صفحات الرأي

مقال الركابي عن ياسين الحاج صالح والردود عليه


تهافت التنظير الثوري السوري: ياسين الحاج صالح نموذجاً

عبدالأمير الركابي *

نصيحتي للاستاذ ياسين الحاج صالح، ان لا يقرر كتابة «تهافت التهافت»، رداً على إشارتي الراهنة الى تهافت التنظير السوري للثورة، او الإنتفاضة، او سيرورة التغيير الجارية. فالإستعارة التي الجأ اليها في العنوان، لا تفصل بين مجالي الفلسفة والتسليم الإيماني، بقدر ما تحاول التنبيه الى ضرورة الوصول الى فهم او مفهوم، لحالة يبدو انها تستمر في فرض قوانينها، غير عابئة بمن ينظّرون لها او يلاحقون مجرياتها. والامر هنا يبدأ ليس من المحاجّة عن الصواب والخطأ، بل عن الخطأ الدائم، فليس في تاريخ العالم العربي، ومنه سورية طبعاً، اي صواب او صوابية نظرية معروفة، لا في التفصيلات ولا العموميات، اما علو بعض الاصوات، فليس للاسف دليلاً على غير ما أشرت، ان لم يكن باعثه النقص والعجز.

ما الذي تغير، او اوحى بالتغيير سوى الحدث نفسه، فحصول «الإنتفاضات»، اوحى للمتابعات بأنها قد غدت حية، موجودة وحاضرة، ان لم تكن فعالة. وهذا يؤكده سيل «الآراء « اليومي الذي لا يحصى، فالجرائد والمجلات والفضائيات، مزدحمه بـ «العارفين» المواكبين، مع اننا لم نصل بعد الى «نظرية» او الى ملامح تصور معقول لما هو حاصل، واذا دققنا بين ركام المتابعات وحاكمناها، سنعثر على ما بدا وكأنه امر جرى تجاوزه او استدراكه. فالإنتفاضات التي حفزت المتابعات، او غطت بحضورها على «عجزنا النظري» المقيم، تنطوي في العمق على ادانة غير معلن عنها لتلك المتابعات. فالشبيبة التي تقود الإنتفاضات والتي أججتها في غير مكان، لا ترى في هذه المتابعات دليلاً لها، وهي تصر على تجاهلها، معتبرة اياها امتداداً لما قبلها، ومع ان بعض صنوف مثل هذه الكتابات يصر على تملق «الثورات «، الا انه لم يفلح ابداً في اي مكان او ساحة في قيادتها، ناهيك عن ادعاء شرف «ادخال الوعي من الخارج» في بنيتها.

من هو منظر الثورة في مصر وفي تونس او اليمن او سورية؟، من هم منظرو الربيع العربي العرب، وماذا قالوا؟ دعونا من كلام الفضائيات العقيم، المحايث، المتملق، المغرض، والمخطط، او كلام الصحف اليومي المستمد من مقايسات تنتمي للماضي ومصطلحاته وعجز منظريه وقصور رؤيتهم. ماذا يقول على سبيل المثال احدهم من السوريين الذين يواكبون بتميز، شؤون الثورة السورية. استمعوا مثلاً لهذا النص البعثي: «واذا اردنا التعبير عن الامر بوضوح فان من لا يدين النظام ويطالب بإسقاطه فوراً فاقد الاهلية الاخلاقية لنقد الثورة او التحفظ على اشد افعالها سوءاً» (مقال لياسين الحاج صالح، «في خصوص الثورة السورية والاخلاق» الحياة، الاحد 19 آب/أغسطس 2012). أليس في هذا تكرار لنفس خطاب الاطلاق الشمولي، نفس مبدأ التقديس بأسوأ تطبيقاته. انه سيف ارهاب، يتلون حسب الإيقاع. بالأمس كان هذا الكاتب مع «سلمية الثورة»، ثم تحول لمناقشة ظواهر العنف التي بدأت تلوح داخلها متوجساً، وها هو اليوم يقول في نفس المقال: «لقد فرضت الحرب على الثورة».

جيد. اذا كان هنالك من يريد تغيير النظام، ولا يريد حدوث ذلك بالعنف بل سلماً، فهل نعده «فاقد الآهلية الاخلاقية»؟. وماذا اذا اعتقد هذا «الثائر السلمي» بأن من يحملون السلاح، هم اعداء الثورة، وانهم يفتقرون «للاخلاق الثورية»؟ وماذا لو اعتبر هذا ان من يتملقون الثورة، ويقبلون كل تبدلاتها، شخص «يفتقر للأهلية الاخلاقية»، ولا يصلح منظراً، او طامحاً لتمثيل هذا الحدث فكرياً؟

ماذا اذا ضاق عامل مسكين، او مزارع، بما يجري، لأنه معني برزقه وقوت عياله يوماً بيوم، فتذمر او شتم الذين يرفعون السلاح، واعتبرهم «دون أهلية اخلاقية»، مع انه في اعماقه يريد إسقاط النظام او حتى لا يريده. السيد ياسين يقول ان الثورة يمكن، او يجب، ان «تنضبط بقواعد واصول عادلة تتوافق مع قيمها»، ما يعني انها ليست مطلقة، وليست قانوناً به تتحدد الاخلاق والقيم، لا بل يمكن ان «تخرج على القواعد والاصول». إذاً لماذا نرفعها الى مقياس علوي، ونجعل الموقف، مجرد الموقف، من إطلاقيتها دليل ضعف اخلاقي او ممارسة لااخلاقية. ما الذي يقوله فعلاً الاستاذ ياسين؟ الا يدرك ان التبرير الذي يورده، يمكن ان يطبق من موقع يتجاوز عنف النظام وفاشيته، بحيث نسطر مقولات وتبريرات الممانعة والثورة، ووحدة الوطن، ومؤامرات الخارج، وكل هذه موضوعات ليس من المستحيل التدليل عليها جزئياً، بحيث ننتهي للقول، بأن كل من يقف ضد هذا المعسكر «فاقد الاهلية الاخلاقية» ولا يحق له انتقاد النظام، هذا برغم ان بعض التصرفات التي يمارسها النظام والشبيحة تحتاج الى ضبط على «الاصول والقواعد».

شيء غريب ما يكرره السيد ياسين، لأنه يعلمنا عن اشياء، وينسى ان يعلمنا شيئاً عن القضية الاهم: ما هي الثورة؟ ما هي الثورة السورية؟ هل يملك هو ان يقول لنا عيانياً ما هو هذا الحدث، ما هي ابعاده الفعليه، كما يمكن لباحث مميز مثله ان يستنتج من تحري معطياته، وعناصره، وتغيراته وما يحيط به، وما يتداخل معه؟

انا شخصياً لا اعرف، او انني اجاهد في متابعة ما يصدر عن الكتاب السوريين، وعن الاستاذ ياسين الحاج صالح والاستاذ ميشيل كيلو في مقدمتهم، إلا انني، ويا للأسف، لم افهم حتى الآن «ما هي الثورة السورية» بالملموس لا بالانشاء والرغبات والتهويم والانسياق وراء المجريات اليومية. نريد ان نفهم لماذا مثلاً كان هؤلاء الكتاب قبل بضعة اشهر، فخورين بسلمية الثورة وامتيازها عربياً وصمودها السلمي، بينما اصبحوا اليوم اقرب الى الفخر بالعنف؟ والمسألة الاخطر التي نريد ان نعرفها، هي ما اذا كانت سورية على سبيل الإحتمال سائرة الى التدمير لا الى «التغيير»؟ وفي هذا المجال يساورنا قلق شديد، لا نجد ان احداً من كتاب ومواكبي ومنظري الثورة السورية، ينكب عليه محاولاً إقناعنا (ومرة اخرى بالملموس لا بالإنشاء) بان ما يحدث إنتقال الى الامام، نحو المستقبل، وان الادلة على ذلك موجودة في تضاعيف وسياقات وآليات وديناميات الثورة الجارية.

مثل هذا الجواب اهم بكثير من المحاجّات الاخلاقية على اهميتها، بخاصة، مثلاً، اذا نظرنا الى تجربة مثل تلك التي عاشها العراق، وما زال البعض مصراً على أنها، رغم الكارثة، إنتقال بعملية قيصرية، نحو «الديموقراطية»؟

 * كاتب عراقي

الحياة

تهافت التهافت في التنظير الثوري

ماجد كيالي *

كنت أتوقّع جديداً في محاولة الأستاذ عبد الأمير الركابي التنظير لنقد الثورات العربية، ولا سيما الثورة السورية، في مادته: «تهافت التنظير الثوري…» («الحياة» 17/9)، لكنني لم أجد ذلك، إذ إن مجمل التساؤلات والملاحظات التي طرحها كانت أشبعت عرضاً منذ بداية ما بات يعرف بـ «الربيع العربي»، أي منذ ما يقارب عقدين. فهذه المادة تصبّ في جملة الأطروحات التي تعتقد بأن الثورات ينبغي أن تأتي وفق معايير ونماذج معيّنة، بحيث يكون لها منظّرون ثوريون، ونظرية ثورية، وحزب طليعي، وأنها إذا خرجت عن هذه المسطرة فإنها تكفّ عن كونها ثورة!

لا ريب في أن من حق الكاتب، وغيره، أن يرى الثورات على هواه ووفق نظرياته المسبقة، وأن يأخذ عليها افتقادها عنصري التنظيم والنظرية، لكن هذا شيء ومحاولة التشكيك بالثورة (أو سمّها ما شئت) وبشرعيتها وعدالة مقاصدها شيء آخر.

في محاولته التنظير النقدي حوّل الركابي فكرته عن الثورة إلى «تابو»، أو كلام منزّل، على رغم أن الثورات لم تعرّف على هذا النحو إلا وفق نماذج معيّنة، وفي مرحلة تاريخية معينة، أي في مطلع القرن العشرين، ومع الترسيمات التي وضعها لينين، وبناء على نموذج معين هو الثورة الاشتراكية في روسيا (1917)؛ أي ان هذه الترسيمة (النموذج) تتمتع بمكانة تاريخية، وليست منزّلة من السماء، ولا مقدّسة.

عموماً ليس ثمة تعريف جامع مانع للثورة، ولكنها توصف كذلك لأنها تعبّر عن قيامة معظم الشعب في شكل مفاجئ، وعفوي، وعاصف، بطريقة عنيفة أو سلمية، لإسقاط سلطة معينة، او لتغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد. وفضلاً عن ذلك، لا توجد في التاريخ ثورات هادئة ونظيفة وكاملة وناجزة، فالثورات تتشبّه بمجتمعاتها، وتتمثّل تناقضاتها ومستوى تطورها السياسي والاجتماعي والثقافي، والأهم من كل ذلك أن نجاحها ليس مضموناً، إذ يمكن ان تفشل، وقد تحقق أهدافها في شكل جزئي، أو ناقص.

وفي التجربة التاريخية، في القرن العشرين، شهدنا في هذه المنطقة الثورات المصرية والجزائرية، والفلسطينية، والإيرانية، وكلها لم تكن على القياس، او وفق النماذج المسبقة، إذ لم تكن لها طليعة ثورية، ولا منظّرون ثوريون، ولا كان لها تنظيم ثوري، ولم تحقق الأهداف المتوخاة منها، ومع ذلك فهي سمّيت ثورات.

حتى الثورات في الغرب، في بريطانيا في القرن السابع عشر، وفي الولايات المتحدة وفرنسا في القرن الثامن عشر، وثورات 1848 في أوروبا، وكومونة باريس كلها لم تكن وفق تلك المعايير والمقاييس، مع ذلك، فإن أحداً لم يشكك بها وقتها، أو يأخذ عليها، غياب عنصري الوعي والتنظيم، لسبب بسيط وهو أن الترسيمة اللينينية جاءت في ما بعد، أي بعد ثورة 1905 (بروفة ثورة 1917) في روسيا؛ حتى ان ماركس ذاته حيّا أبطال الكومونة «الذين هبوا لمناطحة السماء»، على رغم كل مآخذه عليهم.

مثلاً، هذه الثورة الفرنسية (1789)، التي باتت تعتبر بمثابة أيقونة الثورات العالمية، لم يقدها مونتسكيو ولا فولتير ولا روسو، ولا ديدرو، وإنما قادها روبسبيير ودانتون وأضرابهما، وهذه الثورة نجحت في البداية في شكل جزئي، بإسقاط الملكية، لكن سرعان ما دبّت فيها الفوضى والعنف والتصفيات المتبادلة، الأمر الذي أدى إلى إعدام روبسبيير على المقصلة ذاتها التي أزهقت روح الملك، ما مهّد لإزاحة القوى الثورية ومجيء الضابط نابليون بونابرت الذي ما إن تمكّن حتى نصّب نفسها امبراطوراً. وبالنتيجة فقد احتاجت فرنسا الكثير من الثورات، ومسافة قرن تقريباً، كي تتمثل قيم الثورة الفرنسية الأولى.

ويؤكد ذلك إريك هوبسباوم الذي يلاحظ أن «الثورة الفرنسية لم يقم بها او يقدها حزب منظم أو حركة منظمة بالمعنى الحديث، ولا رجال يحاولون تحقيق برنامج منهجي. بل انها لم تكد تطلع بـ «قادة» من النوع الذي عودتنا عليه ثورات القرن العشرين… لكنها ما ان وقعت حتى دخلت ذاكرة الطباعة التراكمية. وغدا تسلسل الاحداث المذهل والمحير الذي عاشه صناعها وضحاياها «شينا» له اسمه الخاص: الثورة الفرنسية…عملت ملايين الكلمات المطبوعة على تحويل التجربة الى «مفهوم»… والى «نموذج».

على ذلك، فإن ما كتبه الركابي عن سورية يصلح ايضاً للحديث عن فرنسا إبان الثورة الفرنسية، لكن الثورات لا تقاس فقط بوقائعها، وتداعياتها الآنية، الأليمة، والمكلفة، وإنما تقاس، أيضاً، بقدرتها على فتح افق، والدخول في التاريخ العالمي. وعندنا، فإن هذا يحصل بقيامة الشعب، من بعد موات، وبكسر الحلقة الصلبة، التي تمثلها سلطة الاستبداد والافساد، التي تقف حاجزاً أمام تطور المجتمع والدولة وظهور المواطن. طبعاً من الأفضل لو أن هذه الثورات أتت كاملة الجاهزية، ومضمونة النجاح، لكن الواقع لا يعمل على هذا النحو، لأن المجتمعات المهمشة، والمحرومة من السياسة، منذ نصف قرن؛ لا تجلب ثورة على القياس، ومن ينتظر ثورة كهذه لن يجدها. وعلى هذا الأساس، فإن الثورة السورية ربما هي الأكثر شرعية، والأبهظ، بين الثورات العربية، وما يؤكد ذلك قيام النظام بسفك دماء شعبه، وتدمير عمران سورية، بالطائرات والدبابات والمدفعية، وبتحويل الصراع على السلطة إلى صراع على الوجود: «الأسد او نحرق البلد».

أما في خصوص نقد الركابي لنص ياسين الحاج صالح، فجاء متسرّعاً ومجتزأً، ومتعسفاً، فالنص عبارة عن فقرة من عشرات المواد التي كتبها، وتميّز بها ياسين، الذي أعتبره بمثابة قارئ الثورة السورية، وكاتبها، وناقدها. وعموماً فقد ظلم الركابي شعب سورية حين اعتبرها خالية من المنظّرين الثوريين، في حين أنه لو راجع المكتبة العربية، لوجد فيها كتباً للعشرات من هؤلاء، الذين كتبوا في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد والأدب، والذين اضطلعوا بدور تنويري، في شكل شجاع، في واقع مسكون بالظلامية والخوف والرعب، في ظل نظام استبدادي كان يحكم على شخص 16 عاماً لمجرد وجود ورقة سياسية لديه، او لمجرد انتمائه الى منظمة سياسية معارضة، وهو ما حصل مع ياسين، ومع المئات من نخبة شباب سورية، والذين هم اليوم في قلب القوى المحركة لثورة السوريين. والمشكلة أن الركابي الذي ينتقد ما يعتبره خطاباً اطلاقياً وشمولياً (بعثياً) عند الحاج صالح يقع في ما يدينه بقوله: «ليس في تاريخ العالم العربي، ومنه سورية طبعاً، اي صواب او صوابية نظرية معروفة، لا في التفصيلات ولا في العموميات»!

والحال، فإن الثورات العربية فاجأت الجميع، بالضبط لأنها جاءت عفوية، وشعبية، وعاصفة، ولأنها أتت من خارج النظريات والنماذج المسبقة، بحيث باتت كأنها نموذج ذاتها، مع ذلك لا ينبغي تحميل هذه الثورات اكبر من طاقتها، فهي التجربة الأولى من نوعها في تاريخ هذه المنطقة، لذا من التعسّف توقّع أن نجاحها في شكل كامل، أو ان تغيّر في أعوام عدة ما تم ترسيخه في عقود كثيرة.

وقصارى القول، فإن الثورة السورية هي ثورة لأنها تتوخى استعادة البلد، وإسقاط مقولة سورية الأسد إلى الأبد، وهي ثورة لأنها قضت على الخوف المقيم في قلوب السوريين، ولأنها تتوخى استعادة الحرية والكرامة، ولأن احد أهم شعاراتها: «الشعب السوري ما بينذل». وهي ثورة لأنها فتحت كل الصناديق المغلقة، في البلد على مصراعيها، على رغم كل ما في ذلك من مشكلات وآلام، لتعريف السوريين على ذاتهم، وعلى مشتركاتهم واختلافاتهم. ثمة للثورة السورية نواقص ومشكلات وثغرات، لكن ذلك لا يقلل البتّة من مشروعية الثورة ونبل مقاصدها، لأن ذلك يعني تبرير كل هذا القتل والدمار، ويعني لا مبالاة إزاء تضحيات السوريين، كما انه يعني تبرير بقاء النظام باستبداده ومفاسده.

*كاتب فلسطيني

الحياة

عن السباحة خارج الموضوع وعن خطبة عصماء: كيالي نموذجاً
عبدالأمير الركابي *
بحماسة لا يجهل احد نمطيتها، تناول الأستاذ ماجد كيالي في 22/9 وفي الجريدة والصفحة نفسهما، مقالي المنشور في «الحياة» في 17/9 بعنوان «تهافت التنظير الثوري السوري…». مقال السيد كيالي سماه «تهافت التهافت…». ولا اجد ما يضطرني للرد عليه تفصيلاً، انما سأقوم بإعادة عرضه على القراء حتى يحكموا على ما جاء فيه، والطريقة التي يصر بعض من يكتبون في عالمنا العربي على اعتمادها. وسأكتفي ببعض الملاحظات والإشارات، تبياناً لما يعنيه مثل هذا النمط من المناقشات، وقد استنسبت وضع ذلك في نقاط:
1- بداية قصيدة الأستاذ كيالي كفر، فهو يقول: «كنت أتوقّع جديداً في محاولة الأستاذ عبد الأمير الركابي التنظير لنقد الثورات العربية، ولا سيما الثورة السورية، في مادته: «تهافت التنظير الثوري…». وواضح ان الكاتب لا يفرق بين نقد الثورات ونقد «التنظير للثورات»، فأنا لم اكتب مقالاً في نقد الثورات اطلاقاً، بل في صالحها ولإيماني بها. يكمل قائلاً: «اذ ان مجمل التساؤلات والملاحظات التي طرحها كانت قد اشبعت عرضاً منذ بداية ما بات يعرف بـ «الربيع العربي» اي منذ ما يقارب عقدين. فهذه المادة تصب في جملة الأطروحات التي تعتقد بأن الثورة ينبغي ان تأتي وفق معايير ونماذج معينة، بحيث يكون لها منظرون ثوريون، و…». لاحظوا أولاً ان الربيع العربي بحسب كيالي بدأ قبل «عقدين» وليس في الشهر الأول من 2011 مع اقدام بوعزيزي على حرق نفسه، كما بودي ان يلاحظ تعبير «تصب في جملة»، ماهي؟ طبعاً مقالي مُجهل تماماً، لا شيء مثبت منه، سوى جملة خارج صلب البحث ترد في نهاية ما كتبه.
2 – ينتقل السيد كيالي فجأة، من ملامسة موضوع التنظير الثوري الذي قصدته، الى الثورة ومقاصدها، فنصير في «محاولة التشكيك بالثورة (أو سمّها ما شئت) وبشرعيتها وعدالة مقاصدها». وهذا ما لم يرد في مقالي المُغيب بالمرة ولا كان هدفه، وبعيداً عن المزايدة، فإنه ليس موقفي وما أتبناه طيلة حياتي. لقد كتبت مقالاً عن مسألة محددة هي التنظير للثورة، وليس الثورة.
3 – العجيب ان السيد كيالي يقول بالحرف «وفي التجربة التاريخية، في القرن العشرين، شهدنا في هذه المنطقة الثورات المصرية والجزائرية والفلسطينية والإيرانية، وكلها لم تكن على القياس، او وفق النماذج المسبقة، إذ لم تكن لها طليعة ثورية، ولا منظّرون ثوريون، ولا كان لها تنظيم ثوري، ولم تحقق الأهداف المتوخاة منها، ومع ذلك فهي سمّيت ثورات». وأريد فقط ان اعدل هذا الخلط التاريخي والوقائعي: جرت الثورات المذكورة على القياس، ضمن سياق عالمي لحركة التحرر العالمية، وكانت لها آفاقها ونظرياتها المعتمدة عالمياً، وكانت لها طلائعها: الفلسطينية «فتح» ومن ثم منظمة التحرير. المصرية تنظيم الضباط الأحرار والاتحاد الاشتراكي. الجزائرية «جبهة التحرير الوطني الجزائرية». الإيرانية كان لها بالذات نظرية هي نظرية «ولاية الفقيه»، وكل بنية الحوزة التنظيمية، وقائد يتمتع بكاريزما كاسحة، يقول هو بنفسه انه انتظر وصول عدد خلاياه الى ما يقرب المليون.
4 – يقول السيد كيالي: «حتى الثورات في الغرب، في بريطانيا في القرن السابع عشر، وفي الولايات المتحدة وفرنسا في القرن الثامن عشر، وثورات 1848 في أوروبا، وكومونة باريس كلها لم تكن وفق تلك المعايير والمقاييس، مع ذلك، فإن أحداً لم يشكك بها وقتها، أو يأخذ عليها، غياب عنصري الوعي والتنظيم، لسبب بسيط وهو أن الترسيمة اللينينية جاءت في ما بعد، أي بعد ثورة 1905 (بروفة ثورة 1917) في روسيا؛ حتى ان ماركس ذاته حيّا أبطال الكومونة «الذين هبوا لمناطحة السماء»». من تحدث عن هذا الأمر او ناقشه، وأين؟ ليأت السيد كيالي بنص من عندي، يثبت أنني أتبنى نموذجاً بعينه من نماذج الثورات دون غيره.
5 – تصوروا هذا الكلام: «أما في خصوص نقد الركابي لنص ياسين الحاج صالح، فجاء متسرّعاً ومجتزأً، ومتعسفاً، فالنص عبارة عن فقرة من عشرات المواد التي كتبها، وتميّز بها ياسين، الذي أعتبره بمثابة قارئ الثورة السورية، وكاتبها، وناقدها. وعموماً فقد ظلم الركابي «شعب سورية حين اعتبرها خالية [وردت هكذا بالنص سهواً على ما يبدو] من المنظّرين الثوريين». بأي عرف يعتبر ظلماً للشعب السوري، ان يقال بأن ثورته بلا منظرين ثوريين، لماذا لا يكون هذا القول مثلاً انتصاراً للشعب السوري ضد مثقفيه ومنظريه، الا يحدث في التاريخ ان يقصر المثقفون عن الحدث، الا نعاني في العالم العربي من مثل هذه الظاهرة، وعلى أوسع نطاق؟. غريب هذا الإصرار على وضعي في عداوة مع الشعب السوري وثورته، من دون ان يأتي السيد كيالي بكلمة واحدة، يثبتها أمام القارئ، ليدلل بها على جريمتي التي ابتدعها افتراء، بينما انا أتحدث عن شأن آخر، هو تماماً عكس الذي يردده وينسجه.
6 – اعرف انني أمارس عملية إملال للقارئ، وأنني اكرهه على ما لا اظن انه يطرب لقراءته، لكنني سأفعل مضطراً وأضع أمامه هذا النص: «وقصارى القول، فإن الثورة السورية هي ثورة لأنها تتوخى استعادة البلد، وإسقاط مقولة سورية الأسد إلى الأبد، وهي ثورة لأنها قضت على الخوف المقيم في قلوب السوريين، ولأنها تتوخى استعادة الحرية والكرامة، ولأن احد أهم شعاراتها: «الشعب السوري ما بينذل». وهي ثورة لأنها فتحت كل الصناديق المغلقة، في البلد على مصاريعها، على رغم كل ما في ذلك من مشكلات وآلام، لتعريف السوريين بذواتهم، ومشتركاتهم واختلافاتهم. ثمة للثورة السورية نواقص ومشكلات وثغرات، لكن ذلك لا يقلل البتّة من مشروعية الثورة ونبل مقاصدها، لأن ذلك يعني تبرير كل هذا القتل والدمار، ويعني لا مبالاة إزاء تضحيات السوريين، كما انه يعني تبرير بقاء النظام باستبداده ومفاسده». خطبة عصماء فعلاً، لكن ألا يحق لي أن اسأل، لماذا يسطر هذا كله في نهاية مقال يتناول مقالي الآنف الذكر وما المبرر؟.
لا أقول سوى أن قناعتي بتهافت التنظير الثوري السوري قد زادت، وبينما كنت أتمنى نمطاً من التناول، أو الحوار، يغني المساجلة التي نحن بصددها، لصالح الثورة والشعب السوريين، ولو خطّأني، جاء للأسف من يرمي بنا نحو متاهات خارج النص، نهايتها تحيي صوت احمد سعيد، فيختلط الحابل بالنابل.

* كاتب عراقي

الحياة

“تمثال” ياسين الحاج صالح… ومطارق النظام السوري

ماهر شرف الدين

بسبب طبيعة الموقع الذي شغله الصديق ياسين الحاج صالح في الثورة السورية، اختلفت طبيعة الهجوم الذي تعرّض له من إعلام النظام ومرتزقته.

فالحاج صالح ليس منشقاً عن النظام كي يُتهم بالفساد، وليس من معارضة الفنادق كي يُتهم بالعمالة، وليس من معارضة ما بعد الثورة كي يُتهم بالانتهازية، ولم يغادر سوريا بعد اندلاع الثورة كي يُتهم بالجبن، ولم يحتل شاشات الفضائيات كي يُتهم بحبّ الأضواء، ناهيك عن أنه علماني حقيقي لا يمكن اتهامه بالـ”عرعورية”؛ الصفة التي ألصقها النظام السوري بجميع خصومه.

ياسين الحاج صالح على العكس من الصورة التي يتمناها له كل أعداء الثورة كي ينالوا منه: هو سجين سياسي لسنوات طويلة، وشبه فقير على الصعيد المادي حيث لا يملك بيتاً ولا حتى سيارة، وكاتب رأي رصين بعيد عن الشعبوية، ومثقف عضوي لامسَ تخوم البطولة في بقائه داخل سوريا التي رصد نظامها مبلغاً مالياً لمن يدلّ إلى مكانه… وباختصار هو تمثيل حيّ لوجه الثورة البهيّ والمشرِّف.

طبيعة هذا الموقع الذي شغله ياسين أربكت شبيحة النظام من المثقفين الذين شعروا بأن التصدّي له هو أحد مهماتهم، حيث لا يمكن إيكال هذه المهمة لأشخاص سطحيين مثل شريف شحادة وطالب إبراهيم. لذلك تبرّع منذ اليوم الأول مثقفون أعمتهم طائفيتهم لمحاولة النيل منه فكرياً (ثائر ديب)، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا عقم ذلك فراحوا يحاولون تصويره كممثّل للعنف فسمّوا المقاومة المسلحة باسم “عصابات ياسين الحاج صالح” (أُبي حسن)، وحاولوا تقديمه كممثل عن الجناح المتشدّد في المعارضة (إبراهيم الأمين)، وحين اكتشفوا تهافت مثل هذه الاتهامات لم يبقَ أمامهم سوى تلويث سمعته بأن يجعلوه “عميلاً” فيُحدِّدوا مكان إقامته في “منزل السفير الفرنسي بدمشق”!!

نوعية هذه الاتهامات الركيكة تُثبت المأزق الذي وقع فيه أعداء الثورة السورية مع نموذج الحاج صالح. فقد كانت مهمة هؤلاء سهلة مع مثقفين آخرين: بسمة قضماني بعد فيديو مقابلتها الشهيرة، وعبد الرزاق عيد بعد انحداره إلى خطاب طائفي تحريضي، وبرهان غليون بعدما باتَ أسيرَ تناقضات الممارسة السياسية…

لكنهم اليوم وقعوا على ما اعتبروه “سقطة” فكرية ذات دلالة “إرهابية” و”بعثية” لهذا المثقف، وتحديداً قوله في مقال له حمل عنوان “في خصوص الثورة السورية والأخلاق” (الحياة، 19 آب 2012): “إن من لا يُدين النظام ويطالب بإسقاطه فوراً فاقد الأهلية الأخلاقية لنقد الثورة أو التحفظ على أشد أفعالها سوءاً”. (استغل عبد الأمير الركابي هذه الجملة ليقول: “لم أفهم حتى الآن ما هي الثورة السورية”!! جريدة “الحياة”، 17 أيلول 2012).

والحقيقة أن أفضل دفاع عن هذه الجملة الأخلاقية جداً هو تبسيطها، وتمثيلها بمثال جريمة جنائية، كالآتي:

اعتدى رجل على امرأة واغتصبها، فحملت عليه هذه المرأة سكين المطبخ وطعنته.

فإذا أخذنا مقولة الحاج صالح السابقة وطبّقناها على هذا المثال فستكون النتيجة كالآتي: لا يحق لك إدانة حمل المرأة للسكين قبل إدانة اغتصاب الرجل لها.

أين الخطأ في ذلك؟ وأين الإرهاب والبعثية؟

ما فعله عبد الأمير الركابي وسواه من منتقدي هذه المقولة للحاج صالح، أنهم تركوا مقدّمة اغتصاب المرأة وراحوا يحاكمون النتيجة: حمل السكين! وهذا لعَمْري من أغرب وأوقح ما يمكن أن يمرّ علينا كسوريين لم يبقَ لنا بيت لم تندب فيه ثكلى وينهار فيه أبٌ أمام جثة ابن مقتول على يد نظام بشار الأسد.

اليوم، ياسين الحاج صالح دليلٌ ضدِّيٌّ لكل نظريات النظام عن الثورة، لذلك تحوّل إلى رمز، ولذلك ازدادت حدّة الهجمات عليه. وقد ظنّ صبية النظام بأنهم يستطيعون تحطيمه بالمطارق، كما فعل شباب الثورة مع تماثيل الأسد الأب، لكنهم خابوا لأن ياسين ليس تمثالاً معروضاً في الساحات العامة، بل فكر حي ومُشمس في عقول الثوار الأنقياء.

http://www.elaph.com/Web/opinion/2012/9/762563.html

ايلاف

الأربعاء

التنظير الركابي المتهافت حول الثورة السورية

غسان المفلح

في مقالة “تهافت التنظير الثوري السوري: ياسين الحاج صالح نموذجاً” للكاتب العراقي عبدالأمير الركابي الإثنين ١٧ سبتمبر ٢٠١٢ يقول” اذا كان هنالك من يريد تغيير النظام، ولا يريد حدوث ذلك بالعنف بل سلماً، فهل نعده «فاقد الآهلية الاخلاقية»؟. وماذا اذا اعتقد هذا «الثائر السلمي» بأن من يحملون السلاح، هم اعداء الثورة، وانهم يفتقرون «للاخلاق الثورية»؟ وماذا لو اعتبر هذا ان من يتملقون الثورة، ويقبلون كل تبدلاتها، شخص «يفتقر للأهلية الاخلاقية»، ولا يصلح منظراً، او طامحاً لتمثيل هذا الحدث فكرياً؟ السيد ياسين يقول ان الثورة يمكن، او يجب، ان «تنضبط بقواعد واصول عادلة تتوافق مع قيمها»، ما يعني انها ليست مطلقة، وليست قانوناً به تتحدد الاخلاق والقيم، لا بل يمكن ان «تخرج على القواعد والاصول». إذاً لماذا نرفعها الى مقياس علوي، ونجعل الموقف، مجرد الموقف، من إطلاقيتها دليل ضعف اخلاقي او ممارسة لااخلاقية.

ما الذي يقوله فعلاً الاستاذ ياسين؟ الا يدرك ان التبرير الذي يورده، يمكن ان يطبق من موقع يتجاوز عنف النظام وفاشيته، بحيث نسطر مقولات وتبريرات الممانعة والثورة” في معرض نقده لياسين الحاج صالح يحاول السيد الركابي أن يعلن موقفه من الثورة وهذا حقه بالطبع، وحقه ان ينقد من يشاء، والصديق ياسين الحاج صالح أقدر مني بالرد عليه،

وياسين أحد اهم رموز النخبة المثقفة والسياسية لدى جيل الحرية من الشباب في سورية، وهو لايتملق الثورات العربية عموما والسورية خصوصا لانه جزء عضوي منها..لكن في هذا المقطع الذي اقتطعته من مقالته تلك، يضعنا السيد الركابي، وأعتقد جازما أن السيد الركابي لم يقرأ ياسين جيدا، بل اقتطع بضع كلمات من هنا وهناك، عن السياق التراكمي للمعنى مما يكتب ياسين، وحديث ياسين عن القيمة الأخلاقية للثورة والموقف منها، لا يحتاج إلى كثير قول فيه، لأن نقطة الانطلاق باعتراف الجميع في هذا العالم ان من يحكم سورية عبارة عن عصابة من القتلة والسارقين وشذاذ الآفاق..

حتى حلفاءهم في الغرب والشرق، يقرون بذلك..فالموقف من هذه العصابة لا يحتاج في المبحث الأخلاقي إلى جهد كبيرلتبيانه، وتبيان احد أهم أساسته المعرفية، بالمعلومة والرقم حتى!! بمعزل من هي المعارضة السياسية، وبمعزل عن المصالح الدولية والاقليمية، وبمعزل عن فهم أو عدم فهم السيد الركابي أن هنالك ثورة سورية أم لا؟ والاهم من كل هذا أن الثورة في انطلاقها سلمية وماحصل لاحقا، لايغير المنطلق التاريخي والسياسي والاخلاقي والشعبي لهذه الثورة.

حتى لو اراد السيد الركابي اغراقنا باسئلة تشير إلى محاولة معرفية بريئة في ظاهرها، لكنها تحيل إلى شك لغوني يضع الشعب السوري في مقارنة مع عصابة حاكمة.. مثل الاسئلة التي يطرحها على ياسين” ما هي الثورة؟ ما هي الثورة السورية؟ هل يملك هو ان يقول لنا عيانياً ما هو هذا الحدث، ما هي ابعاده الفعليه؟ كما يمكن لباحث مميز مثله ان يستنتج من تحري معطياته، وعناصره، وتغيراته وما يحيط به، وما يتداخل معه؟”. هذه أسئلة من لايتابع الشأن السوري لكن له موقف واضح في دعم العصابة الأسدية تحت حجج وذرائع قوموية وغير قوموية.. ذرائع التدخل الخارجي وما إلى ذلك..ذرائع العنف والتسلح..لماذا لم يقل لنا مباشرة ما هي الثورة وماهي الثورة السورية..

 إن العار والفاشية والبعثية الفاشية هي في الواقع موقف بعض المثقفين العرب من شعب يذبح في وضح النهار، تحت حجج وذرائع سياسوية عابرة!! أو مصلحية مع عصابة حاكمة.

الشعب السوري كما انه لم ينتظر مثقفيه ولا معارضته السياسية، لم ينتظر موقفا من مثقفين عرف عنهم ركوب الموجة القوموية الشعبوية..ونحن لا ننافق الثورة لأننا سوريون قبل ان نكون مثقفين.

 ايلاف

الثلاثاء

ياسين الحاج صالح و الثورة ليسوا بحاجة ل”تهافت التهافت”! ردا على عبد الأمير الركابي

جمال صبح

من الأول، كما يقال،  يبدأ الكاتب “نصائحه” المجانية لياسين الحاج صالح بعدم الرد على “التهافت” بالعنوان الأشهر في التراث العربي مدافعا عن نفسه بحجة أغرب من النصيحة ذاتها “الإستعارة …لا تفصل مجالي الفلسفة و التسليم الإيماني”. لم يوضح لنا السيد عبد الأمير     بشكل مقنع لماذا يطلب مسبقا عدم الرد على التهافت بالتهافت و لماذا أقحم عدم الفصل بين “الفلسفة و التسليم الإيماني” في إكتشافه الإستعارة تلك التي لم ينقصها إلا تهديدا مبطنا ب”وإلا”!!؟

يتململ السيد الركابي من غياب النظرية ذات التصور المعقول “لما هو حاصل” و من غياب المنظرين عن ثورات اليمن و تونس و مصر و سوريا، معتبرا هذا القصور دلالة على “ملاحظته” الثاقبة و حاجته الملحاح لفهم ما يجري بالضبط، و لكن و بقفزة رشيقة يدلنا على “أحدهم من السوريين” و يلبسه ثوب “المنظر” الذي لا ترى الشبيبة التي تقود الإنتفاضات فيما يدلو به “دليلا لها”، لا بل و “تصر على تجاهلها” لأمثاله و إعتبارهم “إمتدادا لما قبلها”. إذا فالسيد الركابي يريد أن يقرأ ما يجري مقتفيا خطوات “كتب الطبخ” في التدليل على أن الثورات لها منظرون أو يجب أن يكون لها منظرون يدلون الشبيبة على ما يجب فعله و عمله من الصواب و الخطأ، جاعلا من الحاج صالح منظرا “قسريا” للثورة السورية، رغم تجاهل الثائرين له و لأمثاله، ثم يبدأ فاصلا قليل الحيلة من الصعود بالمتهم إلى المنصة!!!!؟

هابطا من الإعلاء الكبير لشأن التنظير عن مسرح “الثورات” يلتقط السيد الركابي، بغرابة لا تتواءم مع ولعه بالتنظير، إشارة للخصم تذكّرك بالعبارة الشهيرة لأحد آباء الفيزياء الحديثة “وجد تها”!! لقد كانت جملة عاتية للحاج صالح وردت في مقال صدر منذ فترة قريبة “من لا يدين النظام و يطالب بإسقاطه فورا فاقد الأهلية الأخلاقية لنقد الثورة أو التحفظ على أشد أفعالها سوءا” يبدو أن هذه الجملة الواضحة هي من حرضت مخيلة الركابي على إيراد النعوت بأشدها بأسا و بشيء فيه من بقايا الصدمة العراقية من البعث الصدامي. ثم يطلب من قرائه الدراويش “استمعوا إلى هذا النص البعثي”، لا بل و يلحقه بوسم له دلالة “سيف الإرهاب”. إذا فجملة واحدة واضحة لأحد “منظري” الثورة السورية تذكّر الكاتب العراقي ببأسين شديدين “البعث  و الإرهاب”، هكذا و بدفعة واحدة!!!؟

ينتقل بعدها الرجل ليسرد بعض الأمثلة التي يتحفنا بها في معرض إمتعاضه من غياب التنظير و حضوره بصيغته البائسة التي أدهشته “ماذا لو اعتقد هذا “الثائر السلمي” (يضع الكلمتين هنا بين مزدوجين) بأن من يحملون السلاح هم أعداء الثورة و “ماذا لو ضاق عامل مسكين أو مزارع، بما يجري، لأنه معني برزقه و قوت عياله فتذمر أو شتم الذين يرفعون السلاح، و اعتبرهم “دون أهلية أخلاقية”، مع انه في أعماقه يريد إسقاط النظام”. لا يحتاج المرء إلى تحليل للنصوص لكشف عدم ملاائمة المثالين للتدليل بهما على توهان الحاج صالح في أحكامه الأخلاقية تجاه من لهم رأي ما من الثورة. يبدو أن السيد الركابي قد سها أو تجاهل عمدا شرطا واضحا ورد في الجملة إياها: من لا يدين النظام و يطالب باسقاطه فورا! في المثالين الواردين نجد أن الشخصين المتخيلين يريدان فعلا ذلك، و هكذا فهما لا يدخلان ضمن نطاق أولئك الذين وسمهم الحاج صالح بعدم إمتلاكهم للأهلية الأخلاقية في الحكم على الثورة و مسارها. كيف غاب هذا الشرط عن تحليل السيد الركابي و إعجابه الشديد بتلك الجملة “المفتاح”. يبدو أنه سحر اللحظة و غوايتها!!!؟

 بعد ذلك يتابع الركابي تتبع آثار العور الأخلاقي عند الحاج صالح و بتسائل تال عما يريد قوله فعلا، إذ يعتقد جازما بأن الحاج صالح بجملته الشهيرة يبرر عدم المساس بنقد الثورة، ثم ينطلق مسرعا إلى النتيجة-الحكم أن تبريرا كهذا “يمكن أن يطبق من موقع يتجاوز النظام و فاشيته”. إذا من مقدمة عوراء نستخلص نتيجة أكثر عورا مفادها أن الحاج صالح يمضي بخطاب فاشي، شمولي لا تضبطه لا أصول و لا قواعد، علما أن الكاتب يذكرنا بأخلاقه إذ “هذا برغم أن بعض التصرفات التي يمارسها النظام و الشبيحة تحتاج إلى ضبط على “الأصول و القواعد”. في عبارة تحمل تناقضا فظا يحرض على السخرية إذ يأمل السيد الركابي من “الشبيحة” إلتزاما “ما” بقواعد و أصول “ما”!!!؟

الفاصل الآخر من “تهافت التنظير الثوري السوري” يتناول إستغرابا شديد اللهجة من السيد الركابي: كيف يمكن للحاج صالح (و الكيلو للحق) أن لا يعلم كاتبنا “الجاهل” شيئا ما “عن القضية الأهم: ما هي الثورة؟” و يطالب صاحبنا ذلك ب”الملموس لا بالإنشاء” حصرا. السيد الركابي لا يتعب نفسه في طلب نصوص المتهافتين السوريين كي يعرف ماهية الثورة السورية، فعشرات المقالات و النصوص الطوال و القصار، للكاتب-المتهم و لغيره، يسيرة التناول في الفضاء الإلكتروني ليس لها قيمة في تساؤل الركابي عن السر الإلهي الذي أتى على سلمية الثورة و جنوحها نحو “التدمير” بدل التغيير! في مماثلة للنظام الذي سائل مرارا و تكرارا أول الثورة أين هم هؤلاء المتظاهرين يؤكد السيد الركابي في مناسبتين على “الملموس” من جوانب الثورة التي يبحث عنه جاهدا بين كلمات و سطور “المنظر” و لا يجد إلا إنشاء نصوصيا يفخر بالعنف! بين هذا وذاك تشعر و كأن الكاتب العراقي لا يعتبر سلوك النظام من دمار ممنهج للمدن و دكّ للأحياء السكنية براجمات الصواريخ، فضلا عن آلاف القتلى والجرحى واللاجئين والمهجرين إلا إنشاءا يبتعد عن “الملوس” و العايني “الحسي”، فيما تغرق الثورة بمتهافتيها وأناسها ومدنييها وعسكرها بالإنشاء المقيت!!!؟

بعد تذكير “منظّري” الثورة السورية المفترضين بأن عليهم أن يضربوا بالمندل و يقنعوا أمثال السيد الكاتب جاهدين بأن “ما يحدث إنتقال للأمام” لينيروا له دروب المستقبل التي يشك أنها ستكون أفضل، يتحفنا السيد الركابي بالمثال سيء الصيت “العراق” (وهل هناك أكيس منه في لعبة المقايسة!) و ينوه إلى الكارثة التي حلت به على طريق “الديموقراطية”! يتناسى السيد الركابي، بدم ثقيل، أن العراق تم إحتلاله بالقوة و أنه لم تكن هناك ثورة! فيما يبدو أنه ليس من متابعي “تضاعيف و سياقات و آليات” تطور بلده نفسه، قبل الإحتلال و بعده و خاصة إنفجار العنف الطائفي و إستفراد الجارة ذات “الملالي” بالحديقة الخلفية المترعة بالدم. كل هذه العوامل تعتبر مجرد تفاصيل، لا تضاهي عملية “التنظير” الثوري، الذي يطالب الأخ به و ممن، من الذين يفترض الكاتب أن لا صوت لهم و لا صدى بين شبيبتهم الثورية و لكنهم منظرون سيئون، بشكل أو بآخر “أصبحوا اليوم أقرب إلى الفخر بالعنف”!!!؟

أسهل طريقة للهجوم على شيء هي الإنقضاض على رموزه. الكاتب لم يحد بشيء عن هذه القاعدة بتساؤلاته الأخلاقية العرجاء التي تطالب من الضحايا إثبات نواياهم في مقارعة الموت بفوقية وعلو. ماذا يريد السوريون فعلا و أين هي الثورة؟ هذه ليست ثورة، فقط لأن السيد الركابي لا يرى منظرين كفؤ لها. ليس هناك من جدل بأن ياسين الحاج صالح هو وجه من وجوه الثورة السورية و أحد أبرز رموزها الفكرية و الأخلاقية. لم يستل ياسين الحاج صالح “سنواته المفقودة” الطوال في سجون النظام الإستبدادي العنيف في دفاعه عن الثورة و لم يتاجر بها، إنما كانت نصوصه و كلماته التي واكبت مسار الثورة منذ إرهاصاتها الأولى هي أسلحته التي دافع بها عن ثورة الكرامة و الحرية. الأهم، لم يدعي بأنه أبا أو حكيما أو منظرا أو ملهما للثوار و لم يكرر في نصوصه و مقالاته عبارة حاويي المعارف المستبدين “ألم أقل لكم”! إذا يخيل للركابي و أمثاله بأن حشر ياسين الحاج صالح “معرفيا”، هو لم يستطع على كل حال، و “أخلاقيا” بطريقة إستعراضية مرتبكة، هو حشر ما لما يدعى “ثورة” يقوم بها سوريون بشكل إعتباطي لا ملامح فيه إلا للعنف و الدمار، في تجاهل تام وكامل لإستراتيجيات أحد أحط و أعتى نظم المنطقة بمن فيهم النظام العراقي البائد، صنوه الأفقر مخيلة في البطش!!؟

أخيرا تجدر الإشارة إلى شيء ما يعتمل في نفوس الكثير من الكتاب العراقيين (و غيرهم أيضا) بغض النظر عن منطلقاتهم و خلفياتهم الدينية أو المذهبية أو حتى الفكرية في مقابلة الحدث السوري بسذاجة و إستفزاز عاليين. هناك شعورا ما بالنقص، ناجم عن طبائع التاريخ و السياسة التي إقتضت مقاديرها أن لا تطيح بدكتاتور “أم المعارك” العنيف على يد أبناء بلده من المضطهدين و المظلومين. عندما يستبسل الشعب السوري في ثورته اليتيمة و مقارعته لدكتاتوره الأحمق بأيدي أبنائه لا غير، في سابقة أسطورية و العالم يتفرج، حيث لا اساطيل و لا قوات إحتلال و لا مناطق عازلة و لا من يحزنون، تغدو “لعبة” البحث الشاق عن مكامن الضعف لمثال ما إحدى الدفاعات النفسية التي يمكن تجييرها على طريق تبديد الصراع الداخلي المؤرق. عندها لا تنفع المحاججة و لا حتى السطور السابقة بشيء في التساؤل عن ضرورات “التنظير” الأبله لشعب يجبر آباء فيه على دفن أطفالهم بلا رؤوس!

السلام عليكم و الثورة بخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى