مراجعات كتب

مقتطفات من “سوريا، الدولة المتوحشة” لميشال سورا

 

 

أخيراً صدرت الترجمة العربية لكتاب “سوريا، الدولة المتوحشة” للمستعرب الفرنسي ميشال سورا، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر. والترجمة بتوقيع أمل سارة ومارك بيالو وتقديم برهان غليون وجيل كيبل، واللافت أن الكتاب كان سيصدر عن احدى دور النشر اللبنانية العام 2005، لكن سرعان ما أُوقف نشره من القيمين على الكتاب، بسبب الرقابة التي ستمارسها الدار على عنوانه وبعض مضمامينه، خوفاً من النظام السوري.

وميشال سورا باحث فرنسي من الطراز النادر، ولد في تونس العام 1947 حيث بقي فيها لحين أحداث 1961 حيث شكّل القصف الفرنسي والهجرة السريعة القسرية عن تونس صدمة قوية عند سورا، حاول استعادتها بعدذاك خلال عمله في لبنان وسوريا. أخذه همّ المشرق اليه منذ العام 1971 بعد انتهاء دراساته الجامعية في ليون، فحطّ رحاله في بيروت، حيث زار المخيّمات الفلسطينية. تنقّل بعد ذلك بين بيروت ودمشق وباريس حيث تعرّف أكثر على المشهد السوري العام والاجتماعي، وتناوله لاحقاً بطريقة علمية تحليلية في كتاباته. رجع الى بيروت العام 1980 ضمن مشروع علمي فرنسي، وبقي فيها ورفض مغادرة “بيروت الغربية” إبّان الاحتلال الاسرائيلي العام 1982. في 22 آذار/مارس 1985 تم خطف ميشال سورا خارج مطار بيروت بعد عودته من باريس برفقة جان ميشال كوفمان. بلغ عدد المخطوفين الفرنسيين آنذاك خلال الحرب اللبنانية أكثرمن خمسة رهائن – سورا الوحيد الذي تم إعدامه – وكان الخاطف واحد، منظمة الجهاد الاسلامي التي عرفت لاحقاً باسم “حزب الله”. في 5 آذار/مارس 1986، أعلنت الجهة الخاطفة إعدام الرهينة “الجاسوس” ميشال سورا… ولم يتم الكشف عن جثمانه حتى تشرين الاول/اكتوبر 2005 وتم تسليم الرفات الى الدولة الفرنسية في آذار/مارس 2006 أي بعد أكثر من ستة أشهر على الكشف على الجثة!

وهنا مقاطع من الكتاب:

مجزرة تدمر

في مطلع صيف 1980، تصاعدت موجة العنف والقمع. ورداً على محاولة تفجير فاشلة ضدّ الرئيس حافظ الأسد في 26 حزيران، نظّم معين ناصيف، رائد في سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، حملة عقابية ضدّ سجن تدمر في الصحراء السورية، حيث تمّ تجميع الآلاف من المعارضين، الإخوان المسلمين، أو أقاربهم، وهم الغالبية. وقد انتشرت روايات عديدة حول الحدث عبر إشاعات سرت بين الجمهور، ولكن شعر الجميع أنه تم ارتكاب ما لا يمكن إصلاحه. بعد ثمانية أشهر، رأى المشاهدون الدمشقيون، الذين أنذروا عشية تلك الليلة، مذهولين، المحاكمة التي نقلت على شاشة التلفزيون الأردني، لثلاثة أشخاص شاركوا في العملية. فقد تم إيقافهم في الأردن في كانون الثاني/يناير 1981، حيث كانوا في مهمة لاغتيال رئيس الوزراء الأردني، مضر بدران، الذي اتهم بدعمه لـ”عصابة الإخوان”. في ما يلي مقتطف من هذا الاستجواب، الذي نشر في اليوم التالي في أكبر صحيفة يومية أردنية:

عيسى إبراهيم فياض [علوي، ولد في عام 1960]: المهمة الأولى: مهمة سجن تدمر في 26/6/1980، تعرض سيادة الرئيس حافظ الأسد لمحاولة اغتيال، فجر اليوم الثاني 27/6/1980 فيّقونا الساعة الثالثة بالليل، وقالوا لنا اجتماع في لباس الميدان الكامل مع الأسلحة، واجتمعنا بالساحة، وأخدونا إلى اللواء (40)، وهناك كان منتظرنا الرائد معين ناصيف قائد اللواء، ألقى فينا كلمة، قال هدول الإخوان المسلمين ما عم بفرقوا بين مسلم علوي ومسلم سني ومسيحي، عم بيقتلوا في الشعب، وامبارح حاولوا اغتيال الرئيس، لذلك اليوم راح تقوموا بهجوم على أكبر وكر لهم؛ وهو سجن تدمر، قال مين ما بده يقاتل؟ ما حدا رفع إيده، الأمر العسكري، قال لنا اطلعوا بالسيارات، طلعنا بالسيارات… ووصلنا لمطار المزة القديم، وكان في انتظارنا مجموعة من اللواء 138؛ أحد ألوية سرايا الدفاع، إللي قائدة المقدم علي ديب ـ علوي ـ من اللاذقية، وكان موجود في انتظارنا عشرة طائرات هيلوكوبتر.

طلعنا بالطائرات باتجاه تدمر، وصلنا حوالي الساعة ستة ونص الصبح بنفس اليوم، وهناك نزلنا من الطائرات، وفرقونا إلى مجموعتين؛ مجموعة اقتحام؛ ومجموعة ظلّت بالمطار، المجموعة اللي راحت على السجن إجت سيارة تراك دودج ونقلتنا للسجن، بالسجن توزعنا لمجموعات حوالي شي ستة مجموعات وأكثر، يعني كانت مجموعتي أنا حوالى أحد عشر واحد يعني، المجموع الكلي اللي تحرك للسجن حوالي ستين واحد هيك شي، مجموعتي كانت بقيادة الملازم منير درويش.

وفتحوا لنا باب المهجع، اللي دخلنا حوالي ستة لحد السبعة، قتلنا اللي فيه، كان مجموع اللي فيه حوالي ستين واحد […] يعني كان مجموع اللي رشيتهم حوالى 15 واحد. ومجموع اللي قتلوا في السجن من الإخوان المسلمين كان حوالى 550 واحد والمجموع اللي قتلوا من السرايا كان واحد، واثنين جرحى. طلعنا عاد صار الواحد يغسل إيديه ورجليه، كانوا ملطخين بالدماء.

س: كم استغرقت المهمة هذه؟

ج: استغرقت حوالي نصف ساعة، كان في دوي قنابل، وصيحات الله أكبر، وطلعنا بالطائرات… لمطار المزة القديم… كان بانتظارنا الرائد معين ناصيف اللي شكرنا على جهودنا وعزّانا بوفاة زميلنا، وقال لنا كل واحد يلتحق بعمله، فالتحقنا بعملنا.

في 7 تموز، تم التصويت على قانون في مجلس الشعب، يعاقب بالموت لمجرد الانتماء إلى منظمة الإخوان المسلمين. يمكننا أن نتخيل هامش المناورة التي تُركت لقوى الأمن في إنجاز مهتمهم. ولكن هذا الغطاء القانوني، بحدّ ذاته، ليس هدفه سوى التمويه، احتراماً لقواعد سلوك “الدولة الحديثة”، ذلك أن ممارسة القمع هي في معظم الأحيان عمياء وجماعية.

في آب 1980، قُتل 80 شخصاً رمياً بالرصاص في حلب في أسفل المبنى نفسه، في عملية ثأرية لعملية اغتيال نفذت قبل ربع ساعة وتبعد بعض الأمتار عن ذلك المكان، ضد جنود من الوحدات الخاصة. وهكذا في نيسان 1981، في حماة، حضرت مجموعة من المغاوير بالطوافة في منتصف الليل، انتزعوا 400 بريءٍ من منازلهم، بطريقة عشوائية، لإعدامهم على الفور: “ثمن الدم” لهذه العملية الإرهابية التي تم إجهاضها ضدّ قرية علوية في المنطقة. في كل مرّة، يتم اختيار ضحايا التكفير عن الذنوب فقط بناء على العمر. بالنسبة إلى ما تبقى، فأن يكون المرء عضواً أو ضابطاً في الحزب لا يساعده أبداً في أية حال، ولسوء حظّه قد يؤخذ في حملة الاعتقال، لا تعترف الدولة سوى بالانتساب الطائفي للتمييز ما بين البذرة الطيبة والزؤان.

———

“لم يتركوا رجلاً واحداً…”

شهد أحد الناجين من مجزرة حماة في نيسان 1981، على هذه الواقعة، في هذه الوثيقة المسجلة على شريط صوتي، نشرت منها صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر في 25 حزيران 1981 بعض المقاطع:

كل شيء بدأ في حيّنا، المشارقة. كانت الساعة 1:30 صباح هذا اليوم، الجمعة 24 نيسان. لم أكن نائماً. رأيت طوافتين حطّتا على المقبرة المجاورة. خرج منهما جنود، وأغلقوا الحيّ. حوالى الساعة الثانية، بدأ إطلاق النار. وهاجموا المنازل. وطرقوا على الأبواب وحمّلوا كل الرجال. وبعد أن جمعوا 15 أو 20 رجلاً، قادوهم إلى طريق مغلق، ومن ثم مضوا إلى الآخرين. حوالى الساعة الخامسة جاء دور منزلنا، أخذوا رجلين من عند الجيران, كان هناك أربع شقق في الدور الواحد، ولكنهم لم يروا باب الشقة الثالثة أو الرابعة، لأنه لم تكن هناك إنارة في الممر. ولحسن الحظ، لم يدخلوا منزلنا إذاً. لبست وهيّأت نفسي للخروج، معتقداً أن الأمر كما في السنة السابقة حفلة ضرب، لثلاثة أو أربعة أيام، وأنهم سيخلون سبيلنا بعد ذلك. هكذا فعلوا السنة الفائتة، بإطلاق الرصاص في الهواء وفي الاتجاهات كافة لإرهاب السكان. بالطبع من الممكن أن يقتل أحدهم بالمناسبة، ولكن لم تكن هناك مشكلة بذلك. هذه المرة، لم نفهم ماذا حصل على الفور؛ إذ لم تكن هناك أية مقاومة، على الأقل في حيّنا. واستمر إطلاق النار لمدة تسع ساعات، حتى الساعة التاسعة والنصف صباحاً. في تلك الأثناء، كنت أسمع من بيتي تأوهات النساء التي ملأت الحي، وأيضاً صراخ الرجال، الذين أبرحوا ضرباً قبل إعدامهم.

حوالى الساعة الحادية عشرة، تعرفت على صوت أخي في الشارع، وهو لا يسكن عندنا، لأنه متزوج. سمعته يصرخ: “لم يتركوا رجلاً واحداً، ولا صبياً واحداً في الحي!” نزلت وأنا ألبس قميصي. وسرت بضع خطوات، قبل أن أقع على أشلاء جثة، وأيضاً أشلاء أخرى. كان هناك عشر أو خمس عشرة جثة، ومررت أمام كل واحدة منها، ونظرت إليهم طويلاً من دون أن أصدق عينيّ. في كل كومة كان هناك 15، 20، 30 جثة. كان يصعب التعرف على الوجوه. أعتقد أن رشقات الرصاص كانت بمستوى الرؤوس؛ إذ رأيت أشلاء من النخاع على الأرض والجدران. وبدا الوضع مأساوياً! كان هناك من الأعمار كافة من عمر 14 سنة، في لباس النوم، أو جلابية، يلبسون صنادل أو عراة الأقدام. من عتبات المنازل إلى المزاريب، كان الدم يسيل كالساقية.

وتجمّعت العائلات حول أكوام الجثث تنتحب. رأيت امرأة على مدخل منزل، أمام إحدى تلك الأكوام. وقلت لها من الأفضل أن تلزمي منزلك وعدم النظر إلى هذا المشهد الذي لا شيء يسر فيه. ردت: “كيف يمكنني أن أدخل إلى منزلي؟ الليلة السابقة، كان المنزل يعمره سبعة أشخاص، والآن ها هم. كيف أدخل وأتركهم في الخارج؟”، عرفت عائلة فقدت تسعة من أفرادها وأخرى أحد عشر. ينبغي القول إنه أثناء حملة الاعتقال، لم يطلبوا أية بطاقة هوية.

السنة السابقة،  أكثر من 20 أو 25 شخصاً قتلوا دفعة واحدة. وعلى أي أساس؟ كان أحد أفراد عائلة مطلوباً، نزل الضباط إلى الشارع وجمع كل من يحمل اسم العائلة نفسه: الأب، الأخ، ابن العم…، وعمدوا إلى تصفيتهم في الزاوية ومن ثم غادروا مخلّفينهم في مكانهم. ولكن هذه المرة، لم يفرّقوا، ولم يطلبوا بطاقات الهوية. وبالمناسبة، كان هناك ستة أعضاء من الكتائب المسلحة الموالية للنظام من ضمن الضحايا، أي بعثيون ممن خضعوا لتدريب عسكري للـ “دفاع عن الثورة”!

———-

“استنجدت أمة العرب بالإله، فتَّشتْ عن القيم القديمة في الإسلام والمسيحية، استعانت بالنظام الإقطاعي والرأسمالي وبعض النظم المعروفة في القرون الوسطى، كل ذلك لم يجدِ فتيلاً … القيم المريضة وليدة الرأسمال والإقطاع والاستعمار جعلت الإنسانَ العربي متخاذلاً متواكلاً، إنساناً جَبرياً مستسلماً للقدر لا يعرف إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. ويؤمن “الإنسان الاشتراكي العربي الجديد” أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنّطة في متاحف التاريخ. إذ ليست هناك سوى قيمة واحدة هي الإيمان المطلق بالإنسان الجديد الذي لا يعتمد سوى على نفسه وعمله وما يقدمه للبشرية جمعاء. الإنسان يعلم أن نهايته الحتمية الموت، ولن يكون هناك نعيم أو جحيم … لسنا بحاجة إلى إنسان يصلي ويركع خاشعاً ذليلاً، بل نحن بحاجة إلى إنسان اشتراكي ثائر”

الضابط ابراهيم خلاص

رئيس تحرير مجلة جيش الشعب

وعضو قيادة حزب البعث بسوريا

٢٥ نيسان ١٩٦٧

——–

خطاب الأسد 8 آذار 1980:

[…] من يصدق إن هؤلاء الشهداء الذين اغتالوهم هم أعداء الله ثم كيف يستطيع أحدنا أن يحكم على الاخر إنه عدو الدين وعدو الله بقدر ما أعلم لم يفوض ربنا أحدا بهذا الأمر ولن يقولوا إن لديهم تفويضا بهذا الأمر

لو كنت أعلم انهم يدافعون عن الإسلام ما اختلفت معهم ولما اختلفوا معي لأنني ولأن حزبنا بكامله بغض النظر عن انتماء الفرد الديني يعتز بالإسلام نحن حزب البعث العربي الاشتراكي نبغي أن نبعث أمجاد وتاريخ وتراث هذه الأمة فكيف لنا أن نعمل على بعث هذا التراث وأن لا نعتز بالإسلام كيف لنا أن نعمل على بعث هذا التراث ولا نعتبر بالإسلام نحن في الحزب وفي هذا البلد لا يمكن لأحد أن يعتز بعروبته دون أن يعتز بالإسلام.

فالإسلام رسالة الله لنا أولاً، ولا نأتي بشيء من عندنا إنما هذه هي الحقيقة. فإذا كانت رسالة الله لنا نحن العرب، فكيف لا نعتز بهذه الرسالة… فمن يعتز بعروبته يعتز بالإسلام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنا شخصياً أيها الأخوة، الكثير من المواطنين في بلادنا، ومنهم من يعرفني عن قرب، يعرفون أنني مؤمن بالله وبرسالة الإسلام، وعندما كان الإسلام في خطر من وجهة نظر البعض، كنت أنا وبعض رفاقي المدافعين الأمناء عن الإسلام. ولم نسمع صوتاً من هؤلاء يدافع عن الإسلام آنذاك عندما كان في أزمة.

أنا منذ سنوات كثيرة ثلاثين أو أكثر وأنا أصلي وأقول أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ومع ذلك لم يعترف هؤلاء بإسلامي. لا يمت إلى الإسلام بصلة من يضع نفسه خادما طيعا في خدمة أعداء الشعب وأعداء الوطن وأعداء الله. كنت مسلماً وسأظل مسلماً وستظل سورية قلعة شامخة يرفرف فيها عالياً خفاقاً علم الإسلام وسيندحر هؤلاء الخصوم لأنهم أعداء للوطن وأعداء للشعب كما هم أعداء للإسلام الذين يتاجرون به وباسمه.

ميشيل سورا: زيارة واجبة/ رشا الأطرش

“احتاج ميشيل إلى وقت طويل قبل أن يتخلص من فكرة أن كل ما لحق به كان مجرد سوء تفاهم. غالباً ما كان يقول: هذا مستحيل، أنا أعرفهم وأعيش بينهم، مستحيل أن يكون هؤلاء لبنانيين. كان يعرف جيداً أنهم لبنانيون من لهجتهم، لا شك في ذلك. لكن تفريطهم في لبنانيتهم، كما كان يقول، هو أمر لا يمكن تخيّله من وجهة نظره. وحين اكتشف حقيقة خاطفيه، آلمه ذلك كثيراً. فوَعيُه عن لبنان والشرق انقلب رأساً على عقب، واهتزت افكاره وتحليلاته. لم يعد ميشيل كما هو لأنه فَقَد كل أوهامه”.

هكذا تحدث صديق ميشيل سورا، ورفيق زنزانته اللبنانية طوال ثمانية أشهر، جان بول كوفمان، في فيلم عمر أميرالاي “في يوم عنف عادي، صديقي ميشيل سورا..” (1996). الشريط المدجج بالأسى والشجن والحب، بجروح الفقدان والحرب والظلم والهمجية، يعود اليوم إلى الذاكرة، موقظاً مشاعر إضافية: غضب، حب أكبر، عجز أمام عبثية تلاحقنا كلعنة، رغبة مُلحّة في تأمل الماضي بعين الحاضر، توجّس من هذه الرغبة في الوقت نفسه، ودهشة مفزعة إزاء التكرار الذي يَسِم تاريخنا بعنفٍ يبدو أكبر من قدرتنا على الاحتمال، ومع ذلك نحمله ونحتمله لأنه قَدَر، أو كأنه كذلك.

أن نرى كتاب “سورية: الدولة المتوحشة” بالعربية على رف مكتبة في بيروت، وغلافه مذيّل باسم الباحث والكاتب الفرنسي ميشيل سورا (1947-1986)، فهذا انتصار، ولو تأخر أكثر من 30 عاماً.

سورا، الشاب المستشرق المستعرب، المتحمّس للقضية الفلسطينية حدّ الانخراط فيها، ومُفكك الديناميات الاجتماعية والسياسية في المجتمعين اللبناني والسوري، حيث عاش وتزوج السورية ماري معمارباشي، وأنجب، وعقد صداقات كثيرة، في أحلك أيام البلدين: ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، وقاع القمع الذي ثبّت به النظام الأسدي حكمه لسوريا. سورا، عالم الاجتماع الفرنسي المولود في تونس، والذي شعر بنفسه مشرقياً وعربياً أكثر من أي “هوية” أخرى – إن كانت لمثل هذا الرجل هوية واحدة تعرّفه وهو بهيّ التعدد والألوان. سورا، اختطفته في بيروت “منظمة الجهاد الإسلامي” التي “تطوّرت” لاحقاً إلى “حزب الله”. رمته في زنزانة في مكان على طريق المطار، ومَرِض، وظل سجانوه يجيبون آهاته بسخرية: “بسيطة، بسيطة..”، مانعين عنه العناية أو العلاج. ثم أعلنت “المنظمة” في آذار 1986 تصفية “الباحث الجاسوس ميشيل سورا” ونشرت صورته بعد موته، فيما تفيد مصادر أخرى بأن علاجه أُهمِل عمداً حتى مات في المعتقل. والحال إن سورا قُتِلَ في كل الأحوال، وقاتله لا يختبئ، بل ساهم في البحث عن جثته في لبنان، وأشرف على تسليمها إلى السلطات الفرنسية، وهو أمر لم يتم حتى العام 2006.

الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، مُترجِماً بعض بحوث سورا وأوراقه عن سوريا ولبنان، إلى العربية، للمرة الأولى على الإطلاق، يقول عنا أكثر بكثير مما يقول للقارئ بالعربية عن الكاتب الذي قُتل بسبب بحوثه هذه. وتصادف اليوم الذكرى الأليمة الـ25 لمجزرة حماه.

يكفي التوقف عند عناوين بعض الفصول: “الدولة المتوحشة: سورية بين سنتي 1979 و1982″، “إرهاب الدولة أم إرهاب ضد الدولة: الحالة السورية”، المجتمع السوري ضد دولته”، “الفِرق والطوائف والمجتمع في سورية”، “المعطيات السورية عن الأصولية الإسلامية”. القول بأن شيئاً لم يتغير، وأن كل شيء تغيّر، في آن واحد، هو المفارقة الأكثر تعبيراً. ليس لما تشي به تلك العناوين المدهشة في جرأتها ودقة توثيقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، وارتباط ذلك بالمَقتلة السورية الراهنة فحسب. بل لما نعلمه من أن الكتاب كان سيصدر عن إحدى دور النشر اللبنانية، قبل أن يوقف القيمون على المخطوطات الفرنسية، عملية النشر، بسبب الرقابة التي راحت الدار تمارسها على عنوان الكتاب وبعض مضامينه، خوفاً من النظام السوري. ثم أصدرت “الشبكة العربية للأبحاث والنشر”، “الدولة المتوحشة”، ليُباع الآن في مكتبات بيروت حرّاً. وهذا للقول بأن الخوف ما زال، والقاتل أيضاً، ولا محاسبة ترتجى. وجدار الخوف، في اللحظة عينها، يزداد تصدعاً، وإلا لما صدر كتاب سورا بالعربية.

من بين قراء الكتاب الصادر حديثاً من سيكتشف كم أن تاريخ سوريا مجهول أو مجهّل، لا تُعرف منه سوى العناوين العريضة والأسماء التي انتصرت بالحديد والنار والبروباغندا وشتى أنواع الرشاوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تقاضاها السوريون برضاهم أو مرغمين، ليبقى حكم التاريخ المنخور بالأكاذيب. لطالما قلنا جميعاً إن الثورة السورية عرّفتنا على سورية، أسماء مدنها والأحياء ومناطق الإثنيات، كما لم نعرفها من قبل. لكن سورا كان بدأ التعارف هذا قبلنا بعقود ثلاثة. والمؤكد أن كثيرين سيتذكرون المعنى الأُمّ لإبادة حلب الأخيرة، والتي لم تكن الأولى من نوعها، وستنتعش حقيقة أن ثأراً قديماً بين حلب وبين النظام لم يمت، وما زالت تفاصيله مبهمة إلا لأبناء المدينة وريفها. سيتذكر قرّاء، أصل خروج التظاهرات من الجوامع في العام 2011. طبعاً، بسبب حياة سياسية ميتة، ألغت مساحات التجمّع والتداول والنقاش وتنظيم الآراء والخلافات، قبل الاحتجاجات، وطلباً للتمويه، واستباقاً للقمع والمنع. لكن هناك المزيد: ذاكرة لم تستطع السلطة محوها، وإن محت شخوصها وأدبياتها. ينقل سورا عن معارضين “علمانيين” للبعث الأسدي، التقاهم، كيف يستعصي عليهم إنكار الإنجاز الذي حققه “الإخوان المسلمون” (1979-1982) بكسر “جدار الخوف واللغة الجوفاء التي ما فتئت تتبجح بانتصارات كاذبة”، مع تحفظ أولئك المعارضين على أسلوب “الإخوان”، أي الإرهاب وطائفية النضال. وإذ يفصّل الكاتب، بواقعية ميدانية وبأدوات نظرية عديدة، دوافع الحراك الإخواني آنذاك، فإنه يرسم أيضاً صورة بانورامية لحراك النقابات (1978) ضد النظام، ولو أنها لم تنجح في تحويل الانتفاضة آنذاك عن “الأخوَنة”. كيف؟ العنف الحاكم من قبل ومن بعد. النظام يحفظ دروسه جيداً ويراكم الخبرات. أما السوريون، فقد اقتُطعت من كتبهم صفحات كثيرة، ولم يبق سوى الغبن والتخبط.. والإسلام الجهادي. وما زال كثيرون يتساءلون: كيف آلت الثورة الشبابية السلمية في 2011 إلى هذا في 2017؟ هل هو عنف النظام ودفعه إلى عسكرة التحرك؟ أم أن هناك أسباباً مذهبية وثقافية واجتماعية أخرى؟

استطاع سورا تعرية الخطاب السلطوي السوري لرؤيته بوضوح، سابقاً، بأشواط، الكثير من نظرائه العرب والأجانب، لا سيما اليساريين النضاليين منهم، أو القوميين، أو الأمميين. مثلاً، يفند، بالتفاصيل السردية والوقائع، كيف أن ديبلوماسية الإرهاب (محاولة اغتيال رئيس الوزراء الأردني مضر بدران – 1981) ساهمت في عزلة عربية وإقليمية للنظام السوري، “وما عادت الدولة البعثية تستطيع الاعتماد على التراث المصري الطويل في الحكومة المركزية، أو على نظام تقليدي من التبعية كالنموذج الهاشمي، فقررت أن تبرر وجودها بادعائها الدفاع عن شرف الأمة العربية بأكملها في مواجهة الصهيونية والامبريالية”. وهكذا، أصبحت الوصيّ الأسوأ على القضية الفلسطينية.

لم يستكن سورا إلى يساريته وتأثره بالحراك الطلابي الباريسي (1968)، كما لم يركن إلى المفاهيم والمناهج الغربية في البحث، خصوصاً مفهوم الطبقات، فاستعان بابن خلدون وتجاوزه. حتى إنه لم يسترخِ مع عواطفه المشرقية، أو تأثير مولده ونشأته في حبه لهذه البقعة من الأرض وانتصاره لمظلومياتها. بل تجاوز تكوينه المعرفي الغربي، والموضة البحثية التي كانت سائدة في زمنه، لا سيما تفكيك الخطاب والإيديولوجيات، ورفد النظري بالمعاش الإنساني والاستقصاء الميداني.

في فيلم أميرالاي: يضغط كوفمان على زر مسجّل، فيخرج صوت سورا، متحدثاً، على ما نفهم، خلال اجتماع عمل: “الباحثون الغربيون لا يريدون رؤية الواقع إلا عبر النموذج الغربي لمجتمع الطبقات الاجتماعية، ظنّاً منهم أنهم بهذه الطريقة يحلون مشكلة الاندماج الوطني، بحسب مقولة جورج كوربيير حول دور اليومي في الأداء الاجتماعي. أنتم تتحدثون عن اليومي اللبناني، من دون القول بأن هذا اليومي هو لبناني بامتياز، وأن أمراء الحرب فيه هم مسيحيون ومسلمون”.

فلنتذكر أنها أواخر السبعينات – أوائل الثمانينات من القرن الماضي، في سوريا ولبنان. الحرب منفلتة والقبضة الأسدية في عزها. السلاح كالرزّ. الخطف والاعتقال كشربة الماء (وهو ما أدركه سورا لاحقاً وبأبشع الأشكال). التنقل عسير. الحدود والطرق عشوائية. الاتصالات معجزة، ناهيك عن إيجاد الناس والمراجع وإجراء المقابلات. ومع ذلك، وثّق سورا جمع حافظ الأسد للطائفة العلوية “تحت غطاء جمعية غامضة هي جمعية علي المرتضى”. وتحدث عن “ترييف الدولة” وحقد الريف على المدينة، واستعصاء دمشق على العلويين الصاعدين في الحكم، والذين حملوا ضغينة قديمة على مدينة حماة حيث كانوا فلاحين مضطهدين ومستغلين طوال قرون من قبل كبار الملّاك المدينيين السنّة. ثم طريقة “علوَنة” الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية. وفي موازاة ذلك، سرد كيف ولماذا يرى النظام السوري كـ”دولة عنف”، ولا يعتبره نظاماً شمولياً، إذ لم تمتلك المنظومة الأسدية كامل الأدوات الشمولية. لكن حافظ الأسد أجاد توظيف “إرهاب الدولة”، وقد تعمّق سورا في دراسة هذا المصطلح الأخير في زمن لم يكن فيه هذا المفهوم دارجاً، كما هو الآن، ولا كان مشبعاً بالتحليل المستقى من حالات وأحداث، لكن هذا ما فعله الباحث الشاب.

هكذا، يُبحر القارئ مع سورا في رحلة غنية، تجمع صحافة استقصائية نظيفة، إلى تنظير متأثر بماركسية لم تأسره أو تحدّه.

“الدولة المتوحشة” بين أيدينا اليوم، بالعربية. القراءة واجبة، والأهم أنها ممتعة ومفيدة، وأحياناً “جديدة”، رغم تقادُمها. أقل الوفاء لميشيل سورا أن نقرأه جيداً بلغتنا التي أحبها، وأن نعتذر لروحه، علها تسامحنا على ما اقترف السفهاء منا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى