مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش” وجبهة النصرة
مستقبل السلفية المقاتلة بسوريا/ نعومي راميريث دياث
ملخص
تميزت السلفية السورية لحظة اندلاع الثورة بعدة سمات حددت مساراتها؛ فقد كانت تركز على الإصلاح المجتمعي وتبتعد عن النشاط السياسي، وكان بعضها ينجذب إلى النشاط الجهادي نتيجة بروز القاعدة واحتلال العراق، فكانت تتأرجح بين رفض السياسة أو المراهنة على العنف، فلذلك وجدت صعوبة في التعامل مع الثورة السورية في بداياتها لأنها كانت سياسية بامتياز وترفض العنف.
على أن الحراك الثوري والضغوط الخارجية والهوية الوطنية، ستدفع السلفية الوطنية إلى تنسيق مواقفها ومزيد من التماسك، والتعاون مع القوى المدنية السورية، والقبول بالمشاركة السياسية مع كل الأطراف بعد أن تتبين أن القتال ليس كافيًا للتوصل إلى تسوية للصراع المسلح بسوريا.
المقدمة
تتميز المرحلة الحالية للثورة الإسلامية بصعود القوى السلفية في المواجهة المسلحة مع النظام السوري، مع أنها لم تكن بارزة في بداية الثورة، وكانت الرهانات منصبة على الجيش الحر الذي تشكّل في بدايته من جنود انشقوا عن النظام والتحق بهم عدد من الثوار الذين فقدوا الأمل في كفاية الاحتجاجات السلمية لإسقاط النظام.
ويرجع هذا الصعود المسلح للقوى السلفية في قيادة العمل العسكري بسوريا إلى عامل الثورة، التي مثّلت تحديًا للقوى السلفية يحمل مخاطر على وجودهم ويتيح فرصًا لتحقيق أهدافهم.
وبناء على ذلك، تتمحور هذه الورقة حول ثلاث نقاط رئيسية: الإشكالات التي واجهتها السلفية خلال الثورة، وكيفية تفاعلها مع تلك الوقائع، وأخيرًا دور المجوعات السلفية في المستقبل سواء كان ذلك كجزء من الحل أو كعائق له.
المفاجأة الثورية
تميزت السلفية السورية لحظة اندلاع الثورة بعدة سمات حددت مساراتها؛ فقد كانت تركز على الإصلاح المجتمعي وتبتعد عن النشاط السياسي، وكان بعضها ينجذب إلى النشاط الجهادي نتيجة بروز القاعدة واحتلال العراق، فكانت تتأرجح بين رفض السياسة أو المراهنة على العنف، فلذلك وجدت صعوبة في التعامل مع الثورة السورية في بداياتها لأنها كانت سياسية بامتياز وترفض العنف.
وزاد من شدة الصدمة أن السلفية السورية تعاني من خلل القيادة؛ فقد أشار الباحث أرنو لنفن (اسم مستعار لتوماه بيريه) المختص في السلفية السورية إلى أن “رغم أن سوريا قدمت عددًا لا بأس به من الشخصيات السلفية المعاصرة المهمة؛ فإنها في الواقع دولة المشرق العربي التي تعاني فيها هذه الحركة من أشد سوء التمثيل مقارنة بدول عربية أخرى (…) خاصة بعد أن أصبح منذ أحداث سبتمبر/أيلول 2001 مجرد الانتماء إلى مثل تلك الحركات سببًا كافيًا لدخول السجن”.
هناك أسباب عدة لذلك، منها طبيعة التيارات السلفية المحلية خلال العقود الماضية التي منعت ظهور تيار سلفي موحّد في سوريا، والطابع الإصلاحي الاجتماعي السائد عند الحركات السلفية السورية التي كانت توصف عادة بالإصلاحية المعتدلة، ثم فشل المواجهة العسكرية المباشرة مع النظام السوري في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي والتي انتهت بطرد قيادة الإخوان المسلمين من سوريا، فتبنت الحركات السلفية استراتيجية إصلاح المجتمع وتجنّب أية اشتباكات مباشرة مع النظام الذي اشتدت قبضته الأمنية بعد الأحداث المذكورة.
من جانب آخر، فإنه رغم تكوّن بعض البذور الجهادية فهي لم تمثّل يومًا خطرًا أو تهديدًا حقيقيًا للنظام، فمثلاً بعد احتلال العراق وعودة المقاتلين السوريين اعتقلهم النظام السوري تلبية لمطالب الإدارة الأميركية في إطار الحرب ضد الإرهاب بعد أن كان يوفر لهم تسهيلات المشاركة في قتال القوات الأميركية بالعراق. وقد تشكّلت بعد الاعتقال خلايا سلفية-جهادية في السجون السورية، كان من بينهم الذين شكّلوا نواة جبهة النصرة الذين أفرج عنهم النظام السوري بمرسوم العفو العام الذي أصدره في يونيو/حزيران 2011.
ونتيجة هذا الاستقطاب داخل التيار السلفي بين جناح يرفض السياسة وجناح يراهن على العمل المسلح، لم تجد السلفية السورية في البداية قبولاً في الثورة لأنها سلمية ومدنية. لكن في المقابل كان النظام في تصريحاته يصر على كون السلفية المقاتلة القائد الفعلي للثورة من أجل نزع الشرعية عن مطالب الثورة وعزل الثوار داخليًا وخارجيًا؛ فكانت ردة فعل الثوار على مثل تلك الادعاءات إعلاء هتافات مثل: “لا إخوان ولاسلفية، نحن بدنا الحرية”، وما شابه ذلك. غير أنه برز مع الوقت عاملان فتحا للقوى السلفية الجهادية نافذة تدخل عبرها إلى الثورة السورية، وهي عسكرة الثورة، والاصطفاف الطائفي الذي تلاها.
كانت عسكرة الثورة النتيجة المباشرة لفشل المظاهرات السلمية في شق صفوف النظام واستعماله للعنف الذي أدى بدوره إلى تصدع على أساس طائفي. هذان عاملان يخدمان السلفية الجهادية لأنها تراهن على القتال، فباتت تحظى -حسب رأيهم- بشرعية قتال الزنادقة الشيعة ونظام علماني يحارب الإسلام. وزاد من هذا التوجه أن الدول المحيطة بسوريا التي تعاني من تصدعات طائفية، مثل العراق ولبنان، أفرزت تيارات سلفية تدعو إلى حماية أهل السنة من التسلط الشيعي.
علاوة على ذلك، فإن الدول الإقليمية في دعم الثورة السورية، كالسعودية، تضع على رأس أولوياتها الدفاع عن أهل السنة في وجه ما يُسمى المد الشيعي، وتعتبر سوريا ساحة أساسية في هذه المعركة. وقد توقع الباحث العراقي نبراس الكاظمي أن تصبح سوريا أرضًا للجهاد لأن النظام اتبع سياسات متسامحة مع التشيع الذي يعد عدوًا للحركات الجهادية السلفية.
قاد انخراط القوى السلفية الجهادية في قتال النظام السوري إلى تحولات في بنياتها الداخلية وعلاقاتها بمحيطها، أعادت في النهاية تشكيلها حسب تبدلات موازين القوى الداخلية والخارجية؛ فأصبحت الخلافات بين تيارات السلفية المختلفة مكشوفة في كل من المجالات الفكرية والسياسية والتنظيمية. زد على ذلك الدور الدولي المتصاعد في إدارة الملف السوري حسب أجندات متضاربة، بالإضافة إلى هاجس القوى العظمى من الإسلاميين بشكل عام والسلفيين والجهاديين بشكل خاص؛ ما أدى إلى تباينات واضحة في كيفية تعامل هذه الحركات مع تلك الإشكالات وغيرها.
استراتيجيات سلفية
تنوعت استراتيجيات القوى السلفية في مواجهة هذه الفرص والمخاطر؛ فبعضها ربط نشاطه في سوريا بالجهاد العالمي (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وبالتالي لا تتضمن أجندته مطالب الثورة السورية، وبعضها جمع بين الانخراط في الجهاد العالمي ولكن في الإطار السوري (جبهة النصرة) أي إنه ينوي إقامة الخلافة داخل الأراضي السورية حصرًا. والبعض الآخر حصر نشاطه في الجهاد داخل سوريا (الجبهة الإسلامية السورية) دون ارتباطه بالجهاد العالمي، ووافق على التعاون مع القوى المسلحة الأخرى حتى وإن كانت علمانية مثل كتائب الجيش الحر.
لكن الدور العسكري البارز لهذه المجموعات يتجاوز كثيرا تمثيلها السياسي؛ إذ إن وزنها في تشكيلات المعارضة السياسية في الخارج ضعيف كل الضعف، وذلك لأن المعارضة ترفض التوجه السياسي لهذه التشكيلات التي ترفض من جهتها تمثيل المعارضة للثورة (كما حصل قبيل مؤتمر جنيف2).
وقد أسندت هذه القوى السلفية المقاتلة خياراتها الداخلية بروابط خارجية للحصول على الدعم السياسي والمادي، فبينما راهنت الدولة الإسلامية على دعم الدولة الإسلامية في العراق، راهنت باقي القوى السلفية التي تبتعد عن القاعدة على دعم الدول التي تسعى إلى إسقاط النظام السوري لكسر النفوذ الإيراني.
على سبيل المثال، هناك شخصيات ذات نفوذ في دول مثل الإمارات أو السعودية تدعم بعض الفصائل، وقد جعل هذا الدعم الفصائل المستفيدة منه أكثر جذبًا للفصائل الأخرى وللعناصر المسلحة لأنه يوفر وسائل أفضل للقتال؛ فتشكلت علاقة تحصل بموجبها الجماعات السلفية المسلحة على الولاء الأيديولوجي مقابل تقديم تسهيلات قتالية للعناصر الملتحقة بها. لكن تنامي هذه الجماعات السلفية والتحاق عدد من الغربيين بها أثار مخاوف الدول الغربية من أن تكون في المستقبل هدفًا للجهاديين بعد انتهاء الصراع في سوريا، فاتجهت دول مثل الأردن والسعودية (كدول وليس كأفراد طبعًا)، وهما حليفتا الولايات المتحدة، إلى ضبط الأمر ومنع -قدر الإمكان- أية مبادرة شخصية لتسليح الكتائب، لكن من جانب آخر، أرسلت السعودية أسلحة كرواتية، في عملية كشف عنها المدوّن براون موسس، إلى الكتائب التي تنتمي إلى الجيش الحر في محافظة درعا الجنوبية لمساعدته على محاصرة دمشق وتقوية نفوذ المملكة في الكتائب المعتدلة.
موازين القوى
مال الكثير من التحليلات إلى تراجع نفوذ القوى السلفية المقاتلة، لأنها عاجزة عن تشكيل جسم متماسك، ولأنها تواجه عزلة خارجية، لكن التطورات الأخيرة أعطتها فرصًا عديدة للتنامي، مثل اتجاه القتال في سوريا إلى وجهة طائفية. إضافة إلى أن انسحاب القوى الغربية جعل المملكة السعودية تأخذ زمام الأمور وتضع على رأس أولوياتها صد النفوذ الإيراني. وقد دفعت هذه التحولات المواتية أغلب الفصائل السلفية المقاتلة إلى السعي نحو التماسك في إطار الجبهة الإسلامية السورية.
تتميز هذه الجماعات السلفية الوطنية المقاتلة بأنها، رغم اختلافاتها في المسألة الديمقراطية، تشترك في الوطنية، فيمكن وصفها بأنها سلفية وطنية مقاتلة، فمثلاً حركة أحرار الشام ترفض الديمقراطية، لكن قيادتها مستعدة لتشكيل جسم سياسي يشارك الأحزاب السياسية الأخرى في سوريا المستقبل. وذلك خلافًا لما قاله أبو محمد الجولاني في مقابلته الشهيرة التي اعتبر فيها القتال في سوريا مرحلة من مراحل الجهاد العالمي واعترف بأنه لولا الثورة، لما توفرت لهم الفرصة للانخراط في الجهاد في سوريا.
هناك عامل أثّر أيضًا على السلفيين فجعلهم يُغلِّبون البعد الوطني على الأممي ويستعملون عبارات مثل: الشعب السوري والتفكير بالمشاركة السياسية؛ وهو إعلان زعيم القاعدة أيمن الظواهري عن وجوب بقاء كل من الدولة الإسلامية في العراق وجبهة النصرة منفصلين والالتزام فقط بالتعاون في القضايا المشتركة؛ ما أثّر بطبيعة الحال على نظرية عالمية الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية وفرض بحكم الأمر الواقع الانفصال بين القاعدة في العراق والشام. هذه الاتجاهات تقوي التماسك داخل الإطار الوطني السوري، ويجعل السلفية المقاتلة أقرب للإخوان المسلمين أكثر من الفكر الجهادي العالمي.
في المقابل، تواجه الدولة الإسلامية في العراق والشام رفض كل من القوى الخارجية ذات التأثير الكبير على التسوية بسوريا (ما أدى أخيرًا إلى إيقاف الإمدادات غير الفتاكة التي كانت ترسلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الجيش الحر خوفًا من وصولها إلى “الأيدي الخاطئة”)، ومن مختلف القوى السورية بما فيها الفصائل السلفية الوطنية التي أعلنت الحرب على الدولة الإسلامية واعتبرتها عدوًا مثل النظام السوري. ومن الجدير بالذكر أن لواء داوود قد انشق من الدولة الإسلامية في العراق والشام وخيَّر المقاتلين الأجانب بين العودة إلى بلادهم وبيعته بدلاً من زعيمهم السابق البغدادي.
ومن المؤشرات التي ستجعل الدولة الإسلامية بالعراق والشام تتجه نحو مزيد من الضعف والاضمحلال أنها تٌوجِه عملياتها القتالية نحو البيئة الحاضنة لها، وهي المناطق التي أخذتها المعارضة المسلحة من نظام الأسد، ومن المعروف في حرب العصابات أن قوة التنظيمات المسلحة تكمن في متانة علاقتها بالوسط الذي تعيش فيه، كما اتضح في تجربة ماوتسي تونغ التي لخصها في قوله: ينبغي أن يكون المقاتل وسط الناس مثل السمكة وسط الماء.
ثم إن الدولة الإسلامية في العراق والشام (التي تنتمي إلى الجهاد العالمي) تقوي تماسك النظام بدفع مختلف الطوائف إلى الاحتماء به كما حدث في محافظة الرقة؛ حيث قامت الدولة الإسلامية بتدمير تمثال السيدة العذراء والكنيسة. هذه الممارسات تتعارض مع الاتجاه الوطني للكتائب السلفية السورية، فرفضت هذه الممارسات لأنها ستؤدي إلى تفتيت سوريا، وقد وصل الخصام بين الفريقين حدَّ المواجهة كما تبين في ريف اللاذقية حيث هاجمت الدولة الإسلامية قرى علوية عديدة، فتوحدت عدة كتائب من الجيش الحر وأخرى “إسلامية” ضدها لمنع الصراعات الطائفية.
لذلك، فإن سعي الدولة الإسلامية إلى السيطرة على مناطق لشن هجماتها الطائفية وقتال الأكراد سيكون مآله الفشل، ونفس المآل سيكون لسيناريو سيطرة القاعدة على المناطق المحررة حتى تضطر الجميع إلى القبول بها أو القبول بالأسد، وذلك بخلاف التوقعات الغربية وتخوفاتها من سيطرة القاعدة على سوريا لأنها أقرب إلى إثارة المخاوف الدولية لتبرير امتناع القوى الغربية عن التدخل أو تسليح المعارضة المسلحة.
أما جبهة النصرة فمعظم عناصرها من السوريين لكن ارتباطها بالقاعدة وسعيها لتطبيق سياسة شرعية لم يكونا ضمن مطالب الثورة. هذا الازدواج يطرح احتمال اندماج عدد من عناصرها في تيار السلفية الوطنية، خاصة بعد انتقال معظم مقاتليها الأجانب إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام.
أما الجبهة الإسلامية فهي خليط من قوى عسكرية لها قيادات سلفية مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام وأخرى محافظة مثل حركة التوحيد، فمعظم مقاتلي الجبهة ليسوا سلفيين، وإن كانت قيادات الصف الأول والثاني سلفية في أغلب فصائلها. وتمتلك الجبهة الإسلامية القوة العسكرية القادرة على مواجهة النظام وبذلك تستطيع أن تكون بديلاً عسكريًا عن الجيش الحر الذي لا يحصل على أسلحة بسهولة. وبما أن تكشلها يجعلها غير قادرة على تطبيق صارم للشريعة فيمكنها أن تقنع القوى الغربية بالحوار معها للتوصل إلى اتفاق يجعلها شريكًا في الحكم وأداة احتواء ضد تنظيمات الجهاد العالمي، وقد بدأت بعض التحركات في هذا الاتجاه، رغم الشكوك في نوايا هذه الحركات. غير أن عدم رضا قادتها على المشاركة في جنيف2 أدى إلى انسحابها من العملية.
ولكن، إقصاء القوى السلفية الوطنية عن العملية السياسية يمكن أن يؤدي إلى تكريس الصراع الطائفي على الأرض، والسعي إلى الاستقلال بمناطق سوريَّة تكون تحت سيطرة السلفية المقاتلة كبديل عن فشلها في إسقاط النظام والسيطرة الكاملة على الإقليم السوري أو فشلها في المشاركة السياسية في نظام حكم توافقي.
يُعزز من غلبة الاتجاه الوطني على تشكيلات السلفية المقاتلة، أن جيش المجاهدين يمثل قوى متنامية ستؤثر في صياغة مستقبل سوريا، وهو جيش تشكل حديثاً من انضمام مجموعة من الألوية والكتائب في مدينة حلب وريفها الغربي، ويعد نموذجاً مختلفاً عن التكتلات والجبهات العسكرية الإسلامية، فهو لا يمثل توجهاً سلفياً، كما أنه يتألف من ألوية ومقاتلين معظمهم كانوا طلبة جامعيين وموظفين مدنيين، وخلافاً لمعظم القوى العسكرية الثورية الأخرى يتألف هذا الجيش بشكل رئيسي من أبناء مدينة حلب العريقة (تجمع فاستقم كما أمرت، لواء الأنصار)، في حين أن التشكيلات العسكرية في معظم أنحاء سورية يغلب عليها التكوين الريفي، وهو أمر حال دون أن تكون بيئة مناسبة لتقبل الفكر السلفي، ويميل التجمع إلى دولة مدنية وطنية بطبيعة الحال، وإن كان يأمل أن تكون إسلامية معتدلة، لكن الهوية السورية الوطنية متمكنة بشكل واضح، وهو أمر يجعل تصنيف جيش المجاهدين غير ممكن إلا في إطار القوى العسكرية الوطنية.
الميل الوطني المديني وعدم هيمنة فكر سلفي في جيش المجاهدين رشَّحه ليكون أول القوى وأشدَّها في قيادة معركة إخلاء الأراضي السورية من تنظم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وطردهم.
يُفسر تكوين جيش المجاهدين ذو الطابع المديني النفور الشديد من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، كما يفسر الطابع الريفي والنزعة السلفية المتمكنة لدى بعض كبار قيادات الجبهة الإسلامية الميل باتجاه تجنب الصدام مع تنظيم الدولة، ولكن لواء التوحيد الذي يعد أحد أبرز القوى العسكرية في ريف حلب الشمالي يتكون من خليط من أبناء المدينة والريف كان أسرع القوى العسكرية المنطوية تحت عباءة الجبهة للانخراط في المعارك ضد تنظيم الدولة.
سطوة الوطنية
الحاصل، إن الحراك الثوري والضغوط الخارجية والهوية الوطنية، ستدفع السلفية الوطنية إلى تنسيق مواقفها ومزيد من التماسك، والتعاون مع القوى المدنية السورية، والقبول بالمشاركة السياسية مع كل الأطراف بعد أن تتبين أن القتال ليس كافيًا للتوصل إلى تسوية للصراع المسلح بسوريا ولا يمكن لهم التفرد تحت راية “القوى الفاعلة على الأرض”؛ حيث يوجد الكثير من النشاطات المدنية على سبيل المثال.
السيناريو الأكثر واقعية هو أن يتم التقارب المصلحي بين الكتائب المعتدلة المتمثلة في الجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين، وباقي الفئات في المعارضة لمواجهة النظام والدولة الإسلامية، خاصة أنها تبني مشروعية وجودها على الهوية الوطنية السورية، وهي هوية متنوعة تشمل أديانًا مختلفة وطوائف عديدة، ولا يمكن لهذه الفصائل السلفية أن تكتسب هذه الشرعية إلا إذا اتسقت سياساتها مع هذا التنوع، لكن في المقابل تصبح الكتائب الجهادية المرتبطة بالقاعدة عائقًا لذلك، وهو عائق حاول الظواهري إزالته حين طلب أن تبقى للنصرة اليد الطولى في سوريا وليس للدولة الإسلامية، ويعود بالتالي أغلب المقاتلين الأجانب إلى بلادهم؛ ما يجعل دور القاعدة ضعيفًا ومتناقصًا مع الوقت، لكن إصرار البغدادي واعتبار نفسه أميرًا للمؤمنين ورفضه الامتثال لسلطة الظواهري سيجعل المواجهة مستمرة مع السلفية السورية المقاتلة، وهي مواجهة ستحصد منها مكاسب سياسية حيث إنها تضرب خطاب النظام السوري الذي يصف جميع المعارضة المسلحة بالقاعدة، ويؤكد للقوى الدولية أن هناك مصلحة مشتركة في مقاتلتها.
__________________________________
نعومي راميريث دياث – باحثة إسبانية في الإسلام السياسي بالمشرق في جامعة أوتونوما في مدريد.
قابلية شبان عرب لـ”الاستدعاش”/ عبدالسلام الوايل *
منذ أشهر وأنا أفكر في الكتابة عن «داعش»، تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المهيمن كظاهرة على الجدل السياسي في منطقتنا.
باعثي على الدوام ليس تحليلاً سياسياً لهذا التنظيم، بل هو تأمل في جاذبية التنظيم لمن يحدّث نفسه بـ «النفرة» لـ «الجهاد» في سورية من شباننا.
في الأيام الماضية، ومع انفجار الصراع العسكري بين «داعش» والتنظيمات العسكرية للثورة السورية، ظهرت كتابات كثيرة حول هذا التنظيم، إن بشكل مقالات في الصحف أو تغريدات في «تويتر».
بعض هذه الكتابات وربما رغبة في تنبيه الناس لخطر «داعش»، طفقت تكتب عن علاقات هذا التنظيم بالاستخبارات الإيرانية والعراقية والسورية، وأنه ليس إلا صنيعة إيرانية- عراقية- سورية.
مع اقتحام بعض مواقع «داعش» في سورية، ظهرت صور على «الإنترنت»، يُقال إنها لجوازات إيرانية بقيادات «داعشية»، كما ظهرت أصوات سورية تؤكد، عبر تتبع نوعية العمليات العسكرية للتنظيم، أن «داعش» تنظيم مهموم بـ «تحرير» سورية من الثوار على الأسد بدلاً من تحريرها من نظام الأسد. ومن قراءة كل هذا، يمكن المرء أن يلاحظ وظائفية تنظيم «داعش» لنظام الأسد.
فعلى المستوى الدعائي، يؤكد «داعش» للعالم صدق ادعاءات الأسد بأن الثورة عليه ليست سوى إرهاب عبثي مجنون. وعلى المستوى العملياتي البحت، هو شوكة في خاصرة التنظيمات العسكرية المحاربة لنظام الأسد، إنه تنظيم مهموم بإقامة دولته على الأراضي التي تحررها المعارضة من قبضة الأسد أكثر مما هو مهموم بمحاربة جيش النظام.
باختصار، «داعش» عامل دعم للأسد، وربما تفوق خدمات مقاتليه لنظام الأسد الخدمات التي يقدمها مقاتلو حزب الله وتنظيم أبوالفضل العباس، وهما التنظيمان الشيعيان اللذان دخلا سورية للدفاع عن نظام الأسد. لكن كل هذا التحليل السياسي، على أهميته، لا يشغلني كثيراً، فأنا رجل «سوسيولوجي»، ومختص تحديداً بسوسيولوجيا المعرفة، وفي ما يخص ظاهرة «داعش» يهمني أكثر تحليل ما أسميه بـ«القابلية للاستدعاش» من شباننا الذين يقطرون حماسةً وحميةً.
بتعبير آخر، لماذا حين يحدّث شاب سعودي نفسه بالنفرة يفكر بـ«داعش»؟ وليس «الجيش الحر»؟ ستكون هذه المقالة مقارَبةً لهذا السؤال.
طرح المفكر الجزائري مالك بن نبي مفهومه لـ «القابلية للاستعمار»، محاولاً لفت الانتباه إلى تفكير داخل أفراد الشعوب الخاضعة للاستعمار يمنعهم من التحرر منه ويجعلهم موقنين بتفوقه، وهو ما يعوق إمكانات النهوض.
تطوَّر المفهوم، وصار يُستخدم بطرق عدة، من ضمنها: تحليل عوامل التخلف داخل الثقافات التابعة التي تمنعها من التقدم واللحاق بركب الأمم المتقدمة، سأستخدم مفهوم القابلية في شكل مختلف عمّا ذهب إليه مالك بن نبي. سأستخدم شكله المطوّر، أي العوامل الداخلية البحتة. إذاً، أقصد بـ «القابلية للاستدعاش» المقاييس والقيم التي ضخخناها داخل أدمغة أبنائنا فجعلناهم، حين تُحرِّكهم عوامل الحمية، ينشدّون لأكثر التنظيمات تطرفاً وأبعدها عن المدنية وأقلها احتراماً للحياة الإنسانية.
بمعنى آخر، «القابلية للاستدعاش» بحث في صناعتنا -كمجتمع- للإنسان، وليست بحثاً في «داعش» ذاته.
لنبدأ بوصف التنظيم: إن فكرة «داعش» هي نفسها «اليوتوبية»، والاثنتان هندستا عقول أبناء مجتمعاتنا ليحلما بها.
دولة إسلامية تتجاوز التقسيمات القُطْرية للدول الوطنية المستحدَثة في القرن الـ20، تقام على منهج إسلامي يقطع مع المفاهيم الغربية «الكفرية» لتنظيم الدولة، من قبيل مفاهيم «المدنية» و الديموقراطية»… إلخ.
والصفتان الأكثر وضوحاً للتنظيم هما: «التكفير» و «حب الموت»، فتنظيم داعش يتسم باستسهال التكفير، ربما كي يتجاوز عَقَبة حرمة الدماء، وآخِر مبتدعاتهم تكفير التنظيمات الثائرة على الأسد، فمثلاً يقول المتحدث باسمهم أبو محمد العدناني في بيان رسمي نشر الأسبوع الماضي: «الدولة الإسلامية في العراق والشام تعلن أن الائتلاف والمجلس الوطني مع هيئة الأركان والمجلس العسكري طائفة ردة وكفر».
ويفتخر التنظيم كثيراً بحب أفراده للموت واستسهالهم الحياة واسترخاصها، وهذه النظرة المحتقِرة للحياة لا تقتصر على أجسادهم وحدها، فهي ليست خلاصاً فردياً لهم وحدهم، بل يلاحَظ حبهم لفرضه على الآخرين، أي ببساطة قتلهم. وكثيراً ما يظهر حب الموت في أدبياتهم وأناشيدهم وبياناتهم. وفي بيانهم المشار إليه أعلاه، يفتخر متحدثهم الرسمي بوصف أفراد تنظيمهم بأنهم «الأسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، رأيت البلايا تحمل المنايا، وأسود غاب جائعة».
جذر «يوتوبيا داعش» مكين في وجداننا، داعب القوميين والإسلاميين من قبل، لكنهم مع «داعش»، وكذا مع جبهة النصرة في سورية، ذوو منهج مختلف، إنه تصور سلفي خالص.
لذا، ينمذج «داعش» ومعه «جبهة النصرة»، بوصفهما تياري «السلفية الجهادية»، لنكن صرحاء، ولنتقبل الحقيقة المُرّة والموجعة. الأسس الفكرية لـ «داعش» هي ذاتها الأسس الفكرية للسلفية، مفاهيم «الولاء والبراء» و «الحب في الله والكره فيه» و «نواقض الإسلام العشرة» التي نؤسس عليها تصورنا لديننا، وهي في جوهر المفاهيم المؤسسة لمشروعية «داعش» في مفاصلتها مع العالم كله. لقد حاولنا -ولأكثر من عقد- أن ندافع عن هذه الأسس بالقول إن هؤلاء الإرهابيين، أو «الفئة الضالة» وفق التسمية الرسمية، أناس ضلوا الطريق، ولا يملكون أدوات فهم الرؤية السلفية على حقيقتها، وأن تفسير هذه المفاهيم وإنزالها على الواقع يجب أن يتركا للعلماء، لكن حقيقة أن مراجع السلفية الجهادية هي مراجع السلفية العلمية ذاتها، وأن تصورنا للعالم الذي نحقنه في عقول أبنائنا ووجدانياتهم، وهي المفاهيم المؤسسة نفسها لرؤية «داعش» و «القاعدة»، يترك دفاعنا ضعيفاً وغير قادر على اجتراح علاج جذري للظاهرة، أي ظاهرة قابلية فئة من شباننا لشهوة أكثر الخطابات تطرفاً واستسهالاً للدماء.
ثمة عــــوامل في بنائنا للإنسان تجعل منه، حــين يشتعل دمه حمية للمظلومين ويقرر الذهاب للقتال، يبحث عن أكثر التنظيمات تطرفاً وعداء للمدنية وأقلها احتـــراماً للحياة البشرية. كان شباننا يفــــضلون «جبهة النصرة» على كل التنظيمات العسكرية في سورية، ثم حين ظهر «داعش» في المشهد السوري هجروا «النصرة»، واتجهوا نحو «داعش» الأكثر تطرفاً! حادثْتُ بعضَ هؤلاء في «تويتر»، فوجدت شباناً لا يتحدثون إلا عن الكرامة والعزة! هذه إشارات وجودية! هذا بحث عن معنى للوجود! ربما نحن نحتاج إلى تحسين وتطوير وإصلاح نموذجنا المحلي، كي تشعر الأجيال الشابة بالمعنى، معنى الحياة وأهمية تثمينها، وأيضاً بالكرامة والعزة عبر تثمين الإنسان وإفساح مجالات مؤسسية أكبر للمشاركة. تَدبُّر هذا يبدأ بالتعليم ولا ينتهي به.
الجدل الكبير والكثير التفرع الذي أعقب لحظة 11 من أيلول (سبتمبر)، حوّل مناهجنا التعليمية لكنه لم يثمر تغييراً يذكر في تشييد خطاب تعليمي يُنتج إنساناً مدنياً متشرباً قيم المدنية الحديثة. حين يذهب شباننا أولاً إلى «جبهة النصرة» القاعدية الهوى، ثم يهجرونها «لداعش» التي ضجّ من تطرفها الظواهري نفسه، فإنهم يفعّلون مقاييس كرّسها خطاب مبثوث في التعليم واللغة، وتعمل الثقافة على تدعيمه، هذه المقاييس تقول إن المسلم الجيد هو ذاك الذي يبني عقيدته على أسس الولاء والبراء، وأن يحب في الله ويبغض فيه، ويوقن أن للإسلام نواقض عشرة، أخطرها في هذا الشأن الناقض الثامن الذي ينص على أن «مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين» ناقض للإسلام، وهو ما يعني عملياً تكفيرَ جُلِّ مظاهر التحالفات في السياسات الدولية المعاصرة.
مقاومة القابلية «للاستدعاش» تبدأ بنقد هذا الخطاب من أساسه وليس فقط عدم تدريسه. غير هذا هو تحايل ندفع ثمنه جيلاً بعد جيل.
* كاتب سعودي
الحياة
القاعديون والداعشيون/ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
شروط الانضمام إلى (داعش) هي ذاتها شروط الانضمام إلى (القاعدة)؛ أول هذه الشروط وأهمها والتي لا تقبل فيها الوساطات والشفاعات أن تكون مُغفلاً غبياً أبلهاً، وشجاعاً في الوقت ذاته؛ تُساق كالكبش الأصمع إلى حتفك فلا تملك إلا أن تواكب القطيع. فأمير التنظيم هو للداعشي أو القاعدي كالراعي لقطيع الأغنام؛ والأتباع هم الأكباش والشياه والأغنام يسوقها الراعي ويوجهها أينما وكيفما أراد.
ورغم اختلافي الجذري مع نظام بشار الأسد إلا أن من العدل القول إن دوائر مخابراته هي من أذكى وأدهى من عرف كيف يتعامل مع ظاهرة القاعدة ومنتجاتها.
فبدلاً من أن يواجه ثورة شعبه (السلمية) التي كانت ترفع شعار (سوريا بدها حرية) عندما انطلقت، اخترق تنظيمات الجهاديين بمساعدة إيران، وعَيّن قادتهم دون أن يشعر الأتباع، ثم تركهم يكتسحون المناطق التي كانت تسمى (المحررة) في سوريا، ليعرف السوريون (أولاً) أن البديل لنظامه هم هؤلاء المتوحشون الأوباش، وليعرف العالم (ثانياً) أن سقوط نظامه هو انتصار للإرهاب؛ وقد نجح بامتياز في تحقيق هذه الأهداف.
قبل أيام عرضت قناة السي إن إن الأمريكية برنامجاً أعد بعناية تحت عنوان (القاعدة على أعتاب أوربا)، عرضت فيه صوراً عن كيف يحكم (الجهاديون) المناطق المحررة من سوريا وركزت على الجوانب العقابية كالجلد وقطع الرؤوس والتعامل مع المخالفين بقسوة دون أي مبرر لا شرعي ولا قيَمي؛ فحفرت من خلالها في ذهن المتلقي الغربي صورة نمطية عن الجهاديين تقول: هؤلاء هم البديل لبشار؛ وسقوطه وانتصار هؤلاء يعني أنهم سيكونون على أعتاب أوربا.
وتنتشر على موقع (اليوتيوب) على الإنترنت مقاطع فيديو لممارسات الجهاديين في سوريا وأغلبها عن (رؤوس) قطعها الجهاديون ثم صوروا معها على اعتبار أن هذه الممارسات تلقي في قلوب الذين كفروا الرعب كما علق أحدهم عنها في (تويتر).
ونسي هؤلاء البسطاء أن الغرب (الكافر) لو أراد إبادتهم عن بكرة أبيهم ووظف ذريعة (التترس) التي يوظفونها ضده في قتل الأبرياء المدنيين، لما احتاج لأكثر من قنبلة ذرية (بدائية) لتجعل منهم ومن انتصاراتهم المزعومة أثراً بعد عين وتاريخاً يُروى كما حصل في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
ورغم الدماء والتدمير الذي أحدثته القاعدة ومنتجاتها للصورة النمطية للإسلام والمسلمين في كل أنحاء المعمورة فإن (القاعدة) وأساطينها وثقافتها في تقديري تعيش الآن آخر أيامها، والفضل في تراجع شعبيتها الذي سيؤدي (حتماً) إلى سقوطها يعود لتقنية الصورة الثابتة والمتحركة وتداولها من خلال القنوات الفضائية أو من خلال مواقع الإنترنت.
يقول العرب: (ليس من سمع كمن رأى)؛ فالناس كانت تسمع وتقرأ عن جرائم القاعدة والجهاديين ودمويتهم وعشقهم المريض للتدمير والتخريب والفوضى، إلا أن ذريعة محاربة (الغرب) المنتصر بالنسبة للإنسان المهزوم حضاريا كانت في مرحلة سابقة كافية لاستقطاب المناصرين من بسطاء المسلمين لينضوي جزء منهم تحت لوائها كمجاهدين فعليين أو كأنصار داعمين.
وعندما (رأى) الإنسان المسلم (غير المؤدلج) رأي العين ممارسات هؤلاء الجهاديين من خلال الصورة، سواء في القنوات الفضائية أو في (اليوتيوب) على الإنترنيت، رأى أيَّ صنف من الوحوش هؤلاء.
فالجهاد في سوريا والكم الهائل من صور الرؤوس المقطوعة والمناظر الوحشية وتقاتل فصائل الجهاديين مع بعضها البعض وكل يدّعي أن الحق معه، أصابت ثقافة الجهاد والجهاديين في مقتل، وانعكس ذلك بشكل واسع ليس على القاعدة فحسب، وإنما على كل الحركات المـتأسلمة؛ خاصة تيار (الحركيين السروريين) في بلادنا الذين بذل أساطينه ودعاته كل ما يستطيعون من جهود لتشجيع الناس على الجهاد والنفرة إلى سوريا، فتنبّه الناسُ أخيراً إلى الحقيقة التي تقول إن هؤلاء وأولئك ينتمون لذات الثقافة الدموية وجميعهم ينتحون من معين واحد.
سيسقط نظام الاسد حتماً طال الزمن أو قصر لكنه استطاع أن يكشف قبل سقوطه ليس فقط حقيقة (حزب الله) الذي (كان) يقول إنه سيحرر فلسطين، وإنما – أيضاً – ما يُسمى التنظيمات الجهادية المتأسلمة؛ فقد أظهر للناس مدى القبح والبشاعة التي تكتنف فكر وممارسات هؤلاء القتلة الدمويين من الطرفين.
*نقلا عن “الجزيرة” السعودية.
مصيبة مكافحة الإرهاب تجمع أميركا وروسيا وتفرض قيام أنظمة شعبية وقوية لضربه/ اميل خوري
هل بات الخوف من الارهاب الذي أخذ يضرب في كل مكان ومن دون تمييز بين يمين ويسار وبين دين وآخر هو الذي يجمع الدول الكبرى على مكافحته بشتى الوسائل، وإقامة أنظمة قوية في دول المنطقة تستطيع ذلك؟
لقد لجأت الولايات المتحدة الاميركية في الماضي الى الاصولية الاسلامية لمحاربة الشيوعية واذ بهذه الاصولية ترتد على الولايات المتحدة وعلى أوروبا وروسيا وتبلغ حد وصولها الى السلطة في بعض دول المنطقة، فكان لا بد من اتفاق دولي ولاسيما اميركي – روسي لمكافحة هذا الارهاب المدمر لحضارات الشعوب بدءا بإقامة حكم قوي في الدول التي تستورد الارهاب او تصدّره وهو ما يجري العمل له في ليبيا وتونس واليمن والعراق وأفغانستان ومصر وسوريا، وقد صار دعم حكومة نوري المالكي في العراق لهذه الغاية في انتظار الانتخابات الجديدة، ودعم الحكم الذي سينبثق من الانتخابات النيابية بعد الاستفتاء الشعبي على الدستور في مصر، وأن حل الازمة السورية سيبنى على إقامة حكم قوي فيها يستطيع مكافحة المنظمات الارهابية بمختلف أشكالها، وهذا الحكم لا يقوم إلا بتحالف بين الزعماء الذين يمثلون غالبية الشعب السوري، وليس زعماء طرف واحد سواء كان الطرف الحاكم حالياً أو كان الطرف المناهض له، وهو ما يجعل البحث يدور حول حكومة ائتلافية وإن انتقالية تجمع كل القوى الفاعلة في البلاد لتكون قادرة على وضع دستور جديد واجراء انتخابات نيابية ثم رئاسية، يساندها جيش قوي قادر على حفظ الأمن والاستقرار وضرب كل مخل به فلا يتكرر ما حصل في العراق وما يحصل في ليبيا وفي غيرهما من الدول في المنطقة لأن المطلوب هو الامن والاستقرار كي ينمو الاقتصاد ويزدهر ولا تعود الحاجة والفقر والقهر تولِّد العنف والارهاب ويسهل اصطياد العاطلين عن العمل والمحرومين للقيام بهذه الاعمال.
لذلك فإن الحل في سوريا لن يكون لحكم فريق واحد بل لحكم كل الافرقاء الاقوياء الذين لهم تمثيل شعبي، الى ان تجرى انتخابات حرة تأتي بهم صناديق الاقتراع.
إن موجة الارهاب التي تقوى وتشتد وتمتد لتضرب حتى داخل اراضي الدول الكبرى باتت مواجهتها في حاجة الى حلف جديد يجمع اليمين واليسار لأنه ارهاب يهددهم جميعاً ويوقف حركة الاعمال والاقتصاد والمال في كل دولة ويجعل الفقر والبؤس واليأس بيئة حاضنة وصالحة لتوليد الارهابيين في كل دين ومجتمع.
لقد كانت اسرائيل مدى ستين عاما هي العدو المشترك للعرب والفلسطينيين، ,اذا بالارهاب يصبح هو هذا العدو المشترك لكل المجتمع العربي والدولي ولاسرائيل بالذات وسيكون لايران دور في المشاركة بمكافحة هذا الارهاب الذي ستجتمع على ضربه كل قوى الاعتدال في العالم. وهذا العدو المشترك هل يعيد لمحاربته حكم الانظمة العسكرية التي قامت في الماضي لمحاربة الشيوعية وارجاء اقامة الانظمة الديموقراطية ولو الى حين، خصوصاً في الدول التي لم تتهيأ الشعوب فيها لممارستها فتأتي بالاصولية الى الحكم كما حصل مرة في الجزائر وفي فلسطين المحتلة وكما حصل اخيرا في تونس ويجري الآن تصحيح هذا الوضع فيها وفي مصر بإقامة أنظمة ديموقراطية تحميها جيوش قوية قادرة على إخضاع مجموعات العنف والارهاب التي لا سبيل في ظلها لأي ازدهار ونمو بل فقر مدقع وظلم شديد لا يحتمل.
هل يمكن القول ان الاتفاق الاميركي – الروسي يجمع حوله دول العالم الراغبة في محاربة الارهاب وضربه في منبعه ومصبه قبل ان يشتد ساعده ويتمدد ويصبح من الصعب التغلب عليه الا بعد دمار شامل؟ ومحاربة هذا الارهاب تبدأ بدعم قوى الاعتدال في كل دولة تنخرها سوسة التطرف الديني والعمل على اقتلاعها قبل ان تنمو وتنتشر في جسم كل مؤسسات الدولة، وقد بدأ دعم هذه القوى في عدد من دول المنطقة، وما انتخاب الشيخ حسن روحاني رئيساً للجمهورية الايرانية بأصوات اكثرية شعبية واسعة سوى البداية ويلي ذلك حل الازمة السورية بإقامة حكم المعتدلين الممثلين لكل القوى الحية، وهذا ما هو جار في مصر وتونس وليبيا وما سوف يجري في لبنان. فمصيبة الارهاب هي التي تجمع كل القوى المعتدلة في كل دولة لأن تفرّق هذه القوى يجعل التطرف الموحد تنظيما وعقيدة يتغلب عليها. وهل يمكن القول ايضا ان الحرب بدأت بين قوى التطرف والارهاب وقوى الاعتدال في المنطقة حيث منبعها تنظيماً وتمويلاً وتسليحاً ومنها يتم تصديرها الى دول العالم، ويقود الاتفاق الاميركي – الروسي هذه الحرب بإقامة حكم قوي في كل دولة في المنطقة يدعمه جيش قوي واكثرية شعبية واسعة تتوق الى العيش بأمن وأمان وإلى حياة حرة كريمة.
النهار
اختبار التيارات الإسلامية في السلطة/ ماجد كيالي
فتحت ثورات «الربيع العربي» الجدل على مصراعيه، بين التيارات الإسلامية والتيارات العلمانية والقومية واليسارية والليبرالية، أكثر من أي وقت مضى، لكن الملاحظ أن هذا الجدل دار، وربما بحدّة أكبر، بين التيارات الإسلامية ذاتها (الدعوية والصوفية والسلفية والجهادية) التي تبيّن أنها متعددة، ومتباينة، ومتنازعة في ما بينها. الملاحظ، أيضاً، أن هذا الجدل لم يدخل في المجال الديني، أو المقدس، إذ اقتصر على الجانب الدنيوي، أو السياسي، المتعلق بالدولة، وفق تمثّل كل طرف لهذا الأمر.
ثمة مسائل ثلاث تغذي هذا النقاش، أكثر من غيرها، وتعيق تكيّف التيارات الإسلامية، مع الواقع والعصر والعالم، وتثير الشبهات حولها في مجتمعاتها. المسألة الأولى، تتعلق بالخلط، وعدم التمييز بين الديني والدنيوي، والمقدس والمدنّس، باعتبار أن كل ما يأتي من البشر، مهما كانت مكانتهم، من مواقف وأفعال، لا يدخل في القداسة، وإنما يخضع للشك والمساءلة، ولو تغطّى بالدين، لأن للبشر مصالحهم وأهواءهم ونزواتهم، فلا عصمة لأحد («كل ابن آدم خطّاء»).
القصد هنا أن انتهاج حزب أو جماعة أو شخصية ما خطاباً دينياً، في العمل السياسي أو العمل العام، لا يمنحها مكانة قدسية، ولا يجنّبها المساءلة والمحاسبة. وهذا ما أسّس له الخليفة الراشدي الأول، أبو بكر الذي قال في أول خطبة له بعد «البيعة»: «أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسَنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني».
المشكلة أن معظم التيارات الإسلامية السائدة تنسى ذلك، في محاولتها إضفاء قدسية على جماعتها، أو طروحاتها، أو أئمتها (آيات الله أو الشيوخ)، وكل منها تدّعي أنها تحتكر تفسير الإسلام، وتمثيل المسلمين، بحيث باتت لدينا جماعات تفرض «دينها» الخاص، وتطلب الطاعة والبيعة لواليها، أو خليفتها، بل إن بعض الجماعات باتت تكفّر غيرها، من الجماعات الإسلامية ناهيك عن تكفيرها مجتمعها ذاته؛ إن لم ينصع لطروحاتها.
لا يكمن الحل هنا بتبني الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، وفق «العلمانية» بنسختها الأيديولوجية أو «الدينية» المتطرّفة، لأن ذلك الأمر ينتقص من مسألة الحرية، واستقلالية الفرد، وإنما يكمن في تنزيه الدين عن صراعات السلطة، وتحريره من هيمنتها، وهذا معنى التمييز بين الديني والدنيوي، أو معنى فصل الدين عن الدولة. أما تمثل الدين في الدولة فيكمن في تضمين دساتيرها، معاني العدل والمساواة والكرامة والحرية، التي هي جوهر كل دين، وضمنه الدين الإسلامي.
المسألة الثانية، تتعلق بسعي معظم الجماعات الإسلامية إلى نبذ الدولة الحديثة، أو الدولة الديموقراطية، بدعوى انها بدعة غربية، وبدعوى العودة إلى الأصول أو إلى دولة الإسلام الأولية، أي الخلافة.
اللافت في هذه الادعاءات، إلى سذاجتها، تقديسها تلك المرحلة من التاريخ، وعدم تمييزها بين الدين بحد ذاته، وتاريخ المجتمعات الإسلامية، وهو تاريخ له ما له وعليه ما عليه، ناهيك عن أن ذلك ناجم عن صورة متخيّلة، ومثالية، للتاريخ تختلف تماماً عن التاريخ الواقعي. كما تكمن مشكلتها في النظرة إلى الغرب، واعتباره بمثابة شر مطلق، علماً أن مجتمعاتنا مرتبطة بمنجزات الغرب العلمية والتكنولوجية والثقافية، أكثر مما نتصور، وأن معظم أوجه التقصير عندنا ناجم عن أسباب داخلية، أو عن قلة تمثلنا للغرب (على حد تعبير لحازم صاغيّة). والمشكلة أننا مشدودون أو مدينون في كل شيء للغرب من النواحي العلمية والتكنولوجية والإدارية، في حين لا نتمثل ذلك في نظمنا السياسية أو في كيفية إدارتنا لأحوالنا ومجتمعاتنا.
لا يوجد نص أو شكل معيّن للدولة في الدين الإسلامي، مثل الخلافة، بدليل اختلاف الصحابة، بعد وفاة الرسول، والاحتراب الذي حصل في موقعتَي الجمل وصفين، وبدليل الاختلاف حتى بين ادارتي الخليفة الراشدي عمر والخليفة الراشدي عثمان الذي قُتل في المدينة على مرأى من الصحابة. وأخيراً بدليل التحول بعدها إلى الدولة الملكية الوراثية، بدءاً من عهد معاوية، في الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية.
ولعل مشكلتنا مع هذه المسألة تنبع من أن الأئمة والفقهاء لم يسموا الصراع على السلطة، في عهد الإسلام الأول، باسمه الحقيقي، وإنما اطلقوا عليه مصطلح «الفتنة»، اي انهم تهرّبوا، او تحايلوا على ذلك، الأمر الذي انعكس، في ما بعد، بالتعامل مع «الخلافة» كأنها أمر مقدس، في حين انها اجتهاد بشري، وابنة ظرفها التاريخي.
المسألة الثالثة، تتعلق بمسألة «الحدود»، وهي تنبع من إصرار بعض الجماعات الإسلامية على وضعها موضع الدين، كأن الإسلام لا يقوم من دونها، أو كأنها هي الإسلام حصراً. ومعلوم أن «الحدود» ليست من الفرائض الخمس، وأن ثمة اجتهادات تخضعها لظرفها التاريخي، أو للحالة المعنية، او لمبدأ التقدير، والعفو عند المقدرة، ناهيك عن أن التاريخ لم يثبت أنه تم تطبيقها في شكل حرفي، مع كل الحديث عن أن الإسلام دين التسامح والرحمة والحكمة والموعظة الحسنة.
هكذا، فإن عديد الأحزاب الإسلامية تجاوزت هذا الأمر، وهو ما حصل، أيضاً، في الدول التي قادتها أحزاب اسلامية، كتركيا، مثلاً، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، وفي عهد الرئيس محمد مرسي في مصر. حتى في تونس خطت «حركة النهضة» خطوات أكثر تقدماً على هذا الصعيد، في تماشيها مع الدستور الجديد، لتعزيز مكانتها في المجتمع.
قصارى القول ان التيارات الإسلامية المعتدلة، والمستنيرة، معنيّة بتوضيح ذاتها، وتعزيز تكيّفها مع الواقع والعصر والعالم، كما هي معنية على نحو أكثر بكشف ادعاءات الجماعات الظلامية المتطرفة، لا سيما تلك التي تنتهج العنف، وتكفّر غيرها، وتدعي احتكار تمثيل الإسلام والمسلمين. وبات واضحاً أن هكذا جماعات تثير المخاوف لدى مجمل التيارات الإسلامية، وتضر بصورة الإسلام والمسلمين، ناهيك عن أنها تشكل خطراً على المجتمعات ذاتها. أليس هذا ما تفعله جماعات «القاعدة»، مثل «داعش» و «النصرة» وغيرهما؟
الحياة
قبل أن تتحول “النصرة” إلى “داعش”/ دلال البزري
لا ينبغي تمرير المزيد من الصمت حول “جبهة النصرة”، خصوصاً أن آخر سياراتها المفخخة في الهرمل تزامنت مع بدء جلسات المحاكمة في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فخدم هذا الصمت الحجّة الضمنية المنتشرة، والقائلة بأن مفخخة الهرمل كانت رداً على اغتيال الحريري.. فيما هدفها الرسمي كان، بحسب بيان “النصرة” الذي أعلنت فيه مسؤوليتها عن ارتكابها، هو: “زلزلة معقل حزب الله رداً على ما يقوم به من جرائم في حق نساء وأطفال أهل السنّة في سوريا”. وهذا “هدف” منسجم مع كلام آخر، ينطوي على جزء من الحقيقة – جزء فقط – والذي يقول، بل يردّد من دون هوادة، بأن العمليات الإنتحارية تستهدف “البيئة الحاضنة” لحزب الله.
الصمت عن جرائم “النصرة” بمثابة إغفال للوجه “الإقليمي” لجرائمها اللبنانية الضيقة، ضيق العقول التي حصرت الصراع فيه بالتخندق خلف متاريس أحد المعسكرين الكبيرين اللذين يؤلفان بين قلوب اللبنانيين… وهو، أي الصمت، يتجاهل، متعمداً ربما، كون استهداف بيئة ذات انتماء مذهبي واحد بالمفخخات، لن يزيد الصراع الإقليمي، والتمذْهب الذي يؤطره، إلا تسنْيناً وتأجيجاً. ومن دون الإلتفات الى كون المفخخات جرائم بحق الإنسان، جرائم ضد أبناء طائفة “عدوة”، بجيناتها؛ تريد أن توهم أنصارها بأنها هي الحرب المقدسة التي يقودها أصحابها ضد “الروافض الكفرة”، وإذا بها تقتل وتقطع أرزاقاً وتشعل النيران…
لم يكن ينقص هذا الصمت عن “النصرة” غير “التحليل” الذي يراود بعضاً من المعارضة السورية. وذلك بعد اشتراكها، أي “النصرة”، مع الفصائل الأخرى في القتال ضد “داعش”، تلك “الدولة” الإجرامية التي أعلنت قبل كبوتها الأخيرة عن مسؤوليتها في جرائم مذهبية مفخَّخة مماثلة، آخر فصولها كانت السيارة التي انفجرت في ضاحية بيروت الجنوبية، في حارة حريك. ولا يخفي هذا “التحليل” موقفاً “إيجابياً” من “النصرة”، إذ يعتبرها مكوَّنة من سوريين، لا من عرب وأجانب، وغايتها “إسقاط بشار لا إقامة الدولة الإسلامية”. وهذه أسباب “تمليها المرحلة” و”تؤجل الخلاف” و”تعزز جانب المعادين لبشار الأسد” الخ. “تحليل” يريد أن ينسى بأن “النصرة” أعلنت ولائها لتنظيم القاعدة، وبأنها، إن كانت ترفض تسرع “داعش” في إقامة الخلافة الاسلامية وتطبيق قصاصات الشريعة الاسلامية، فلأن “المرحلة الآن غير مؤاتية”: فقط لهذا السبب. “تحليل” يُسقط في طريقه أيضاً أن القوة العسكرية الضاربة لـ”النصرة” في سوريا، ومؤخراً في لبنان، هي التفجيرات المفخخة، التي تنال ما تناله في طريقها من مارة وسكان وعابرين ومتزهين أو مجرد قاعدين في بيوتهم. أي أن “النصرة” منظمة إرهابية تستهدف الآن، في لبنان، الشيعة، ضمانة لنصرة “أهل السنة”، من غير مواربة ولا حذْلقة.
لا ينبغي علينا، مرة أخرى، تمرير المزيد من الصمت حول “النصرة”، خصوصاً إذا كنا من غير المؤمنين بأن الحرب الأهلية قدرنا. فهذا الصمت هو الضامن الأكيد لاستمرار قوة “حزب الله”. ليس عسكرياً فحسب. إنما عصبياً ومعنوياً أيضاً. فعمليات “النصرة” ولغتها يعطيان الحجّة الذهبية للحزب بالإستمرار في مشاركته إلى جانب بشار في حربه على شعبه، على أساس انها حرب ضد الإرهاب. أما الرد على هذه الحرب بما يشبهها، أي المزيد من الإرهاب باسم عصبية، سنية، تحمي أبناءها، فلا تفعل غير تشبّث العصبية الشيعية، التي لن تلبث أن يُردّ عليها بعصبية سنية على القدر نفسه من الاحتدام… وهكذا ندخل في الأتون الأسود، في الحريق المذهبي الإقليمي الأعم، لنكتشف يوماً بعد آخر، أن “النصرة” لها بيننا منفذون ومؤيدون ومتشوقون للشهادة، يفترض التحليل العلمي بأنهم من مهمّشي الأطراف؛ وإذ بهم ينحدرون من مدن، مثل طرابلس وصيدا… ولنذهل فجأة أيضاً، بأن “النصرة”، وبعد “صبر” طويل، أخذت تقطع الرؤوس والأيادي وتجلد وتهدم أضرحة ونصباً، وتزيح عن دربها كل من لا يتوسل الولاء لها… الى نهاية القائمة، التي تجعلها قريبة من “داعش”. فنستفيق قليلاً. لكن بعد ماذا؟
إنفجار الهرمل تزامن مع بدء جلسات محاكمة قتلة رفيق الحريري، لينبّهنا الى وجود نهج آخر، غير القتل، غير الثأر، للرد على الجريمة: العدالة والمسامحة، بعد المحاسبة.
المدن
انطلاق المواجهة مع “داعش” على أبواب جنيف
شهدت مناطق عدّة من شمال سورية مواجهاتٍ عنيفة بين فصائل إسلاميّة وكتائب من الجيش الحرّ من جهة، وتنظيم دولة الإسلام في العراق والشام “داعش” من جهةٍ أخرى. حصل ذلك إثر تجهّز “داعش” لاقتحام مدينة الأتارب ومعبر باب الهوى في ريف حلب الغربي؛ وهما منطقتان تسيطر عليهما المعارضة منذ أكثر من عام، الأمر الذي دفع فصائل منضوية في جيش المجاهدين إلى مهاجمة مقارّ داعش (3 كانون الثاني / يناير 2014) في الأتارب، وفي الأحياء الغربية لمدينة حلب. ولم تمض ساعات حتى أعلنت جبهة ثوّار سورية مشاركتها؛ فاقتحمت غالبية مقارّ “داعش” في ريف إدلب. وشاركت فصائل من الجبهة الإسلامية، فحاصرت مقرّ داعش الرئيس في محافظة إدلب (بلدة الدانا)، واشتبكت معه في ريف حلب الشمالي والغربي، والرقّة. ونتيجة لذلك، انسحب مقاتلو “داعش” إلى الرقّة وأعادوا تجمّعهم هناك، وقاموا بهجوم مضادّ استخدموا فيه السيارات المفخّخة والعمليات الانتحارية؛ لإعادة السيطرة على المناطق التي فقدوها. وكان التنظيم أصدر بيانًا يوم 4 كانون الثاني / يناير 2014 أمهل فيه الفصائل التي تحاربه 24 ساعة لإيقاف الهجمات ضدّه، ورفع الحواجز أمام حركة مقاتليه، وإطلاق جميع أسراه، وهدّد بالتصعيد والانسحاب من جبهات القتال مع النظام في حلب (الشيخ سعيد، والنقارين).
المعركة المؤجّلة
لم تكن الحركات الجهادية مهتمّة بالثورة السوريّة في مرحلة الاحتجاجات السلميّة، كونها تعتمد برأيهم “تقليد ومواءمة” الثورات العربيّة الأخرى في أسلوبها وأهدافها الديمقراطية، وهو ما لا يتوافق مع أفكار الجهاديين وأهدافهم. لكن انتقال الثورة إلى مرحلة العسكرة شجّع هذه الحركات على المشاركة في القتال تحت مبرّرات دينية وفقهية، مثل “دفع الصائل”. وقد ساهم عنف النظام وميليشياته، وغياب إجراءات دولية رادعة ضدّه، في غضّ الطرف شعبيًّا عن مشروعه الخاص، والذي لا يتقاطع مع أهداف الثورة إلا في عداء النظام، فانتقلت هذه الحركات من طرف غير مرغوب في مشاركته بداية الثورة، إلى فاعل مرحّب به في قتال النظام.
تعود بداية الصدام بين الجهاديّين وفصائل المعارضة إلى شهر نيسان / أبريل 2013؛ فبعد أن أعلن زعيم تنظيم دولة العراق الإسلامية أبو بكر البغدادي في 9 نيسان/ أبريل 2013 اندماج فصيله والنصرة في جسم واحد سمّاه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، انضمّ غالبية المقاتلين الأجانب (المهاجرون) إلى التنظيم الجديد، و”بايعوه” أميرًا عليهم، وهاجموا مقارّ “جبهة النصرة” في حلب وإدلب والرقّة، واستولوا عليها بالقوة. ومنذ ذلك الحين، بدأ “داعش” الاستيلاء على المناطق “المحرّرة” بقوّة السلاح. وأجبر الكتائب الصغيرة والعشائر والأهالي في المناطق التي يحتلّها على بيعة أميره البغدادي. وفرض عليهم الاحتكام إلى محاكمه الشرعية، والتعلّم في كتاتيبه ومدارسه. وارتكب جرائم قتل وإعدام كثيرة، بذرائع عدة. وقيّد مقاتلوه حياة المدنيين؛ فأجبروا النساء على ارتداء الحجاب والنقاب، ومنعوا الاختلاط، وأغلقوا المسارح والمعارض الفنّية، وهاجموا الأديرة، وحوّلوا الكنائس إلى مقارّ لهم، ومنعوا رفع علم الثورة، وقتلوا النشطاء والإعلاميين واعتقلوهم بذريعة العمالة للائتلاف الوطني “العميل” بدوره لأميركا.
بعد هدوء بعض الجبهات المفتوحة مع النظام مؤخّرًا، تفرّغ مقاتلو “داعش” تفرّغًا شبه كامل لمحاربة كتائب المعارضة بذريعة “الكفر”، و”الردّة”، و”تشيكل صحوات”، و”التعاون مع الأميركان “… وغير ذلك؛ فهاجموا الكثير من المقارّ، واغتالوا الكثير من القيادات؛ وساهم ذلك في زيادة حالة الاحتقان الشعبي ضدّ “داعش”، ما دفع الروابط والهيئات الإسلامية السورية إلى إصدار بيان في 22 كانون الأوّل / ديسمبر 2013 اتّهمت فيه “داعش” بتعمّد افتعال الخلافات مع فصائل المعارضة، ودعته إلى عدم التدخّل في شؤون السوريين، والكفّ عمّا وصفته بالتصرّفات التي تدعو إلى الفتنة والشرّ[1]. وفي بيان أصدره في 1 كانون الثاني / يناير 2014، وصف الائتلاف الوطني المعارض تنظيم “داعش” بـ “الإرهابي”. ولفت إلى أنّ علاقة عضوية تربطه مع النظام السوري، وأنّ “سيل دماء السوريين على يد هذا التنظيم رفع الشكّ نهائيًّا عن طبيعته الإرهابية والمعادية للثورة”[2].
على أهمّيتها، لم تمثّل المعطيات السابقة دافعًا رئيسًا للمواجهة المسلّحة مع “داعش”؛ فالكتائب الصغرى (الأكثر تعرّضًا لاعتداءات “داعش”) لم تكن قادرة على ذلك بحكم اختلال موازين القوى، ونهج القتال الذي يتبعه التنظيم (المفخّخات، والعمليات الانتحاريّة)، ما جعلها لا تردّ على انتهاكاته. أمّا الفصائل الكبرى كالجبهة الإسلاميّة، فعلى الرغم من اعتداءات “داعش” المتكررة، فقد رفضت الصدام المسلّح، وفضّلت اللجوء إلى وسائلَ أخرى لحلّ الخلافات؛ كالتحكيم الشرعي. لكن الأمور أخذت منحى الصدام المسلّح عندما بدأ “داعش” يتجهّز لاقتحام بلدة الأتارب رئة الإمداد الوحيدة المتبقّية من تركيا عبر معبر باب الهوى بالنسبة إلى فصائل المعارضة؛ فسيطرةُ “داعش” على هاتين النقطتين (الأتارب، ومعبر باب الهوى) تعني تحكّمه تحكّمًا كاملًا في جميع خطوط الإمداد في ريف حلب الغربي والشمالي والشرقي، بخاصة بعد أن فرض سيطرته على مدينة أعزاز الحدودية مع تركيا وعدد كبير من قرى ريف حلب الشمالي، وعلى مدينة الباب في ريف حلب الشرقي (انظر الخريطة). انطلاقًا من ذلك، سارعت الكتائب المتضرّرة (جيش المجاهدين) إلى الدخول في مواجهة مسلّحة ضدّ “داعش” ضمن بلدة الأتارب ومحيطها، سرعان ما توسّعت إلى باقي المناطق.
خريطة طرق الإمداد الرئيسة والمعابر الحدودية لمدينة حلب
– الخطوط الحمراء: طرق الإمداد الرئيسة لمدينة حلب (الباب شرقًا، أعزاز شمالًا، الأتارب وباب الهوى غربًا).
– النقاط الخضراء: المعابر الحدودية (باب السلامة شمالًا، وباب الهوى غربًا).
المآلات المحتملة
تعدّ المواجهة مع “داعش” حدثًا مفصليًّا ونقطة تحوّل مهمّة في مسار الصراع الجاري في سورية؛ إذ دحضت الادّعاءات التي تربط التنظيم بالثورة السوريّة وتعدّه مِن فصائل المعارضة، وتعاملت معه بوصفه عدوًّا مثلما تتعامل مع النظام، ومع حزب الله، والميليشيات العراقيّة والطائفية الأخرى. وعلى الرغم من أنّ المواجهة الحاصلة ستكون خطوة على طريق طرد “داعش” من سورية، فمن المبكر توقّع هزيمة التنظيم واندثاره في المدى المنظور لأسبابٍ عدة منها:
1. قوّة التنظيم: تكمن في أسلوبه القتالي ومستوى إجرامه؛ بمعنى أنّ عناصره المغيبة فكريًّا، والمعزولة اجتماعيًّا عن محيطها لا تتورّع عن أيّ فعل في سبيل ما تراه حماية “الخلافة” و”بيعة الأمير”. وعليه، فإنّ كلّ “خروج” عنها يعدّ “كفر” يجب قتاله بالأسلوب المتّبع والمفضّل، وهو السيارات المفخّخة والعمليات الانتحاريّة؛ فمنذ بدء المواجهات مع مقاتلي المعارضة، نفّذ التنظيم أكثر من 16 هجومًا انتحاريًّا أو مفخّخًا، وأعدم مئات الأسرى في حلب، وإدلب، والرقّة، من ضمنهم 100 مقاتل من حركة أحرار الشام الإسلاميّة أُعدموا ودُفنوا في مقبرة جماعيّة. وقد وصل به الأمر حدّ إعدام أمير “جبهة النصرة” في الرقّة، “أبو سعد الحضرمي”، بتهمة الردّة[3]. هذه القسوة تجعل كثيرًا من الكتائب الصغرى تخشى الصدام مع التنظيم، وتتّخذ موقفًا محايدًا ممّا يجري. يضاف إلى ذلك أنّ مقارّ التنظيم تنتشر على رقعة جغرافيّة كبيرة تمتدّ من البوكمال شرقًا إلى ريف اللاذقيّة غربًا؛ ما يعني قدرته على إعادة تنظيم قواه المنسحبة من مناطق المواجهات، والاستيلاء على قرى جديدة لإقامة مقارّه فيها، ومن ثمّ التجهّز للهجمات المضادّة في المناطق التي خسرها.
2. تباين حسابات الفصائل المشاركة: تختلف هذه الحسابات بحسب موقع كلّ فصيل وقوّته وتوجّهاته السياسية والفكرية؛ ففي حين مثّل “لواء التوحيد” و”جيش الإسلام” الفصائل الأكثر حماسة ضمن الجبهة الإسلامية لمقاتلة “داعش” بوصفه خطرًا يجب استئصاله كونه يتمدّد ويتوسّع في المناطق الخاضعة لهما، فضّلت فصائل أخرى في الجبهة ولا سيّما “حركة أحرار الشام” (وهي من أكثر الفصائل تضرّرًا وأذى من “داعش”)، و”لواء الحق” و”ألوية صقور الشام” عدم الانجرار إلى مواجهة شاملة وطويلة مع “داعش”؛ إذ رأت أنّ القتال الجاري “فتنة” المستفيد الأوّل منها هو نظام الأسد. وتنظر هذه الفصائل إلى الخلافات مع “داعش” من منظور ضيّق، فهي لا تمانع في وجوده ونشاطه، بل لديها تحفّظ على أسلوبه وسلوكه كونه لا يرى نفسه فصيلًا فحسب، بل يعلن نفسه “دولة” على الآخرين الانضمام إليها، ومبايعة أميرها، والاحتكام إلى محاكمها. تأسيسًا على ذلك، سعى بعض قادة “الجبهة الإسلامية” إلى تقديم مبادرة للوساطة نصّت على: وقف إطلاق النار، ورفع الحواجز، وإطلاق الأسرى، وعدم الاعتداء على المقاتلين الأجانب (المهاجرون)، وإنشاء محكمة شرعية مستقلة وقضاة مستقلّين[4].
من جهتها، رأت “جبهة النصرة” أنّ المواجهة الحاليّة تحدّ من مساعي “داعش” الدائمة لإضعافها، واجتذاب منتسبيها وتصفية قياداتها. ولعلّ أهمّ ثمار المواجهة الحاصلة بالنسبة إلى النصرة هي تمكّنها من استعادة كثير من مقارّها التي خسرتها لداعش إثر إعلان الدولة في شهر نيسان / أبريل 2013. لكن في المقابل، لم تعلن النصرة صراحةً مشاركتها في القتال ضدّ “داعش”؛ خشية أن يرفع التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد وزعيمه أيمن الظواهري، الغطاء عنها، ما يؤدّي إلى فقدان ما تعدّه “الحماية” و”الشرعية” أمام محاولات “داعش” “ابتلاعها”[5]، بخاصة أنّ كثيرًا من المنظّرين الجهاديين اصطفّوا إلى جانب البغدادي غداة إعلانه “الدولة”[6]. لكن في الوقت نفسه، رأت “النصرة” أنّ “سياسة الدولة الخاطئة” ساهمت في إشعال الصراع وإذكائه، ما يبرّر انضمامها لجهود إضعاف داعش، ووقف تمدّده، بل ربّما يسهم في انسحابه من سورية تطبيقًا لتحكيم الظواهري، وعودة “المهاجرين” إلى صفوفها[7]، أو بقائه فصيلًا عسكريًّا وتخلّيه عن مساعي فرض نفسه وبيعته مرجعية جهادية على الجميع.
أمّا جبهة ثوّار سورية التي برزت خلال المواجهات الأخيرة قوّةً عسكرية منظّمة توازي الفصائل الإسلامية الكبرى لجهة العدد والعتاد، فقد أخذت على عاتقها قتال “داعش” وطرده من معظم قرى ريف إدلب، وريف حماة الشمالي، والسيطرة على معظم مقارّه، على الرغم من الملاحظات على قائدها جمال معروف؛ ذلك أنّ مقاتليها (كتائب وألوية شهداء سورية سابقًا) الذين كان لهم دورٌ كبير في قتال النظام خلال عام 2012، تراخَوا بعد خروج النظام من مناطقهم في ريف إدلب على الرغم من الدعم الكبير الذي يصلهم من الخارج، ما جعل بقية الفصائل – بخاصة الإسلامية – ترتاب في معروف ومقاتليه، وتعدّهم مشروع “صحوات” مدعومة سعوديًّا وغربيًّا، ولا سيّما أنّ الإعلان عن تأسيس “جبهة ثوّار سورية” (10 كانون الأول / ديسمبر 2013) جاء بعد أسبوعين من تأسيس “الجبهة الإسلامية” (22 تشرين الثاني / نوفمبر 2013).
بغضّ النظر عن مدى صحّة الادّعاءات السابقة، أصبحت “جبهة ثوّار سورية” من أهمّ الفاعلين في الشمال. وحرص قائدها على تحديد مهامّها بــ “قتال النظام والقاعدة” في رسالة إلى القوى االمتوجّسة من نفوذ الجهاديين في الشمال السوري؛ سعيًا وراء تلقّي الدعم والمساندة وملء الفراغ بعد خروج رئيس هيئة الأركان سليم إدريس من المنطقة، إثر مهاجمة “الجبهة الإسلامية” مقارّ الأركان المشتركة في منطقة باب الهوى في شهر كانون الأوّل / ديسمبر 2013. وجدت هذه الرسالة استجابة سريعة من الائتلاف الوطني والحكومة الموقّتة وداعميها الإقليميين؛ إذ كشف معروف أنّ جبهة ثوّار سورية والألوية التابعة لها “ستكون النواة الأولى لتشكيل الجيش الوطني الحرّ”، والذي تنحصر مهامّه في” قتال نظام بشار الأسد والتنظيمات الأصولية”[8].
أمّا جيش المجاهدين، فقد تشكّل في 2 كانون الثاني / يناير 2014؛ أي قبل يومٍ واحد من بدء المواجهة مع “داعش”[9]. لكن، وعلى الرغم من التطابق الكبير في الطروحات والأهداف، وعلى الرغم من كونها تعمل في الحيّز الجغرافي نفسه وضمن غرفة عمليات مشتركة، لم تنضمّ الفصائل المشكّلة لجيش المجاهدين إلى “الجبهة الإسلامية”؛ ما يعني أنّه قد يكون جسمًا إسلاميًّا موازيًا ومنافسًا للجبهة في الشمال وبمهمّة محدّدة هي قتال “داعش”. ضمن هذا الإطار، أعلن الجيش الحرب على “داعش” حتى “يحلّ نفسه أو ينخرط في صفوف التشكيلات العسكرية الأخرى”[10]. وتمكّن مقاتلو جيش المجاهدين من طرد “داعش” من معظم قرى ريف حلب الغربي، والأحياء الغربية في مدينة حلب بما فيها مستشفى العيون مقرّ “داعش” الرئيس في المدينة.
3. موقف النظام: عزّز ظهور “داعش” على هامش الثورة وتمدّده في شمال سورية وشرقها على حساب فصائل المعارضة الأخرى، موقف النظام الذي أخذ مع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر جنيف (2) يؤكّد أكثر أنّ معركته هي في مواجهة تنظيمات جهادية متطرفة، معظم منتسبيها من غير السوريين. ولأنّ حضور “داعش” وسلوكه يخدمان روايته ومواقفه داخل سورية وخارجها، تجنّب النظام الدخول في أيّ مواجهة قد تضعف التنظيم. بل على العكس، قام النظام بمساعدته في وجه فصائل المعارضة التي اجتمعت على قتاله وإخراجه من سورية. ومهّد له الطريق في بعض الحالات؛ إذ قام طيرانه بقصف الفصائل التي كانت تدافع عن مدينة الباب الواقعة شمال حلب، والتي كان يحاصرها “داعش”، ما سهّل استيلاءَه عليها. وبناءً عليه، ثمّة قناعة بأنّ “داعش” وإن كان يعبّر عن مزاج متطرّف مرَضي ومهووس، وعن عطب حقيقي خلّفه الاستبداد في المجتمعات العربية، قد تكون أجهزة مخابرات النظام وحلفائه اخترقته فعلًا. وبالنتيجة، إذا كان “داعش” يخدم أجندة النظام سواء بقصدٍ أو بغير قصد، فإنّ مصلحة النظام تقتضي استمراره وعدم انهياره أمام اجتماع فصائل المعارضة السوريّة على التخلّص منه ومن ممارساته.
خاتمة
يمكن القول إنّ المعركة مع “داعش” قد انطلقت، وسوف تتطوّر وتتّسع، حتى تستعيد الثورة السوريّة نفسها. لقد كشفت هذه المعركة – وإن كان متوقّعًا أن تكون طويلة وصعبة – حجم قوّة “داعش” العسكريّة المحدودة؛ بعكس ما كان يروج في أوساط الجهاديين، وفي دوائر الإعلام الغربي. وبدَا واضحًا أنّ قوّة “داعش” تكمن في مستوى إجرامه، وخوف المجتمع منه، وفي هذا قدّم “داعش” نموذجًا منفرًا لكثير من شرائح المجتمع السوري في ما يتعلّق بطروحاته عن الدولة الإسلامية، وتحكيم الشرع بالقوّة والإكراه.
وكشفت المواجهات من زاويةٍ أخرى حجم تلاقي المصالح بين “داعش” والنظام، بخاصة عندما هدّد “داعش” ونفّذ تهديداته بإخلاء مناطقه للنظام؛ كما حصل في حيّ النقارين في حلب. ولا يمكن لمراقبٍ أن تفوته ملاحظة حجم الإرباك الذي تسبّب فيه اجتماع فصائل المعارضة السوريّة على قتال “داعش” وإخراجه؛ فقد كان النظام مرتاحًا لتضاعف نفوذ الجهاديين، لأنّ ذلك يعزّز من جهة روايته عن الثورة منذ البداية بأنّها “مؤامرة سلفية إرهابية” تستهدف “علمانيّته وتسامحه”، ومن جهة أخرى أضعف ذلك قدرته على توظيف مسألة الجهاديين، لإعادة تأهيل نفسه دوليًّا بوصفه طرفًا معترفًا به في “مكافحة الإرهاب”.
أمّا اجتماع فصائل المعارضة لأوّل مرة منذ عسكرة الثورة على قتال “داعش”، فيُعدّ فرصةً لبناء جسمٍ عسكري موحّد يكون نواةً لجيشٍ وطني يمثّل الثورة وأهدافها، ويضمّ الفصائل العسكرية بمختلف توجّهاتها الفكرية والسياسية، بعد أن يكون هناك موقف واضح وصريح جرى اتّخاذه من التنظيمات التي أضرّت بالثورة سياسيًّا وعسكريًّا.
[1] الهيئات والروابط االتي وقّعت البيان: هيئة الشام الإسلامية، ورابطة العلماء السوريين، وعلماء ودعاة الثورة، والهيئة الشرعية في حلب، ورابطة خطباء الشام، وجمعية علماء الكرد في سوريا، والملتقى الإسلامي السوري، وهيئة العلماء الأحرار. انظر: “الهيئات الإسلامية بسوريا: سلوك ’داعش‘ يدعو للفتنة والشر”، العربية نت، 22/12/2013، على الرابط:
http://goo.gl/m9Ok4P
[2] “الائتلاف يصف تنظيم ’داعش‘ بالإرهابي عقب مقتل مدير معبر حدودي.. ويدعو المقاتلين للانسحاب منه”، سيريا نيوز، 1/1/2014، على الرابط:
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=166221
[3] انظر بيان داعش في تويتر:
https://twitter.com/raqqa98/status/422302662940319744/photo/1
[4] انظر حساب عبد الله المحيسني في تويتر، تاريخ المشاهدة 6/1/2014، على الرابط:
[5] نتيجة تردّد الظواهري في التعليق على القتال الدائر في سورية وعدم انتقاد “داعش”، وجّه القيادي في تنظيم القاعدة أبو خالد السوري في تسجيل صوتي منسوب إليه نُشر على شبكة الإنترنت 14/1/2014 نقدًا لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، مؤكدًا أنّ ما حدث من “قتل للمسلمين على يد تنظيم الدولة” سببه تأخّر الظواهري في الإنكار عليهم والتبرّؤ منهم ومن أفعالهم، مضيفًا أنّ إسباغه الشرعية على تنظيم الدولة “أساء ويسيء إلى الجهاد وإلى التنظيم”. للاطّلاع على كلمة “أبو خالد السوري” على موقع يوتيوب، 14/1/2014، على الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=zdqkb4iHHc0
يجدر الإشارة إلى أنّ الظواهري كان قد كلّف “أبو خالد السوري” بالتحكيم بين النصرة والدولة لفضّ الدمج. انظر: “الظواهري يلغي دمج ’جهاديّي‘ سوريا والعراق”، الجزيرة نت، 9/6/2013، على الرابط:
http://www.aljazeera.net/news/pages/a5a7d33e-3c9f-4706-b070-e358b5e67236
[6] من أبرز من أيّد إعلان الدولة: أبو سعد العاملي، وأبو الحسن الأزدي، وأبو همام بكر الأثري، وأبو سفيان السلمي تركي البنعلي، وأبو المنذر الشنقيطي، وأبو محمد الأزدي، وأبو يوسف البشير، وغيرهم. للمزيد من التفاصيل، انظر: حسن أبو هنية، “الدولة الإسلامية في العراق والشام.. تتمرّد على القاعدة (2)”، عربي 21، 5/1/2014، على الرابط:
http://arabi21.com/a-2/a-299/717864-a
[7] بعد أيّام على بدء المواجهات، انشقّ عدد من مقاتلي “داعش” وانضمّوا إلى النصرة: انظر: “داعش يتراجع في معقله العسكري في الدانا… ومسؤول شرعي ينشقّ إلى ’النصرة‘”، الحياة، 10/1/2014، على الرابط:
http://alhayat.com/Details/591159
[8] “قائد جبهة ’ثوار سوريا‘: نحن نواة الجيش الوطني وستنضمّ إلينا نصف كتائب المعارضة”، الشرق الأوسط، 12/1/2014، على الرابط:
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=757370&issueno=12829#.UtTo-56Swy4
[9] أعلن عن تأسيسه في 2/1/2014، ويضمّ مجموعة من الفصائل الإسلامية الفاعلة في حلب وريفها والمتضررة من ممارسات “داعش” وهي: كتائب نور الدين الزنكي الإسلامية، ولواء الأنصار، وتجمع فاستقم كما أُمرت، ولواء الحرية الإسلامي، ولواء أمجاد الإسلام (الفرقة 19)، ولواء جند الحرمين، وحركة النور الإسلامية.
[10] “جيش المجاهدين في سوريا يعلن الحرب على الدولة الإسلامية في العراق والشام”، إيلاف، 4/1/2013، على الرابط:
http://www.elaph.com/Web/news/2014/1/864094.html
وحدة تحليل السياسات في المركز
تتكوّن وحدة تحليل السّياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات من مجموعة من الباحثين الذين يعملون بشكلٍ جماعيّ، ويلتقون دوريًّا، لتدارس المواضيع السياسيّة والإستراتيجيّة الرّاهنة ذات الأهميّة العالية، ومناقشتها، ورصدها، ومتابعة تطوّراتها، وتوقّع تأثيراتها المحتملة. تعمل الوحدة تحت إشراف الدكتور عزمي بشارة، وبتوجيهه، ويقوم باحث بتنسيق الاجتماعات والمواضيع والموادّ المقترحة للنّقاش. يكلّف باحث أو أكثر بصياغة ورقة، ويقدمها لتخضع للمناقشة في جلسة، ثمّ يعاد تحريرها في ضوء الملاحظات التي يبديها أعضاء فريق الوحدة. وتخضع قبل نشرها على الموقع الإلكتروني كورقة “تقدير موقف” أو ورقة “تحليل سياسات” لمراجعةٍ أخيرة.
هل «القاعدة» موجودة؟/ عباس بيضون
نتساءل هل «القاعدة» موجودة. سؤال كهذا يبدو جنونياً. السؤال يخطر في وقت تتعدد فيه الدلائل على وجود «القاعدة» تحت أسماء شتى، في مالي وفي العراق وفي سوريا. «القاعدة» موجودة بكثرة، بل انها لم توجد في يوم بهذه الكثرة، بل ان كل شيء يدل على أن «القاعدة» مرشحة لأن تنتشر في مناطق أخرى. انها مفاجأة دائماً فحيث لا ننتظرها وحيث لا يبدو لها أي وجود تثب فجأة وتتمدد بسرعة وتغدو في أيام خطراً ماثلاً. إذا كان من خصيصة لـ«القاعدة» فهي هذه، انها دوما كامنة، ضامرة في أي مكان وتظهر فجأة وتتألف بسرعة هائلة وتغدو شيئاً قائماً في غضون أيام، مع ذلك نجدها قامت وبعد ذلك تعلن انتسابها لـ«القاعدة». لكن ماذا يعني هذا. انها بطاقة لا تلزمها بشيء. تنظيمان ينتسبان الى «القاعدة»: داعش وهيئة النصرة يقتتلان ولا تجدي رسالة الظواهري الزعيم المفترض لـ «القاعدة»، في إلزام كل من التنظيمين بحدود ترسمها. يحق لنا أن نسأل عن مدى التزام الفروع السورية والعراقية وكذلك اليمنية والمالية بمركز قيادي. يقال في هذا الصدد أن ليس هناك من مركزية لـ«القاعدة». انها لامركزية، لكننا لا نستطيع أن نتوقف كثيراً عند هذا الوصف. نتساءل إذا كانت «القاعدة» أكثر من بطاقة، من اسم من اتيكيت. هذا بالطبع لا يهوّن من «القاعدة» بل هو يجعلها أخطر، إذا كانت «القاعدة» مجرد اسم فهذا يعني انها موجودة بالقوة، موجودة في حال من الكمون في كل مكان. انها موجودة كنعره، كعصبية، ككمون غريزي، كتراث، كتقليد، كعقل، كاستعداد. انها موجودة بالقوة في نفوسنا وأفكارنا وعقولنا، بل انها على نحو ما أفكارنا ونفوسنا وعقولنا، انها ماثلة في دواخل الأشخاص وفي قرارتهم وقد لا يكون استنفارها أمراً صعباً او محتاجاً إلى أكثر من إشارة. تأتي الإشارة فتجتذب أشخاصاً يجدونها من قبل في أنفسهم فيسيرون خلفها بدون حاجة كبيرة إلى تنظيم أو إعداد أو تثقيف، فكل هذا حاصل سلفاً. انه موجود في تربية الناس وفي عقولهم. موجود في ظروفهم وفي معاشهم، في وعيهم وفي تفكيرهم، انه حاصل من قبل، وتكفي إشارة، يكفي طلب لينتظموا فيه.
يمكننا أن نقول إن كل تجربتنا الماضية. تجربتنا بكل الأطوار التي مرت بها وبكل الأسماء التي حملتها قد أدت إلى القاعدة. هذه حصيلة بائسة، لكن الأمور سارت هكذا. الآن «القاعدة» هي الاسم الذي ينتسب إليه سلفيو تونس بعد التجربة الليبرالية البورقيبية. «القاعدة» هي الإسم الذي يتنازعه عراقيون وسوريون، وبالطبع يقال إن هذا الأمر غريب علينا وإننا لا نجد لها مثلاً في تاريخنا، لكن الحقيقة أن التجربة القومية، والتجربة الليبرالية حتى والتجربة اليسارية أيضاً بذرت ما تلقفته «القاعدة». ما وجدته «القاعدة» في انتظارها. هذه التجارب كانت على نحو ما طريقاً إلى «القاعدة». «القاعدة» هي انفجار شعبوي وهذه التجارب كانت في العمق شعبوية. لم يكن هناك من قبل سوى عناصر آلت في ما بعد إلى انفجار مجاني: الظلامة التاريخية، العنف المجرد. المازوشية المترسخة، الحقد وكره الآخر والعقل الانتحاري، هي العناصر التي طالما استنفرت وشحذت في الوعي الشعبي. طالما جرى ترسيخها والاحتفال بها وتجديدها وتكريرها. عناصر سلبية وعقيمة ومسدودة وانتحارية، جرى النسج عليها وتغذيتها وحقنها وشحنها باستمرار إلى أن وصلت في النهاية إلى مفهومها البسيط المباشر، إلى انفجارها الكامل، إلى نوع من العنف المجاني والانتحاري والاستعداد لكل أشكاله وآخرها وأكثرها استعراضية.
ليس لدى القاعدة سوى اسمها، سوى هذا النزوع لعنف استعراضي ومجاني، سوى القتل الحر، سوى تفريع الحقد وتفجيره. لا نعرف ان لها فكراً محدداً وبرنامجاً معروفاً ورؤيا من أي نوع. ما عندها هو تماماً هذا العنف الاستعراضي الذي هو الترجمة الوحيدة لثوريتها وانقلابيتها. عنف مسدود وليس امامه أي أفق ولا يرجى له أي أفق. انه عنف راسخ وحر، ليست «القاعدة» سواه. كل من يرخي لهذا العنف ينتسب إلى «القاعدة». لا حاجة لقيادة او مركز او بيان. الحاجة هي لمزيد من الدم، لمزيد من القتل.
السفير