صفحات الثقافة

مقتطف من كتاب بول أوستر الجديد “مقطوعات شتوية”

 

كم من حالات الحرارة المتّقدة والمطاردات واندفاعات الرغبة المجنونة؟

ترجمة وتقديم فوزي محيدلي

في عمله الجديد “مقطوعات شتوية”، يعود الروائي الأميركي بول أوستر الى تطريز رائق للمذكرات، بعد أن استساغ ذلك سابقاً في عمله “اختراع العزلة”. في شتاء حياته الخاصة، عاد أوستر، من جديد الى المذكرات، كما كتبت ميغان أورورك في صحيفة “نيويورك تايمز”، “وكأنه يريد فهم رحلته”. أتى “مقطوعات شتوية” بعد 30 سنة من “إختراع العزلة” الذي كتبه بوحي من موت والده.

كتب أوستر العمل الجديد بصيغة المخاطب وكأنه يحاول فصل الذات التي تكتب عن الجسد الذي تصف هذه النفس حياته. يعتبر كتاب “مقطوعات شتوية” بمثابة مقالة متشظية، غير كاملة حول الهرم. إنه يضم تفحصاً للجسد وحالات الوهن والرغبات الخاصة به. هو أشبه بكاتالوغ لحالات الإقامة المتعددة للكاتب في باريس وبروكلين، وثمة استحضار لنهاية زواجه الأول، ومرثاة لوالدته، التي توفيت عام 2002.

في “اختراع العزلة” كتب أوستر عن والده كرجل خفي، لا يُرى إلا لماماً، رجل مجدّ في العمل لا يعبّر عن عواطفه علناً، يدخل ويخرج تواتراً من مجرى حياة عائلته. أما في “مقطوعات شتوية” فنراه يتمعن بدقة في علاقته بوالدته. كانت إمرأة مداورة بطريقتها الخاصة، كما أدرك أوستر بعد وفاتها. موتها كان فجائياً: ذات سبت من أيار يحادثها أوستر على الهاتف ومن ثم يقول لزوجته “لم أجدها سعيدة هكذا منذ سنوات”. يوم الثلاثاء توفيت الوالدة. يشعر أوسترا إزاء ذلك بالحذر. يسأل نفسه لماذا لم يكن قادراً على البكاء، على الحزن “بشكل طبيعي”. مع مرور الوقت يقع ضحية عدد من نوبات الهلع المهلكة.

كانت والدته، كما يرى الآن، “ثلاث نساء منفصلات”: من جهة أولى، إمرأة مختالة تلتهم كل اهتمام الرجال، “ترشح منها هالة من السحر”. في الوسط “إمرأة متماسكة ومسؤولة” أدت دور والدته، وأخيراً كانت في زواجها الإثنين، من رجلين لم يدعمانها كفاية كما أمَلتْ، “عصابية واهنة ومذعورة… وقد نمت حالات عجزها مع تقدمها في العمر”.

في النهاية، يتساءل أوستر “كم عدد الصباحات المتبقية (له)؟” في أفضل اللحظات من هذا العمل الجديد يعمد أوستر “الى أن يرسم بحميمية، سهلة، الطريقة التي يتحرك فيها العقل على درب حياته سيما أن العقل يهرم (في الرابعة والستين من عمره، احتفل بعيد ميلاده أثناء كتابة مؤلفه هذا) يجد أوستر صعوبة في تذكر إبن السابعة عشر الذي كانه، الذي فرّ مع فتاة من ميلانو الى نيويورك بعد قيامه بزيارة لعمته في إيطاليا. وكما يقول “بعض الذكريات شديدة الغرابة بالنسبة لك، غير محتملة، وخارج مملكة الصواب، ما يجعل من الصعب تصور أن الشخص الذي أقدم على بعض الأحداث التي تقوم بتذكرها هو أنت”.

مقطوعات شتوية

تعتقد أن ذلك لن يحدث لك، أنه لا يمكن أن يحدث لك، أنك الوحيد في العالم الذي لن يحدث له أبداً أيٌ من هذه الأشياء، ومن ثم واحد إثر واحد، تبدأ جميعاً بالحدوث، بالطريقة ذاتها التي تحدث فيها لأي شخص آخر.

قدمك الحافية فوق الأرض الباردة للغرفة وأنت تخرج من الفراش وتسير نحو النافذة. أنت في السادسة من العمر. في الخارج، يتساقط الثلج، وتتحول أغصان الأشجار في الباحة الخلفية بيضاء.

تكلم الآن قبل أن يفوت الأوان، وبعدها تمنى الاستمرار في الكلام الى أن لا يبقى شيء لقوله الوقت يمر، بأي حال. ربما قد تكون الشيء نفسه أيضاً أن تضع قصصك جانباً الآن لتحاول تفحص طبيعة شعورك في العيش داخل هذا الجسد منذ اليوم الأول الذي يمكنك تذكر كونك حياً حتى هذا اليوم. فهرس بيانات حسية. ما قد يسميه المرء علم ظاهرة التنفس.

أنت في العاشرة من العمر، ومنتصف الصيف دافئ، بل دافئ حتى الضيق، برطوبة عالية الى حد أنه وأنت جالس في ظل الأشجار في الباحة الخلفية، تتفصد حبات العرق من جبينك.

إنه أمر لا يقبل الجدل كونك لم تعد يافعاً، بعد شهر من اليوم، ستدخل الرابعة والستين، ورغم أن ذلك لا يعتبر عمراً مسناً جداً، أو ليس عمراً حسبما يعتبره كل شخص طعن في السن، لا تملك التوقف عن التفكير بكل الآخرين الذين لم يتدبروا أمر الوصول حيث بلغت. هذا مثال واحد عن الأشياء الكثيرة التي من الممكن ألا تحدث أبداً، بيد أنها، واقعاً حدثت.

الريح تلفح وجهك خلال عاصفة الأسبوع المنصرم الثلجية. ثمة تلك القرصة البغيضة للصقيع، وأنت هناك في الشوارع الفارغة تتساءل ما الذي حدا بك لترك المنزل في عاصفة شديدة كهذه، مع ذلك ورغم بذْلك جهداً كبيراً للحفاظ على توازنك، ترافق تلك الريح مع بهجة، مع فرح رؤية الشوارع المألوفة وقد باتت غير واضحة المعالم بسبب غزل الثلج الأبيض.

مسرات جسدية وآلام جسدية. مسرات حسية في المقام الأول، لكن ثمة أيضاً مسرات الطعام والشراب، الاستلقاء عارياً داخل مغطس ساخن، فرك بقعة تحكك، العطس وما يصحبه من إطلاق ريح مدوٍ، قضاء ساعة إضافية في الفراش، إدارة وجهك نحو شمس بعد ظهر معتدل في أواخر الربيع أو بواكير الصيف والإحساس بالدفئ يتسرب الى بشرتك.

في مرات عدة لم يمر يوم من دون لحظة أو لحظات من مسرة جسدية، بيد أن الآلام هي من دون شك أكثر مثابرة وعناداً. ومن دون شك في وقت ما أو غيره تعرّض كل جزء من جسدك الى هجمة ألم. العينان والأذنان، الرأس والرقبة، الكتفان والظهر، الذراعان والساقان، الحنجرة والمعدة، الكاحلان والقدمان، هذا من دون ذكر الدُمل الكبير الذي ظهر في الفلقة اليسرى من مؤخرتك والذي أسماه الطبيب كيس دهني، والذي بدا لفظه لمسمعك كمرض من العصور الوسطى وأدى الى منعك واقعاً من الجلوس على الكرسي مدة أسبوع.

قُرْب جسدك الصغير من الأرض، الجسد الذي انتميت إليه حين كنت في الثالثة والرابعة من عمرك، بمعنى قصير المسافة بين قدميك ورأسك، وكيف أن الأشياء التي لم تعد تلاحظها كانت ذات حضور ثابت بل تشغل بالك: العالم الصغير للنمل الزاحف وقطع النقد المعدنية المبعوجة، الهندباء والبرسيم. لكن خصوصاً النمل. هي أكثر ما تتذكر. جيوش النمل داخلة وخارجة من تلالها المنخورة.

أنت في الخامسة من عمرك، مقرفصاً فوق تلة نمل في الباحة الخلفية، دارساً بتمعّن روحات وجيئات أصدقائك من ذوات السيقان الست النحيلة. ووسط إنهماكك يزحف من خلفك ابن الجيران صاحب الثلاث سنوات من العمر ويضربك على رأسك بضربة مشط على الأرض تقذفك بعلبة بلاستيكية. تغرز أسنانها في فروة رأسك، يسيل الدم على شعرك وعلى قفا رقبتك، فتركض باكياً الى المنزل حيث تهتم جدتك بجراحك.

كلمات جدتك الى أمك: “كان من الممكن لوالدك أن يكون رجلاً رائعاً لو أنه فقط كان مختلفاً”.

صبيحة هذا اليوم، مستيقظاً وسط عتمة فجر آخر من كانون الثاني، فيما ضوء رمادي يتسلل الى داخل غرفة النوم، حيث وجه زوجتك بمواجهة وجهك، عيناها مغلقتان، ولم تزل غارقة في النوم، واللحاف مسحوب حتى عنقها فيما رأسها هو الجزء الوحيد منها المرئي، تتعجب أنت من مقدار جمالها، من مدى يفاعتها، حتى الآن، بعد ثلاثين سنة من نومك لأول مرة معها، بعد ثلاثين سنة من العيش معاً تحت السقف ذاته ومشاطرتها السرير نفسه.

المزيد من الثلج يتساقط اليوم، وفيما أنت تخرج من السرير وتسير نحو النافذة، تلاحظ تحوّل لون أغصان الأشجار في الحديقة الخلفية الى البياض. أنت في الثالثة والستين. يَخطر في بالك أنه بالكاد مرت لحظة ما خلال الرحلة الطويلة من الصبا حتى الآن لم تكن فيها في حالة حب. ثلاثون سنة من الزواج، بلى، لكن في الثلاثين سنة التي قبلها، كم هي حالات الافتتان والإنكسار، كم من حالات الحرارة المتّقدة والمطاردات، كم من حالات الهذيان واندفاعات الرغبة المجنونة؟ منذ أن وعيت على الحياة، كنت عبداً “للإيروس”. الفتيات اللواتي أحببتهن كمراهق، النساء اللواتي عشقتهن كرجل، كل واحدة منهن مختلفة عن الأخريات، بعضهن ممتلئات وبعضهن نحيلات، البعض منهن قصيرات والبعض طويلات، البعض مولع بالكتاب والبعض بالرياضة، البعض مزاجيات فيما البعض الآخر منفتحات، البعض من البيض والبعض الآخر من السود فيما قسم منهن آسيوي أيضاً، لم تكترث لمَ هو على السطح، كل ما همّك هو النور الداخلي الذي تستشفه في الواحدة، شرارة التفرد، وهج الذاتية المنكشفة، وذاك النور يجعلها جميلة في نظرك، حتى ولو عميَ الآخرون عن رؤية الجمال الذي شاهدته، وبعدها تغدو مستعداً للاحتراق، من أجل أن تكون معها، أن تكون قريباً منها، لأن الجمال الأنثوي أمر لم تستطع مقاومته. تعود بك الذكرى حتى أيامك الأولى في المدرسة، حتى روضة الأطفال حيث وقعت في حب الفتاة صاحبة ضفيرة ذيل الحصان الذهبية الطويلة، وكثرت مرات معاقبتك من قبل المعلمة ساند كويست لتسلك مع الفتاة الصغيرة التي أحببت، لجوءكما انتما الاثنان إلى زاوية في مكان ما لارتكاب السوء، لكن حالات العقاب تلك لم تعن شيئاً لك، لأنك كنت واقعاً في الحب، وكنت مجنون الحب يومها، تماماً مثلما أنت مجنون الحب الآن.

ثمة أيضاً قائمة الندوب، آثار الجروح، بالأخص تلك التي على وجهك، والتي تعلن عن نفسها كل صباح حين تنظر في مرآة الحمام سواء لتحلق ذقنك أو تسرح شعرك. نادراً ما تفكر فيها، لكن حين تفعل تفهم أنها علامات الحياة، أن الخطوط المثلمة المنوعة المحفورة في بشرة وجهك هي أحرف من الأبجدية السرية التي تحكي قصة من تكون أنت، لأن كل ندبة هي أثر لجرح شُفي، وكل جرح تسبب به تصادم ما مع العالم بمعنى، حادث مفاجئ أو شيء ما لم يكن ثمة ضرورة لحدوثه، بما أن الحادث المفاجئ تعريفاً هو شيء ما ليس من حاجة لحدوثه . انها الوقائع التي تقع بالصدفة المخالفة للوقائع الضرورية، وإدراك انك بنظرك إلى المرآة هذا الصباح أن كل الحياة صدفة أو احتمال، فيما عدا الواقعة الضرورية التي آجلاً أم عاجلاً ستنتهي.

أنت في السنة الثالثة والنصف من عمرك، ووالدتك الحامل التي تبلغ الخامسة والعشرين يومها، أخذتك معها في مهمة تسوق في أحد المخازن الكبرى وسط المدينة في نيويورك. هي بصحبة إحدى صديقاتها، والدة صبي في مثل سنك. في مرحلة ما، تنفصل أنت ورفيقك عن الوالدتين وتشرعان في الركض داخل المخزن. انه عبارة عن فسحة كبيرة مفتوحة، من دون شك، أكبر غرفة وطأتها قدماك، وثمة إثارة واضحة في التمكن من الركض بجموح داخل هذه الحلبة الداخلية الضخمة. أخيراً، تبدأ أنت والصبي الآخر بممارسة الارتماء على البطن فوق الأرض والتزحلق فوق السطح الأملس، متزلجين بلا مزلجة، وتغدو هذه اللعبة ممتعة جداً، غاية في الانتشاء لجهة السرور الذي يتأتى منها، حتى أنك تصبح أكثر فأكثر متهوراً، وأكثر فأكثر جرأة، فيما أنت مستعد لأن تجربه. تبلغ ناحية من المخزن حيث عملية الانشاء أو الصيانة على قدم وساق، ومن دون الاكتراث بملاحظة العوائق التي تنتظرك، ترتمي مجدداً على بطنك على الارض وتبحر فوق السطح الأملس كالزجاج إلى أن تجد نفسك مسرعاً صوب طاولة خشبية لنجار. تفكر أنك ببرمة صغيرة لجسدك الضئيل بمقدورك تجنب الاصطدام بإحدى أرجل الطاولة التي تلوح أمامك، لكن ما لا تدركه انه في جزء من الثانية التي عليك تغيير مسارك ثمة مسمار ناتئ من ساق الطاولة، مسمار طويل منخفض كثيراً بما لا يدعه ظاهراً عند مستوى وجهك، وقبل أن تتمكن من إيقاف ذاتك، ينغرز المسمار في وجنتك اليسرى. وأنت طائر بجانبه. يتمزق نصف وجهك. بعد ستين عاماً لم تعد لديك ذكريات عن الحادث. جل ما تتذكره هو الركض والارتماء على البطن، لكن لا شيء عن الألم، لا شيء عن الدماء التي انهمرت، ولا شيء عن الإسراع بك إلى المستشفى أو الطبيب الذي خاط وجنتك. لقد أدى عملاً بارعاً، كما اعتادت والدتك القول. وبما أن حادثة رؤية ولدها البكر ممزق نصف الوجه لم تبارحها، كانت تردد غالباً: انها عملية تقطيب مضاعفة وماهرة أبقت الضرر في حدوده الدنيا وحالت دون تشوهك لمدى العمر. كان من الممكن أن تخسر عينك، كانت تقول لك، أو تقول بصوت أكثر درامية كان من الممكن أن تُقتل. دون شك كانت على صواب. راحت الندبة الجلدية تغدو أصغر فأصغر مع مرور السنين، لكنها بقيت موجودة في حال تأملت فيها، وستبقى من جهتك حاملاً ذاك الفأل الحسن (سلامة العين! عدم الموت!) حتى توارى الثرى…

انه حزيران من عام 1959. أنت في الثانية عشر، وفي غضون أسبوع واحد، أنت وزملاؤك في الصف السادس سيتخرجون في المدرسة الابتدائية التي تعلمت فيها منذ ان كنت في الخامسة. انه يوم رائع، أو آخر الربيع في أبهى تجسيداته الساطعة، أشعة الشمس تنهمر من سماء زرقاء بلا سحب، الجو دافئ لكن ليس كثيراً، رطوبة خفيفة، نسيم ناعم يُحرّك الهواء ويداعب وجهك وعنقك وذراعيك العاريتين. بعد انتهاء دوام المدرسة اليوم تقصد أنت وجماعتك من الأصدقاء منتزه غروف بارك لتمارسوا لعبة بايسبول ارتجالية. ومنتزه الغروف بارك ليس منتزهاً بالمعنى الدقيق للكلمة بقدر ما هو قرية خضراء، مستطيل كبير من العشب المعتنى به جيداً، تحوطه بيوت من جهاته الأربع بقعة مفرحة للقلب، أحد أحب الأماكن العامة في مدينتك الصغيرة النيوجرسية، التي تقصدها غالباً أنت وأصدقاؤك بعد المدرسة للعب البايسبول، فتعلبون لساعات من دون أن تتعبوا أو تملّوا. لا يوجد كبار هنا. تقوم أنت وأصدقاؤك بإرساء قواعد اللعب وحل التباينات بينكم غالباً عن طريق الكلام، وأحياناً بالقبضات. بعد أكثر من خمسين سنة لاحقاً، لا تتذكر شيئاً عن المباراة التي لعبتموها بعد ظهر ذلك اليوم، لكن ما تتذكره هو التالي: انتهت المباراة، وأنت تقف وحيداً وسط منتصف ملعب البايسبول، تؤدي عملية التقاط الطابة بمفردك، بمعنى رمي الطابة عالياً في الهواء ومتابعة صعودها ثم هبوطها حتى تحط في قفازك، لتعود وترميها ثانية في الهواء، وكلما رميتها مرة تصل أعلى مما في المرة السابقة، وبعد رميات عدة تبلغ ارتفاعات لم تصلها، من قبل، وتحوم الطابة الآن في الهواء لثوانٍ عدة، تندفع الطابة البيضاء مقابل السماء الزرقاء الصافية، ثم تعود إلى قفازك، تنغمس بكليتك في هذه العملية التي لا تحتاج إلى ذكاء فيما تركيزك تام، لم يعد من شيء الآن سوى الطابة والسماء وقفازك، ما يعني أن وجهك شاخص صوب الأعلى، إنك تنظر إلى الأعلى فيما تتبع مسار الطابة، وتالياً لم تعد ملماً بما يحدث على الأرض، وما يحدث على الأرض فيما أنت تنظر إلى السماء أن شيئاً ما أو شخصاً ما يصطدم بك فجأة، والأثر فجائي جداً، عنيف جداً، ساحق جداً بقوته بحيث تقع في الحال إلى الأرض، شاعراً كأن دبابة صدمتك. وطأة الضربة جاءت على رأسك، وبالأخص جبهتك، لكن جذعك نال حصته ايضاً، وفيما أنت ممدد على الارض تلهث لإلتقاط أنفاسك، بل دائخاً وأقرب إلى المغشي عليه، ترى الدماء تجري من جبهتك، لا، لا تجري فقط بل تتدفق، وتالياً تقوم بنزع الـ تي- شيرت البيضاء وتضغط بها على موقع تدفق الدم، وفي غضون ثوان تلونت الـ تي شيرت بأكملها بالأحمر. أصيب الصبية الآخرون بالذعر. أتوا مسرعين نحوك ليقدموا المساعدة التي يقدرون عليها، وحينها فقط أدركت ما حصل. يبدو أن واحداً من جماعتك، من النوع الساذج الطيب القلب يدعى ب.ت (لم تزل تتذكر اسمه لكن لن تفشيه الآن، لأنك لا تريد إحراجه مفترضاً أنه لم يزل على قيد الحياة) وتأثراً برمياتك الناطحة للسحاب قرر المشاركة في عملك هذا، من ومن دون أن يكلف نفسه أن يخبرك أنه أيضاً سيحاول إلتقاط إحدى رمياتك شرع بالركض باتجاه الطابة النازلة فيما رأسه مشرئباً إلى الأعلى، بالطبع، وفمه مفتوح بالطريقة الساذجة خاصة (أي شخص يركض وفمه مفتوح؟)، وعندما اصطدم بك بعد لحظات، وهو يركض بأقصى سرعته دخلت أسنانه الناتئة من فمه المفتوح في رأسك. لذا الدم يتدفق الآن منك، وكذلك ثمة عمق الجرح البليغ في البشرة التي فوق عينك اليسرى.

لحسن الحظ أن عيادة طبيب عائلتكم في الجانب الآخر، في واحد من المنازل التي تزنر محيط المنتزه. يقرر الأولاد أخذك إلى هناك في الحال، وهكذا تقطع المنتزه ضاغطاً تي شيرتك المدمى على رأسك بمعية رفاقك، ربما أربعة منهم، وربما ستة، لم تعد تتذكر، ودخلتم جميعاً عيادة الدكتور كوهن (لم تنس اسمه، تماماً مثلما لم تنس اسم معلمة صف الحضانة، الآنسة ساند كويست، أو اسم أي من أساتذتك الآخرين الذين علموك حين كنت صبياً). موظفة الاستقبال تخبرك وأصدقاءك أن الدكتور كوهن يقوم بمعاينة مريض الآن، وقبل أن تتمكن الموظفة من النهوض عن كرسيها لتخبر الطبيب بوجود حالة طارئة للاهتمام بها تعمد أنت وأصدقاؤك إلى الدخول إلى غرفة الفحص من دون تكليف أنفسكم قرع الباب، تجدون الدكتور كوهن يتحدث الى إمرأة ممتلئة الجسم وفي منتصف العمر جالسة على طاولة الفحص وترتدي صدرية وشلحة فقط. تطلق المرأة صرخة إندهاش، لكن ما أن يرى الدكتور كوهن الدماء تتدفق من جبهتك، يطلب من المرأة ارتداء ملابسها والمغادرة، ويطلب من أصدقائك الاختفاء، ويعجل من ثم في القيام بتقطيب جرحك. كان الإجراء مؤلماً سيما لعدم وجود وقت لإعطاء مسكن، لكنك تبذل قصارى جهدك لئلا تولول وهو يخيط الجرح في بشرتك، ربما لم يكن العمل الذي أنجزه بجودة العمل ذاته الذي أنجزه الطبيب الذي قطّب وجنتك عام 1950، لكن كان نافعاً لأنك لم تنزف حتى الموت ولم يعد من فتحة في رأسك. بعد أيام قلائل تشارك أنت وزملاؤك في الصف السادس باحتفال التخرج من المدرسة. جرى اختيارك لتكون حامل العلم، ما يعني أن عليك حمل العلم الأميركي عبر ممشى القاعة الكبيرة لتصعد من ثم وتغرسه في قاعدته التي على المسرح. كان رأسك ملفوفاً بضمادة شاش بيضاء، ولأن الدم لم يزل ينز من حين لآخر من مكان التقطيب، ظهرت بقعة دم حمراء كبيرة على الشاش. بعد الاحتفال، تقول والدتك أنه فيما كنت تسير على الممشى والعلم في يدك، ذكّرها منظرك بلوحة لبطل حرب جريح. أقصد، تقول لك، تماماً مثل “روح 76”.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى