمنعة والنفط. كما ان التاريخ يفيد بان تعديل الخرائط مستحيل من دون الدخول الى بغداد ودمشق وبيروت، التي كانت وستظل تمثل عواصم وحواضر مركزية لدول قامت بالصدفة لكنها اصبحت راسخة لانعدام البديل لاي منها. العواصم الثلاث هي العنوان الرئيسي للصراع الحالي في المشرق العربي، والذي لن يحسم بتقسيم مذهبي جديد كما يشاع، بل بقيام دول عسكرية بوليسية جديدة تستوحي التجربة المصرية الاخيرة.
اما جنوح الاكراد العراقيين نحو الاستقلال في اقليمهم الشمالي، فهو لا يعني سوى خروجهم النهائي من بغداد الى جبالهم العاصية التي ستدفع مرة اخرى ثمن الخطأ في قراءة تحولات العواصم الثلاث المضطربة، ومعهما أحوال انقرة وطهران. التاريخ الكردي سيعيد نفسه بطريقة قاسية. وسيكون درسا مؤلما لجميع الاقليات التي تمردت وتطرفت وبالغت في حماستها للانتقام من الغالبية.
ما تم في مصر، هو المخرج المشرقي وربما العربي الوحيد المتاح من حالة الفوضى والفراغ التي يحتلها “داعش” وسواه من المتشددين السنة والشيعة. الصدى اللبناني جاهز، وربما سابق لما هو متوقع في سوريا والعراق. ليس من قبيل الصدفة ان يكون المرشح الاوفر حظا للرئاسة عسكري يجمع حوله قادة بقية الاجهزة الامنية الذين يفترض ان يكونوا مانعا اخيرا امام عودة كوابيس التقسيم اللبنانية المزعجة.
المدن
العراق .. أوكرانيا ، إيران/ اسعد حيدر
الجمهورية الاسلامية في ايران مأزومة أمام الحالة العراقية. الخيارات محدودة، والارتدادات عديدة، ومنها ما هو مصيري. سقوط الموصل وانهيار الجيش العراقي بهذه السرعة الصاروخية وظهور “داعش”، القوة المهيمنة، أربك القيادة الايرانية من القمة الى القاعدة، وقد تبلور كل ذلك في تصعيد إعلامي مفتوح اختلط فيه السياسي بالمذهبي، حتى بدا الوضع وكأن الاستعدادات قد اكتملت للدخول في مواجهة كربلائية، أين منها كربلاء قبل ١٤٠٠ سنة.
قائد الحرس السابق والمرشح الفاشل للرئاسة، محسن رضائي، قال:” عليكم (وكان يخطب في الأتراك الآذريين) أن تستعدوا للحرب. هناك عاشوراء وكربلاء أخرى في الطريق.. لا نستطيع ان نتفرج على عاشوراء التي تحدث في العراق.. يجب ان نفعل شيئاً.. استعدوا وانتظروا أوامر المرشد الأعلى”.
وراء هذه الحملة الاعلامية، تصوير ما يحدث في الأنبار مؤامرة، وأن أحد أهدافها تدمير سامراء “والمقامات المقدسة للإمامين العسكريين”. لذلك بدأت حملة تطوع، ليس في العراق فقط وإنما أيضاً في إيران. وقد تمدد هذا التوتر والتجيير المذهبي وصولاً إلى بيروت، حيث جرى تسريب مضمون خطاب للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، أمام كشافة المهدي، لم يُعلن عنه. قال فيه: ” وين بدنا نودي وجهنا من صاحب الزمان، إذا صار شي ع المقامين في سامراء.. ما يطلب منا رح نعمل وحيث يجب أن نكون سنكون”. بهذا بدا الوضع وكأن القوة الإقليمية الوليدة في المنطقة، أي حزب الله، تنتظر أوامر المرشد للانتقال من سوريا التي جرى “تحريرها” إلى العراق.
أوامر المرشد أية الله علي خامنئي لم تصدر، ولا يبدو أنها ستصدر كما جرى في سوريا في إنقاذ حضرة السيدة زينب وبشار الاسد. اكتشف المرشد بعد ٤٨ ساعة أن “المؤامرة الأميركية – الصهيونية” أكبر بكثير، وان” أمل الأعداء يكمن في حرب سنية – شيعية في العراق ومناطق أخرى”. هذا الوعي المتأخر واستشراف خطر الحرب المذهبية، جاء بعدما تغافلت إيران عبر “رجلها” نوري المالكي طويلاً عن تهميش السنة واستبعادهم عملياً عن السلطة من جهة، ومن جهة أخرى جاء نتيجة الإدراك بأن تحالفاً واسعاً هو الذي اجتاح الموصل والأنبار وليس فقط “داعش “.
لا شك أن مسارعة” ثعلب” السياسة الإيرانية، هاشمي رافسنجاني، وعقله المعتدل والمنفتح على الآخرين، وخصوصاً الدول الخليجية، جعله يسارع إلى وضع النقاط على الحروف، فيعلن أولاً “ضرورة صون وترسيخ الوحدة بين الشيعة والسنة”. ويختار السفير التركي في طهران ليقول : “إذا كانت بالأمس سوريا واليوم العراق، ستكون غداً في أي بلد إسلامي آخر”. لكن في أساس كل ذلك، اكتشاف طهران أن لا أحد فوق “سكين” الحرب المذهبية، والاهم أن سقوط العراق الذي كان تاريخياً يشكل لها “الخاصرة الرخوة”، سيجرها حكماً إلى المستنقع، سواء تدخلت مباشرة أو ساندت أو تجاهلت، وبهذا ستضطر للانشغال عن حل مشاكلها الاقتصادية والتفاوض من موقع ضعيف مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، في وقت وصلت فيه المفاوضات حول برنامجها النووي إلى نقطة حساسة.
ولم تتوقف ارتدادات الحالة العراقية عند هذا الحد، فقد فرض الوضع العسكري وإعلان الدولة الاسلامية تعاوناً ميدانياً بين الأميركيين والإيرانيين رغم عودة الكلام “عن الاسلام المحمدي الأصيل والإسلام الأميركي”. أما الكابوس الكبير الذي عملت طهران على تجاهله في البداية وحتى الأول من تموز الحالي، فهو تبلور الإرادة الانفصالية للأكراد في العراق، وخصوصاً بعدما اعتبروا أنهم استعادوا حقهم المشروع في وضع يدهم على كركوك، وبهذا فإن إعلان الاستقلال تجاوز فكرة أنه كان حلماً او أمنية وأصبح خياراً.
في البداية لزمت طهران الصمت، لكن جدية الخطر، كَون كردستان الإيرانية إذا اقتطعت أو انتفضت تشكل خطراً استراتيجياً وحتى أمنياً قومياً عليها، دفعها إلى التحرك باتجاه التركيز على وحدة العراق، وأن توجّه ما يشبه النداء إلى الأكراد من موسكو، إذ أعلن نائب وزير الخارجية، عبد الأمير اللهيان، أن “إيران تثق بأن القادة الأكراد رجال عقلانيون لن يقبلوا بتقسيم العراق”.
ولم تتوقف “كرة” الاكتشافات الإيرانية من تطورات الحالة العراقية عند أخطار الحرب المذهبية والاستقلالية الكردية، حيث اكتشف اللهيان، وهو دبلوماسي فاعل وناشط، خلال زيارته إلى موسكو أن “الأميركيين يريدون خلق أوكرانيا جديدة في العراق”.
أمام هذا الخطر الاستنزافي – الانفصالي، فإن للقوة الإيرانية حدوداً يبدو أن التطورات بدأت تخطها لها بواقعية. فهل أصبحت القيادة الإيرانية مستعدة لتفاهمات لا تنحصر في العراق فقط وإنما في سوريا (التخلي الإيراني عن المالكي يفتح مسار تخليها عن الأسد) ولبنان واليمن والبحرين؟ أم تدخل في حالة من الاستقواء تمنعها من التعامل مع التطورات بواقعية وبراغماتية، تشعل النار في كل مكان وإن بوسائل وطرق مختلفة؟
المدن

 

الإمساك بالعراق قبل الانهيار/ عبد الرحمن الراشد
العراق من أقدم دول وحضارات العالم، ومع أن عراق اليوم هو نتاج ما يسمى بالدولة القومية التي نشأت في القرن الماضي، فقد بقي دائما، مثل مصر، موحدا في إطار بلاد الرافدين. وبعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الثانية، ورث الإنجليز إدارة العراق، ضمن تقسيم اتفاق سايكس بيكو، وقام وينستون تشرشل بتصميم الدولة العراقية الحديثة في مؤتمر القاهرة لتصبح مزيجا من الحكم الملكي البرلماني. الإنجليز، بعد العثمانيين، وقبلهم العباسيون والأمويون، حافظوا على وحدة العراق. اعتبره لورنس العرب مركز المنطقة، وأن المستقبل في بغداد وليس في دمشق. وفرضوا على الأكراد أن يكونوا جزءا من الدولة، ورفضوا السماح لتركيا بأن تأخذ الموصل التي اعتبرها الأتراك جزءا قديما من جمهوريتهم الجديدة، ولجأ الإنجليز إلى استفتاء الموصل، فاختار أهلها البقاء عراقيين. الملوك الهاشميون حافظوا على العراق، وكذلك فعل البعثيون، حتى الأميركيون بعد الاحتلال أصروا على إبقاء كردستان ضمن الخريطة العراقية. أما نوري المالكي، المنتهية رئاسته للوزراء، فقد صنع لنفسه شهرته في التاريخ، الرجل الذي قسم العراق. فهو أول حاكم في ألف عام تتفكك بسببه البلاد، لم يفعلها من قبله الطغاة أو الأجانب. فعل المالكي ما لم يفعله الحجاج الثقفي، وهولاكو المغولي، وبيرسي كوكس الإنجليزي، والملك فيصل الهاشمي، وبريمر الأميركي!
بات شبح التقسيم حقيقيا، وصار التهديد شبه حقيقة بتصغير هذه الدولة إلى دويلات، ثلاث جمهوريات أو أكثر، ربما متحاربة.
كردستان أعلنت عزمها على استفتاء مواطنيها إن كانوا راغبين في الانفصال والاستقلال، متحججة قيادة الإقليم باستحالة البقاء تحت حكم المالكي. ومن المؤكد أن تحذو المحافظات السنية حذوها، إن بقي في الحكم. اتهم مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، المالكي، بأنه خلف كل الفوضى والأزمات، أخذ العراق موحدا، غنيا، وفرط فيه لأسباب شخصية وطائفية ضيقة. حارب الأكراد واستولى على صلاحيات مناصبهم، ومنعهم من بيع نفطهم، وترك لصوص مكتبه يتحكمون في العقود النفطية، وعندما رفض الأكراد هددهم بحرمانهم من خلال الملاحقات الدولية، بدل أن يحاول التصالح، أو على الأقل الصبر عليهم. قال له الأكراد نحن لا نريد دولة يحكمنا فيها صدام حسين آخر، لقد حاربناه ثلاثين عاما لا ليأتي المالكي يتفرد بقراراته في حياتنا اليومية. وهكذا أدت سياسات هذا الرجل الجاهل في دفع الأكراد نحو الاستقلال!
والسنة العرب عانوا أسوأ من الكرد تحت إدارة المالكي، حتى باتوا ينشدون المصير نفسه. سألت أحد قيادييهم بأن الأنبار ونينوى محافظتان بلا موارد مالية، وسيعيش أهلها في فقر. قال هم يعيشون في ذل وفقر تحت حكم بغداد، على الأقل بالانفصال نعيش فقراء فقط.
والمالكي حتى في أزمة الأيام الأخيرة لم يرتدع عن أساليبه السابقة، فقد عمل على ابتزاز نواب السنة مهددا إياهم، وقام بمحاولة شراء ذمم العديد من نواب الكتل الأخرى، مستفيدا من الأموال الطائلة التي تحت يده. لهذا السبب سعت الكتل إلى تأجيل التصويت في البرلمان الجديد على اختيار الرئاسات الثلاث، مدركة أنه استخدم الرشوة والابتزاز لتخريب مسار العمل الديمقراطي!
الشرق الأوسط

 

زمن «داعش»: نحن في علم أم في حلم؟/ عادل مالك
لدى المصريين بعض الأقوال التي تعبر عن حالات معينة، ومن ذلك التساؤل: «هل نحن في حلم أم في علم»، للتعبير عن حالة من الذهول والمفاجأة. ويمكن الاستعانة بهذا القول للتعليق على ما نشهده هذه الأيام من مفاجآت تبلغ حد الدهشة، والمقصود هنا إعلان أبو بكر البغدادي الدولة الإسلامية وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين!
وفي سعي للإضاءة على هذه الشخصية التي برزت على الساحة العربية، والتي جعلتنا نتساءل «هل نحن في حال علم أم في حلم»، سنركز على بعض ما ورد في «خطاب التنصيب».
في البداية حرص على تفويض نفسه «الزعيم الشرعي وأمير المؤمنين أبو بكر القرشي الحسيني البغدادي»، وعلى أنه «الزعيم الإسلامي الأوحد والمنقذ والمخلص للمسلمين». وفي محاولة منه لاستثارة المشاعر، قال في خطابه المسجل بالصوت فقط من دون الصورة: «السلاح السلاح، يا جنود الدولة، والنزال النزال، فإن لكم في شتى بقاع الأرض إخواناً يسامون سوء العذاب!».
ومنح البغدادي نفسه صفة السيطرة على «الجغرافية الشاملة، من الصين إلى الهند مروراً بفلسطين وجزيرة العرب والقوقاز ومن تونس وليبيا والمغرب»!
وتضمن «خطاب التنصيب» لهجة ثأرية متأصلة حيث يقول: «إننا سنثأر للمسلمين… وإن إخوانَكم في كل بقاع الأرض ينتظرون نجدتكم وسنثأر للمسلمين ولو بعد حين وسنرد الصاع صاعات والكيل مكاييل». وفي توصيف لفترة ما بعد إعلان إمارته قال: «ليعلم العالم أننا اليوم في زمان جديد وأن للمسلمين اليوم كلمة عالية مدوية، كلمة تُسمع العالم وتفهمه معنى الإرهاب».
وقسم «الخليفة» أبو بكر البغدادي العالم اليوم إلى «فسطاطين اثنين وخندقين اثنين، فسطاط إسلام وإيمان، وفسطاط كفر ونفاق». وحرص على منح الصفة الكونية لإعلان خلافته، بعدما بشر المسلمين بأنه «أصبح لهم دولة وخلافة جمعت القوقازي والهندي والأميركي والفرنسي والألماني والأوسترالي»، ودعا الجميع إلى الهجرة إلى دولة الإسلام، إذ «ليست سورية للسوريين وليس العراق للعراقيين».
هذه أبرز ملامح خطاب «أمير المسلمين الجديد»، ومن يتعمق في تمحيص بعض العبارات سيرى فيها نفحات من أسامة بن لادن، فهل أبو بكر البغدادي طبعة جديدة ومنقحة عن البن لادنية؟ فمنذ ظهور «داعش» بالطابع الاقتحامي في العراق والتعبير الحركي لـ «دولة المسلمين في العراق والشام» على كل شفة ولسان، وقد انطلقت صور الاستعارة والتشبيه بــ «الداعشيين» كالنار في الهشيم، وذلك في معرض الحديث عن هذه الظاهرة الجديدة وما ينطوي عليه الإعلان عنها في هذا الشكل، واستطراداً ماذا ستفعل العرب العاربة لمواجهة الخليفة الذي نصب نفسه أميراً على المسلمين، وبالتالي ما مصير غير المسلمين من الأقليات المختلفة.
وفي هذا السياق تناقلت وكالات الأنباء العالمية معلومات عن قيام عناصر تنظيم «داعش» بالاعتداء على الأقليات المسيحية والشيعية والأزيديين في مدينة الموصل وسهل نينوى، وعملوا على تهديم عدد من الكنائس ودمروا محتوياتها وخطفوا راهبتين وثلاثة أيتام (وفق الوكالات العالمية).
لقد تحدثنا حتى الآن عن البغدادي «النجم الساطع الجديد» في دنيا العرب والعروبة، لكن ماذا عن بغداد؟ وعن العراق؟
لقد أدت تطورات الأيام الأخيرة إلى تسريع وضع العراق عند المنعطف المصيري والخطر والاقتراب أكثر فأكثر من الانزلاق في هاوية التقسيم. ويأخذ البعض على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اعتماده سياسة غير متوازنة من حيث التعاطي مع الطائفتين الرئيسيتين في العراق وهما السنّة والشيعة. وعلى رغم أن المالكي اعتمد سياسة الحرباء المتلونة، والتي مكنته من البقاء في رئاسة الحكم كل هذا الوقت الطويل، إلا أن ظهور تنظيم «داعش» في هذا الشكل الاقتحامي، إضافة إلى الانقسامات الداخلية العميقة من شأنه أن يضع مصير المالكي في الميزان. ومع التشديد على أنه يتمتع بتأييد الحاضنة إيران له، فالمواجهة التي يتعرض لها حالياً أخطر من أي وقت مضى.
ولكي نفهم طبيعة بعض ما يشهده العراق هذه الأيام، لا بد من العودة إلى الغزو الأميركي في 2003، والقرارات الطائشة التي أقدم عليها الحاكم بول بريمر في حينه من حيث حل الجيش العراقي وارتكاب الكثير من الأخطاء القاتلة. فالقوات الأميركية سعت إلى تحديد خسائرها بالانسحاب من العراق تاركة عراقاً منقسماً على نفسه، ظل يتفاعل منذ أكثر من عشر سنوات، وليس بعيداً من المشهدية العراقية أن نائب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن هو عراب تقسيم العراق وهو الذي انتزع تصويتاً جماعياً من مجلسي النواب والشيوخ بتأييد هذا المخطط.
الآن ومع دخول كردستان في الشمال العراقي في مواجهة واضحة ومكشوفة مع الحكومة المركزية في بغداد، يتخذ الصراع ذلك المنحى الخطر، بل الأكثر خطورة من ذي قبل، ويتجلى ذلك في أحد أبرز مظاهر التوتر الانقسامي والتقسيمي بين أربيل وبغداد، بسيطرة قوات البيشمركة الكردية على مدينة كركوك وإعلان ضمها إلى إقليم كردستان. ومعلوم أن مصير هذه المدينة الغنية بالنفط موضع نزاع بين الأكراد في الشمال والحكومة المركزية في بغداد. وكان لافتاً إعلان رئيس الإقليم مسعود بارزاني عن ضم كركوك إلى جمهورية الكرد، وكان حاضراً وزير الخارجية البريطانية وليم هيغ الذي لم يعلق على هذا الإعلان لا في السلب ولا في الإيجاب.
وفي الجانب الدستوري من هذه الأزمة أعلن بارزاني إلغاء مضمون المادة 140 من الدستور العراقي، وهي التي تتحدث عن مصير كركوك المعلق، الأمر الذي حمل نوري المالكي على الرد بانفعال شديد معترضاً على أي تغيير في وضع كركوك. وردت سلطات كردستان بالإعلان عن طرح الموضوع على استفتاء لتأكيد صلاحية السلطات الكردية عليها.
إن المعركة تقوم سجالاً بين بغداد المالكي التي تحذر الأكراد من مغبة إعلان الانفصال عن العراق، وكردستان بارزاني التي تصر على خوض المعركة الاستقلالية والانفصال عن سلطة بغداد نهائياً. ومهما تقلبت الظروف والأحوال، فتقسيم العراق دخل فعلياً وعملياً مرحلة متقدمة من «الواقع التقسيمي».
هذا في السياق العراقي الكردي، لكن ماذا عن السياق العام للنزاع حول واقع العراق بين هيمنة إيرانية وموقف أميركي رافض كلياً لإعادة حرق أصابعه في النيران العراقية، فيما الصراع العام في إطاريه الإقليمي والدولي يربط بين «اللدودين»، إيران والولايات المتحدة؟ ولأن الأمور مترابطة في المنطقة كما هو معلوم فمن المهم معرفة مصير العراق وتقسيمه أو وحدته الرمزية على المفاوضات الإيرانية مع مجموعة الدول الخمس وألمانيا حول الملف النووي الإيراني.
وبعد…
إن «ظهور» الإمارة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، وبالزخم الذي تسعى فيه للسيطرة على مواقع عراقية متقدمة يطرح الكثير من التساؤلات التي تضيء على مصير العراق من جهة وانعكاس ذلك على دول الجوار.
أولاً: تتزايد المطالبة بضرورة رحيل رئيس الوزراء نوري المالكي كجزء من التسوية، والتعامل مع مكونات العراق السنّية والشيعية والكردية سواسية. لكن المالكي يرد على المطالبين برحيله، أو بترحيله بنتائج الانتخابات الأخيرة، والتي حصل فيها على أكثرية واضحة، وهذا مأزق جديد من مآزق المنطقة، المتمثل بالصراع بين «الشرعية الدستورية» و «الشرعية الثورية».
ثانياً: على الصعيد اللوجيستي والميداني تسلم العراق مجموعة من طائرات «سوخوي» الروسية الصنع، وأعلنت بغداد عن وضع هذه الطائرات في عمليات مواجهة قوات تنظيم «داعش» والقوى الأخرى المعارضة لـ «فريق المالكي». وهذا يعني على الصعيد العملي المزيد من سفك الدماء في عراق أصبح مخضباً بالكثير من دماء أبنائه وتحت شعارات مختلفة.
ونحن، بالمناسبة، في ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958.
ثالثاً: ما الذي يخفيه انتقال تنظيم «داعش» من العمل في سورية إلى العراق؟ هل فشل التنظيم في بلوغ التغيير الجذري للنظام في سورية، فانتقل إلى العراق وسط كلام عن أنه ربيب النظام في سورية!
رابعاً: تساءلنا في بداية المقال: هل نحن في حلم أم في علم؟ والمقصود واضح: هل ما يشهده العالم العربي هو الواقع الجديد الذي ينتظره، حيث سنرى أميراً بلا إمارة، وإمارة بلا شعب، ومقاتلين طفت عليهم اللوثه الدينية، أو غيبت العقل نهائياً عن بعض الإرهاصات التي تتزايد وتزدهر مواسمها في هذا الزمن المخزي، وليس الرديء فحسب؟!
خامساً: إن لبنان باق في عين العاصفة حيث يعلن عن أن «الأمن ممسوك ومتماسك»، وهذه أمنية الجميع. لكن، هل باستطاعة الوطن الصغير أن ينأى بنفسه فعلاً عما يجري في دول الجوار القريب منها والبعيد؟
إن لبنان ما زال جمهورية بلا رأس ولا رئيس، وليس في الأفق ما يشير إلى الخروج من هذه الدوامة الخطرة مع تواصل مسيرة تعطيل نصاب جلسات مجلس النواب المخصصة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكانت المحاولة الثامنة منتصف الأسبوع، ويبقى الأمل معلقاً على حكومة الرئيس تمام سلام والحكومة «الائتلافية» القائمة. وحذار أي انقسام داخل صفوف وزرائها.
* إعلامي لبناني
الحياة
أفغانستان عراقية – سورية؟/ راجح الخوري
لن تستطيع خمس مقاتلات “سوخوي ٢٥” قديمة ونصف عمياء كما يصفها الخبراء، ان توفّر لنوري المالكي فرصة تحسين اوضاع جيشه المنهار، لكنها تستطيع تزويده الذرائع للتمسك بموقفه والاصرار على البقاء رئيساً للحكومة مرة ثالثة.
هذا يعني استفحال الأزمة، فحتى الزعماء الشيعة العراقيين وفي مقدمهم المرجع علي السيستاني، يرفضون بقاء المالكي قبل ان يرفضه الزعماء السنة والأكراد اضافة الى كل عواصم العالم، باستثناء طهران التي طالما تبنّته كموظف امين يرعى مصالحها ولو على حساب العراق !
المؤسف اننا بدأنا نسمع عن البراميل المتفجرة تلقى في العراق بعدما دمّرت سوريا، بما قد يعني ان مخطط التفتيت يسير وفق السيناريو المرسوم، فاذا كان المالكي مصراً على البقاء بما سيفشل اي حل سياسي، واذا كان مسعود البارزاني يلوّح بالقتال حفاظاً على كركوك وعلى اقامة الدولة الكردية، فليس من الواضح ما هي مصلحة الاميركيين في الانخراط في قتال سيجرّهم الى تكرار الاخطاء الافغانية !
الجنرال جي غارنر الذي كان في العراق أبلغ “سي ان ان” بالحرف “ان المالكي عميل إيراني يريد منا ضرب “داعش” ليجني المكاسب السياسية لنفسه ولرعاته في طهران”، والجنرال ديفيد بترايوس يحذر واشنطن من “تحويل سلاح الجو الاميركي في هذه الظروف الى سلاح يقاتل السنّة الى جانب الشيعة، لأن ارهابيي”داعش” الذين يبرزون في الواجهة ليسوا اكثر من ١٥ ٪ من مقاتلي العشائر السنّية الذين حملوا السلاح ضد سياسات الإقصاء والإجتثاث التي مارسها المالكي وبتشجيع من ايران”!
وعلى رغم وصول بعض الخبراء العسكريين الاميركيين الى العراق وعدد من الطائرات من دون طيار وإعلان “البنتاغون” عن الجهوزية لشن عمليات عسكرية ضد “داعش”، هناك في كواليس البيت الابيض من يحذّر من تورط اميركي في الميدان في افغانستان عراقية – سورية، وهو ما اعلنت السعودية معارضته داعية الى حل سياسي عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية تنهي اخطاء المالكي وخطاياه، على ما اعلن السيستاني ومقتدى الصدر وعمّار الحكيم وكذلك هوشيار زيباري الذي يريد فيديرالية تمنع التقسيم وتعطي المكونات العراقية فرصة افضل للعمل والتفاهم!
المثير ان المرشد علي خامنئي اعلن في ٢٢ حزيران الماضي انه يعارض التدخل الاميركي في العراق بينما كان رجله المالكي يدعو الاميركيين صراحة الى التدخل لوقف الانهيار المريع الذي اصاب جيشه، ثم كرت سبحة من الدعوات الايرانية، لا الى التطوّع للقتال فحسب بل للاستعداد “لمنع وقوع عاشوراء اخرى” في كربلاء اخرى كما قال محسن رضائي قبل يومين… علماً ان إبعاد المالكي يبعد الحرب والتقسيم المخطط لهما كعاصفة تجتاح المنطقة كلها من سوريا الى العراق وصولاً الى ايران والخليج!
النهار
طوائف وأعراق وقبائل بلا حدود/ سميح صعب
تغرق منطقة الشرق الاوسط الآن في مرحلة رسم الحدود الدينية والعرقية بين مكوناتها البشرية بعد مرحلة رسم حدود الدول الوطنية التي تلت انهيار الامبراطورية العثمانية والانتدابين البريطاني والفرنسي. جهاديو “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) يعلنون قيام “الخلافة الاسلامية” التي، بحسب زعيمها أبو بكر البغدادي، لا تعترف بالحدود الوطنية التي اعتبرتها “صنماً” حطمته عندما أزالت الحدود بين سوريا والعراق.
وأكراد العراق يرون ان هذه فرصتهم لترسيم حدود كردستان على رغم معارضة قوتين اقليميتين كبيرتين هما تركيا وايران عكس اسرائيل التي تستعجل قيام الدولة الكردية بصفتها دولة صافية عرقياً تماماً مثلما يريد زعماء اسرائيل ان تكون دولتهم دولة يهودية صافية. وبذلك يتعمم نموذج الدول الدينية من جهة والدول العرقية من جهة اخرى، أملاً في ان تحصل اسرائيل على شرعية لوجودها.
والى النموذج الطائفي والعرقي اللذين يبرزان بقوة اليوم، ثمة نموذج آخر هو الدولة التي تقوم على اساس قبلي. كان لافتاً ان يتحدث وزير الخارجية الاميركي جون كيري والى جانبه رئيس “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” احمد الجربا في مدينة جدة السعودية قبل ايام، عن امكان الجربا الاضطلاع بدور مهم في محاربة الجهاديين لانتمائه إلى قبيلة عابرة للحدود السورية – العراقية.
والدولة – القبيلة هي نموذج يطبق الان بنجاح في ليبيا التي تحكمها القبائل بعد زوال حكم معمر القذافي على يد حلف شمال الاطلسي عام 2011. فالميليشيات التابعة للقبائل هي التي تتحكم بالقرار السياسي وحتى الاقتصادي مثل تصدير النفط او وقفه، بينما من الملاحظ ان المنطق القبلي والجهوي هو السائد الان في ليبيا والكل يتحدث في أفضل الاحوال عن قيام نظام فيديرالي بين ثلاث دول على أساس قبلي ومناطقي يمكن ان تجد طريقها الى الانفصال في وقت لاحق كما يحصل في العراق اليوم.
والى ليبيا هناك اليمن الذي تقسم رسمياً ستة اقاليم فيديرالية على أساس قبلي ومناطقي. ولكن لا يزال الخلاف مستعراً على درجة ما يجب ان تتمتع به هذه الاقاليم من استقلالية في القرار عن المركز في صنعاء. كما ان ثمة مذاهب وقبائل في اليمن غير راضية عن التقسيم الفيديرالي الحالي وتطالب هي أيضاً بأن تشملها الفدرلة.
وبعدما كان المأمول ان تنتقل الدول الوطنية الى مرحلة القومية، ها هي ترتد مئات السنين الى الوراء تارة باسم الدين وطوراً باسم العرق أو باسم القبيلة. ووحدها اسرائيل يمكن ان ترى نفسها منتصرة ولو موقتاً وسط هذا الخراب الذي يحيط بها.
النهار

 

ماذا إن لم تكن داعشياً؟/ حبيب فياض
تبريرات عديدة ومدروسة في خدمة الزحف الداعشي في المنطقة بهدف تغطيته والتعاطف معه ووضعه في إطار ردة الفعل. ومن الواضح أن تعويم «مسببات» الحراك الداعشي على حساب وقائعه الخطيرة وتداعياته المصيرية يعني، على الأقل، ان هناك من يراهن على الداعشية لتصفية حساباته مع خصومه حتى لو كان الامر على حساب مصالحه وحضوره. تسويغ ظاهرة «داعش» التكفيرية بالشكل المشهود ليس سوى شراكة ضمنية معها على قاعدة التسويق لمنتجاتها وتمهيد الطريق أمامها لـ«ضرب الرقاب وشد الوثاق». يدل على ذلك، من قبيل المثال لا الحصر، وصف فضائيات عربية «عريقة» للداعشيين بالثوار مقابل وصفها للجيش العراقي بقوات المالكي او تصنيفها لـ«حزب الله» في خانة الميليشيات .
«داعش» هي آخر ما أنتجه «العقل» التكفيري في المنطقة. الداعشية شكل من اشكال «التطهير» البشري بنحو يتجاوز العرق والاثنية والقومية. الفعل التكفيري لن يتأخر قبل أن ينفلت من ايقاع الاجندات الاقليمية وسيكون له مساره الخاص المنفصل عن اجندات المحركين والمشغلين. المعركة المفتوحة التي يخوضها الداعشيون لا تقف عند حدود استهداف الشيعة. فالقتل بما هو وسيلة لدى الآخرين هو عندهم «طقس مقدس»، والتعليمات عندهم تتحرك على ايقاع: اينما وليتم فثم فعل القتل.. وخلقناكم شعوبا وقبائل لتتقاتلوا.. ان اكرمكم عند الله اكثركم قتلا.. وقل ربي زدني قتلا.
يتساوى في حسابات «داعش» الجهاد، من جهة، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، من جهة ثانية. الحالة الاولى هي قتل الكفار وقتالهم. الحالة الثانية هي اخضاع الناس للاحكام و الحدود والقصاص على قاعدة «اصدع بما أمرت». وبالعموم، الاقتراب من «داعش» والارتباط بها أكثر خطورة من الخصومة معها ومعاداتها. واذا كان البعض يصر على وضع الدولة الداعشية في خانة المنجز السني لمواجهة «الهلال الشيعي»، فإن واقع الحال وفق الحسابات المذهبية ينبئ بأن أتباع التشيع في المنطقة هم الأقل عرضة للخطر الداعشي. وإن لم يستطع الشيعة القضاء على الحركة الداعشية فهم قادرون، بالحد الأدنى، على تحصين مناطقهم وحماية انفسهم منها. يشهد على ذلك اخفاق داعش واخواتها في مواصلة اختراق المناطق الشيعية في لبنان، وعجزهم، بطبيعة الحال، عن استهداف ايران، وصعوبة اقترابهم من بغداد والنجف وكربلاء وعموم المناطق الشيعية في العراق. هذا فضلا عن القول ان النظام السوري، اذا صح ادراجه ضمن الخانة الشيعية، قد بات في مأمن من السقوط على أيدي الداعشيين وغيرهم.
خلاصة القول، لا احد بمأمن من «داعش» متى ما استطاعت النيل منه . عند الداعشي، كل غير مسلم ليس من اهل الكتاب فهو كافر وحكمه القتل. وكل غير مسلم من اهل الكتاب فهو مشرك ويراوح حكمه بين دفع الجزية او القتل او النفي من الارض. وكل مسلم ليس من اهل السنة والجماعة فهو رافضي او مرتد ومحكوم بهدر دمه. وكل من كان سنيا لكن ليس على مذهب السلف الصالح فهو من اهل البدع والضلالة وينحصرأمره بين اعتناق السلفية او التكفير، اي القتل. وكل سلفي ليس جهاديا فهو من القاعدين الذين تخلفوا عن ركب المجاهدين ومصيره القصاص. وكل سلفي جهادي لا ينتمي الى دولة الخلافة فهو مارق يجب أن يقتل لأنه امتنع عن بيعة الخليفة البغدادي.
ان لم تكن مع «داعش» فانت ضدها. وان اختلفت معها بالسياسة فانت خائن. وان خالفتها بالعقيدة فانت كافر. والنتيجة، إن لم تكن داعشيا فأنت مشروع قتيل.. قتل الداعشيين لك متوقف على القدرة وليس النية، وعلى الاولوية وليس الارادة. والقتل عند الداعشي اول الدواء.
السفير

 

الفوضى ليست بالجغرافيا/ سليمان تقي الدين
بعد ثلاث سنوات من اندلاع «الثورات» تغيّر العالم العربي إلى درجة لا تسمح بالنظر إليه كما في السابق. ليس العنوان الأبرز انهيار معظم الحدود السياسية للكيانات السابقة بل طبيعة القوى الفاعلة في الداخل والخارج. في كل هذه الفوضى يشتبك العرب بالعرب جماعات ودولاً، كما القوى الإقليمية والدولية. المستقبل العربي هو حصيلة هذه التفاعلات كلها وليس مجرد تنفيذ لخطِّة أحد الأطراف مهما كانت قوته وسيطرته. هذه هي تجربة الحرب العالمية الأولى التي أنتجت «سايكس بيكو» وما زلنا بعد مئة عام لا نستوعب دروسها. قليلون ربما الذين يهتمون بأن تلك الاتفاقية اقتصرت في المبدأ على تصفية إرث الدولة العثمانية لمصلحة الغرب وقطبيه بريطانيا وفرنسا. لكن التفاوض حول هذا العنوان امتد من اندلاع الحرب إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919. وخلال ذلك خرجت قوى ودخلت قوى ونشأت أوضاع ميدانية وتبدلت خرائط كثيرة. ولم تكن سايكس ـ بيكو مجرد عنوان لتقسيم العالم العربي الذي لم يكن موحداً بذاته ولا تحت السلطة العثمانية الكاملة، بل هي إحدى الاتفاقات الاستعمارية لإعادة إنتاج النظام الإقليمي بعد انهيار إمبراطوريات عدة عملياً (الدولة الروسية، والمجرية النمساوية، والعثمانية) وهزيمة ألمانيا، وإلى حد ما بداية صعود الإمبراطورية الأميركية. في جزء أساسي من المشهد آنذاك لم يكن «المشروع العربي» يملك قابلية للتحقيق بسبب الفئات القائدة والسوسيولوجيا العربية آنذاك. وها نحن الآن في المشكلة ذاتها لأننا لا نملك مشروعاً سياسياً لا عربياً ولا إسلامياً طبعاً، لبناء دولة إقليمية بصرف النظر عن حجمها وحدودها، بدليل أن ما لدينا من جغرافيا كيانية يتفتت بين يدينا بأساليب الحكم وإدارة «الدول»، ولو كانت لنا سلطات عسكرية طاغية. ما يريده الغرب منا يحصل عليه بأشكال مختلفة ومن قوى سياسية مختلفة وعبر أشكال من الحكم مختلفة ولا ننسى الإيديولوجيات. لكن ما نريده نحن أو معظم تطلعات الشعوب يخضع لأنظمة استبداد أياً كانت أسماؤها متخذ من «العصبية» ركيزة ومن احتكار السلطة وسيلة. هذه «القابلية» لفكرة «التقسيم» لا تنبع من صعوبات العيش معاً بل من ثقافة الاستبداد والإقصاء والإلغاء والسيطرة.
لم تكن الشعوب العربية منذ حرب لبنان والعراق مع الاحتلال ثم اليمن وليبيا وسوريا والجزائر وتونس إلخ نازعة إلى إنتاج كيانات جديدة بل إلى بناء علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم. وباستثناء الأقليات القومية المضطهدة ومعاناتها الطويلة لم يكن لأحد أن يتصور أو يسعى إلى أنظمة فدرالية (وهي نماذج لشكل من التوحيد) كالذي بتنا نطرحه كمخرج في اليمن وليبيا والعراق وسوريا ولبنان. ومع ذلك لم تكن المسألة في شكل النظام بل في مضمون السلطة ونوازع الغلبة والسيطرة المعنوية والمادية والإلحاق والاستلحاق بالخارج. ولقد صارت المصالح الفئوية تتخذ لنفسها خطاباً عابراً للحدود تهافت أمام نقيضه الآخر.
انشقت المنطقة بين المطالبين بالتغيير وبين المدافعين عن الواقع الجيوسياسي القائم. فلا التغيير الذي حصل يؤدي الحاجات والوظائف المطلوبة، ولا المعطى الجيوسياسي حافظ على الحد الأدنى مما أراد المدافعون عنه. وها نحن في أزمة التشوهات الكبرى لصورة المنطقة وقواها وهويتها وإمكاناتها ومناعتها.
ليس صحيحاً أن الحركات المسلحة في طول المنطقة وعرضها تملك قرارها المستقل ولا حتى الأنظمة التي تدير هذا الصراع الدموي الرهيب. ففي كل يوم نسمع عن أشكال المساعدة المقدمة أو المطلوبة لهذا أو ذاك من الأطراف. فالخشية هنا على أهمية ذلك ليست من قدرات الشحن الذاتي الديني أو الطائفي ولا من الموارد التي تتحصل من نهب مناطق السيطرة، بل هي من إمدادات الدول صاحبة المصلحة في بلوغ المنطقة حد الاستسلام لأي صياغة كبرى للنظام الإقليمي الجديد. ولعلنا نعرف كيف تبدلت مواقف الدول الكبرى في رؤيتها للفاعلين في المنطقة وأدوارهم. لذلك يجب التحفظ دائماً على إطلاق الأحكام النهائية حيال المواقف التي تنطوي على إغراء أو تهديد أو على محاولات الاحتواء التي نجحت إلى حد بعيد في جذب المتنافرين للتعاون ليس فقط في الميدان بل في الاشتراك بالنظرة إلى التحديات والأخطار.
فالأساس يبقى كيف يمكن للعرب أن يعيدوا تأسيس مشروعهم بما هو استجابة للحاجات التي رفعتها حركات الشعوب قبل أن تتم مصادرتها وتحويرها. ففي حمأة هذا العنف المعنوي والمادي الذي استُدرجت إليه حركات التغيير ظهرت أولويات مختلفة وتشكلت مراكز قرار خارج السياق الذي بدأت به الحركات السلمية.
لكن المؤكد أن كل ما ظهر على سطح الحياة العربية أفرغ الانحباس السياسي والثقافي وأشبع نهم العاملين على فكرة الهويات، وسيعود المشهد حكماً إلى لحظة البحث من مصائر الحياة اليومية للناس التي لا مجال لإنكاره
السفير
“داعش” تنظيم افتراضي/ سوسن الأبطح
لا أحد يعرف من هو، حقيقة، الخليفة أبو بكر البغدادي. الرجل أعلن نفسه خليفة وطالب المسلمين بالانضمام إلى دولته الإسلامية الوليدة التي تسعى لاكتساح العالم واستعادة أمجاد الأمة الغابرة. هل الرجل حي أم ميت؟ ما خُلُقه وما مؤهلاته؟ وهل هو رجل صالح أم مجرد مدعٍ كاذب، ومن يحركه ويدعمه بالمال والسلاح؟ وهل تنظيم «داعش» هو الذي يقود المعارك في العراق، وما مكوناته، وما مدى تماسكها؟
الذهاب الأعمى وراء المجهول من قِبَل من فقدوا كل بوصلة جاء سريعًا على صفحات التواصل الاجتماعي التي ضجت بالمبايعة الافتراضية لأمير المؤمنين المنتظر منذ مائة سنة، ورفعت له الرايات سرًا أو جهرًا في دول عديدة بالمنطقة، ولو كلفت البعضَ حريته، أو حتى حياته.
سمعنا أن ثمة أميرًا للبنان أيضا، لا نعرف عنه سوى اسمه الحركي، من دون أن نكشف له وجهًا أو ملمحًا. رجل «داعش» الغامض عبد السلام الأردني، مكلف تدبير التفجيرات وإرسال الانتحاريين، كما أذيع. وعلى «تويتر»، كما العادة، أعلن «لواء أحرار السنة – بعلبك» الملحق بـ«داعش»، عن أمير يدعى سيف الله الشياح، الموكل بـ«إمارة البقاع الموعودة». وهذا اللواء الذي لا تزال التكهنات بشأنه كبيرة، وحول إذا ما كان موجودًا أصلًا أو مجرد لعبة مخابراتية قميئة، هو الذي كلف مجموعة خاصة من المجاهدين «لتطهير إمارة البقاع الإسلامية بشكل خاص ولبنان بشكل عام من كنائس الشرك». وقال في بيانه، إن «هذه المجموعة ستعمل على استهداف الصليبيين في الإمارة ولبنان لإيقاف قرع أجراس الشرك». وبعد أقل من 24 ساعة على هذا البيان المشبوه كان اللواء (المفترض) قد أعلن عن الأخ المجاهد أبو عمر الشامي قائدًا للمجموعة، مع صورة ركبت لا لتعريفنا بالرجل، وإنما لإلقاء الذعر في القلوب. فالرجل الملثم الذي يظهر جانبًا من كتفه، وإلى جانبه مصحف وكأنه في داخل غرفة لتصنيع العبوات، خارج من أفلام الرعب أكثر من أي شيء آخر. وينبهنا أمير البقاع سيف الله الشياح: «لا يعتبر أحد أن إعلاننا الحرب على صليبيي لبنان يغيّر باتجاه بوصلتنا. نحن سنواجه صليبيي لبنان بمجموعة مختصة ومحدودة العدد، أما باقي جهودنا فسوف تكون بمواجهة الطاغوت والرافضة».
كل ما سبق دار في العالم الافتراضي، وعبر أشرطة مسجلة لا يمكن التأكد من مدى صحتها أو مصدرها، لكن تردداته على الأرض مزلزلة ودامية، سواء لدى الجهات الأمنية المعنية بحماية المقدسات وأرواح الناس، أو لدى المواطنين العاديين.
البلبلة تتجاوز العراق وسوريا ولبنان لتعم العالم. الخريطة التي نشرت مؤخرًا وتناقلها الإنترنتيون على صفحاتهم، وقيل إنها ترسم حدود الدولة الإسلامية المأمولة، وتظهر برنامج غزوات «داعش» خلال السنوات الخمس المقبلة، تخضع في مراكز أبحاث غربية لدراسات وافية، كون الحدود تشمل أيضا الأندلس ودول البلقان، وجزءًا من أوروبا الشرقية.
ومن الطرائف أن ترى محللًا ومتخصصًا مرموقًا فيما بات يسمى «الجهادلوجيا» أو «علم الجهاد»، وهذا صار متوفرًا بفضل «داعش وأخواتها» يعلق على الخريطة ويطمئن المواطنين الأوروبيين المهددين بالغزو بأنها مجرد وثيقة عتيقة مستلة من التاريخ وليست أكثر من نبش لخريطة الدولة العثمانية وحلم باستعادة المجد الغابر. وهنا يؤكد الباحث، وهو المتمرس في قضايا الأحلام الإسلامية، أن هذا الرسم كان متداولًا قبل «داعش»، وجل ما حدث هو تعميمه وتوظيفه.
تصل هلامية «داعش» وزئبقيته إلى حد التشكيك حتى في الصور التي تلتقط لمجاهديه. وانتشرت في الأيام الأخيرة مقالات عديدة في صحف غربية تضع علامات استفهام كبيرة، حول آلاف الصور التي تلتقط وتوزع، لمقاتلي «داعش»، بسحناتهم المغبرة، وهيئاتهم الأسطورية، وخاصة أن مصدرها وكالات محدودة جدًا، أهمها على الإطلاق «رويترز»، التي باتت المنبع الرئيس المعتمد لدى غالبية وسائل الإعلام. دراسة الصور وتفنيدها والمقابلات التي أجريت مع مسؤولين في الوكالة العالمية، زادت من شكوك المراقبين، وخاصة أن الاعتماد في كل من سوريا والعراق الداعشيتين (حاليًا) هو على مصورين محليين يتم التعاقد معهم مع الالتزام بعدم كشف أسمائهم، لحفظ سلامتهم، من دون معرفة ارتباطاتهم، أو أهوائهم، ومدى مهنيتهم.
يعتمد المشككون على عناصر عديدة، محذرين من الفخ الذي نصب للصحافة في سوريا، وشهير الصور التي انتشرت وعممت وتبين أنها زائفة، ولا شيء يمنع تكرار التجربة نفسها عراقيًا.
لهذا نسأل: بأي عيون يرى العالم «داعش» ومن أي وجهة نظر؟ وما كَمُّ الوهمي من الفعلي؟ ومن المسؤول عن هذا «التسونامي» المرعب من الأخبار والصور والبيانات والأشرطة والإعلان عن أمراء بالجملة؟ هل «داعش» تنظيم سري يتمدد وينتشر؟ أم أنه في جزء كبير منه خدعة استخباراتية باتت بحجم الكون، وخطورتها العظمى أنها أصبحت قادرة على الإيقاع بعشرات آلاف الشبان المسلمين المحبطين والبائسين والمنتظرين للخليفة المخلص الذي يخرجهم من مأساة حاضرهم بكبسة زر وبعض الوعود الكاذبة.
كل عاقل يعلم أن «داعش» كما هي عليه اليوم، لا يمكن أن تقوم له دولة أو حتى إمارة، لكن الكذب والتضليل والوهم الزائف بات بمقدوره، بفضل الجهل والانكسارات المفجعة، أن يفجر المنطقة ويجعلها تتشظى لتصير فتاتا.
أستاذة في “الجامعة اللبنانيّة”، قسم “اللغة العربيّة وآدابها”، صحافيّة وكاتبة في جريدة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط
حرب العمائم السود في العراق/ شاكر نوري
ليست الحرب الدائرة بين العمائم السود التي تمثل المرجعية الشيعية في العراق، الآن، سوى أحد تجليات الحرب الخفية بين الأجنحة المتصارعة، والتي ظهرت إلى السطح، بعد أن تراكمت لسنوات. كانت المرجعية، ولا تزال، تعتمد أسلوب الغموض والاختفاء والتواري عن الأنظار، آخر رموزها علي السيستاني الذي يعيش في النجف، مثل شخصية طوطمية، بعيداً عن الجماهير، ويصدر أوامره وفتاواه في إطار غيبي ولاهوتي ولا ديني، بإشارات ورموز ملتبسة. وأي ظهور غير ذلك يعتبر خرقاً لقواعد اللعبة المرجعية الشيعية السّرية، التي خرقها، أخيراً، أحد المراجع الدينية الشيعية، الخارجة عن سلطة ما يسمى الحوزة العلمية، وهو محمود الحسني الصرخي، والذي ظهر يلعب كرة القدم مع بعض أنصاره من الشباب، لأنه أماط اللثام عن الطوطم الذي يسحر الجماهير من وراء الأسوار.
هذه الحرب بين المراجع الشيعية ليست وليدة اليوم، بل تمتد إلى سنوات طويلة، وشواهد التاريخ تثبت ذلك، قتل أتباع رجل الدين، مقتدى الصدر، عبد المجيد الخوئي، نجل المرجع الشيعي، أبو القاسم الخوئي، في 2003، لاتهامه بأنه أحد عناصر المخابرات البريطانية التي ساهمت في احتلال العراق، لكن سبب مقتله الحقيقي إعلانه في قناة تلفزيونية عربية أن السيستاني أصدر فتوى بعدم مواجهة قوات الاحتلال وحرّم قتالها! لذلك، وجبت تصفيته، لكي لا يتم فضح مخططات المرجعية الإيرانية. وفي عام 2004، كتب الحاكم المدني الأميركي على العراق، بول بريمر، في كتابه عن تجربته في العراق، “أرسل السيستاني، ذات يوم، يقول إن عدم لقائه بنا ليس ناتجاً من عداء للتحالف، وإنما لأنه يعتقد أنه بذلك الموقف يمكن أن يكون أكثر فائدة لتحقيق أهدافنا المشتركة، وبأنه سوف يفقد بعض مصداقيته لدى أنصاره، لو تعاون علناً مع القوات الأميركية، كما فعل بعض العلمانيين من الشيعة والسنّة، أو كما فعل رجال دين ذوو مرتبة أقل من مرتبتي”، وأفاد بأن السيستاني تبادل أكثر من 30 رسالة معه في 14 شهراً.
والتاريخ يكرر نفسه. في 1914، رفضت المرجعية الشيعية أن تقف ضد الغزو البريطاني للبصرة، تمهيداً لاحتلال العراق، فيما وقف الشيخ المنشق، محمد سعيد الحبوبي، وهو شاعر ورجل دين، ضد ذلك الغزو. وفي 1920، رفض فتح الله الأصفهاني فتوى الجهاد ضد الإنجليز، ولعب لعبته المعروفة في تسليم مدينة النجف لهم. وفي 1958، وقفت مراجع الحوزة العلمية موقف المتفرج من الثورة، ولم يُبدوا موقفاً يسجل لهم في التاريخ. وفي 1959، أقام محسن الحكيم علاقات مع عبد الكريم قاسم، وتقرّب من عبد السلام عارف، بعد الانقلاب. وفي 1977، وقف المرجع الشيعي، محمد باقر الصدر، مع إيران. وبعد احتلال العراق سنة 2003، ظهرت حقيقة العمائم السود الفارسية، فكان عبد العزيز الحكيم أول من طالب بكتابة المذهب في هوية الأحوال المدنية، وعمل على سحب كلمة “شهيد” من شهداء القادسية، وساهم في مسلسل قتل الطيارين العراقيين والضباط الكبار المشاركين في الحرب العراقية الإيرانية، مستخدماً فيلق بدر، أحد فيالق المليشيات التابعة لفيلق القدس الإيراني.
وهنا، لا بد من أن نذكر أنه لم يوجد بين هذه المراجع، على مرّ تاريخ العراق، سوى الإيرانيين في الحوزة العلمية، أمثال: فتح الله الأصفهاني ومحمد الطبطبائي الأزدي ومحمد تقي الشيرازي وحبيب الله الرشتي ومحمد باقر الأصفهاني ومحمد تقي الهروي، وآخرهم السيستاني الذي أصدر، أخيراً، فتوى القتال بين المسلمين بين أبناء الوطن الواحد، إثر انتفاضة المحافظات السنيّة وسقوط الموصل.
ويشكل ظهور المرجع الشيعي العربي، محمود الحسني الصرخي، وهو المولود في الكاظمية في 1964، والمتخرج مهندساً من جامعة بغداد في 1987، تهديداً حقيقياً لهذه المرجعية، إذ دخل في ما يُسمى الحوزة العلمية عام 1994، وتتلمذ على يد المرجع محمد صادق الصدر. في 2004، أعلن الصرخي نفسه مرجعاً دينياً بدرجة آية الله العظمى، من دون الرجوع إلى الحوزة لتمنحه هذه الصفة. وأدى هذا الإعلان إلى زيادة أعداد أتباعه، حتى وصلوا إلى آلاف، بعد أن آمنوا بما طرحه من أفكار منفتحة على المذاهب الأخرى. وأصدر كتباً، أبرزها “أخيار العراق رايات المشرق”، و”الاستعداد لنصرة الإمام المعصوم”، و”الثورة الحسينية والدولة المهدوية”، و”السفياني”، و”الدجال”.
واستطاع أن يؤسس قاعدة جماهيرية واسعة في المحافظات الجنوبية، وأنشأ مكاتب باسمه في أغلب مراكز المدن والمناطق. وخاض أتباع الصرخي، بأمر منه، اشتباكات عدة مع القوات الأميركية، بعد عام 2003، نتيجة موقفه الرافض للاحتلال، ما حدا بالسلطة إلى إصدار مذكرة اعتقال بحقه، بتهمة قتله عدداً من جنودها. وظلت علاقة الصرخي بالحوزة العلمية متوترة، بسبب اختلاف طروحاته عن طروحات السيستاني الذي اتهمه بـ “إثارة الفتن”، ما دعا الحكومة إلى إصدار مذكرة إلقاء قبض بحقه.
وها هو رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، يعلن حربه ضد الصرخي، لا لشيء، إلا لأنه رفض فتوى السيستاني بوجوب قتال ثوار العشائر في مدن الموصل والرمادي والفلوجة، وغيرها من مدن العراق الثائرة، ولأنه حمّل المالكي وأنصاره الأميركيين مسؤولية ما يجري في العراق، وما تسببّه هذه الفتوى من سفك لدماء العراقيين، بدلاً من إحلال فكرة التآخي بين الطائفتين الأساسيتين في المجتمع العراقي.
العربي الجديد

 

غابت الدولة فحضر “حزب الله” ثم “داعش”/ خالد الدخيل
كان حظ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وأخواته من الهجاء لا يقل عما حصل لمن سبقه. ليس مهماً هنا إن كان يستحق ذلك أم لا، الأهم لماذا ظهر هذا التنظيم؟ أكثر ما أثار حيرة الجميع بروزه السريع والمفاجئ أخيراً، وسيطرته على أجزاء كبيرة من العراق وسورية. يبدو أن الجميع، دولاً ومنظمات وجماعات وأفراداً، ضد التنظيم. لكن في الوقت نفسه يقال إن «داعش» من أكثر التنظيمات الجهادية ثراء. من أين إذاً يحصل على الأموال، إلى جانب المقاتلين والأسلحة؟ هناك السبب أو الأسباب المباشرة للحدث أو الظاهرة. «داعش» جزء مستجد لظاهرة السلفية الجهادية التي يمتد عمرها لأكثر من 30 عاماً. من الأسباب المباشرة والباكرة لهذه الظاهرة الحرب الأفغانية، والدعم الأميركي والسعودي والباكستاني للجهاديين في أفغانستان ضد الاحتلال الروسي. هناك أسباب غير ظاهرة للعيان أكثر عمقاً، وهي التي على الأرجح مهدت السبيل لبروز الأسباب المباشرة. لماذا مثلاً كان اللجوء في المقام الأول إلى تنظيمات جهادية لمحاربة الغزو الروسي لأفغانستان؟ لأن «الدولة» هي التي استدعت الغزو وتحالفت معه. ولأنها فعلت ذلك يصبح من المشروع التساؤل عما إن كانت هذه حقاً دولة، أم كانت شيئاً آخر غير ذلك؟ سيرورة الأحداث منذ الغزو في 1980 وحتى الآن تكشف أنه لم يكن في أفغانستان دولة. هناك محاولات لبناء دولة وهناك إنجازات على هذا الطريق، لكن يبدو أن الطريق طويل جداً.
ماذا عن العالم العربي؟ بدأت الحال «الجهادية» تظهر في هذا العالم، خصوصاً مصر، بالتزامن مع الحال الأفغانية تقريباً. وصلت المسيرة إلى ما نشاهده في سورية والعراق. إذا كان «داعش» امتداداً لتنظيم «القاعدة» الأم، فما هو الفرق بين ظهور هذا التنظيم الفرعي بشكله الحالي قبل حوالى أربعة إلى خمسة أعوام، عن بدايات التنظيم الأصل في بداية ثمانينات القرن الماضي؟ في السياق نفسه، ما هو الفرق بين ظهور «داعش» (التنظيم السنّي) وظهور «حزب الله» اللبناني (التنظيم الشيعي) عام 1982؟ المسافة الزمنية بين الاثنين كبيرة، لكن المسافة الدينية والسياسية ليست كذلك بأية حال. صحيح أن كلاً منهما يمثل مذهباً يتصادم مع الآخر، لكنه يسعى إلى تحقيق الهدف نفسه (هيمنة الخطاب الديني المذهبي) لكن من رؤية دينية مغايرة، ليس مهماً أن هذا التنظيم سنّي وذاك شيعي. الأهم في السياق الذي نتحدث فيه أن كلاً منهما تنظيم ديني، وينتمي إلى الفضاء الإسلامي نفسه، وأن كلاً منهما يتبنى رؤية تكفيرية وطائفية حادة تجاه ما يعتبره الآخر. والأهم من ذلك أن كلاً منهما يمثل استجابة لحال سياسية واحدة تسود المنطقة.
يستدعي سياق الحديث أيضاً التساؤل عن أمر ذي صلة مباشرة: ما هو الفرق بين مفهوم الخلافة كما أعلن عنه تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومفهوم «ولاية الفقيه» كما هو معمول به في إيران منذ الثورة عام 1979؟ إذا وضعنا جانباً الإضافات الشكلية الحديثة التي سمح فقهاء الثورة الإيرانية بإضافتها إلى النظام السياسي الجديد لـ «ولاية الفقيه»، نكون أمام دولة دينية تنتظر عودة الإمام من غيبته التي لا يزال فيها منذ أكثر من 1200 عام. الخلافة أو الإمامة كما يسميها أبوالحسن الماوردي هي «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا». تستند «ولاية الفقيه» إلى مفهوم الإمامة وعصمة الإمام عند الشيعة، أما الخلافة فتستند كما قال الماوردي إلى مجرد خلافة النبي في أمر دنيوي محض «حراسة الدين وسياسة الدنيا». تعمل «ولاية الفقيه» على تهيئة الزمان والمكان لعودة «الإمام المعصوم» ليحكم العالم. وتروم «الخلافة» إلى تهيئة الزمان والمكان ليس لعودة أحد الخلفاء الراشدين، وإنما لعودة نموذج الخليفة كما تمثل في أبي بكر الصديق أو عمر بن الخطاب. كل منهما يحمل طوبى مثالية منفصلة عن الواقع. ولذلك يدّعي كل منهما فعل شيء غير قابل للتحقيق. هل تبني أحد هذين المفهومين عمل سياسي بذريعة تحقيق أهداف غير سياسية وغير قابلة للتحقيق؟ ألا يعني هذا أن من يتبنى مفهوم الخلافة أو مفهوم «ولاية الفقيه» متورط في ممارسة الكذب تحت غطاء الدين؟ أم أنه منغمس في حال آيديولوجية يختلط فيها الديني بالسياسي بصورة مأسوية أحياناً؟ مهما يكن، حقيقة الأمر أن كلاً منهما يعود في جذوره إلى القرن الهجري الأول، وبالتالي يريد إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل العصر الحديث بأكثر من 1300 عام.
إذا كان الأمر كذلك: ماذا يعني أن تعود «ولاية الفقيه» وتتحول من مفهوم نظري كان موضوعاً لجدل واسع في الفقه الشيعي لقرون، إلى دولة دينية في أواخر القرن الـ20؟ وماذا يعني أن يظهر تنظيم «داعش» ويسقط الحدود السياسية بين العراق وسورية، ويعلن قيام «دولة الخلافة الإسلامية» على الأرض المشتركة بين هذين البلدين؟ فضلاً عن أن هذا الإعلان يهيئ لتقسيم الدولتين اللتين ظهر فيهما، فإنه يمثل تحدياً لدول المنطقة، وأولها الدول العربية. هل يمكن أن يكون إعلان دولة الخلافة محاولة لرد متأخر على دولة «ولاية الفقيه»؟ الواضح أن الأخيرة هيأت بقيامها الأرضية الثقافية والسياسية لإمكان قيام الأولى أو ما يشابهها. بعبارة أخرى، الفضاء الحضاري للمنطقة لا يزال يتسع لـ«ولاية الفقيه» ولـ«الخلافة»، وقبل ذلك وبعده للطائفية. اللافت أن «الخلافة» في الأصل لم تتأسس على مفهوم طائفي. عودة مثل هذه المفاهيم إلى الحياة، ومنافستها لمفهوم الدولة تشير إلى تهلهل ادعاء الأخيرة بأنها موجودة أو أنها تنتمي لمرحلتها الحديثة. ماذا يقول هذا عن السبب الأهم لظهور «داعش» و «حزب الله» وأشباههمها في المنطقة؟ يقول إن تفشي الطائفية علامة بارزة على ضعف الدولة (العراق وسورية)، أو غيابها (لبنان). وغياب الدولة أو ضعفها يخلق فراغاً سياسياً في الداخل والخارج معاً. والفراغ جاذب بطبيعته لكل من هبّ ودبّ من أنواع التنظيمات والتدخلات الأجنبية. وبالمنطق نفسه، ولأن إيران تعاني الحال ذاتها، يفكر البعض بسقايتها من الكأس التي تشرب منها في العراق وسورية ولبنان.
* اكاديمي وكاتب سعودي
الحياة

 

لبنان يقاتل في سورية… من هنا تبدأ “داعش”/ حازم الامين
قد يكون غير واقعي ألاّ يتشاءم لبناني بحال بلده اليوم. ذاك أن انتحاريين يطرقون أبواب هذا البلد الضعيف، من أكثر من جهة. عبر المطار كحال انتحاري فندق الروشة، وعبر الحدود مع سورية كحال انتحاري ضهر البيدر. وربما جادت علينا أوضاعنا بانتحاريين محليين، على ما سبق وكشفت الوقائع.
«داعش» تتقدم في المنطقة كلها، فما هي، والحال هذه، احتمالاتها اللبنانية؟
في الإقليم، ثلاث مناطق (دول أو مشاريع دول) متشابهة لجهة قربها الجغرافي من «داعش»، ورغبة الأخيرة في استهدافها، وهي لبنان والأردن وكردستان العراق. لبنان شهد انطلاقة في النشاط الداعشي، كانت متعثرة، لكنها تنبئ باحتمالات التصعيد. جيرة «داعش» لكردستان العراق أشد تعقيداً من جيرة التنظيم الإرهابي للبنان. الموصل لا تبعد أكثر من 40 كيلومتراً عن أربيل، والعشائر التي أخضعتها «داعش» يتداخل سكنها مع سكن العشائر الكردية، ناهيك عن أن في «داعش» أيضاً عناصر كردية وأمراء أكراداً. لكن ليست القبضة الأمنية للبيشمركة وحدها، ما جنّب الإقليم غزوات «داعش» وانتحارييها، إنما أيضاً عجزها عن اختراق النسيج الاجتماعي الكردي. فالمقاتلون الأكراد في «داعش» نُخب سلفية، وليسوا امتداداً لانقسام سياسي أو اجتماعي أو طائفي أو مناطقي. ليست لـ «داعش» بؤرة اجتماعية تتحرك فيها داخل الإقليم الكردي، ونشاطها لا يُخاطب مزاج أحد هناك. وهي قد تنجح في اختراق الإجراءات الأمنية بسيارة مفخخة، كما جرى الشهر الفائت في أربيل، لكن ذلك لن يكون أكثر من اختراق موضعي تتعامل أجهزة الأمن مع الثغرات التي تسلل منها.
الأردن من جهته يملك حدوداً طويلة مع «داعش»، ومن بين مواطني المملكة مئات يقاتلون معها، ومن المقيمين هناك مؤيدون «جهاديون» لها تُقدر أعدادهم بأكثر من ثلاثة آلاف. لكن المملكة لم تُخترق بأي عمل أمني منذ 2006، عندما أقدم أبو مصعب الزرقاوي على تفجير الفنادق الثلاثة في عمان. وليس احترافية الأجهزة الأمنية الأردنية وحدها أيضاً ما حصّن المملكة، انما أيضاً عدم تمكن «داعش» من حجز مكان لها في الانقسام الاجتماعي والمناطقي الأردني. موضوعة «الجهاديين» في الأردن خارجية بالكامل، ولا يُمثل تيارهم نسبة تُذكر من عدد السكان، وهم كنخبة مقاتلة، لم يتمكنوا من التواصل مع الحساسيات المحلية، ناهيك عن أن خط الانقسام الداخلي لم يبلغ من العمق ما يُمكّن «داعش» من توظيفه.
إذاً هناك شرطان لاحتمالات اختراق «داعش»، الأول أمني والثاني سياسي اجتماعي. في العراق تحقق الشرطان فاحتلت «داعش» معظم الغرب ومساحات واسعة من الشمال والوسط. فساد الحكومة والأجهزة الأمنية والعسكرية من جهة، وشعور السنّة بالإقصاء من جهة أخرى.
أما لبنان، فالشرط الأمني فيه لا يبدو هشاً على ما كشفت الوقائع الأخيرة، ذاك أن العمليات التي نُفذت في الأسابيع الأخيرة كُشفت كلها، ويبدو أن جهداً أمنياً تُشارك فيه أجهزة أمن دولية وراء هذه الإنجازات.
إذاً يبقى الشرط الثاني، والمتمثل في الانقسام المذهبي الذي يمكن «داعش» أن تستثمر فيه. ولا بد هنا من استحضار الطائفة السنية بصفتها مركز طموح «داعش». فالحاجة اللبنانية إلى موقف سنّي حاسم في الانحياز ضد «داعش» ملحّة اليوم. والاكتفاء بدعوة «حزب الله» للعودة من سورية لم يعد كافياً. فلا شك في أن لمشاركة الحزب في القتال إلى جانب النظام السوري دوراً مسهلاً لوصول «داعش» إلى بلادنا، لكن الاكتفاء بهذه الدعوة لمكافحة «داعش» تغاضٍ عن حقيقة أن الشقاق اللبناني ينطوي على احتمالات داعشية. فقبل أيام قليلة مثلاً أقدمت «هيئة العلماء المسلمين» على تحريم الانتماء الى «سرايا المقاومة»، وهي ميليشيا سنّية صيداوية أنشأها «حزب الله» ويُقاتل أفراد منها في سورية، وهذا التحريم لم يشمل الانتماء الى «داعش» أو الى جماعات تكفيرية موازية. هذا ليس مؤشراً مطمئناً.
من الواضح أن «حزب الله» فهم معادلة الاحتمالات الداعشية ويحاول التعامل معها بما هو متاح أمامه. الانسحاب من القتال في سورية ليس بمتناول القيادة اللبنانية للحزب، فهذه وظيفة يؤديها الحزب لسيده الايراني، لكن الحزب أحدث بقبوله التشكيلة الحكومية الأخيرة انفراجاً سنياً محدوداً انعكس على نحو سريع على المستوى الأمني. أما القول بأن «انتصارات» الحزب في القلمون هي ما أدى الى وقف التفجيرات، فكذبته تفجيرات الأسبوع الفائت.
لا يُمكن الجهد الأمني وحده أن يُنجز مهمة التصدي لـ «داعش»، فللتنظيم قدرات غير متوقعة ولا يُمكنه استخدامها من دون وجود حاضنة محبطة ومُستهدفة. الطائفة السنية قد تكون أكثر من نصف لبنان اذا أضفنا إليها اللاجئين السوريين والفلسطينيين. وبؤر الوهن والإحباط في أوساطها كثيرة واحتمالات الاستثمار قائمة.
مسؤولية تيار «المستقبل» هنا كبيرة، فهو الحاضنة السياسية للسنّة اللبنانيين اليوم، ومن الواضح أن «المستقبل» طرف أساسي في ما أنجز حتى الآن، لكن ضفاف البحيرة السنّية اللبنانية مترامية ولا يمكن طرفاً أن يحيط بها.
إذاً «داعش» تقيم في هذين الخللين. قتال «حزب الله» في سورية، وضعف الحساسية السنّية حيال هذا النموذج الجديد. وانعدام القدرة على مواجهة هذين الخللين يتم حتى الآن بالمداراة. «حزب الله» الذي يعرف تماماً أن لقتاله في سورية ارتدادات داعشية قرر ممارسة التقية على وظيفته السورية. يدفن قتلاه بأقل قدر ممكن من الضجيج، ويتكتم على حجم مشاركته، التي يبدو أنها كبيرة، وهي وظيفته الوحيدة هذه الأيام، ويُحدث بعض الانفراج عبر هدنة مع «المستقبل». يحصل ذلك في مقابل تكتم موازٍ، ذاك أن «داعش» خلفت مشاعر «انتصار» ونشوة في صدور الكثيرين من المحبطين السنّة، وهو أمر مسكوت عنه، لكنه ما زال غير كافٍ لأن يُوظف.
ثمة هدنة سياسية وطائفية قد لا تخدم «داعش»، لكنها هدنة هشة وغير حقيقية، والتنظيم الإرهابي يعرف أن له مكاناً فيها. واذا كان كل من الأردن وكردستان جزءاً من تحالف دولي لا تربطه علاقات مودة مع النظام في سورية، فإن سلطات البلدين لا تشارك في القتال في سورية ولا تسهله، وهي أرست أنواعاً من الهُدن مع النظام وظيفتها بالدرجة الأولى تحصين أمن البلدين.
لبنان يُقاتل في سورية. من هنا تبدأ حكاية «داعش» اللبنانية.
الحياة

 

Lost in translation!
نهلة الشهال
تنطبق على رئيس الوزراء العراقي الجملة («ضائع في الترجمة»)، التي كانت في الأصل عنوان فيلم رائع لصوفيا كوبولا، فغدت أشبه بتلك الأمثلة التي من فرط كثافتها تستقل عن قصتها الأصلية، عابرة الأزمنة والأماكن، لتلخص حالة بأكملها.
السيد المالكي لا يهمه مما يجري اليوم في العراق سوى السعي في ألاّ يؤدي الحدث الى تهديد بقائه رئيساً للوزراء. تعمر، تخرب… المهم هو أن كتلته «نالت 92 مقعداً في الانتخابات النيابية الأخيرة، والدستور يقول إن صاحب العدد الأكبر من المقاعد هو الذي يُكلَّف بتشكيل الحكومة». واحترام الدستور واجب! هذا ما يردده الرجل في كل مناسبة، ممنياً النفس بأن البرلمان الجديد سيجتمع لتحقيق ذلك «خلال الشهر الجاري»! بينما البلاد تنزلق الى المجهول جارَّة معها المنطقة. هذا ما حاول أيضاً قوله لجون كيري، وزير الخارجية الأميركي، خلال زيارته بغداد قبل أسبوعين ولقائه به… والذي اعتبر ذلك «تفاؤلاً» في غير محله، وظل يكرر مداخلات تحاول تظهير خطورة الموقف، قبل أن ينهر المالكي. وهو ردد كلمة «الصراحة» الواجب عليه اتباعها مرات عدة تلفت الانظار، وحمَّل المالكي مسؤولية وصول الموقف إلى هذا الدرك، وعيّن «بوضوح» (وهذه المفردة أيضاً كررها مرات) أن المشكل يكمن في السياسات الطائفية التي يتبعها رئيس الوزراء العراقي، واضطهاده السنة والكرد، بل نادى برئيس وزراء يمكنه جمع مكونات البلد وبحكومة وحدة وطنية، واستخدم مرات مفهوم حكومة الانقاذ الوطني (الذي لا يرى المالكي ما يبرر اللجوء إليه، فهو لديه الغالبية!)، معتبراً أن الحل العسكري يتبع هذه الأسس ولا يحل محلها.
لكن المالكي كان lost in translation. أراد استغلال الزيارة لرمي مسؤولية ما يجري على سواه، وللظهور كضحية، وأراد تحريض الأميركيين ضد الإرهاب، وأراد استخدامهم وفق مصلحته، مطالباً بضربات جوية (أميركية) لأوكار المسلحين «وإلا وصلوا الى بغداد»، بما يشبه التهديد. وفلتت من لسانه درر من نوع العفو الذي «منحه» لرجال العشائر إلاَّ من تورط منهم بالدم، فذاك «مُلْك ولي الدم» على ما قال، بينما هو رئيس دولة وليس عشيرة، بعدما صار على الموضة إخراج هذه الجملة الجاهلية بمناسبة وغير مناسبة…
ولي الدم إذاً! ثم نطق بدرة أخرى تتعلق بحق الشيعة في كل العالم في الذود عن المقدسات، في معرض دفاعه عن التدخل الإيراني في العراق، ورداً على تحذير كيري منه وقوله إنه مثير للحساسيات والمخاوف، وسيقلب المعادلة. ها الشيعة بنظر رئيس الوزراء العراقي منظومة أو كتلة عابرة للدول والسيادات، مما يتيح بالطبع لسواهم أن يمارسوا العبور والاختراق نفسه الذي يمكنه اتخاذ تسميات شتى… منها «داعش»، والخلافة الإسلامية التي أعلن أميرها عن تأسيسها، وعاصمتها الموصل، داعياً كل المسلمين للهجرة إليها، فـ «لا سورية ملك السوريين ولا العراق ملك العراقيين». منطقان متشابهان ويتكافآن، ودينامية دائرتين تتغذى واحدتهما من الأخرى.
في كل الأحوال، فـ «الضائع في الترجمة» هم أيضاً القادة الإيرانيون الذين يتباهون بمساندتهم ومساعدتهم سورية، واستعدادهم لمساعدة ومساندة العراق أيضاً وبالطريقة نفسها. ولا بد أن العراقيين، المبتلين بعقود متوالية من المآسي الكبرى، قد استعاذوا بالله لدى سماعهم ذلك التصريح، وتحسسوا رؤوسهم وخبأوا أطفالهم في حجورهم.
وأما الضائع الآخر في الترجمة، فالكرد الذين ما زال مسعود البارزاني يتصرف كزعيمهم بينما حلت كتلته ثالثة في منطقتها في الانتخابات النيابية الأخيرة (طالما أن ذلك ما زال مقياساً في بلد تميد فيه الأرض تحت أقدام أبنائها). بل لعل تلك النتيجة المخيفة تدفعه إلى استغلال الحدث الجلل… لقبرها وتجاوزها، والاستمرار في التصرف كزعيم أكبر يقرر مصير جماعته والبلد برمته، عبر ما يراه فرصة سانحة لما يسميه «الاستقلال الوطني» و «تقرير المصير»، الذي لا يؤيده فيه إلا نتانياهو إسرائيل، وتناهضه واشنطن ولندن، حليفاه الرئيسان على مدى العقود الماضية. وتبدو الخطوة بائسة، لن تؤدي سوى إلى المساهمة في تفكيك العراق (الذي يرى البارزاني انه فُكِّك وانتهى والسلام، فعمد إلى قضم حصته)، ولعلها تستدعي للكرد العراقيين فصلاً جديداً من مأساة متصلة هي الأخرى…
وأما «هيئة علماء المسلمين» في العراق فاتخذت مواقف من قبيل أن «الثورة الحالية عراقية بامتياز، وتستهدف الظلم والظالمين». ولأنها ترى في هذا الذي يجري فرصة سانحة للعودة الى الظهور والإفادة، في ميادين شتى! من الأمر، بعد خبو حالها تماماً، ولأن رؤيتها للعالم ومفهوم أصحابها للوطنية يرتكزان إلى عملية الجمع الحسابية لأطراف متنوعة (فيتحقق «تمثيل» الجميع)، وليس إلى تأسيس وإطلاق أو استنهاض دينامية مشتركة متوافق عليها… فهم، علاوة على تحالفهم مع «خليفة المسلمين» البغدادي، صاحب «داعش»، ومع فلول البعث والنظام البائد، يبحثون عن ممثل في «المعسكر الآخر»، أي الشيعي، وقد وجدوه في تحرك السيد الصرخي في كربلاء، الذي يُكلِّمه الإمام المهدي مباشرة، وكان في يوم من الأيام (على ما صرح وقتها) قد أمره بقطع رأسي المالكي ومقتدى الصدر لخروجهما عما يراه الخط القويم. ويستهوي الهيئة انشقاق الرجل عن المرجعية الشيعية وعن إيران. وبهذا المعنى، فهم هنا أيضاً يطبقون مفاهيم بدائية من قبيل «اللهم زِدهم فِرقة» والتي تضمر فعلياً العداء «لهم» كآخر «غريب»، أو هي وفي أحسن الأحوال تتَّبع مبدأ «عدو عدوي صديقي». والخطتان تستندان الى منطق وظيفي بحت، لا صلة له بعملية البناء الوطني.
ولعل استخدام العنوان الذي غدا مثلاً، أي «lost in translation»، هو، على رغم قوته التعبيرية، نافل في حالة العراق. فتاريخ بلاد ما بين النهرين يختزن ما يفوقه بكل المقاييس: كـ «تبلبل الألسن» (والقلوب، بما هي ضمائر ونوايا) الذي عمَّ بابل، وانحفر في الكتب المقدسة، وصار مثلاً يُستخدم في كل لغات الأرض وآدابها، وإلى تعبيرات حديثة، منها تسمية «بابل» التي اختارتها لنفسها «شبكة المترجمين العالميين التطوعيين» المناهضين للمنظومة النيوليبرالية، والذين كانوا من مؤسسي حركة «المنتديات الاجتماعية العالمية» في سياتل ثم بورتو اليغري ثم مومباي وسواها… ما يؤكد ها هنا، ومجدداً، وعلى طريقته، أن العراق كونٌ، وليس كياناً مستحدثاً طارئاً!
الحياة
حول داعش وفُتوّة الجهاد/ حسن شامي
ثمة من تساءل، في الثمانينات، عما يحمل آلاف الشبان المسلمين على مغادرة أوطانهم في بلدان الخليج العربي وغيرها من البلدان لمقاتلة القوات السوفياتية التي اجتاحت بلداً إسلامياً هو أفغانستان. وأظهر حصاد سنوات الجمر الأفغاني وتقلباته الحارقة، وهو لم ينته وقد لا ينتهي، أن الجواب «التقني» عن السؤال زاد في متاهته. ونقصد بالجواب التقني، أو الوظيفي الأداتي، القول بأن ماكينات استخبارية دولية، أميركية تحديداً، وإقليمية إسلامية، باكستانية وخليجية، تولت تمويل وتسليح وإرسال الراغبين في تلبية الدعوة إلى الجهاد و «نصرة» ونجدة إخوان في الدين ضد عدو شيوعي ملحد ومتجبّر. بقي السؤال معلقاً، كي لا نقول تائهاً، لأن الجواب التقني لا يكتفي باختزال كل الأبعاد السياسية والجيواستراتيجية إلى إشكال دعوي ماهوي تختصره الصفتان المرفوعتان كرايتين على النبذ المتبادل، أي الصفة الإسلامية والصفة الشيوعية الإلحادية. فهو يطرد كذلك من المخيلة الباحثة كل الحمولة السوسيولوجية والنفسية لفكرة الجهاد الإسلامي وأشكال توليدها وتفعيلها في بيئات اجتماعية وثقافية مضطربة وقلقة.
من يرغب في التعامل مع الموضوع بوصفه حدثاً تاريخياً يجدر تعقله، وليس مجرد إخراج تقني ومهني نفذته وتنفّذه أجهزة بيروقراطية ودعوية، يسعه أن يلاحظ عدة أمور انعقد عليها مصير البلد الأفغاني المشهود له بأنه مقبرة الامبراطوريات. وليس تشكل تنظيم القاعدة وشبكاته المتعددة تحت عباءة بن لادن إلا أحد المفاعيل البارزة للحدث. قد يكون المفعول الأبرز ذواء الالتباس بين الوطنية الأفغانية والصفة الإسلامية العريضة الحاضنة لفسيفساء من الإتنيات والمعتقدات والطقوس والتكوينات الاجتماعية المختلفة لصالح هوية دعوية جهادية تتسم في وقت واحد بالترجح بين اعتبارات ما دون الوطنية أو ما قبلها وبين اعتبارات «عولمية» إسلامية جارفة للأبنية الوطنية.
لقد جرت، في معنى ما، خصخصة للحرب وللجهاد. ولا تنجح التعبئة الجهادية من دون تفعيل أدبياتها ومرجعياتها الفقهية والخطابية. واستدعى هذا استحضار زمن ملحمي نحسبه نحن ماضياً فيما يعلق الجهاديون كل الأمل على استعادته وتأبيده. إنه الزمن المعياري بامتياز. ولا زمن للمسلمين خارجه. ويعني هذا أن زمن التقنية الحديث لا يتطابق مع الزمن الاجتماعي لبيئات الجهاديين.
كانت حركة طالبان تعبيراً واضحاً عن الهوية الجهادية المستندة إلى تشكيلات قبلية والمتقاطعة مع مشروع جعل الإقليم قاعدة الجهاد الإسلامي المعولم. لنقل، على سبيل التبسيط، إن توطّن الجهاد نقل البلد الأفغاني من التباس الوطني والديني والقبلي إلى معقل لانطلاق الجهاديين في كل الاتجاهات ومن فوق الحدود الوطنية. لم تعد أفغانستان بلداً مسلماً فقد صارت منصة إسلامية مفتوحة على كل الاشتقاقات الإسلاموية.
هذا التذكير بالحالة الأفغانية ضروري لفهم ظاهرة داعش. فالكلمة التي خاطب بها زعيم التنظيم، بعد أيام قليلة على إعلان ممثله أبو محمد العدناني إقامة دولة الخلافة وتنصيب البغدادي خليفة للمسلمين، جديرة بأن نتوقف عندها بسبب خطورة الظاهرة وحمولة الكلمة في آن. فهو يحاكي تجربة بن لادن ويستأنفها على أرضية نزاعات عراقية، طائفية ومذهبية واتنية ساهم في تأجيجها نزوع نوري المالكي إلى الاستئثار والفساد وتهميش السنّة. لكنه يرفض قصر انتفاضته على الفضاء الوطني العراقي. وقد استند البغدادي، على الأرجح ومن دون الإفصاح الصارخ، إلى قاعدة وفتاوى فقهية قروسطية حول «إمارة الاستيلاء» والغلبة وخاطب عموم المسلمين في العالم ودعاهم إلى الهجرة الواجبة عينياً إلى دولة الخلافة. وخص بالدعوة الفقهاء والدعاة وأصحاب الكفاءات العسكرية والإدارية والخدمية.
يبدو هذا الإعلان فولكلورياً في نظر كثيرين مما يفسر ميل الحكومات العربية، باستثناء المالكي وحليفه الإيراني، إلى التعاطي مع الأمر على قاعدة اللامبالاة.
في المقابل ثمة ما ينم عن تأثير لخطاب البغدادي ونشاط داعش في بيئات السلفيات الجهادية. فهو يخاطب لديهم، بلغة شرعية لا تعدم مرجعيات فقهية، الشعور بالحاجة إلى الفتوة وإلى ملاقاة زمن ملحمي وخلاصي يخرجهم من زمن الوضاعة والشقاء والعجز. فقد جاء في التعريف بإبراهيم السامرائي المعروف بأبي بكر البغدادي أنه «مولانا أمير المؤمنين أبو بكر القرشي الحسيني البغدادي، حفظه الله». هذا التعريف المتسلسل الأنساب يشي في آن معاً بالتطابق مع المقولة الفقهية عن حصر الخلافة والأئمة في قريش ومع قيم النسب والحسب في البيئات القبلية والعشائرية العربية. ويكفي هذا للتدليل على التقاطع الحاصل بين العشائر السنية والدعوة الجهادية. وهو يستعيد أخلاقيات الفتوة والفروسية حين يخاطب مجاهدي داعش بالقول: «إن لكم في شتّى بقاع الأرض إخواناً يسامون العذاب» وهؤلاء ينتظرون نجدتكم ويرقبون طلائعكم. وأقسم «والله لنثأرنّ ولو بعد حين. ولنرد الصاع صاعات، والمكيال مكاييل». لكنه لم يتحدث عن الروافض والنصيرية بل صب هجومه على الصليبيين والملحدين واليهود. ورأى أن «للمسلمين اليوم أقداماً تدوس وثن القومية وتحطم صنم الديموقراطية». واستعاد مقولة بن لادن عن الفسطاطين معتبراً أن العالم مقسم اليوم «إلى فسطاطين اثنين، وخندقين اثنين. فسطاط إسلام وإيمان، وفسطاط كفر ونفاق». ويضم الفسطاط الثاني كل أمم الكفر وملله، وتقودهم أميركا وروسيا، ويحركهم اليهود.
من الواضح أن البغدادي يحذو حذو بن لادن وهو بذلك يصفي حسابات مع منافسيه في القاعدة وجبهة النصرة. ويبدو أن قسماً من هؤلاء، ومن غيرهم من الجهاديين الناشطين في مناطق أخرى، جذبتهم الانتصارات الداعشية بعد غزوة الموصل والسيطرة على حقول نفطية واعدة ومجزية في سورية والعراق فبايعوا البغدادي.
قد ينجح داعش في تحقيق الأمن وفض النزاعات في مناطق سيطرته من خلال تطبيق صارم للشريعة وتوزيع خدمي للريوع النفطية وسواها. ولا يهمه أن يشعر الآخرون بأنه يقودهم بضراوة إلى زمن ماض بقدر ما هو متوهّم. ففي هذا الزمن الذي تستولده بنادق الجهاديين وتصنع صورته على النقيض من الحاضر وترمز إليه فكرة الخلافة، يمكن أن تستعاد أمة الإسلام الضائعة في غياهب أزمنة حديثة يتحكم الآخرون بمقاليدها.
خطورة داعش تكمن في قدرتها على اجتذاب فئات شبابية لا تجد مكاناً لها في زمن تآكلت فيه الهويات الاجتماعية والطبقية والمهنية. ولا يتعلق الأمر حصراً بمستوى الدخل أو البطالة، بل بالثأر من هامشية لا تجد فرصاً للخلاص. سينهمر السلام على داعش أما العراق وسورية فعليهما السلام.
الحياة

 

مات بن لادن عاش البغدادي/ عبد الرحمن الراشد
ولادة زعيم لـ«داعش» تجدد المخاوف، أخيراً جاء من ينقذ هذه الجماعة المشتتة، التي تقوم على الرمزية والتاريخ والدين. ظهر أبو بكر البغدادي، منهيا عقم القاعدة الذي دام ثلاث سنوات وعجزت عن تتويج خليفة لرمزها المقتول، أسامة بن لادن.
هذا البروز، في مكانه وزمانه، يثير التساؤلات عن من، وممن تُستخدم هذه الجماعة، أو من استطاع اختراقها. فقد ولدت «داعش» فجأة على الأرض السورية المحترقة، في وقت بدا انهيار نظام بشار الأسد ممكنا. ظهور «داعش» أنقذ النظام السوري، بتخويف العالم من بديل إرهابي للأسد، وقيامها بقتال المعارضة المسلحة المدنية.
وتكرر السيناريو في العراق. كان نوري المالكي، الأكثر التصاقا بإيران، على وشك الخروج من رئاسة الحكومة، بعد أن أجمع قادة الشيعة والسنة العرب والأكراد على رفض التجديد له، ثم ظهرت جماعة «داعش». استولت على الموصل، ثاني أكبر المدن وأكثرها تحصينا، ليصعد نجم المالكي طارحاً نفسه، الزعيم الضرورة لمواجهة الإرهاب السني!
وبدل أن تقاتل «داعش» خصومها المعلنين، الأسد والمالكي، تحشد رجالها باتجاه شمال السعودية مع العراق، وتشن معركة على حدود السعودية الجنوبية مع اليمن.
مات بن لادن، عاش البغدادي! يفعل ما فعله سلفه من قبل، ويتحاشى ما تجنبه أيضا. كانت إيران عدوة في الدعاية الدينية، حليفة في الخفاء. كانت مقرا لبعض خلايا القاعدة، منذ التسعينات، بزعامة الأصولي المصري سيف العدل. وبعد هروب القاعدة من أفغانستان صارت ملجأ لعدد أكبر. إلى إيران، أرسل بن لادن نصف أولاده وإحدى زوجاته، الذين سلمتهم بعد مقتله لسوريا ثم إلى السعودية. ولا تزال أعداد من قادة وجنود القاعدة من سعوديين وعرب يقيمون في إيران، التي لم يحدث أن استهدفتها القاعدة، قط، رغم كثرة أدبياتها وتحريضها ضد الشيعة!
البغدادي نسخة أخرى من بن لادن، نموذج للفشل الديني في المجتمع السني الذي عجز عن وقف ثقافة التطرف، وفشل في إيجاد البديل الثقافي. و«داعش» تولد من داخل الأقبية المظلمة، ويتم اختراقها من قبل أجهزة مخابرات المنطقة لتدار وفق مشاريع سياسية لا علاقة لها بمشروع التنظيم نفسه. تقريبا كل مقاتلي القاعدة الذين دخلوا العراق بعد احتلال القوات الأميركية تسللوا عبر الحدود السورية.
نحن الآن في بداية حرب جديدة، عقد أو عقدين من الزمن، ومن يدري؟
الشرق الأوسط

 

تحرر «الدولة الإسلامية» من قطرية «العراق والشام» تحت لواء الخلافة الابراهيمية/ وضاح شرارة
انشق عن الدولة الاسلامية في العراق والشام، قبل انتصاب أميرها خليفة، رجل كان ولاه أصحابه قاضياً، ودخل في جيش الاسلام في إمرة المدعو زهران علوش. فما كان من مقاتلين ينتسبون الى «الدولة» إلا ان قتلوا صاحبهم السابق. وفي الاثناء، شكل 17 فصيلاً يقاتلون في كتائب الاسد وبقايا جيشه في الغوطة الشرقية الدمشقية، كياناً مشتركاً سموه المجلس القضائي الاعلى، وكأنهم أمة من قضاة. وكان «جيش الاسلام» من الفصائل التي دخلت في المجلس القضائي. و»الجيش» أبرز فصائل كيان آخر يعرف باسم الجبهة الاسلامية. وأبلغ زهران علوش، قائد أو أمير جيش الاسلام وأبرز قادة الجبهة الاسلامية وأبرز قادة المجلس القضائي الاعلى معاً، مؤتمراً صحافياً بالضاحية الدمشقية في أواخر حزيران المنصرم أنه فاوض تنظيم «الدولة الاسلامية» على الانضمام الى المجلس القضائي، ولم يستجب الاقتراح.
والمفاوضة كانت محلية أو موضعية، وموضوعها شرق دمشق وحده. وأما ريف ادلب ودير الزور، حيث تخوض «الدولة» أقسى الاشتباكات وأسخاها بدماء مقاتليها ومقاتلي خصومها، فهما مسرح اقتتال يسهم فيه جيش الاسلام بسهمه. والحليف الجائز بالغوطة هو، على قول علوش، «عصابة قذرة» حري بـ»أهلنا في الغوطة الشرقية (…) الانشقاق عنها». وتترجح الامور بين دعوة الى الحلف، والانخراط في القتال كتفاً الى كتف، وبين الحكم في الفصيل نفسه بالموت، وإباحته للعدو، وحمل الاهل على الانفضاض عنه. ويرهن علوش جبهة دمشق الشرقية، والقتال عليها، بشرطين متلازمين: توافق الفصائل المسلحة، وشرح مخاطر تنظيم «الدولة». ولما تم الامران انفجر القتال.
ووضوح الحال، جزئياً، لم يحل بين فصائل المجلس القضائي، المزمعة التوحيد في فصيل عسكري واحد، وبين إمهال «الدولة» بعض الوقت قبل حسم استبعادها أو إقصائها عن الكيان الجديد وإهدار دم مقاتليها، على التقليل. وفي المهلة، على «الدولة» التصدي لمسائل جسيمة: عليها الرجوع في أحكام تكفيرها فصائل الغوطة المنضوية في الجبهة الاسلامية أولاً ثم في المجلس القضائي من بعد- على غموض الانقلاب من التوحيد الاول الى التوحيد الثاني- . وعليها حل نفسها. ويمهد الاجراء الجسيم و»الكبير»، نسبة الى الكبائر، الى إقرار «الدولة» بمجلس القضاء هوية ومرجعاً، والدخول في طاعته «والامتثال لأحكامه».
وبينما كان زهران علوش يكلم الصحافيين المؤتمرين، على مرمى أقواس قليلة من قلب العاصمة الحكومي، وقصور الحكم والسلطان فيها، اجتمع المجلس القضائي، وكتب بياناً يراه العامي، من غير العلماء والفقهاء والقضاة، غريباً. ويجهر البيان رفض «القضاة» الاعتراف «بدولة العراق والشام كدولة». ومصدر الغرابة أن «الدولة» العتيدة تنسب نفسها أولاً وأخيراً الى الاسلام. فهي «الدولة الاسلامية». ولا شك في أنها تقدم نسبتها الاسلامية على صحة صفتها أو استوائها «دولة»، شأن دول الكفر والشرك والقانون الدولي، المنكِرة أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها وحدودها والصادرة عن رأي البشر ونظرهم الكليل والمتخبط… وانتهت الى تلقيب نفسها بلقب الخلافة الذي يليق وحده بها، وبمكانتها وعدد قتلاها. وينحي المجلس القضائي، المزعوم أعلى فوق هذا، صفة الاسلام عن «الدولة»، ويسأل عن كيان الدولة المجرد والمشترك، وكأن لهذا الكيان المزعوم حداً أو تعريفاً في نفسه، خارج «الاسلامية». وينكر المجلس القضائي على «الدولة الاسلامية» استيفاءها «مقومات الدولة الشرعية والحسية». ولا يفصِّل البيان المقومات. ويحشر الشرعية والحسية في باب واحد أو مشترك. والارجح أنه يعول على الحسي قبل الشرعي، ويقدم الحدس، وهو مرآة المتعارَف في البلدان والمجتمعات كلها من غير تخصيص ديني، على العلم الشرعي. وهذا، أي العلم الشرعي، وحده يأخذ «المسلمون» به، ويفهم بضعهم عن بعض من طريقه، ولا يفهمون عن غيرهم على نحو ما لا يفهمون عن أهل العجمة وغير الانسيين. ولعل هذا معنى سؤال ابي محمد المقدسي (عصام البرقاوي): ما هو رأي الخلافة الجديدة في خلافة لقوقاز؟ وفي خلافة الملا عمر بقندهار؟ أتكون الخلافة الجديدة خلافة خلافات؟
وليس القتال الدائر، والدماء الغزيرة التي سفكت وتسفك كل يوم، والتنديد بـ»العصابة القذرة» وتحريض الاهل عليها، والحَجْر على شراكتها في الاعداد للقتال و»الجهاد» مانعاً أو مانعة من الطلب الى أهل «الدولة» المبادرة الى «اصدار بيان واضح من فصيل دولة العراق والشام بحل هذه الدولة». فالانتقال من الاقتتال وسفك الدم والتكفير الى الاندماج في جماعة واحدة ومتعاهدة على الحياة والموت واعتقاد إيمان واحد، على جسر بيان أو رأي أو فتوى، فعل يسير. ومثله يسراً إعلان الدولة، او الخلافة الابراهيمية، أو حلها، وإبطالها. وآلاف القتلى، ونصفهم «شهداء» على ما يفترض، في اقتتال «الدولة» وجبهة النصرة، والبيان القضائي يحصيها في الفصائل والمنظمات التي يطلب إيضاح الرأي في إسلامها أو كفرها، آلاف القتلى هؤلاء «قادة وأفراداً» يُشترون، وتزول صفة القتل والاستباحة والظلم عنهم وعن قتلهم، لقاء «بيان واضح في حكم (فصائلهم)» وإسلام هذه الفصائل.
وهذه المنظمات الاسلامية و»المجاهدة»، والمقاتلة والمتقاتلة، المتحالفة بعد حرابة واحتراب أو بعدهما، يدعو بعضها بعضاً بعد سنوات على قيامها و»بلوغ الدماء الركب»، على قول «سيرة عنترة» أو «سيرة الزير بو ليلى المهلهل»، الى «التحاكم لشريعة الله في قضية سفك دم مسلم». أو لم يكن «التحاكم للشريعة» في الدماء والاموال والفروج، وحلالها وحرامها، الركن الاول ومسوغ الخروج الى قتال الحاكم الباغي؟ فكيف يتداعى «مسلمون» الى التحاكم بعد خراب «البصرة» ونينوى وديالى وصلاح الدين وبابل والرقة والجزيرة وخانقين، والتحاكم أصل اجتماعهم وعروتهم؟ وهل يعول الفصيل على انقلاب مخاطبه من الكفر الى الاسلام حال مناشدته الانقلاب أو تذكيره بالتحكيم؟ فلماذا لم يناشَد أو يذكر من قبل؟ وهل يترتب حكم أو قضاء على التأخير أو الارجاء؟ ومن يتولى مثل هذا الحكم؟
وترد «الدولة» الجواب على بيان مجلس القضاء ببيان يجاريه تبييناً ووضوحاً ويقيناً وإقناعاً. فتقول في طلب «حل الدولة»، أو إسقاط اللفظة والاستعاضة عنها باسم فصيل «مجاهد»، بأنه «متعذر». ويمضي الجواب على إيضاحه: «… بل دونه خرط القتال» أو «القتاد»، على ما جاء في عيون الكلم وسهت عنه وكالة الاخبار. ومسألة الدولة، وهي قد تبدو في عين العامي خطيرة وحاسمة، يرد البيان عليها رداً حاسماً: «فليبينوا لنا ما هي مقومات الدولة في نظرهم». وكأن لم تكن صحيفة المدينة، ولا رسائل في التقاضي ووصايا، ولا عهود فتوح وأخرجة وعشور وأمان وجزية وتخريب أسوار، ولا أحكام عمرية مزدوجة وحواشٍ عليها، ولا أحكام سلطانية في (شروط) الامام الفاضل ونسبه وبيعته وأهل الحل والعقد والندب الى قتال العدو والذب عن البيضة والخطبة على المنبر والتولية والعزل…
وطلب البيان عن مقومات الدولة الدولة يختم بالقول: « في نظرهم». وهذه أمور يعلم قضاة وفقهاء الهيئة الشرعية في «الدولة» أن لا محل فيها لنظر البشر والخلق. وهم أنفسهم يثوبون الى رشدهم الشرعي، ويرجعون اليه حين يتناولون مسألة التكفير ويجيبون عن سؤال المجلس القضائي، فيكتبون:»ومسألة التكفير منوطة بنصوص الشرع لا تخضع للعقول والاهواء في عقيدة أهل السنة والجماعة…» . وهم، أهل «الدولة» وقضاتها، حين يكفرون من يكفرون يخرجون من عقولهم وأهوائهم، ويعرون منها، ويعودون كما ولدتهم أمهاتهم فطرةً خالصة، وجبلة جبلتها يد (مجازاً) الخالق. فلا ينطقون عن عقل، أو رأي او قياس، ولا عن هوى، بل عن نص شرعي قاطع ومحكم. فإذا كفَّر أهل «الدولة» قضى النص الصريح بتصويب تكفيرهم. وإذا أنكر خصومهم التكفير قضى النص الصريح بتكذيب الانكار الصادر عن الخصوم.
وفي مسألة قريبة من مسألة الدولة وأميرها أو رئيسها، كتب عبود الزمر، أحد مقدمي الجماعة الاسلامية بمصر، أن لا ولاية لمحمد مرسي، الاخواني والرئيس المصري الاسبق. واحتج لرأيه بحكم «شرعي» يوجب انتداب من يقوم مقام الامير المكفوف اليد والممنوع من «مزاولة سلطاته» واختيار رئيس جديد. فأهل البلد إما أن يختاروا رئيساً جديداً، وإما أن يتركوا، «الامر فوضى» (والامر والناس فوضى حين يكونون و»لا إمام لهم»، على قول احد أعلام المصنفين في الاحكام السلطانية). فرد الاخوانيون على «الشيخ» على ما يسمون أهل الرأي في الفرق الاخرى، وكان هذا لقب أسامة بن لادن ولقب الظواهري على لسان «الشيخ» عصام العريان في مسامراته الفقهية على شاشة «الجزيرة» في عهد حسني مبارك- بالقول: إنه «يعبر عن وجهة نظره الشخصية»، عن عقله وهواه، فلا يعتد بما يصدر أو ينطق عن عقل أو هوى.
وغداة مراسلات القضاة الفقهاء وأهل الفتوى في مجلس القضاة و»الدولة الاسلامية»، في 27 حزيران، أعدمت «الدولة» أحد مقاتليها بساحة مرطو في مدينة الباب، شرق حلب. وعلقت جثة المقاتل بأحد أبواب أو إحدى بوابات المدينة. ويقضي الحكم الشرعي بتعليقها 3 أيام عبرة تعم ولا تخص. واستحق المقاتل القتل، والتعليق على البوابة، جزاء توقيفه الناس على حاجز يتولى حراسته، وتهمتهم بـ… الكفر، والسطو على اموالهم عقاباً لهم على كفرهم الصريح. وغداة تعليق المجاهد السارق بساحة مرطو صلبت الدولة الخلافة بدير حافر 8 من الجيش الحر. وضوي «الدولة» سراقين ومكفرين من هذا الصنف لا يدعو بعض خطبائها، في مدينة الباب، الى التحفظ عن الافتاء بـ»بطلان صيام من يكره الدولة الاسلامية». فما حال من يقول جهراً: لا دولة؟ ويطعن على جمعها شرائط الدولة ومعاييرها الشرعية والحسية؟
وهذه الشواهد غيض من فيض، أو قطر من أول الغيث (على قول مفوه عُلق على أبواب الحارات). وهي مقتطفة من أقوال وأحكام ناس يسيَّرون الجيوش، ويغزون الصحارى والسهول، ويستولون على المدن، ويمحون الحدود، ويهددون الدول، ويحاصرون مصافي النفط ويتحكمون في أسعاره وفي نمو الاقتصادات. وشأن «الممالك» العظيمة، والباقية على الدهور والابد، يقتلون ويجمعون الجثث في الخنادق طبقات، ويحصون قتلاهم على كيفهم. ويُحمل هذا على مزاولة السياسة أو الامر، وعلى البراعة المجلية فيها. وهو (تسيير الجيوش…) من صنع مقاتلين وأمراء وقضاة وولاة يناقشون مسائل الدولة ومعاييرها والتكفير والقتل والتحالف على النحو الذي مر. وهذا النحو يخلط الألفاظ بالوقائع، ويعاقب بين القتل واستحقاقه وبين القتال كتفاً على كتف، ويسأل حائراًعن البدائه ويقضي باتاً في القضايا الشائكة والمتشابهة. وينتقل بين الأضداد خفيفاً فرحاً. ويجزِّئ هنا ويجمع هناك ويعم.
وهو يصدر في أحواله المتفرقة وأضداده عن يقين بالحق والعلم والاعتقاد والصحيح لا يبارى. ويقينه هذا يقصر العوالم، والمدنيات والحضارات وأصناف العمران والتواريخ والصنائع واللغات، على عالم واحد، ويختصر قراباتها وعداواتها ومعارفها وتقاليدها في أمر أو نهي قاطعين. وتتصدر العالم الواحد أحكام الاستتابة والكفر، والولاء والبراء، والشريعة والردة، والقتل والاقتتال، والتنقب والخروج، وغيرها مثلها. وعلى شاكلة السؤال عن «مقومات الدولة»، يشكك هذا النحو في النظر والقول والعمل في حقيقة «مقومات» ما لا يحصى من المسائل والامور والوقائع، وفي جواز تناولها من طرق العقول والاهواء. فماذا بعد الاستيلاء بالقوة وتوزيع الكهرباء والماء والسطو على المصارف؟ وبعد الأمر بقراءة النقاط الـ13 في أحكام النقاب والصلاة جماعة والمحارم وفتح المحال والأسواق؟ وبعد قتل بعض الوجهاء ومن عرف عنهم موالاة «العدو«؟ وبعد تسيير السرايا في سيارات الدفع الرباعي والشاحنات الصغيرة الى هذه الضاحية القريبة أو ذاك الحي؟
وربما لم يحتج الجمع الجرار من «جهاديي» ساحات القتال والحرب على اليهود والصليبيين والامبرياليات، الكبرى والصغرى، الى إعمال النظر والرأي والاجتهاد في مسائل ما قبل استيلائهم وما بعده. وكان روح الله خميني يرى ان حكومته أو ولايته تقوم ببعض الحبر والورق حال إقرار الناس بها ومبايعتهم إياها على عداء المستكبرين والشياطين. و»الجهاديون» ورثوا من الدول والمجتمعات «القومية» التي حضنت نشأتهم، ثم أعملتهم في قتال العدو «الصهيو- امريكي» أو في عدائه، ثم قتلتهم من غير اجراءات قضاء أو قانون أو ملء قسائم طبية فردية لا تصلح إدارياً لجمع الاشلاء المتطايرة تحت القصف (ورثوا) مثالاً «سياسياً» من الازدراء والضغينة في متناول ضعفاء اهل الاهواء وأقلهم حيلة.
ويوجب هذا المثال «أمةً» غفلاً وعريضة عرض ديار العرب وبلادهم، وعميقة عمقَ تاريخ الاسلام والمسلمين. وينفي المثال من «الامة» العقول والاهواء والمداولة ولا ينطق إلا عن «شرع»، ويعلقها على اسم رجل واحد من لحم ودم. وهذا الرجل هو قائد دولة، وهو عالم- شريعة، وهو محارب استراتيجية. فلا مناص من أن يأتي يوم ينتبه فيه الرجل المتأله، أو ينبهه هاتف من وراء الحجب، الى أنه مستخلف في الارض وعليها، على حرثها ونسلها ودولاراتها وصادراتها واتصالاتها، وإن لم يكن هو أو جيبه فابن خاله أو اقرباء زوجة ابنه. واستخلافه، بقي سيادة الرئيس أو رجع الى تلقيب السلف العظيم، ليس عن هوى بشر ضعفاء ولا عن عقولهم الاضعف. فـ»الأمر» أعظم مما تحتسب العقول الديموقراطية السفيهة، وقوانينهم المتعسفة التي تنكر حكمة الحدود (القطع والجلد والتعزير بالعراق والشام وأصفهان ومشهد وزاهدان)، وتسوي النساء بالرجال، وتمتنع من سفك الدماء وتعليق الجثث على الخشبات، وكأن الكافر ميتاً أو حياً، حرمة، والبشرَ سواء وواحد، والحربَ سياسة.
المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى